الاثنين، 24 مارس 2014

مد الخيط





الذي يريد البناء يقوم أولًا بتوفير أدواته، ولعل من أهم الأدوات التي يستخدمها البنًاء حزمة من الخيط السميك المتين، يمد البنًاء الخيط إلى منتهاه باستقامة تامة، فيظهر له أى اعوجاج قد يلحق ببنائه فيستطيع أن يتداركه قبل أن يتم البناء. 

أرى أن هذا التمهيد كان ضروريًا لكى نقترب من فهم حقيقة التصريحات التى أطلقها وزير الدفاع المشير السيسي فى الجلسة الافتتاحية للمؤتمر السنوى الثانى لشباب الأطباء وحديثي التخرج. قال المشير السيسى: "إن حب الوطن مش كلام وخلاص ولكن عمل ومثابرة وقدرة على علاج المشاكل .. خلوا بالكم لازم نكون أمناء ونتكلم بجد، قبل ما أحط اللقمة في بقي، أفكر أنا أديت إيه للبلد دي؟، حب الوطن مش كلام، أنا بكلم نفسي معاكم، مقصدش أوجه لكم أي كلمة، أنا بكلم نفسي، فيه مشكلة في بلدنا لم تواجه منذ 40 سنة، المستشفيات مش كويسة طيب ليه؟ والمدرسة مش كويسة طيب ليه؟.. يا ترى حد قال أدي لمصر شهر من عندي علشان الغلابة تعيش، يا ترى حد قال همشي على رجلي علشان أوفر حاجة لبلدي؟..أوعوا تزعلوا مني أنا شايف مصر زي ما أنا شايفكم وشايف مشاكلها زي ما شايفكم، البلاد لا تتقدم بالكلام ولكن تتقدم بالعمل والمثابرة، ممكن جيل أو اتنين يتظلموا علشان الباقي يعيش..لازم نعرف المرض علشان نعرف نعالجه، عمر مشاكل الدول ما تتحل في يوم وليلة، ولكن بياخد سنين سواء نجاح أو فشل .. أنتم الأمل، عايزين خدمة طبية حقيقية وخريطة حقيقية للأمراض في مصر، ويكون عندنا بحث علمي محترم معندناش خيار إن كل حاجة ممكن نجيبها من الخارج، فقدراتنا الاقتصادية لا تتحمل". 

كلام المشير لا غبار عليه، فهو كلام رجل عاقل لا يريد توريط نفسه فى عملية خداع للشعب عبر الحديث عن أنهار اللبن والعسل التى ستجرى بين يديه، الرجل يدرك جيدًا حقيقة أوضاعنا الاقتصادية ويرغب بشدة فى أن يتشارك الجميع فى تحمل مسئولية النهوض بوطن عانى ولا يزال يعانى من ظلمات فترة حكم مبارك، ولكن ما ينقص هذا الكلام هو أن المشير لم يمد الخيط إلى منتهاه، ومد الخيط عملية ضرورية لا تقل أهمية عن عملية المصارحة، المشير يعرف بلا أدنى شك الذين يجب أن يدفعوا أولًا، لأنه حتمًا يعرف الذين استفادوا أولًا، فلا يمكن بحال من الأحوال أن يصبح الذين عبروا والذين هبروا سواء، هناك من دفع الثمن كاملًا غير منقوص وهم أبناء الطبقة الفقيرة ومعظم شرائح الطبقة الوسطى، وهؤلاء يجب ألا يطالبهم أحد بمزيد من سداد فواتير غيرهم، لدينا تقرير قدمه المستشار هشام جنينه ذكر فيه بوضوح لا غموض فيه، أسماء المؤسسات والهيئات التي تجرف ثروات الوطن، من هذا التقرير يجب أن نبدأ، قف يا سيادة المشير فى وجه هؤلاء الذين يهدرون وينهبون ويغتصبون مقدرات وثروة البلد وبعدها بساعة واحدة سترى بعينيك كيف سيصطف الشعب من أمامك ومن خلفك وعن يمينك وشمالك ولن يتركك منفردًا تواجه ضباعًا توحشت من فرطت ما أكلت حرامًا حتى بشمت، تعلم يا سيادة المشير أن حسنى مبارك قد باع بثمن بخس معظم شركات ومؤسسات البلد فماذا أنت فاعل؟ هل سيتواصل كل النهب الذى نظمته قوانين مبارك أم سنراك تنتصر لبلد أصبحت آماله معلقة بك؟ 

