الخميس، 22 ديسمبر 2016

الصور تليق بالأحباب ( 3 ـ 3 )

* نبوءة الصيادة 


عندما ذهبت إليها بحيرتي، كانت تشرف على عشرين رجلًا يعملون في حقلنا، تتحدث معهم كأنها رجل وليست امرأة، لا تخجل من سبهم بما يأتي على لسانها من ألفاظ.
جلست إليها تحت ظل نخلة وبحت لها بسر المذكرات.
غضبتْ كما لم تغضب من قبل ولا من بعد، غضبتْ حتى بكت، نعم المرأة القوية بكت بين يدي.
قالت المرأة القوية من بين دموعها: "أنت عاق، وسيعاقبك الله يومًا، ويومها سأشهد عليك، كيف استبحت أسرار أبيك؟ ثم كيف سرقت؟ ثم كيف فتشت؟ ثم كيف لم تمت خجلًا؟ أنت مجرم، أنت ارتكبت كبيرة لا أظن أنك ستفلت منها، جئتني بجريمتك تطلب مساعدتي ؟.
أنت لا تستحق مساعدة قبل أن تبكي دمًا لعل الله يغفر لك ذنبك".
بقوتها القادرة كفت عن البكاء ثم قالت بصوت واضح: "ماذا تريد مني؟"
قلت : " أريد كل أبي ".
ابتسمت ابتسامة استهتارها وقالت: "عودك أخضر ولن تستطيع تحمل ثقل أهون سر".
قلت متبجحًا: " بل أنا رجل قوي".
حدقت في وجهي طويلًا ثم قالت: "خذ هذا السر".
ثقل كلامها عليّ فلم أدعها تكمل سرها ففررت من وجهها فراحت تقذفني بالحصى وتصيح: "عد يا أيها الرجل القوي، عد لو كنت رجلًا".

***

لم نكن نطلب بهيجة  في مكان أو زمان ونفتقدها، دائمًا كانت حيث نريد، كانت في زيجاتنا وحقولنا وخبيزنا وأفراحنا وأحزاننا وسفرنا وإقامتنا، كانت كالهواء تحيط بنا من كل جانب، في زمن ما، أطلقنا عليها لقب الحاج مشحوط، وشاع اللقب حتى كاد يغلب اسمها، ومشحوط عندنا هو الذي ينشغل بكل شيء، فهو مفرّق بين الأشياء وقائم بالأعمال لا يكل ولا يمل.
كانت علمًا عندما كان ذكر أسماء النساء من العيوب، كان ابنها عندما يفاخر يقول: "أنا ابن بهيجة عبد الرحيم أنا ابن الحاج مشحوط".

***

الحنين يفتتني يا بهيجة يا  أمي، أحن لرائحتك وأنت قادمة من الطاحونة معطرّة برائحة الدقيق الساخن.
أريد القبض على جلساتنا بين الحقول وأريد القبض على شاي الحقول وعلى طعامه.
كنت تزينين غرفتي بالصور التي أحب، كيف كنت تعرفين الصور التي أحب؟.
كنت أذهب معك إلى السوق وكنت تبتاعين  لي ما أشتهي، كيف كنت تعرفين شهواتي؟.
 أعرفك يا أمي لا تحبين الرجل الضعيف، سأكون قويًّا ما دمت أكتب لك وعنك، سأبوح لك بسر صغير: ما أكتبه الآن جاءني يوم الأربعاء العاشر من أغسطس من عامنا هذا، وفيه  ذهبت إلى فندق بالدقي لمقابلة محمد المخزنجي ـ ربما يكون ولدك ناصر قد حدثك عنه ـ  هو يا أمي كأنه من أبناء عبد الرحيم، هو قوي وقادر مثلك، وأبيض وحيي كأمنا، أعرفه منذ زمن بعيد وليست ثمة صورة تجمعني به، نعم يا أمي أنا أصبحت عاقلًا وطردت عني أوهام الخلود والأبدية، فكلنا يا أمي إلى زوال، ولكن يشق علي افتقادي لوجوه أحببتها.
مرت بنا مضيفة جميلة فغازلتها فتعجب المخزنجي من جرأة لا يعرفها فيّ، ضحكتْ الجميلة من مغازلتي فقلت للمخزنجي: "هذا ما أريده، ستصورنا وهي ضاحكة فتأتي صورتنا كأجمل ما تكون الصور".
نشوة الضحك جعلت يد الجميلة تهتز وهي تصورنا فقال المخزنجي :" هذا ما أخذناه من غزلك ".
يومها طبب المخزنجي جروحي وترك لي صورته، لحظتها قلت سأكتب عن صور تليق بمقام الأحبة، لحظتها افتقدت صورتك.
آه يا شقيقتي، آه يا أمي،  لقد ماتت أمنا عظيمة، ومات أبونا الحاج بهجات، آه يا أمي لقد وقعنا في جب الحزن.
آه يا أمي القوية السمراء، آه يا حاج مشحوط، كيف اجترأ عليك هذا السرطان الخبيث ؟.
كيف تذوبين أمام عيوننا وأنت البقية الباقية من الأحبة؟.
أنا الآن يا أمي، أعيش الوحدة الكاملة وأعيش النقصان الكامل، أعيش البتر الهمجي، تلفني الوحشة يا أمي، لست قويًّا مثلك، أنت اصطدت لي الطائر المحلق في السموات البعيدة، أنا يا أمي أصطاد كل صباح خيبة جديدة وهزيمة جديدة، وأفتقد صورتك.
آه يا أمي وشقيقتي، حذرتني قبل ثلاثين عامًا من عقاب هتك السر، لقد وقع العقاب، لقد هتكوا سري وتركوني مكشوف العورة.

