الخميس، 9 أبريل 2015

اسمها صفاء (2)







في لقائهما الثاني نظر أولًا إلى أصابعها لا إلى عينيها ، أخجلته عندما لاحظت نظرته المتلصصة فرفعت كفيها في وجهه ، تنهد في ارتياح لم يستطع كتمانه عندما تأكد من خلو أصابعها من خاتم الزواج .



ابتسمت وهي تقول :" ليس سرًا أنني مطلقة ، السر هو في طريقة  طلاقي ، ولكن لن أبوح لك به قبل أن تبوح لي بسر من أسرارك ".

صاح بدون تفكير :" هل يجرؤ رجل على تطليق كل هذا الجمال ؟"



اتسعتْ ابتسامتها وهى ترد قائلة :" صيحتك  المفاجئة تقنعني بأنك صادق ولا تغازلني ، ولكن لن تمارس معي ألاعيب المحاماة وتهرب من البوح بسرك ".

فكر قليلًا ثم قال :" ليس هروبًا لو قلت لك إنني رجل بلا أسرار ، حياتي تمضي عادية تمامًا ، بلا صعود ولا هبوط ، إنها تسير على خط مستقيم "



قاطعته قائلة :" مستقيم وقاتل ، دعني أقول لك باستحالة وجود شخص بلا أسرار ، فما تظنه أنت عاديًا قد يراه غيرك خارقًا ، هيا تحدث بلا تحفظ ".



نقطة عرق لعينة يعرفها ، تتكون الآن في منبت شعر رأسه ، تلك حالته عندما تهاجمه نوبة خجل شديد ، مشطّ شعره بأطراف أصابعه ، ثم نظر لصفاء قائلًا :" الأمر مضحك جدًا بل سخيف ، لكنه سري على أية حال ، كنتُ قد استسلمت لفشلي في التواصل مع الناس كما أحب أن يكون التواصل، فكادت الوحدة تقتلني ، فابتكرت لنفسي شيئًا خارجًا على سياق سلوكي ، كنتُ كل خميس ، أغادر مكتبي مبكرًا ، وأعود إلى بيتي فأحلق ذقني حتى تصبح ناعمة جدًا ثم أغتسل جيدًا وأتعطر ثم أرتدي أجمل ملابسي ، وأغادر البيت مبتهجًا ، قاصدًا الكورنيش ، وهناك أقف مشعلًا سيجارتي ومتأملا تلك الفنادق العائمة التي تقام بها حفلات الزفاف ، أخرج قطعة معدنية من جيبي وأهمس لها : سأطوح بك في الهواء ثم ألقفك ، فأن واجهتني بصورة الملك  فسأذهب إلى الفندق الثالث من علي يساري ، وإن واجهتني بنقش الكتابة فسأذهب إلى الفندق الرابع من على يميني .



دائمًا ما كنتُ ألتزم بما تقرره لي عملتي المعدنية ، فإن دخلت الفندق بمظهري الرسمي المنضبط ، حسبني أهل العريس من أهل العروس ، وحسبني أهل العروس من أهل العريس ، فأفوز بالترحيب من الطرفين ، ثم أختار منضدة تطل علي النيل ، وأرفض بلطف المشروب الذي يقدمونه بوصفي من أهل الدار الذين يؤثرون الضيوف على أنفسهم ، وما أن تبدأ الموسيقي حتي أعود ذلك الولد الذي كان يطارد الفراشات في حقل أبيه ، أصبح خفيفًا ورشيقًا ومنتعشًا ومحبًا لكل الناس ومتفهمًا لكل الخطايا ، وشاكرًا للفن الذي يطهر دمي من وساخات الوحدة ، أبقي هكذا متفاعلا وموزعًا بسماتي على الجميع ، حتي تحين لحظة الزفة ، أقف خاشعًا كأنني عابد في محراب ، وبينما الجميع مشارك في الغناء والتصفيق ، تلمع عيناي بالدموع وأنا أشهد مفارقة العروسين لحياة وبدئهما لحياة جديدة  ، ثم أغادر في هدوء ، حتي إذا عدت إلى النقطة التى انطلقت  منها  أبدأ فى الدعاء  للعروسين بأن يجنبهما الله كل فقد وكل وحدة ، فإن ختمت دعائي رأيتني أبكي مثل طفل تاه عن أبويه ".