تعلم يا سيادة المشير أن سعر طن الأسمنت لا يتجاوز فى السوق العالمى الـ 300 جنيه، ولكنه فى مصر ـ البلد المنتج للأسمنت ـ يتجاوز سعره الـ 800 جنيه؟ 

كيف يستقم هذا الأمر الشاذ الغريب، لقد استرد صديقك بوتين ثروة بلده التى فرط فيها سابقه، وذلك لأنه ذهب إلى رأس الدمل ومد الخيط إلى منتهاه، فأصبحت روسيا بفضل سياسته بلدًا قادرًا لا يمد يديه طالبًا معونة من زيد أو عمرو، إن الذين يغرونك بمضاعفة فقر الفقراء وبمطاردة المصريين بالخارج أو الداخل عبر فرض ضرائب عليهم، إنما يوردونك موارد الهلاك، فخذ حذرك ولا تلتفت سوى لشعب يراهن على شرفك الوطني فلا تخذله. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير 13 مارس 2014



الاثنين، 17 مارس 2014

جمهورية الاشتغالات العربية




صباح الأحد الماضى انفجر على مواقع التواصل الاجتماعى وعلى المواقع الإخبارية، خبرٌ يقول نصه: «أكد المقدم محمد إبراهيم الخبير الأمنى، أن القوات المسلحة نجحت فى اختراع مادة تحول الطرق غير الممهدة إلى طرق متساوية فى دقائق ولتمهيد الطرق بالفضاء، موضحا أن وكالة (ناسا) للفضاء طلبت من مصر إجراء مفاوضات واتصالات لشرائها.

وأضاف خلال مداخلة هاتفية لبرنامج (القاهرة 360) الذى يقدمه الإعلامى أسامة كمال عبر فضائية (القاهرة والناس) أن هذا الاختراع يمكن استخدامه فى استصلاح الأراضى والفضاء، مؤكدا أن هذا الجهاز سيقلب الدنيا رأسا على عقب، وأن جهاز المخابرات المصرية كان يتابع عن كثب الاختراعات العلمية التى كان يعلن عنها فى الصحف، لاختيار ما يناسب الأمن القومى للبلاد»

انتهى الخبر اللغز ووقعنا جميعًا فى نفق التخمينات المظلم، من يكون هذا السيد الخبير الأمنى؟ ما مدى مصداقيته؟ كيف فى غفلة من الزمان تنهمر علينا كل هذه الاختراعات والاكتشافات والابتكارات؟

لماذا يتحدث رجل لا يعرفه أحد فى موضوع خطير كهذا؟

إذا كنا لم نهضم بعد خبر اختراع جهاز علاج فيروس سى فلماذا التعجيل بخبر المادة الغامضة التى تمهد حتى الفضاء؟

غادرنا نفق التخمينات المظلم ونحن ثلاث فرق، فرقة تدافع عن (الاختراع) كأنه حقيقة كونية لا تقبل الشك، وفرقة تسخر وتسرف فى التجريح، حتى إن تجريحها طال الوطن ذاته، وفرقة تقول: "تمهلوا فلربما كان تحت العمامة شيخ".