الخميس 1 سبتمبر 2016

الاثنين، 19 ديسمبر 2016

الصور تليق بالأحباب (2 -3)

          * أمي بهيجة عبد الرحيم



                          
.... ثم تعاقب الليل والنهار وتعاظم رصيد هزائمي في كافة فروع بنوك الخسائر وجاءني الجنّي المؤمن وهمس قائلًا: "اكتب عن صديقتك وبنت أيامك كوثر مصطفى".
فكتبت مقالًا مطولًا وأرسلته إلى أخبار الأدب، فاتصل بي مسئولها محمد شعير سائلًا عن صورة تجمعني بكوثر لنشرها مع المقال.
قلت لشعير: لا صورة لي مع كوثر.
لم يعرف شعير أنه بسؤاله العابر قد وضع الملح على الجرح.
أين صوري؟.
أين أحبائي؟
أين أبي الحاج بهجات، وعلاء الديب، ومحمد المخزنجي، وسمير عبد التواب  و........

أين حبيباتي؟.
أين صافي ناز كاظم ولطيفة الزيات ورضوى عاشور والبنت التي جمّلتْ الحياة لساعة ثم قبحتّها إلى نهاية النهايات البعيدة  للقبح المنتن؟
لقد دخلت بيوتهن وأكلت من موائدهن واحتضن بؤسي وقلقي، فأين ذهبن؟.
كيف أثبت لنفسي أنني مررتُ بحياتهن؟.

ثم أين أمي بهيجة عبد الرحيم؟.
جاءني الجنّي وقال: "اعلم ـ رد الله عليك عقلك ـ أن اليتامى على أنواع شتى، وأنت كنت من أسوأهم نوعًا".

***

كان أبي الحاج عبد الرحيم، الذي أنا من صلبه، قد تزوج بأمي الحاجة عظيمة، وكان أبي ـ كما سأعرف من مذكراته ـ تواقًا لفرح يغسل قلبه، فراح يطلق علينا نحن أولادهم الأسماء التي يؤمن أنها مبهجة، كانت الأولى "بهيجة" وكان الثاني "بهجت" أو بهجات.. وهكذا، حتى نصل إلى حمدي أو حمدان أو عبد الحميد أو محمود أو حمام وكل هؤلاء هم أنا.
تزوجتْ  شقيقتي بهيجة التي ستصبح أمي، قبل ميلادي بعامين وولدتْ ابنها ناصر كمال الهمامي قبل ميلادي بعام، وعندما جئت شح لبن أمي فأرضعتني شقيقتي مع ابنها، فأصبحت ابنًا لها وخالًا لابنها وأخًا له.

***

عرفتُ أن أمي هي عظيمة وليست بهيجة وأن أبي هو عبد الرحيم وليس بهجات، وكانت المعرفة أثقل من أن يتحمّلها قلبي فهمت على وجهي مطاردًا فراشات الحقول.
أصحو من نومي فأهبط إلى حيث يقوم جدي  ـ في أرض النخيل ـ زارعًا مصليًا مستغفرًا، فيشير لي بالانطلاق.
هذا الرجل جدي الذي سبقني إلى الوجود بأكثر من ثمانين سنة، كان صديقي الأول وهو الذي حرضني على أن أسير بين الحقول مطاردًا الفراشات.
الفَراش أرق من أن أصطاده، وأجمل من أن أحبسه في علبة، الفراش ملون مزخرف، الحقول خضراء فاجرة الخضرة، للحقول رائحة سأتعذب بها في زمني القاهري البليد، الفراش يطير وأنا أجري خلفه، ثم أجري، ثم أجري، إلى أن يغلبني التعب، فأجلس للراحة تحت صفصافة، وأغمس قدمي في ماء الترعة الصافي، وتدغدغ الأسماك الصغيرة باطن  قدميّ، ثم أنشط فأقوم للعودة إلى المنزل مواعدًا الفراش علي لقاء قريب قادم.
ذات يوم لم أعد إلى المنزل  لقد رأيت الرجل الصياد.

***

الرجل الصياد، طويل عريض، رشيق أنيق معطر، نظيف الثوب مبتسم الثغر.
الرجل الصياد حبيب أعرفه، إنه عمي حسين عراقي.
ربما كان  يومها في أواخر الثلاثين، ولكن الأكيد أني كنت دون العاشرة.
يلتف حزام حقيبة الطلقات حول خاصرته، وبيده اليمنى يطلق خرطوشه على الطيور الكبيرة البعيدة.
طلقة واحدة يطلقها بيسر فتأتيه بالطائر البعيد.
انزعج عندما شاهدني على مقربة منه وسألني:" ما الذي جاء بك إلى هذا الخلاء؟".
قلت له:" كنت أطارد الفراش وتعبت فجلست تحت الصفصافة وعندما سمعت الطلقات هرعت لمصدرها فرأيتك".
مسح على رأسي وأعطاني  قرشًا وطائرًا من صيده.
عدت بالطائر الذي لم أعرف يقينًا ما هو، أمي قالت: إنه الوز العراقي.
تبّلتْ أمي الطائر وقدمته لي في حفل شواء فاخر!!
من يومها وأنا كلما مررت  بآية: "وَلَحْمِ طَيْرٍمِمّا يَشْتَهُونَ" أشم رائحة الشواء مختلطة برائحة حضن أمي.