عندما انتهي بوحه رفع عينيه إليها فرأى وجهها محتقنًا ، وافتقد غمازة خدها الأيمن وسمع تنفسها واضحًا كأنها كانت تفر من مطاردة .

وقفت وقد علقت حقيبتها في كتفها وقالت :" لن أواصل الليلة ، غدًا نلتقي في ميدان الرماية  "

غادرته بخطوات سريعة ولذا لم يسمعها وهي تتمتم :" مريض مسكين ، أنا  دواؤه " .

***

هو لا يريد وشمًا جديدًا ، هو لا يريد أن يرتب علي مقابلة البوح هذه أى نتائج ،هو لا يريد الاستسلام لأسطورة الحظ الحسن ، لقد تركته مثل خيبة ملقاة على كرسي وانصرفت ، ليله يبدو طويلًا جدًا ، وسيعقبه نهار سيكون أطول ، كيف سيصبر حتي يحين ميعاد اللقاء ؟ كيف سيمنع نفسه من الانشغال بها ؟ لديه طريقة وحيدة ، جربها كثيرًا وأفلحت ، وهى أن يفتح أبواب ذكرياته السود،ويعبث في جراحاته القديمة لكي يحصن نفسه من شرور التفاؤل .



كان يخطو خطواته الأولى في طريق سرد ذكرياته السود ، عندما جاءته منها رسالة :" قم إلى بيتك وثق بي ".

أنعشته رسالتها المفاجئة كأنها قنبلة عطر انفجرت في دمه ، قام إلى بيته وهو يصفّر لحن أم كلثوم :" هقابله بكرة "، خجل عندما لاحظ انتباه المارة لرجل تجاوز الأربعين  يصفّر لحنًا راقصًا .

***

عندما كانت الشمس على مشارف الغروب ، كان يهبط من التاكسي في ميدان الرماية ، الجو لطيف ونسمات رقيقة تداعب أغصان الشجر العتيق ، ودمه يحن إلى الصحراء حيث البراح والنظام ، الفوضى تعكر دمه حتى  يحسه غليظ القوام ، هل يكون بيتها هناك على مشارف الصحراء كما تمني لها ؟ ولو كانت أمنيته صادقة ، هل ستدعوه إلى بيتها ؟.



جاءت وكانت أشهي من رجوع الحق لصاحبه ، صعد إلى سيارتها المعطرة مثلها ، كانت ترتدي فستانًا أزرق ، لكم ترتاح نفسه للون الأزرق ، هل يواصل الحظ الحسن عطاياه ؟.



وضعت في كاسيت السيارة اسطوانة ، فجاءت الموسيقي ، قال بعد نغمتين :" إنه بليغ حمدي ".

التفتت إليه مندهشة :" وكيف عرفت علي الفور هكذا ؟".

قال ببساطة :" من نشيج الكمنجات ".

زادت من سرعة سيارتها وهى تغمغم :" كأنك قدري ".



يدوس على رمل صحراء سقارة بحرص لكي لا يبعثر انتظامه ، الهواء هنا له طعم مختلف ، يكاد يلوك الهواء ولا يتنفسه ، تسير كملكة بجواره ، تتحدث عن مجيئها إلي سقارة لكي تركب حصانًا جامحًا كان يسابق الريح فيجدد دمها .



يتوقفان أمام فندق صحراوي له حديقة هندّسها عاشق ، قمر وصحراء ونظام وخضرة عفية تلمع رغم الإضاءة الخافتة ، ثم هذه المعطرة  التي لها جمال ألف جميلة ، جلسا على مقعدين وثيرين متقابلين ، جاءتهما فتاة لها رشاقة راقصات الباليه ، وضعت أمامها عصير برتقال مثلج ثم انصرفت .



ابتسمت صفاء وهى تقول :" لا أنكر أن البنت جميلة ، لكن خطواتها متكلفة ".