تواصَل تطاحُن الفرق الثلاث حتى ظُهر الأحد، الذى شهد انفجار خبر آخر يقول نصه: "نفى العقيد أركان حرب أحمد على، المتحدث العسكرى، ما نُشر فى بعض وسائل الإعلام حول نجاح القوات المسلحة فى اكتشاف مادة تحول الطرق الوعرة إلى طرق متساوية، وأن العديد من الدول الأجنبية حاولت شراء هذا الاكتشاف، موضحا أن الكلام المذكور عار تماما عن الصحة وصادر من أشخاص ليس لهم صفة رسمية داخل القوات المسلحة".

وأوضح على، فى بيان له، الأحد الماضى، أن القوات المسلحة تسعى إلى إطلاع الرأى العام على أى ابتكار أو اختراع جديد يفيد الشأن العام والقطاعات المدنية، وذلك من خلال أجهزتها المعنية بالتواصل مع وسائل الإعلام. وناشد المتحدث العسكرى، وسائل الإعلام تحرى الدقة والموضوعية فى كل ما تنشره من أخبار وموضوعات تخص القوات المسلحة، وعدم التعامل مع مصادر تدّعى كذبًا علاقتها بالمؤسسة العسكرية، حفاظًا على منظومة الأمن القومى المصرى.

هل حسم النفىُ القاطعُ المعركةَ؟ الإجابة للأسف هى"لا" لقد صب النفى مزيدًا من الزيت على النار، فقد تفرعت بسببه أسئلة أخرى من عينة هل الخبر الأول كان"بالونة" اختبار؟ هل هو قنبلة دخان يراد بها صرف الأنظار عن شىء ما يتم الترتيب له؟ كيف تسمح القوات المسلحة لكل من هب ودب أن يورطها فى أخبار مثيرة وخطيرة دون أن يرجع إليها؟ ولماذا كثرت فى الفترة الأخيرة تصريحات تثير البلبلة مثل هذا التصريح؟

أسئلة كثيرة ولا إجابة من الجهة المسؤولة، فإلى متى يتم التلاعب بمشاعر الشعب ومصالحه؟ ولمصلحة من يجرى كل هذا العبث، وهل تلك الأكاذيب تنطلق من أرضية معادية للقوات المسلحة؟ أم أنها تنطلق وفق اتفاق ما غامض لا نعرف عنه شيئًا.

كان النفى سيكون حاسمًا ويوقف كل تلك المهازل لو تضمن تأكيدًا على أن كل من تسوِّل له نفسه التصريح بمعلومات مغلوطة تخص القوات المسلحة أو المصالح العليا للدولة سيتم تقديمه لمحاكمة عاجلة، ولكن للأسف اكتفى المتحدث العسكرى بالمناشدة الرقيقة، التى لا تصلح مع أمثال هؤلاء الذين يتبرعون بنشر أكاذيب لا نعرف ما الهدف من نشرها فى مثل هذه الأيام التى نعيشها بأعصاب تكاد تحترق من كثرة ما نشهده من رعونة وتعثر فى خطواتنا السياسية، وهو الأمر الذى جعل كثيرين يستخدمون المصطلح الشائع "اشتغالة" الذى يعنى عند مستخدميه أن كل ما يجرى ليس سوى مجموعة من الأكاذيب، حتى إن بعضهم يقترح تغيير اسم الوطن ذاته ليصبح جمهورية الاشتغالات العربية بدلا من جمهورية مصر العربية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر بجريدة التحرير 6 مارس 2014
لينك المقال بموقع التحرير:
http://tahrirnews.com/columns/view.aspx?cdate=05032014&id=224ca862-f31a-4a0a-8698-b64603e2be2d

الخميس، 13 مارس 2014

عار الصمت





مات الأب وترك أرملته وبناته الثلاث يواجهن جبلًا من الصمت يجثم على قلوبهن. عرف البيت الصامت عودة الكلام مع دخول قارئ قرآن كفيف لكى يرتل ما تيسر من الآيات طلبًا للرحمة والبركة. يتطور الأمر ويتزوج الشيخ الكفيف من الأم، تصبح حياة البنات جحيمًا وهن يشاهدن ويسمعن ويشعرن بما يحدث بين أمهن وزوجها الشيخ. البنات اللاتى لم يتوقف أمامهن قطار الزواج يطالبن بحقهن فى الحياة، وما كانت وسيلتهن للحصول على حقهن سوى خاتم أمهن، كل واحدة وبهدوء قاتل تضع الخاتم فى أصبعها فتصبح زوجة للكفيف.