***

سعيت في ظهيرة اليوم التالي لمتابعة عمي حسين، لكنه لم يأتِ، انتظرته بحرقة، لكنه لم يأتِ، أصغت السمع لعلي أسمع خرطوشه، لكنه لم يأتِ، حاولت صرف نفسي عن انتظاره بمطاردة الفراشات ولكن نفسي عافت المطاردة، أنا الآن لا أريد سوى الرجل الصياد، ولكنه خذلني ولم يأتِ.
عدت إلى البيت مختنقًا بخذلان الرجل الصياد لي.
في الحقيقة الرجل لم يخذلني، لأنه لم يكن قد واعدني، ولكن أين موقع الحقيقة من قلب طفل يطارد فراش الحقول؟
 حاولت أمي معرفة سبب صمتي فباءت كل محاولاتها بالفشل، فجلست تبكي، فبكيت أنا لبكائها، فجاءت بهيجة وصاحت في وجه أمي بحسم: "كفي عن بكائك ليكف هو عن بكائه".
ثم نظرت لي نظرة توبيخ وقالت: "أما أنت فما هي حكايتك؟ ولن أتركك حتى تتكلم".
تكلمت فقلت: "أشتهي طائرًا كالذي جئت به بالأمس ولكن عمي حسين لم يأتِ".
فابتسمت مستهترةً وغابت في غرفة لدقيقة، ثم عادت وقبضت على يميني وغادرنا البيت صامتين.
عندما أصبحنا بين الحقول قالت: "لمرة واحدة سأصطاد لك طائرًا، وبعدها سأذبحك لو جعلت أمك تبكي ثانية".
نظرتُ لوجهها كان غاية في الجدية، إذًا هي قد تذبحني فعلًا.
ولكن كلامها غامض كيف ستصطاد وهي امرأة؟
الرجال فقط هم الذين يصطادون، ثم أين بندقيتها؟ هذا لو كانت حقًا تستطيع الصيد.
تركتني واقفًا في حيرتي، وأعطتني ظهرها، ثم استقبلتني وقد أخرجت من بين طيات ملابسها فرد خرطوش.
مَنْ هذه المرأة؟ أنا خائف منها كأنها عفريت من الجن.
إنها شقيقتي التي عشت زمنًا أظنها أمي، إنها كأمي سيدة دقيقة التكوين، لكن أمي بيضاء وهذه سمراء، هي وأمي قويتان، لا تخافان شيئًا، رأيت أمي تقتل ثعبانًا وتقتل كلبًا عقورًا، وهذه التي أمامي الآن تزعم أنها ستصطاد لي طائرًا يحلق في السماء البعيدة.
رفعت يمينها ممسكة بالفرد ثم قالت: "بسم الله، الله أكبر".
ثم أطلقت طلقة واحدة وجاءت لي بطائر كطائر الأمس بل أحسن.

***

صدق الجنّي، نعم أنا أسوأ اليتامى، فأنا أتقصى الجذور والمنابت، أنبش في خرائب القلوب والأرواح، لا أكف عن السؤال، أريد القبض على الحقيقة، وكل حقيقة هي غائبة، وكل غياب هو مستحيل، وكل مستحيل أنا أسعى خلفه.

تركت استذكار دروس الثانوية وسرقت مفتاح خزانة مذكرات أبي، رأيت الكراسات الطويلة المجلدة بجلد أزرق، ومثل كل اللصوص فقد فرحت بأول كراسة وقعت في يدي.
قرأت طلبًا لليقين فوقعت في الحيرة، أقرأ أحداث 1963 وفيها يقول أبي: "لقد أسلمت اليوم دراسة لا وراثة".
أي الرجال كان هذا الرجل؟.
هل كان شيوعيًا أم كان إخوانيًا؟.
لماذا هرب يومًا وطلب حرق أوراقه؟.
لماذا عندما عاد من مهربه لم يفتقد أوراقه التي طلب إحراقها؟.
كيف نجت مذكراته من الحريق؟.
لم يذكر أبي في مذكراته أحدًا كذكره لبهيجة، فقلت إذًا عند بهيجة الخبر اليقين

الخميس، 15 ديسمبر 2016

الصور تليق بالأحباب ( 1ـ 3 )