ابتسم في خجل  ولم يعقب .سلطتْ عينيها علي عينيه وهي تقول :" لا تنظر لامرأة وأنت مع آخري ، ثم لا تنهر التي أنت معها عندما تستمتع بواحدة من ملذاتها السرية ".

تأملها وهى تلتقط بلسان مدرب ، قطعة ثلج طافية على سطح كأس البرتقال ثم تمتصها مغمضة العينين.

عندما انتهت وفتحتْ عينيها كانتا مشرقتين بجمال خالد كأنها لم تذق الشقاء قط

قال بصوت حاول ألا يكون متحسرًا :" امرأة طقوس أنت ، أنا أيضًا أخرج وريقات النعناع الأخضر من كوب الشاي وألوكها .



قالت :" أعرف ، ولا تسألني كيف عرفت ، لأن الذي يظل جالسًا على مقعده  في السينما لكي يتذوق منفردًا  حلاوة المشهد الختامي ليس من الغريب أن يستحلب لذعة  النعناع ".

قال مبتسمًا :" خذي هذا السؤال اختبارًا لفراستك ، هل تعرفين ما ينقصني الآن ؟ ".

افتعلتْ الاستهانة وقالتْ :" رحمة بك سأترك لك شيئًا من أسرارك ".



أعجبته حركتها وهي تفتعل الاستهانة ، غمازة خدها الأيمن تظهر ، شفتها السفلي تبرز في خفة ما أحلاها ، تشير بكل كفها اليمني كأنها طفلة تلهو ، أغمض عينيه وعاد بظهره إلي الوراء لكي ينجو من فخاخ عينيها ثم قال :" تنقصني موسيقي بليغ ".

قالت :" لا عليك ، سأشبعك منها في طريق عودتنا ، والآن عد كما كنت وانتبه لي جيدًا ".



فتح عينيه وأصلح من هيئة جلوسه ثم قال :" معك ".


عبرتْ سحابة حزن صفاء وجهها ثم قالت :" الذي أنقذني هو إيماني بحكمة الرب الخالق ، هو حكيم لا أشك في حكمته طرفة عين ، حتي لو كنتُ لا أفقه لها معني ، إيماني هذا لم يجعلني أسأل نفسي يومًا لماذا تزوجته ؟


ثم لماذا صبرت عليه ثلاث سنوات ؟ هناك حكمة وراء سنوات ضياعي هذه ، ما هي ؟ أنا لا أعرف .أؤمن بوجودها وبسريانها في كياني وبهيمنتها علي حياتي ، حتي وإن لم أقبض عليها بيديّ . بحثتُ طويلًا عن بدايات دخوله في حياتي ولكن لم أهتدي لتلك البدايات ، كان بحثي يرهقني ويتركني مثل خرقة لا فائدة منها ، حتي تكرم الرب الخالق وهداني لقراءة رواية يقول فيها بطلها :" لقد تسربتْ إلى روحي كما يتسرب النشع ".


الله ، ما أعمقها وأصدقها من جملة ، نعم بعضهم يتسرب لروحك كأنه النشع يضرب جدران البنايات العملاقة ، ولا يغادرها حتى يجعلها كومة تراب متسخ ، لكن كيف يتسرب النشع إن لم يكن هناك عيب فني في البنيان ؟

ترى ما هو عيب بنياني ؟ صدقني لا أعرف الإجابة ".

قطع تدفقها بحسم قائلًا :" إن كان الكلام يؤلمك هكذا فأرجوك توقفي ".



قالتْ :" دعني أصفي حساباتي مع دمي المتخثر ، تزوجته كما شاءت الحكمة الغامضة التي أؤمن بها فوجدته لا يجمعني به جامع ، نحن متنافران لا يجمعنا إلا النسب لآدم . هذا رجل كيانه ذاته مسطح ، رجل بلا فجوة ، بلا بروز ، بلا التواء ، بلا ربوة ، بلا وادٍ ، بلا عمق ، بلا عرض ، بلا ارتفاع ، لوح من الزجاج الأملس ، كل شيء ينزلق من فوقه بيسر ، لم يدهشني قط ، كان  قادرًا بطريقة خارقة علي تجاوز كل شيء ، لم يصح مرة:  الله ، على أمر أعجبه ولم يصرخ مرة : أفٍ ،على شيء استنكره ، كانت الحياة تستوي عنده بالعدم ".