ما سبق كان تخليصًا مخلًّا لرائعة يوسف إدريس «بيت من لحم»، التى يقبض فيها بفنه القادر على لحظات الصمت ونار التواطؤ، هذا التواطؤ الذى يورط فيه حتى قارئ القصة، لا أبالغ عندما أقول إنك ستحبس أنفاسك خوفًا من أن تخدش جدار الصمت الزجاجى الهش.

البنات وأمهن صامتات، يتبادلن الأدوار دون كلمة واحدة، دون لفتة واحدة، لا إشارة ولو عابرة لما يجرى. إن أدنى كلمة ستفتح بوابات الجحيم. إن أدنى مواجهة ستهدم عالمهن كله. الحقيقة أقسى من أن يواجهن بها أنفسهن. من ناحيته فإن القارئ الكفيف يلتمس لنفسه العذر ولا يسمح لنفسه بالتحقق من الشك الذى أصبح يلفه، إنه يلقى بالمسؤولية على المبصرين فقط، لأنه ليس على الأعمى حرج.

هذه الحالة القاتلة، نعيش مثلها الآن، حالة الصمت العاجز عن مواجهة الحقائق المؤلمة، كأن الصمت سيجعل من الحرام حلالًا، أو سيقدم مخرجًا كريمًا لما نحن فيه.

إن أردت دليلًا على جهنمية هذا الصمت فراجع مواقفنا جميعًا من التقرير الذى قدمه المستشار هشام جنينة رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات.

تقرير المستشار جنينة تكدست على جنباته مليارات الجنيهات التى ابتلعتها دوامة الفساد والمخالفات الإدارية، كأننا دولة تغرف من بحر، ولسنا دولة تعيش بالأساس على المعونات واقتصاد الريع.

قال جنينة: «إن مرسى حصل على أكثر من 600 ألف جنيه فى عام حكمه، وشهدت الرئاسة فى عهده مخالفات صارخة فى التعيينات». وأضاف أن جملة المخالفات التى شهدتها أرض منطقة الحزام الأخضر بمدينة السادس من أكتوبر قد بلغت 26 مليار جنيه، أما مخالفات مدينة الشيخ زايد فقد بلغت 4 مليارات جنيه. وعن الدعم قال جنينة: «إن دعم المنتجات البترولية وصل إلى 114 مليار جنيه، فى حين أن المبلغ المعتمد رسميا هو 95.535 مليار جنيه»، وهذا يعنى أن 18.899 مليار جنيه، لا يعرف أحد عنها شيئًا!!

تحت هذه العناوين الرئيسية كشف تقرير الجهاز المركزى للمحاسبات عن عدوان على المال العام يحدث بشكل يومى، فما الذى فعلته الحكومة تجاه هذا التقرير الخطير؟

لم تفعل شيئًا، أو للدقة تركت المستشار جنينة يقول ما شاء ثم تركته يعود سالمًا إلى منزله، ثم تركته يواصل عمله، كأن شيئًا لم يحدث. أما المجتمع فقد تلبسته حالة الصمت، كأن الأمر برمته لا يعنيه، وكأن هذه المليارات المهدرة ليست ثروته هو، بل إن فريقًا من المجتمع لا يستهان به شن هجومًا معاكسًا ضد المستشار جنينة وضد تقريره، فقد اتهموه بأنه إخوانى الهوى ويريد تصفية حسابات لصالح جماعته، ودللوا على ذلك بأنه عقد مؤتمرًا صحفيًّا بقصد التشهير بخصومه.