* كيف أضعت كنز صافي ناز كاظم ونزار قباني ؟ 


في يوم جمعة من صيف العام 2012 همس لي جنيّ مؤمن بأن أعيد ترتيب مكتبتي.
جادلت الجنيّ لدقائق ولكن لأنه جنيّ فقد زيّن لي بدء العمل.
بدأت بأدراج مكتبتي، أخرجت الأدراج الثلاثة من أماكنها ووضعتها على السجادة التي افترشتها وبدأت بفتح ملف الخطابات الخاصة.
لحظتها همس لي الجنيّ:" قلنا نرتب المكتبة لا المكتب، هنا يا صاحبي مرقد الألم ونبع المواجع، اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد".
تركتُ الجنيّ لتقواه المفاجئة وبدأت في تصفح الخطابات، فماذا وجدت؟.
رسالة من إبراهيم عيسى ينهيها بأن ينصحني باستعمال الرفق مع نفسي؛ لأن طريقي كله أشواك.
لم أعد أذكر مناسبة الرسالة، كما أنها ليست مؤرخة، ولكن باستقراء حوادث الأيام فقد يعود تاريخ كتابتها إلى ما يزيد على عشرين عامًا مضت، عشرون مضت يا أبا يحيى، والأشواك تتوالد وتتكاثر، عشرون سنة مضت ونبوءتك لا تزال قائمة فاجعة مؤلمة.
 صورة ضوئية من خطاب صديقة إلى حبيبها تقول له فيه: "هل أنت الله؟!"
بكل تأكيد لن أذكر شيئًا عن الذي فعلته صديقتي بحبيبها في قادم أيامهما!!
رسالة من سعد القرش يشرح لي فيها فهمه الخاص  لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
سيقوم سعد بتطوير الرسالة ويجعلها مقالًا يربح به جائزة.
رسالة من الراحل الكريم حسام تمام إلى بلال فضل يعتذر فيها حسام عن أمر ما كان بينه وبين بلال.

رسالة من أشرف عبد الشافي يقول لي فيها: "سنذهب إلى بيت شقيقي لمشاهدة باراة الزمالك والأهلي في السوبر الإفريقي، طبعًا سنأكل وجبة صعيدية مفتخرة، ومن قلبي أتمنى فوز الزمالك لكي لا تحزن.. ملحوظة مهمة جدًا: البنت التي تطاردك في كل مكان أرجو ألا تكون معك، فأنا لا أتحمّل رؤية وجهها".
 الذي أتذكره أن المباراة المشار إليها كانت في عام 1994 فمن تكون البنت التي لا يتحمل أشرف رؤية وجهها؟.
ثم أشرف يرى أن كل النساء جميلات، وأن الرجل الحق هو الذي يكتشف مواطن الجمال في كل امرأة، فكيف بات  أشرف على رأي ثم كيف أصبح على غيره؟.
بنت تطاردني في كل مكان، مَنْ تكون؟ كيف نسيتها؟.
 إنني الآن لا أتذكر شيئًا، أي شيء عن تلك السنوات، ثم لو سألت أشرف عن البنت وعن الرسالة سيرد قائلًا: إنه قد نسي طعام إفطاره فكيف سيتذكر رسالة أو بنتًا سقطت من حياتنا قبل عشرين سنة؟.
ثم لن يسكت أشرف إلا بعد أن يطلق في وجهي الصوت السكندري الشهير.
أي خبل هذا الذي يدفعنا للحديث عن الخلود وعن الذكريات؟.
كيف لا ننتبه لدوامة النسيان التي تبتلع كل ما نظنه عزيزًا ونادرًا وعصيًّا على النسيان؟.
رسالة من أكرم القصاص لي ولبلال يخبرنا فيها بأنه قد وصل إلى مطلق السعادة وهو يجلس منفردًا على شاطئ الإسكندرية ويحصي عدد رمل الشاطئ وقد وصل قبل كتابته للرسالة إلى الرقم 123 مليون حبة رمل.
وينهي أكرم رسالته بأن يؤكد أن كاتبها هو عبد الله أكرم بن حسين القصاص البسيوني  المولد الحنفي المذهب، وقد خطها لعشر مضين من شهر مايو من عام1997، وفي ذيل الرسالة جملة نصها: "يا حمدي يا حرامي رجع كتاب المسعودي،  مروج الذهب اللى سرقته مني يا لص الكتب".
طبعًا لم أُعِد لأكرم كتاب مروج الذهب ولا غيره من الكتب، ولكن هل لا يزال أكرم سعيدًا أم تخطى السعادة نحو آفاق مجهولة؟
رسالة من بلال فضل يخبرني فيها بأن تبسمي في وجهه صدقة ويختم رسالته بأنها من المحب العاشق المعذب ( ب/ ف ) القاطن في حلمية الزيتون.
لم يسكن بلال حلمية الزيتون فما الذي جاء بها على سن قلمه؟.
 ثم أنا لم أعبس في وجهه قط، لقد كنت أضحك فور رؤيتي له؛ لأنه كان يشير في الهواء بإشارات بذيئة  ثم يخرج لسانه كأنه سيموت عطشًا وكان كل ذلك يضحكني.
رسائل مطولة بيني وبين عماد الدين حسين، لا تقل الرسالة عن عشر صفحات كاملة، كنا نتحدث في الرسائل عن ذكرياتنا مع قراءة روايات محمد عبد الحليم عبد الله، ثم تعلقنا بالجرائد التي كنا أحيانًا نسير على أقدامنا أكثر من عشر كليو مترات لكي نحصل عليها، ثم شتائم كثيرة جدًّا وغاية في البذاءة، كنا نوجهها للواقع الذي حلمنا به طيبًا فإذا هو قطعة من العذاب، بل العذاب قطعة منه.
رسائلي مع عماد مؤرخة، وقد مضى عليها قرابة العشرين سنة.
افتقدت رسالة  كنت قد أخذتها من الأستاذة صافي ناز كاظم  كانت قد أرسلتها للكاتب الأستاذ  جبرا إبراهيم جبرا، رحمه الله.
الرسالة كانت حادة جدًّا، أذكر مناسبة كتابتها، بل وبعض جملها، وقد أخذتها هي ومقطع من قصيدة لأمل دنقل مكتوب بحبر أخضر بخط  أمل خارق الجمال وقد أهداه لصافي ناز.
لقد ضاعت الرسالة والمقطع ضياع الأبد.