عاد يقاطعها لكي ترتاح قليلًا من ألمٍ يقصف كيانها كله :" أعرف أنني سأكون سيئًا عندما أسألك هذا السؤال الخائب : هل حاولتِ ؟

اندفعت ترد قبل أن يتم سؤاله :" نعم حاولتْ مليون مرة ، كل ما تصنعه المرأة لكي يتقرب زوجها منها أو تقترب هي منه ، صنعته وزيادة ، لكن مكونات التنافر كنت عصية علي الترويض ".



هز رأسه متفهمًا لحالتها ثم قال :" كانت جدتي تقول :" إن خروج الروح أسهل من تغير الطبع ".

قالت وكل الامتعاض محفور على وجهها :" بماذا تصف امرأة كانت  تعلم من زوجها كل هذا السوء ثم تحاول أن تحمل منه؟.

نعم ، أنا هذه المرأة ، كنت أتحرق لولد أو بنت ، كنت أقول لنفسي عندما يحيرني تناقض شخصيتي ، سأحمل مرة واحدة ثم يفترق كل منا إلي الأبد ، ثم سأحمل ولدي أو ابنتي وأطوف به العالم النظيف لكي أعوضه عن ذكري انتمائه لأبٍ كأبيه . عندما لم يحدث الحمل مع دوام المعاشرة ، بدأنا رحلة التردد علي الأطباء ، ما من واحد منهم قال كلمة  سوي اصبرا .



 طبيبة واحدة استبقتني في غرفتها ثم خلعت نظارتها وسلطتْ عينيها على عيني ثم قالت : ما سأقوله لك الآن لم أطالعه في مصدر أو مرجع ، تعاملي معه بوصفه كلام أنثي لأنثى ، أنت يا سيدتي جاهزة لكي تصيري حبلى من ذكر نمل ، لكنك أبدًا لن تحبلي من زوجك هذا ، طبيًا لا غبار على الرجل ، لكن ثمة أمر يحدث منك ، ما هو ؟ فحوصاتك لا تشير إلي أمر بعينه ، كأنك يا سيدتي ، تفرزين شيئًا يقتل تخصيب زوجك ، أكرر بأن ما أقوله لك هو خارج تخصصي وخارج ما تقرره فحوصاتك ، ارجعي لنفسك وستعرفين السبب .

***

كان قد رأى نساء كثيرات ينخرطن في البكاء ، وكان قد كف عن التأثر ببكائهن ، وحدها صفاء أعادت له ثقته ببكاء النساء ، لم تكن تبكي ، فقط فرت دمعة واحدة من عينيها اليمني ، هذه امرأة عجيبة ، الجميع يبكي بعينيه الاثنتين إلا هذه ، دمعة واحدة من عين واحدة ، كانت كافية لكي تعتصر قلبه ، ولكي يتمنى لو كان أكثر شجاعة لكي يحتضنها حضنًا يعيدها إلي أمان وفرح طفولتها الأولي .



قدم لها منديلًا لتمسح دمعتها الواقفة على أسفل خدها لكنها بحركة سريعة لعقتها بطرف لسانها ثم نظرتْ له مبتسمة وواصلت قائلة :" أنت تستحلب النعناع وأنا أستحلب دموعي فلا داعي للمعايرة ".

رد علي جملتها بابتسامة وقال :" هل أنتِ مصرة على المواصلة ؟".



لم تجب علي سؤاله واندفعت تقول :" كانت الطبيبة محقة تمامًا ، لقد كنت أخدع نفسي أو أجبرها علي قبول ما لا تقبله ، كيف أسعي للحمل من رجل إن علاني لم يقبلني ولم أقبله ؟ أظن أن البهائم تتلامس وتتعانق وتمهد ، أنا وهو كنا أحط من البهائم ، هو يؤدى كأنه يصلح إطارات سيارة تعطلت تحت شمس الصحراء ، وأنا أستقبل باستسلام  بقرة تسلخ بعد ذبحها ، لا تحدثني عن متعة أو لذة أو حتي رعشة ، هذا عمل لابد منه ، لكي أحبل ، أحبل فقط .