وحتى لو سلمنا بصحة هذه الاتهامات التى لا يقوم عليها دليل مادى ملموس، فهل معنى ذلك أن يتم تجاهل التقرير ولا يسعى المجتمع لكى يمارس ضغوطًا تؤدى إلى التحقيق فى محتواه، لكى نعرف يقينًا الجانى من الضحية؟

إن كراهية عصابة حسن البنا المعروفة باسم جماعة الإخوان لا تبرر هذا الصمت الذى يصل إلى حد التواطؤ، صمت يشارك فيه الجميع، الأحزاب والقوى السياسية والإعلام بمختلف وسائله، جهات التحقيق، حتى هؤلاء الذين تضرروا بشكل مباشر من المخالفات والإهدار كلهم اعتصم بالصمت، كأن المال المهدَر سيعود من تلقاء نفسه، وكأن البلد يملك ثروات طائلة ولا يزعجه أن يتم فى عام واحد إهدار عشرات المليارات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير 27 فبراير 2014
لينك المقال بموقع التحرير:
http://tahrirnews.com/columns/view.aspx?cdate=26022014&id=c47165e7-69bf-4202-a533-6cd31658ee29

الاثنين، 10 مارس 2014

الفاتحة




الجمعة 9 مارس 2007

عشقي ليوم الجمعة قديم، يعود لتلك الأيام التي كنت فيها أطيل السجود، لأملأ أنفي برائحة حصيرة الجامع المبللة بماء الوضوء.
غادرت البيت منتعشًا في الرابعة عصرا، جاء الميكروباص وكان الهدوء يغمر الركاب والسائق الذي كان نظيفًا لامعًا يبصر مستعينًا بنظارات طبية لها إطار أنيق، إنه من النوع "المعاش" واحد من موظفي الشركات التي باعها حسني مبارك، سائقي المسكين خرج إلي المعاش المبكر وهو في الخمسين ليبدأ عملًا لا يعرف قواعده ولن يعرفها، سريعًا وصلنا إلي الموقف في التحرير، عبرت الموقف إلي ساحة الشهيد عبد المنعم رياض، من زمن بعيد كنت قد دربت نفسي علي نسيان التواريخ حتى استطعت نسيان عيد ميلادي، يمر اليوم كغيره وقد أتذكره بعدها بأيام فأصفق لنجاح تجربة النسيان العظيم، إذن ما الذي جعلني أتذكر أن اليوم هو يوم الشهيد؟ إنه الحاج مندي الذي ذكرني في مكالمة جرت بيننا أمس بمقال كنت كتبته عن الشهيد رياض ونشرته بالأحرار قبل سنوات (تري هل يغفر الله للحاج مندي؟).
يقف تمثال الشهيد محاصرًا بكل بذاءات الميكروباص، ودخان البانجو، الساحة التي يتوسطها التمثال مكتظة بعشرات الشبان والشابات. يجلسون علي المقاعد الحجرية، الأولاد يدخنون في صمت والبنات تحاول الواحدة منهن إخراج الولد من دوائر صمته وشروده بشتى الطرق، يحاول الولد إثبات حضوره فيداعب شعر فتاته أو رقبتها أو خدها وأحيانًا يقنع أو تقنع البنت بلمسة علي اليد كما يحدث أحيانًا أن يوغل الولد في إثبات حضوره فتذهب مداعباته إلي أماكن لها خطورتها.
كنت والتمثال وحيدين. مدخنو البانجو ليسوا هنا كما أنهم ليسوا هناك، فجأة دخلت الساحة جماعة من الأجانب، أربعة رجال وامرأة، وقفوا تحت التمثال والتقطوا صورًا تذكارية، ضربني الوسواس القديم المقيم، هل هم صهاينة حضروا للتشفي من الشهيد في يوم عيده؟ أم هم أجانب أبرياء يكدسون الشمس والذكريات وليس أكثر؟ لو كانوا صهاينة، فيجب عليَّ هزيمتهم، ولكن كيف سأهزمهم بمفردي؟
أرسل رب الأفكار فكرة عظيمه فله تعالي الحمد كله.
ـ هي فكرة عظيمة ولكن..
ـ ولكن ماذا؟
ـ هي خارجة علي سياق سلوكي العام. أخجل من تنفيذها، إنها تحتاج لرجل استعراضي ولستُ كذلك.
ـ الحق هي تحتاج لرجل يحب الشهيد، أولستَ كذلك؟
ـ والله أنا أحبه فعلا.
ـ إذن تقدم وافعلها. 
يارب كن معي... واحد، اثنان، ثلاثة.
تقدمت بخطوات مستقيمة باتجاه التمثال، وضعت حقيبتي علي الأرض واعتدلت بهدوء ونظرت إلي التمثال لحظة، وفي الثانية كنت قد هزمت خجلي وأديت التحية العسكرية للشهيد، أديتها بحب وإخلاص جندي في حضرة قائده الفذ. ببطء استدرت أنظر لجمهور الساحة لأري رد فعلهم، كان الأولاد يدخنون في صمت وشرود والبنات مستسلمات لنشوة المداعبات المفاجئة، دهشة جميلة رأيتها تطل من عيون الأجانب، الحمد لله ليسوا صهاينة (الدهشة ليست من أخلاق القتلة) كافأت الأجانب الأبرياء علي دهشتهم الجميلة واستقبلت القبلة. أغمضت عينيّ وبسطت كفيّ وتلوت الفاتحة بصوت مسموع، وعندما قلت آمين كانت كاميراتهم تلتقط صورتي، بتلقائية أصحاب الشأن الذين اعتادوا التصوير أخذت حقيبتي وغادرت الساحة في هدوء.
الغريب في الأمر أن نقطة صدق قد عرفت طريقها إلي قلبي!
كيف حدث هذا وأنا أعلم أن ما فعلته كان محض تمثيلية أكيد بها من ظننتهم صهاينة؟ 
الله أعلم
تمثيليتي التي لو التفت إليها البنجاويون لوصفوها بالحركة القرعاء، فتحتْ لي أبواب الأوهام التي أحتمي بها.

