الاثنين، 24 فبراير 2014

نوبة حراسة




أحببتُ الروائى عبد الحكيم قاسم منذ ذلك اليوم البعيد الذى قرأتُ له فيه جملة تقول: «كنتُ حزينًا كحقل نائم تحت سيال المطر». يومها سألتُ أصحابى وكانوا خليطًا من القاهريين والريفيين: «ترى ما هو الزرع الذى كان يغطى الحقل النائم تحت سيال المطر؟».

قال القاهريون: «لا علم لنا بالحقول وزرعها، نحن أبناء علب الأسمنت التى تدعى شققًا».

قال الريفيون الذين تمدنوا: «قاسم يقصد بلا شك البرسيم، فليس أحزن من البرسيم تحت سيال المطر».

صممت أنا على أن قاسم يقصد القمح ولا شىء غير القمح، إنه القمح فى بداية نموه عندما يكون لونه أخضر داكنا تضربه عروق من الرصاصى، تميل أعناق عيدانه لأهون نسمة من ريح أكتوبر الباردة، وعندما يأتى نوفمبر شهر الفقد الأزلى وبعده ديسمبر يعرف القمحُ الحزنَ تحت سيال المطر.

سخروا من كلامى، فدفعتنى سخريتهم للترصد لقاسم وهو فى طريقه لأتيليه القاهرة، لكى أسأله عن نوع الزرع الحزين تحت سيال المطر. ليلتها رأيته شيخًا ضربه الحزن، وتملَّكته الوحشة، كان يعتمد على ذراع كاتب السيناريو محمد الغيطى، وكان الروائى محمود الوردانى واقفًا على الناحية اليمنى من الباب، بينما الناقد سيد البحراوى كان يقف على الناحية اليسرى، كانا ينظران بمحبة وإشفاق لصاحبهما الذى هده الحزن، عدتُ من حيث أتيت ولم أسأل قاسم عن حقله الحزين النائم تحت سيال المطر. بعدها مات قاسم ليؤكد لى بموته أنه كان يقصد القمح ولا شىء غير القمح، لأنه والقمح أخوان ضعيفان قويان، يمهدان لنا سبل الحياة، ثم ننساهما فى غمرة أعمالنا التافهة. ثم قرأت بعضًا من رسائل قاسم التى أعدها لـ«أخبار الأدب» الكاتب الأستاذ محمد شعير، فعاد قاسم يشاغبنى وأنا الذى لم أنسَه قط، وهو يقطرّ فى قلبى حزنًا جليلًا وأصيلًا، وأنا أقرأ له «قدر الغرف» و«محاولة للخروج» و«أيام الإنسان السبعة» و....

رحت أهاجم شعيرًا كلما قابلته، وأهدده بأن مصيره إلى جهنم إن هو تكاسل ولم يُخرج الرسائل فى كتاب. كان شعير يضحك وكنت جادًّا، لعلمى أن الكتاب سيعيد قاسم إلى الواجهة مرة أخرى، بعدما كادت ذكراه تذهب إلى غياهب النسيان.

ثم خاف شعير من نارى الموعودة وطلع علينا من خلال دار نشر «ميريت» بكتاب يضم معظم رسائل عبد الحكيم قاسم، واختار له عنوانًا لافتًا «نوبة حراسة». تأملت الغلاف الذى صممه بفن جامح أحمد اللباد، وقرأت الفاتحة وأهديت ثوابها إلى الفنان محيى الدين اللباد، الذى رحل وقد ترك ابنًا يواصل مشواره فى تصميم أغلفة الكتب.

ضربة البداية كانت موفقة، لأن شعيرا كان متواضعًا وجميلًا عندما سجل على الغلاف مهمته «الإعداد والتقديم». تقديم شعير للكتاب يستحق أن يكون دراسة مستقلة يجب أن تعمل. فى تقديمه ينعى شعير على الثقافة العربية «الإسلامية» غياب كتابات الاعتراف، مرجعا ذلك الغياب إلى ارتباط الاعتراف بالمفهوم الكنسى، حيث الاعتراف يطهر من الخطيئة، بينما نحن أهل الإسلام مأمورون بالستر «إذا بليتم فاستتروا»، وحتى المسيحيين منا ترسخ فى أذهانهم مفهوم الستر، نظرا لأنهم أبناء ذات الثقافة، وإن تنصل بعضهم من هذا الارتباط. ما ذهب إليه شعير حقيقى فى جانب، ولكنه نسى أن الاعتراف يحتاج إلى عاملين رئيسيين، أولهما مقدرة فذة على مواجهة الذات «مَنْ منا يمتلكها؟»، والعامل الثانى هو الحضارة القوية، فعندما تكون الحضارة شابة مقبلة وليست عجوزًا مدبرة تتسامح مع أبنائها، كما فعلت الحضارة العربية الإسلامية زمن قوتها مع شاعر كأبى نواس، الذى لو كتب شاعر معاصر بيتًا واحدًا كأبياته لسِيقَ إلى الموت.

من هنا تبرز أهمية رسائل قاسم، لأنه رغم علمه بتراجع الحضارة العربية الإسلامية مع ما صاحب ذلك التراجع من ضيق أفق، كان حريصا على رسائله وتنبأ بأنها يوما ما ستكون حافظة لتاريخ أبناء جيله.

رسائل عبد الحكيم قاسم لا يُكتب عنها بل تُقرأ، وهى موجودة فى معرض الكتاب لمن أراد قراءة نثر برائحة الشعر.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير بتاريخ  5 فبراير 2014
لينك المقال بموقع التحرير:
http://tahrirnews.com/columns/view.aspx?cdate=05022014&id=bfe123be-dfa3-4549-bf46-fab188ee38e2