كانت الطبيبة محقة تمامًا ، أذكرني ،بعدما ننتهي وأنا أكاد أتقيأ أمعائي ، أندفع إلي الحمام ، وأمكث به حوالي الساعتين لكي أنظف نفسي من وساخة لم تعلق بجلدي بل علقت بروحي ؟.



تناول سيجارة من علبته وقبل أن يشعلها أعتذر لها إن كان التدخين يضايقها.

ردتْ علي اعتذاره :" من غرائبي أنني لا أحب لمن يجالسني أن يكون شرهًا في التدخين ، كما لا يروقني هذا الرجل الذي لا يختلط عطره بتبغه "

قدم لها سيجارة ، وتمتم ولم تسمعه :" امرأة الطقوس أنتِ "

زفرت دخان سيجارتها بأناقة ثم قالت :" أوجعني الوجع كله تأكدي من أنني كنت أخادع نفسي ، ثم جاءت لحظة الحقيقة ، كيف الخلاص من هذا الرجل؟ .

الدخول معه في نقاش أو حوار أمر لا طائل منه ، كما أن مواجهته أمر عبثي ، سأواجه معه أهلي وأهله أصدقائي وأصدقائه ، سأواجه عالمًا لا يتعاطف مع  مذلة بقرة مستلمة لسلخها ، هذا الرجل المصمت لا سيبل لتعامل تقليدي معه ، كأنه صخرة تعترض طريقك ، إما أن تغير طريقك أو تفلقها ، تغير طريقي أصبح مستحيلًا ما دمت مرتبطة به ، إذن لا مهرب من فلق الصخرة ، ولكن كيف تفلق صخرة وضعتها يد الحكمة الغامضة فى طريقك ؟ ".



قاطعها بصوت خائف :" إياك أن تفجعيني بأنك قد ارتكبت حماقة لكي تزيحي صخرة الحكمة الغامضة عن طريقك ".

طأطأت رأسها في خجل ثم قالت :" لم تكن حماقة ، كانت جريمة ، جريمة شوهتني أمام نفسي ، لماذا أكذب وأقول شوهتني ؟.

كانت جريمة كشفتني وعرتني أمام نفسي ، تخيل هذه التي تجالسك الآن وقد فكرت في كل شيء بداية من سرقة مال زوجها ووصولًا إلي ترتيب ميعاد مع عاشق مزيف ، وفي النهاية كان قرارها المفجع ، أن تختطفه ، وهذا ما كان ".قاطعها غير مصدق لما يسمع :" كيف كان ذلك ؟ "



بدون استئذان تناولتْ سيجارة  من علبة سجائره ، أشعلتها بأصابع مرتجفة ، ثم قالت :" هذه الجميلة الرقيقة التي تجالسك أكتشفتْ وحوشها التي لم تكن تدري أنها تسكنها ، انطلقت وحوشي فرتبتُ كل شيء وأنفقتُ معظم مدخراتي علي حثالة سيقومون بالعملية ، نعم أنا كنت أستخدم مصطلحات العصابات هذه ، ولم أكن خجلى منها بل كنت على يقين أن هذا هو الحل الوحيد والأخير ، فقط كنت أستغربني ، كيف عشت كل هذا الخداع ، رقيقة لا تعرف شيئًا عن وحوش تركض في عروقها ، لقد قاموا بما عليهم القيام به ، وحدثوني كثيرًا عن صموده الأسطوري ، رجل مختطف ، لا يدرى مَنْ خطفه ولا لمَ خطفه ، ومع ذلك يصمد ولا يسأل ولا ينهار ، بعد شهر كامل من صمته وصموده قالوا له : لن نطلقك حتى تطلق زوجتك .