أسبوع للشهيد، فرقة موسيقي الجيش تعزف موسيقاها، أطفال يطيرون طائراتهم الملونة في سماء الساحة، شبان تجري فى عروقهم دماء العافية، بنات مثل الورد يجملن الساحة ويزين المهرجان، فرقة أولاد الأرض تكنس أغانيها عتمة تراكمت

وغني يا سمسمية لرصاص البندقية
ولكل ايد قوية حاضنة زنودها المدافع
غني لكل دارس في الجامعة والمدارس
لمجد بلاده حارس من غدر الصهيونية
غني ودقي الجلاجل مطرح ضرب القنابل
راح تطرح السنابل ويصبح خيرها ليا.

شيوخ الإسلام سيخطبون عن الشهادة والشهيد، الكنيسة سترسل جوقتها وستظلل الترانيم مئات الآلاف من الحضور.
في ختام الأسبوع سيشرف مهرجاننا رئيسنا الذي انتخبناه وسيمنح الفائزين في مسابقة الشهيد الجوائز القيمة (طبعا رئيسنا سيختص أولاد الشهداء بلفتة رئاسية خاصة).
ستظل تجري وراء أوهامك حتي تفتت سيارة طائشة عظامك، كف عن الأوهام، العراق تفتت، فلسطين علي طريق الأندلس تسير، سوريا محاصرة، ليبيا خلعت سروالها، بلدك أم الدنيا ومهد الحضارة تلفظ أنفاسها الأخيرة.