الآن أقول : ما كان ضياع الرسالة ومقطع أمل إلا عقابًا لي على إيماني بالخلود والذكريات .
كانت أمامي رسائل صافي ناز مع نزار قباني، لو كنت طلبتها منها ما كانت ستضن بها، تبًا لي سار يومي، الرسائل النفيسة أخذتها الأستاذة سناء البيسي، وهي رغم رهافة حسها وقيمة الرسائل فقد تعاملت معها بسواعد جزار أو بلطجي، لم تنشرها كاملة في مجلتها "نصف الدنيا"، نشرتها مقطّعة فاقدة لما بين سطورها، وقد غاب عنها لونها وظلالها.
كيف سمحت صافي ناز بهذا؟.
المجرم الأول في تلك النكبة هو أنا، ليتني حصلت على الرسائل، التي أظن أن أصلها قد ضاع وليس بيد أحد استعادته.
رسالة من الأستاذ علاء الديب طمس الزمان كلماتها، لم يعد باقيًا منها سوى مطلعها: "إلى أخي الكريم حمدي ".
طائفة من الرسائل بين أصدقائي وحبيباتهم ، بعض الحبيبات أصبحن زوجات  لأصدقائي وبعضهن سقطن في جب  النسيان.
الرسائل خاصة جدًّا وبها ما بها من مكاشفات وأسرار.
 لماذا قدمها لي أصحابها؟.
خطاب مغلق من حمدي عبد الرحيم إلى حمدي عبد الرحيم، مكتوب على مظروفه: "كتب في العاشر من يونيو من عام 2002 ولا يفتح إلا بعد مضي عشر سنوات على كتابته".
هل لم أرتب المكتبة والمكتب على مدار عشر سنوات مضت؟.
هذا مستحيل؟.

هل لم أمد يدي إلى ملف الرسائل على مدار كل تلك السنوات؟.
هذا مستحيل كسابقه.
كيف لم تقع يدي على هذا الخطاب سوى الآن، وبعد مرور عشر سنوات على كتابته؟.
وجهت سؤالي للجني المؤمن، فرأيته قد قام لصلاة العصر ليتركني في ضلال ذكرياتي المؤلمة.
بأصابع مرتعشة فضضت المظروف، وبريق جاف بدأت القراءة، ثم ضحكت وضحكت وضحكت، وواصلت ضحكاتي وأنا أمزق الرسالة شر تمزيق.
كانت الرسالة تؤكد على ما تفردت به عن بني الإنسان، تمضي حياة ابن آدم إلى الأمام، قد تتراجع خطوة أو ميلًا لكنها سرعان ما تمضي شاقة طريقها نحو الأمام، أما أنا فحياتي دائرية.
أبدأ من نقطة ثم أواصل السير الدائري حتى تكتمل الدائرة، فأغادرها إلى نقطة جديدة راسمًا دائرة جديدة.
كل ما كتبته عن نفسي وعن حياتي وأيامي في عام 2002 وجدته هو هو الذي أعيشه  في عام 2012.
وجدتني أكتب نفس الأفكار وأقرأ لنفس الكُتّاب وأتحمس للأوهام ذاتها وأبحث عن بهجة قديمة أعلم أنها مضت ولن تعود، وأبحث عن نظافة أمي وعطرها وحضنها، وأصرخ متألمًا من الغربة واليتم المبكر، وأشكو إلى الله جنونًا يصيبني لحظة العصر.
أنا لم أتقدم خطوة للأمام ولم أتراجع خطوة إلى الخلف، أنا الدائري الحلزوني، المتعرج الأعرج خسرت كل شيء وربحت هزائم مدوية، يقفز عمري إلى خط نهايته ويشيب شعري ثم لي قلب المراهقة وأعباء الكهولة.
كم أنا سعيد بي.
كم أنا تعس بي.
كم أنا شقي بي.
أنا لا أريد رؤيتي، لا أريد استحلاب هزائمي، لا أريد خطي الهمجي القبيح، لا أريد بؤس كلماتي، فليذهب خطابي الذي كتبته لنفسي  إلى مطلق العدم.
حملت كل ما سبق وصببته  فوق رأس بلال فضل، الذي وضع ساقًا على الثانية وضرب فخذه بيده  ضربات قوية متتالية، ثم داعب شاربه، ومسح على لحيته ثم خط في الهواء كلمة بذيئة ثم ضحك ثم سعل ثم سكت ثم قال: "الحق أقول لك إنك أسوأنا".
سارعت بمقاطعته غاضبًا: "لماذا أنا أسوأكم يا بلال".
رد بهدوء: "يا سيدي كونك أسوأنا هذا ليس قراري، إنه قرار مولانا عز وجل".
بغضبة أشد من الغضبة الأولى سألته مقاطعًا: "ومن أدراك أن هذا الذي تزعمه هو قرار الله عز وجل؟".
بهدوئه المثير قال: "أنا أظن أن هذا قرار الله وقضاؤه فيك، ولو قاطعتني ثانية فلن أواصل كلامي، وهو كلام مهم جدًّا وستحتاج إليه في قادم أيامك، انظر يا شيخنا كيف سيعاقبك الله على السوء الذي افترضه أنا فيك؟.
 سيجعلك مستودعًا لأسرار أحبابك، يعني رجل يضع عنده أصدقاؤه رسائل حبهم وردود حبيباتهم، لابد وأن يكون مستودعًا، هههههه حمدي مستودع، اسم سينمائي والله، أحسن كثيرًا من مستودع الغاز، دعني أكمل، بعد أن تصبح مستودعًا، سيبدأ عقاب الله لك، سيرحل أحبابك واحدًا بعد الآخر، سنرحل جميعًا موتًا أو قهرًا، وستبقي وحدك يا شيخ حمدي، ستصبح وحدك تمامًا، ستعيش طويلًا وكثيرًا، وسنسمعك ونحن في قبورنا أو في قهرنا وأنت تشتمنا؛ لأننا تخلينا عنك وتركناك وحدك، فتهرع إلى رسائلنا وصورنا لكي تشمها وتبكي وحدتك، وبهذه الوحشة وبتلك الوحدة سيطهرك الله من السوء الذي بك ويغفره لك وتسبقنا إلى الجنة، وعلى ما سبق فإن رسائلنا  التي لديك، لن نأخذها منك، ستصبح رسائلنا كقناة الناس طريقك إلى الجنة ههههههه، عبقري أنت والله يا بلال".
تركت ابن فضل يضحك ملء فمه ونظرت إلى يميني فرأيت الجنّي قائمًا يصلي وهو يرتل: "والعصر إن الإنسان لفي خسر".