قالوا لي إنه طلقني ثلاثًا كأنه يدهس عقب سيجارة !!

لم يرفض ولم يتمنع بل لم يناقشهم لو بجملة واحدة ، بل لم يتصل بي ولو من باب الفضول . طلقني كما تزوجني ، لم يبذل أدني جهد فى الحالتين ، هل فى الأمر تلك الحكمة الغامضة أم أن حديثي عن الحكمة ما هو إلا تبرير خائب لهزيمتي الكبرى ؟ سهولة تطليقه لي جعلتهم يخافون علي صفقتهم معي ، لذا أخذوه  إلي مأذون يتبعهم وهناك أقر بأنه يطلقني بمحض إرادته .



عشت سنوات في متاهة امرأة لا تعرف يقينًا هل طلاق زوجها واقع أم أنها لا تزال في عصمته لأنه كان مكرهًا ، لم أعد اذكر كم شيخًا استفتيت ؟ لم أعد أذكر من كلامهم  شيئًا ، لقد ارتضيت  لنفسي قاعدة تقضي بأن زوجي مفقود ولا أمل فى العثور عليه ، وبعد ثلاث سنوات متصلة من فقده ، أصبح حرة  ، ثم مات أبواي وباعدت الأيام بيني وبين أختي الوحيدة ، وعافت نفسي الرجال  حتي قبل ثانية من رؤيتي لرجل يمكث في ظلام قاعة السينما لكي يتذوق منفردًا حلاوة المشهد الختامي  ".

***

بعد تلك الليلة التاريخية سيعود علي إلى بيته مزدحمًا بألف خاطر متناقض ، اليقين الوحيد الذي كان يسرى في عروقه ، هو أنه مقدم علي الغوص في بحر رمال متحركة   .

كثرتْ اللقاءات التى تجمعهما ، كان يلتقيان هكذا بدون مناسبة ولا ميعاد سابق يكفي أن تنتهي صفاء من عملها الذي مصادفة يكون بالقرب من مكتب عليّ حتي تصعد إليه لتتناول معه فنجانيّ قهوة تحرص هي دائمًا علي أن تعدهما رغم وجود عامل بوفيه .



من ناحيته يقف عليّ وفق طبعه على الحافة دائمًا ، هو لا يرغب بحال من الأحوال في إضافة  وشم جديد لقلبه  ، هو يخاف بحر الرمال المتحركة الذي اسمه صفاء ، ويخاف في الوقت ذاته من أن تهجره بعد أن نفخت من روحها في حياته .

كان يراقب نفسه ولا  يراقب صفاء ، كان في لياليه الموحشة ،يتمدد على سريره المعطر عاقدًا يديه  خلف رأسه ناظرًا لسقف حجرته مسلطًا عينيه علي بقعة يختارها ويسميها " ذاتي " ثم يبدأ في جرد حسابات ذاته .



منذ متي يا عليّ  وأنت تهتم بعروض الأزياء . تصطحبك صفاء، إليها فتغرق في ضوء وهمس وعطر ثم تغادرها طفلًا نقيًا .

منذ متي يا علي وأنت تلفتْ نظر امرأة إلى ضرورة أن يمس الكحل عينيها؟

منذ متى يا علي تنشغل بأصناف طعام لم تتذوقها إلا معها ؟

لقد غيرّتكَ بحر الرمال يا رجل حتي بت تهتم بتناسق طلاء أظافرها مع لون فستانها .

كان يخرج من جرد حسابات ذاته كما دخل ،لا يغادره خوفه  من بحر رمال سيبتلعه ، ولا تغادره رغبته فى أن يغوص حتي يصل إلي قرارها .

***

هو يدهشني ، هو يمسح  بكلمة منه أو لفتة ، الغبار والكسل عن دمي ، أشعر معه بتلك الحيوية التي أستشعرها عندما أمتطي صهوة حصاني الجامح ، لا شيء في هذا الرجل متوقع أو مألوف أو معتاد ، إنه فوار بالمفاجآت ، وهذا يكفيني .

هكذا كانت صفاء تحدث نفسها عندما تنتابها الهواجس بشأن علاقتها بعليّ.