دخلت إلي الكرامة وكانت بقية من الفاتحة تعطر دمي، جاءت زينب حسن ومحمد سعد عبد الحفيظ ومحمد الروبي وسمير عبد الغني وأحمد عاطف ومجدي عبد الكريم وشكروا مقالي الذي كتبته عن جرائم شهر فبراير أو" فقراير" كما ينطقها المصريون، ثم جاء أمين إسكندر (مستشار تحرير الكرامة) وقبلني مهنئا وقال لي: احرص علي قراءة مقالي القادم لأنه عن الشهيد عبد المنعم رياض، احتضنت إسكندر بقوة أدهشته (كدت أقص عليه ما فعلت ولكن خجلت).
بهجة الفاتحة أو قل بركتها استمر مفعولها حتي نهاية السهرة، فعملت علي موضوعات جيدة عن ملف الأسري المصريين الذين قتلهم الصهاينة، الملف كان ينطلق من نقطة مركزية وهي: الحكومة ماتت وعلي الشعب أن يتحرك.
كدت أذهب لعبد الحليم وأصارحه: سيدي رئيس التحرير قبل ساعات رأيت في ميدان التحرير أولاد الشعب يمضغون الصمت والبانجو وبنات الشعب مهتاجات بفعل مداعبات مفاجئة ورغبات لا تجد شقة شرعية أو حتي عرفية.
أخيرا انتهت السهرة علي خير، دون الوقوع في حماقاتي المزمنة، سرت كما هي العادة إلي التحرير، في الموقف سيارات ولكن لا ركاب، لم أغامر بالانتظار، وخرجت إلي الكورنيش، أرسل الله التاكسي، سألت السائق: هل وصلتك حكاية الأسري التي يتحدثون عنها؟ نظر إليّ مبتسما وقال: بعد صلاتك علي سيدك النبي أشعل سيجارة وناولني أختها واسمع معي بنتا سبحان الله صوتها في جمال عينيها، صليت علي سيدنا النبي وأشعلت سيجارة وناولته أختها ووضع هو شريطا في المسجل فجاء صوت البنت التي سبحان الله صوتها في جمال عينيها.
كانت أصالة 
وكانت تغني:
ما فضلش غير دمعة مرسومة في المناديل

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فصل منشور فى كتاب " فيصل تحرير .. أيام الديسك والميكروباص"

الاثنين، 3 مارس 2014

ميدالية سيادة الرئيس




كنا جماعة من شباب الصحفيين نعمل فى جريدة، لا هى مغمورة ولا هى ذائعة الصيت، وكان رئيس تحرير جريدتنا لا يأمر بنفاقه ولا ينهى عنه..

 «حالة البين بين» المائعة هذه استغلها جماعة من الزملاء فأسرفوا- تحت ستار من الحب اللزج- فى نفاق سعادة رئيس التحرير، حتى إنهم شكّلوا تحالفًا نفاقيًّا واخترعوا ميداليات تزينها صورة معاليه، ولكن هذا التحالف لم يستمر طويلًا، فسرعان ما دب بينهم صراع التنافس على قلب الرجل فانقسموا إلى ثلاث فرق، فرقة «نفاقها متواضع» تُخصص أحد وجهَى الميدالية لصورة رئيس التحرير، والوجه الآخر تجعله لأولادها أو لأى منظر طبيعى.

الفرقة الثانية «يبدو نفاقها عريقًا» تزين وجهَى الميدالية بصورة رئيس التحرير.

الفرقة الثالثة وكان يمثلها صحفى واحد، فاز بالمركز الأول من أول يوم لبدء منافسات النفاق، زميلنا صنع ميدالية ثمانية الشكل، واختار صورًا فى أوضاع شتى لسيادة رئيس التحرير، فربح منافسيه بالضربة القاضية الفنية.