الاثنين، 23 مايو 2016

السلام الدافئ: تفريعة جديدة من كامب ديفيد







في التاسع من نوفمبر من العام 1977 وقف الرئيس الأسبق محمد أنور السادات أمام مجلس الشعب، بحضور ياسر عرفات زعيم منظمة التحرير الفلسطينية، وقال: "إنني أعُلن أمامكم وأمام العالم إنني على استعداد للذهاب حتى آخر العالم من أجل تحقيق السلام، بل إنني أُعلن أمامكم، وسوف يُدهشون في إسرائيل وهم يسمعون ذلك، إنني على استعداد للذهاب إلى القدس ومخاطبة الإسرائيليين في عقر دارهم، في الكنيست الذي يضم نواب شعبهم من أجل تحقيق السلام".


وفي السابع عشر من مايو من العام 2016، وفي قلب محافظة أسيوط، وقف الرئيس عبد الفتاح السيسي ليقول كلامًا كثيرًا عن الرغبة في السلام مع إسرائيل وعن بذل كل جهد ممكن لتنعم المنطقة بسلام دافئ.


ما قاله السادات نفَّذه، أما ما قاله السيسي فيحتاج لقراءة هادئة لكي نعرف هل يمكن تنفيذه على أرض الواقع، أم سيظل مجرد كلام مرتجل جاء في خطاب سياسي.


بدأ السيسي حديثه بلفت نظر العالم إلى ضرورة الاستماع لما سيقوله جيدًا، وبعدها بجملة واحدة قال شيئًا عجيبًا لا يتسق وحرصه على استماع العالم إليه، قال إنه لم يُحضّر لكلامه.


ضع أنتَ ما شئتَ من علامات التعجب بعد جملته تلك.

ثم قال سيادته ما ملخصه إن مصر لا تسعي للعب دور ريادي ولا للقيادة، ولكنها ستبذل جهدها في إحلال السلام وحل المسألة الفلسطينية، وإن المنطقة سترى العجب عندما يُقَرُّ السلام، لأن المفاوض الإسرائيلي الذي كان يفاوض أمام السادات ويحرص على أن تكون النقطة جيم من سيناء منزوعة السلاح، لن يصدق نفسه عندما يرى عتاد القوات المسلحة المصرية وهو منتشر في كل سيناء لمحاربة الإرهاب.


كان هذا باختصار غير مخل أبرز ما قاله الرئيس في خطابه عن جهود إحياء عملية السلام.


ولأننا لسنا سمكًا وما تزال لنا ذاكرة، فيحق لنا استرجاع شريط الأحداث من بدايته الأولى على يد السادات، فيوم قال السادات إنه جاهز للذهاب إلى الكنيست، كانت الطبخة معدة سلفًا من خلال اللقاءات التي احتضنها ملك المغرب الحسن الثاني وجرت بين حسن التهامي نائب رئيس الوزراء المصري، وموشيه ديان وزير الخارجية الإسرائيلي، ثم زار السادات رومانيا وإيران، وكشفت الوثائق فيما بعد أن الدولتين قامتا بدور كبير في تجهيز مسرح الزيارة التي جرت بعد الخطاب بعشرة أيام فقط لا غير.


ولأن الشيء بالشيء يذكر، فهل جرى تجهيز كواليس المسرح قبل خطاب السيسي، كما جرى مع السادات؟


ثمة إشارات تقول إن الإجابة هي نعم، فقد سبق وأن صرح السيسي في الصيف الماضي برغبته في توسيع نطاق اتفاقية كامب ديفيد، ولأن تصريحه ذاك كان متزامنًا مع حفر التفريعة الجديدة لقناة السويس، فقد بدا الأمر كأننا أمام تفريعة جديدة لكامب ديفيد تستوعب دولًا وأنظمة لم تكن لها صلة بالاتفاقية، إن لم تكن على عداء واضح وصريح معها.