***

شهور طويلة مرتْ علي لقائهما الأول ولا جديد يمكن الإشارة إليه بوصفه حدثًا خارقًا يصهرهما أو يفرقهما .

كان عليّ الذي أدمن مراقبة ذاته يشعر عندما يصعد إلى سيارة صفاء بوجود ملموس لشيئين

الأول : أن هناك حاجزًا شفافًا  جدًا ولكنه متين للغاية يفصل بينهما

والثاني : أن أمرًا ما سيقع في لحظة ما ، أمر خارق يزلزل الثوابت ويهدم الأركان  .



واستعجالًا لوقوع هذا الذي ينتظره كان يسرف في مغازلتها ، متي بدأ يلقي بتحفظاته جانبًا هو لم يعد يذكر ؟متي بدأت تستحثه من طرف خفي ؟ هو لم يعد يذكر . كل ما يذكره أن في كل مرة تشتعل فيها عواطفه  كانت تطفئ حماسه بطريقة تفتت أعصابه ، كانت تحشر اسم الله حشرًا وتدعوه أن يحفظ لها عليّ وكأنها أم عجوز طريحة الفراش لا يشغلها قبل موتها إلا الدعاء لابنها الوحيد .



أصبح يضيق بدعائها هذا ولكنه لا يستطيع لفت نظرها ، فسرّ الأمر علي أنه محاولة عرجاء من امرأة خائفة لكي تحصن نفسها ضد هجمة لا تدرى عواقبها ، هي وإن كانت امرأة الطقوس إلا أنها امرأة الارتباك والتبعثر .



كم مرة قال عليّ لنفسه :" لقد تخلي عنك الحظ الحسن " ثم نام ليلته مقهورًا ؟ .

***

عندما تأكدا أن الفيلم أسخف من أن يحتملاه ، غادرا العرض قبل منتصفه ، مباشرة اتجها نحو سيارتها ، كانت السيارة عطرة كعادتها ، وعندما همت صفاء بتشغيل التكييف ، وضع عليّ بدون قصد يده علي يدها لكي يمنعها ، كثيرًا ما تلامست أيديهما بعيدًا عن مصافحة الاستقبال والوادع ، لكن هذا التلامس في برد يناير ، شعر عليّ بأن له وقع  خاص علي كيان صفاء . قادتْ السيارة ، وهما لم يحددا المكان الذي سيقصدانه لقضاء ما بقي من السهرة ، كانت ترتدي معطفًا يبدو ثقيلًا ، اقترح عليها أن تتخلص من معطفها لكي تستشعر لسعة برد الشتاء ، ضحكت من جملته وقالت :" تذكرك بلذعة استحلابك للنعناع ".



خلعتْ عنها معطفها وكانت ستلقي به علي المقعد الخلفي ، لكنه تلقفه ووضعه فوق ركبتيه ، سرتْ نعومة المعطف إلى جسده فضربت موجة  دم عاتية منابت شعر رأسه ، شعر كأن صفاء لا معطفها هي التي علي حجره  ، نظرْ إليها فبان له أنها الآن مخذولة مستسلمة كأنها تود لو تمضي معه إلي ضياع أكيد .

طالت الطريق وتعثر المرور وهما معًا محبوسان في سيارة معطرة وباردة بلا غاية ولا هدف ، حتي موسيقي بليغ اختفت من ليلتهما ، هو يريد الصمت أو الاختراق ، هي لا تعرف ماذا تريد ولا كيف ستنتهي هذه الليلة.



يشعر بأن الحاجز الشفاف الصلد على وشك الانهيار وبأن الأمر المزلزل قد اقترب حتى أنه ليقف منتظرًا على بعد كلمة أو همسة أو لمسة .

حاولتْ التخلص من الصمت المشحون  بألف احتمال فقالت وهي تنقر بأصابعها فوق عجلة القيادة :" هيا نلعب ".

رد وهو يمرر بدون أن يشعر يديه على نعومة المعطف :" ليس هناك لعبة بدون قانون ولقد مللتُ القوانين ".