ثم راحت أيام وجاءت أخرى وقام مجلس إدارة الجريدة بطرد رئيس التحرير، وهنا كان لا بد لى من متابعة مصائر الميداليات، لقد اختفت جميعها بقدرة قادر أو بسحر ساحر، ولم يعد أحد من الزملاء يجرؤ على أن يُظهر الميدالية التى طالما تباهى بها متدليةً من جيب بنطلونه أو متلاعبًا بها بين أصابعه. لم يدهشنى اختفاء الميداليات، فالأمر متوقع ويبدو سلوكًا طبيعيًّا يسلكه المنافقون عادة، الذى أغضبنى أيامها كان إجابة وقحة متغطرسة قالها صاحب الميدالية الثمانية الشكل عندما سألناه: «لماذا اختفت ميداليتك المتميزة؟».

راح يلقى علينا خطبة مطولة عن الفرق بين حب الشرعية والدفاع عنها والتمسك بها وبين حب الفرد، لأن حب الشرعية يقتضى أن يخفى الميدالية، ولكن حبه لرئيس التحرير السابق يجعله يداوم على التواصل معه، حتى إنه يزوره فى مسكنه ثلاث مرات كل أسبوع!!!

مر يومان على سماعنا لهذه الخطبة العبثية، وفى اليوم الثالث ظهرت ميدالية جديدة بين أصابع الزميل تعلن عن حبه وتمسكه ودفاعه عن الشرعية، متمثلة فى رئيس التحرير الجديد الذى رأى أن يكسب الرأى العام بالجريدة، فأبعد عنه صاحب الميدالية لفترة لم تستمر طويلًا، ثم بدعوى الاستفادة من كل الكفاءات بدأ رئيس التحرير الجديد يستعين بالزميل صاحب الميدالية ويقربه حتى أصبح ذراعه اليمنى، الانفراجة التى حدثت للزميل، جعلت الاطمئنان يعرف طريقه إلى نفوس باقى فرق المنافقين فصنعوا ميداليات جديدة مزينة بصور رئيس التحرير الجديد.

قصة الميدالية هذه تبدو كأنها من قوانين الحياة السياسية المصرية، لا يخرج عنها إلا مَن رحم ربى، فنحن نشاهد الآن حلقة من حلقاتها، يتم ارتكابها تحت شمس الظهيرة وبدون أدنى ذرة من حياء أو خجل أو تأنيب ضمير، فالذين تباهوا بميداليات مبارك هم هم الذين افتخروا بميداليات الثورة، ثم وضعوا ميداليات طنطاوى فوق صدورهم، ثم حفروا ميداليات الإخوان فوق جباههم، ثم ها هم الآن يكررون الأمر ذاته مع المشير السيسى الذى لم يعلن حتى اللحظة بشكل رسمى قاطع أنه سيرشح نفسه على منصب الرئاسة، ومع ذلك فإن صانعى الميداليات يسعون ليل نهار لإفساده، ينسبون إليه كل أمر معجز ويختصرون فى شخصه كل الوطن، ويتبرعون بسباب وتشويه كل من يجرؤ على إعلان أنه سيخوض الانتخابات الرئاسية، ويؤكدون ليل نهار أن السيسى وحده هو الذى من حقه أن يترشح!!

كل هذا التدنى والترخص والانتقال بخفة القرود من خندق إلى آخر لن يصنع دولة، ولن يبنى وطنًا، بل سيقودنا جميعًا إلى هاوية تماثل تمامًا حال جريدتى القديمة التى بفضل النفاق أصبحت تعيش حالة برزخية عجيبة، فلا هى متوقفة عن الصدور ولا هى منتظمة، إنها تعيش فى غرفة إنعاش من الإعلانات، وهو الحال ذاته الذى يعيشه رئيسا التحرير اللذان اعتمدا على المنافقين، فأولهما أصبحت سمعته تحت الأقدام من كثرة ما جاهَر بنفاقه لكل سلطة، وثانيهما قنع من الغنيمة بجلوسه فى صالون بيته لا يغادره.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير 19 فبراير 2014
لينك المقال بموقع التحرير:
http://tahrirnews.com/columns/view.aspx?cdate=19022014&id=0c71fc0d-9b62-42d7-a13d-dd1513cb669e