في كل الأحوال يبقي السلام العادل حلمًا إنسانيًا نبيلًا، ولكن لأننا نعيش على الأرض وليس في الجنة فلا شيء مجاني، ولا أحلام بدون ثمن، قد يكون باهظًا، والسادات من ناحيته دفع ثمن سلامه مع إسرائيل، فقد اعترف بإسرائيل بوصفها عضوًا طبيعيًا في المجتمع الدولي والإنساني، وأخرج مصر تمامًا بل ونهائيًا من خندق المواجهة العسكرية مع تل أبيب، ثم أخلى لإسرائيل كامل الوطن العربي والجزء الأكبر والأخطر من أفريقيا لتتصرف معه كما تشاء، وظل حتى قُتل يحاول أن يوجٍد لإسرائيل ولو موطئ قدم داخل الوجدان المصري، من خلال عمليات تطبيع العلاقات.

كل هذه الأثمان دفعها السادات مقابل الحصول على سيناء منزوعة السلاح والسيادة والتنمية، فماذا بيد السيسي ليدفعه لإسرائيل ليجبرها على سلام هي ليست راغبة فيه أساسًا؟

يقول بعضهم إن اتفاقية إعادة ترسيم الحدود البحرية بين مصر والمملكة العربية السعودية، والتي بمقتضاها أصبحت جزيرتا تيران وصنافير قاب قوسين أو أدني من السيادة السعودية، هي مقدم الثمن الذي ستدفعه مصر، لأن سيادة السعودية على الجزيرتين ستجبر اﻷخيرة على دخول نطاق اتفاقية كامب ديفيد.

ولكن هل ستكتفي إسرائيل بهذا الثمن أم ستتوحش كعادة المرابين وتطالب بالمزيد؟

وهل سيشمل هذا المزيد إعادة رسم خارطة سيناء؟

السؤال مخيف والإجابة مرعبة، خاصة والحديث يدور عن كون إقامة الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية على أرض جد صغيرة سيخلق العديد من المشاكل، من ناحية تسكين ملايين الفلسطينيين على جزء من أرض فلسطين التاريخية. أين سيعيش هؤلاء إذن؟

الغريب في الأمر كله هو أن الرئيس قال ما سبقه إليه وزير خارجيته: "إننا لا نسعى للريادة ولا نسعى لدور قيادي".


فإذا كان هذا هو حالنا باعتراف رئيسنا، فما الذي يجبرنا على لعب دور ريادي سندفع ثمنه عاجلًا أو آجلًا؟ لماذا نحشر أنفسنا مع الرواد والقادة ما دمنا قد اعترفنا بأننا لسنا منهم وليسوا منا؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر فى موقع مدى مصر بتاريخ 21 مايو 2016

الخميس، 12 مايو 2016

صارحونا حتى نصطف





في العام  1988 انفجرت طائرة بوينج  تابعة  لشركة بان أمريكان أثناء تحليقها فوق قرية لوكربي الاسكتلندية  ، وقد أسفر الانفجار عن مقتل جميع ركاب الطائرة وكان عددهم 259 شخصاً ، إضافة إلى مقتل  11شخصاً من سكان القرية حيث وقعت الطائرة .

هاج العالم وماج مستنكرًا تلك الجريمة الشنعاء ، وجرت تحقيقات كبرى انتهت إلى اتهام نظام العقيد الليبي معمر القذافي بأنه وراء تفجير الطائرة.

حاول القذافي ـ  شأن كل مسئول عربي ـ التنصل من المسئولية ، ولكن دول الغرب الكبرى حاصرته  بقرائن وأدلة جعلته يتراجع خطوة إلى الخلف ليبدأ في تقديم معالجة عربية مضحكة لكارثة مروعة .

معالجة القذافي ونظام حكمه للكارثة كانت أشبه بحالة طفلك عندما تضبطه متلبسًا باقتراف جرم ما فيروح الطفل يحلق في السقف أو يختبئ خلف ستارة النافذة كأنه ليس موجودًا في مسرح الجريمة !!.

اجتمع قادة الغرب وقرروا إنهاء مهزلة المعالجة القذافية ، ولذا أرسلوا إليه وزير خارجية بريطانيا للوصول إلى حل يحفظ دماء الضحايا .

كان العالم كله يقف على أطراف أصابعه مترقبًا نتائج اجتماع الوزير البريطاني مع سيادة العقيد .

العقيد من ناحيته جلس في خيمته الأسطورية وأوسع الوزير كلامًا عن ما هو فوق العرش وعن ما هو تحت الثرى ، وظل سيادته يتكلم ويتكلم عن كل شيء وعن أي شيء حتى ضاق به الوزير البريطاني فقاطعه قائلًا :" نريد الوصول إلى حل ".

فأبدي القذافي تعجبه من كلام الوزير وسأله :" ولماذا تبحث عن حل عندي".

تمسك الوزير بآخر قطرة صبر تجري في دمه وقال للعقيد :" لأنك رئيس هذه البلاد والمسئول السياسي الأول عن نظام الحكم ".

ضحك العقيد ضحكته الشهيرة ورد على الوزير قائلًا :" لقد قصدتَ الرجل الخطأ ، فأنا لست رئيسًا ولست حاكمًا ، تستطيع أن تقول إنني مفكر أو منظّر لنظام الحكم ولكنني لست رئيسًا ، الحاكم هنا هم أعضاء اللجان الشعبية و........."