قالت بضجر :" لماذا أنت مختلف الليلة ؟ ثم لماذا لا أوجه نفس السؤال إلي نفسي ؟ لماذا أنا مختلفة الليلة ؟"

قال :" لم نحصل على إجابات أسئلة قديمة  حتى نرهق أنفسنا بالبحث عن  أسئلة جديدة ".

قالت :" لقد أسرف كل منا في البوح حتي لم يعد لدينا جديد ،  نحن الآن يعرف الواحد منا عن صاحبه كل شيء تقريبًا ".



ضحك بمرارة وهو يقول :" هذا زعم لا يسنده دليل ، سيدتي ، لا أنا ولا أنتِ نعرف شيئًا عن نفسينا ، فمن أين لك اليقين بمعرفة كل منا للآخر ؟".

صاحت :" أفٍ لك ".

غمغم :" أفٍ لحظ حسن  تخلي  ".



باغتته عندما رفعت يديها عن عجلة القيادة وراحت تصفق فى طرب وهى تصيح :" لقد عثرتُ علي لعبتنا ، انظر لتلك الحروف التي تزين لوحات أرقام السيارات ، سيشكّل كل منا من هذه الحروف المبعثرة كلمات مفهومة ، ما رأيك ؟ أظنها لعبة بلا قانون ، قد تصرف عني ثقلًا يجثم علي قلبي ".



وافق جبرًا لخاطرها وهو يضمر أن ليلتهما هذه إن انتهت إلي ما انتهت إليه الليالي السابقة ستكون آخر لياليهما معًا .

قالت وقد عادتْ طفولة تلهو :" ق . ط . ر ".

رد مسرعًا :" قطر  اسم بلد عربي ، و قطر بمعنى مطر وقطر تحريف لقطار وطرق و.."

قالت :" كفي ".

اختار لوحة سيارة تمر عن يمينهما وقال :" ل . ص "

ضحكت في نشوة وقالت :" هذه سهلة ، إما لص أو فعل الأمر صل ".

الشيء الشفاف جدًا الصلد للغاية يوشك أن ينهار ، بينما عليّ يشعر بدبيب انهياره ، كانت صفاء تبحث بعينها عن لوحة جديدة ثم صاحت :" ب .ك . ر ".



أخذته حُمّى المنافسة فقال :" وهذه أسهل ، َبكر اسم علم مذكر ، وبِكر صفة للعذراء وبَكرّ من البكور وكَبرّ من التكبير ، وكبُر ، يعني تقدم في السن ".



هزتْ كتفيها بغنج لم يكن يتوقع أن يكون بداخلها وعضت شفتها السفلي وقالت :" لقد نسيتَ  البدء بأهم كلمة ، ركب ، فعل ماضي من الركوب "

قالتها بكل إيحاءاتها وظلالها وألوانها ومراميها ، قالتها وأطلقت ضحكة سيظل رنينها يصهل في دمه إلى الأبد .قالتها وأردفت :" أنت حب عمري".

أرتج دمه  لكلمتها فنسيى الزمان والمكان والخيبات ، نسى كل شيء فقال : "الآن تجلتْ لى معانى الحكمة الغامضة، أنتِ لى ولن يلتهمك الضياع مرة ثانية".


ثم ألتهم شفتيها في قبلة خالدة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تمت

هناك تعليقان (2):

  1. القصة باذخة الجمال .. إيقاع السرد وتوتر الأحداث وموهبتك في وصف انفعالات بطلي القصة وتشبيهاتك البديعة ؛ كلها أمور جعلتني اتفاعل وانفعل جداً مع القصة ؛ لدرجة أني قرأتها مرتين
    :)
    خالص شكري ووافر تقديري واحترامي وتمنياتي بدوام الإبداع يا كبير
    * ملحوظة : هناك عثرتين كتابيتين لاحظتهما:
    - "كانا" يلتقيان هكذا بدون مناسبة
    - وقد عادتْ "طفلة"

    :)

    ردحذف
    الردود
    1. أشكرك على رأيك الكريم اللي أسعدني وان شاء الله بيتم تصحيح الأخطاء

      حذف