ظل سيادة العقيد يتكلم شارحًا الفروق الجوهرية بين نظام حكم بلاده وأنظمة الحكم في البلاد الأوربية حتى كاد الوزير البريطاني يسقط في قبضة نوبة إغماء ، فسارع إلى مغادرة الخيمة فوجد  حشدًا من الإعلاميين في انتظاره ليعرفوا منه نتائج مقابلته للعقيد ، نظر إليهم الوزير وقال كلمته الخالدة :" قولوا لهذا الرجل أن يتحدث جادًا ".

تلك الحكاية القديمة ـ صالحة مع مزيد الحزن ـ لشرح الحالة المصرية الآن ، إننا بكلمة واحدة ، نفتقد إلى الجدية وإلى الحديث الجاد الذي يرسخ اليقين ولا يفتته .

ولعل قضية قناة السويس هي خير دليل على ما نعيشه وعلى ما أقصده بالعبث وتفتيت اليقين .

في تلك القضية لدينا ثلاثة رجال غاية في الأهمية وكلامهم يجب أن يوزن بميزان الذهب .

الرجل الأول هو الفريق مهاب مميش رئيس هيئة قناة السويس الذي أجتمع مع الرئيس السيسي قبل شهر من الآن وأوضح  أن إجمالي عدد السفن العابرة لقناة السويس خلال عام 2015 بلغ 17483 سفينة بزيادة قدرها 335 مقارنة بعام 2014 بنسبة 2%، كما حققت القناة زيادة في إيراداتها تقدر بـ 1.15 مليار جنيه خلال عام 2015 مقارنة بعام 2014 وبنسبة 3%. .

التصريح هنا واضح لا لبس فيه ويقطع بزيادة معقولة في إيرادات القناة .

الرجل الثاني هو ناجي أمين مدير إدارة التخطيط بهيئة القناة الذي قال في مؤتمر صحفي :" إن إيرادات القناة قد تراجعت في العام 2015 لأسباب تتعلق بوحدة السحب الخاصة وتتعلق بانخفاض سعر البترول ".

وكانت هيئة القناة بذات نفسها قد أعلنت في يناير 2016 عن تراجع الإيرادات بمقدار 290 مليون دولار .

الرجل الثالث هو الرئيس السيسي الذي قال في مؤتمر الفرافرة قبل قرابة الأسبوعين :" إن أن إيرادات قناة السويس ارتفعت ولم تنخفض، موضحًا أنه مسئول عن كلامه ولا يتحدث دون معلومات مؤكدة ".

على ما سبق فنحن أمام ثلاثة رجال على أعلى قدر من المسئولية ، يأخذ كلامهم بعضه برقاب بعض ، لا تكاد تطمئن إلى تصريح واحد من تصريحاتهم حول ذات القضية .

ثم يزداد الطين بِلة  عندما نعرف أن هيئة قناة السويس قد حصلت خلال العام الماضي على قرض من البنوك بلغ مليار وأربعمائة مليون دولار .

وتتفاوض الهيئة الآن مع عدد من البنوك للحصول على قرض يبلغ ستمائة مليون يورو .

وهنا نقف ونسأل : إذا كانت القناة تربح فلماذا كل هذه القروض المليارية ؟.

وإذا كانت القناة ـ لا قدر الله ـ تخسر فلماذا لا يصارحنا بذلك أهل الاختصاص وحملة المسئولية ؟.

يقولون في تبرير القروض إنها لتمويل التزامات مادية مستحقة عليها .

ما طبيعة تلك الالتزامات ؟.

لا أحد يهتم بالرد علينا لنظل في تلك الدائرة الجهنمية من تفتيت اليقين والعبث والكلام غير الجاد ، ثم فوق كل ذلك وبعده وقبله يطالبوننا بأن نصطف  خلفهم صفًا واحدًا كأننا قوالب طوب .

إذا أردتم الاصطفاف فعليكم بدفع ثمنه ، وثمنه ليس أكثر من أن تكونوا صرحاء جادين وأن تجعلوننا نشارككم في إدارة حاضر ومستقبل بلدنا .

ـــــــــــــــــ

هامش .

بعد محاولات التهرب من المسئولية ، أدان القضاء المواطن الليبي عبد الباسط المقراحي وحكم عليه بالسجن المؤبد ، ودفعت ليبيا تعويضات خرافية لأهالي الضحايا ، بل وذهبت بعيدًا في استرضاء الأمريكان خاصة والغرب عامة بأن تخلصت من مكونات مفاعلها النووي ، ثم بعد كل ذلك سقط القذافي وأمسكوا به مختبئًا في ماسورة مجاري !! .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في جريدة المقال بتاريخ 11 مايو 2016 

الأربعاء، 11 مايو 2016

النحاس باشا كالماء والهواء









ثار المصريون في العام 1919 وقدموا آلاف الضحايا بين شهيد ومصاب ، ثم كان لابد لثورتهم من ثمرة ، فكانت الثمرة هي دستور 1923 الذى كان في مجمل مواده لائقًا بجهاد شعب دفع دم أولاده قربانًا على مذبح الحرية ، ولكن إحدى مواد ذلك الدستور كانت تتيح للملك ( فؤاد الأول ) حل البرلمان .

ولأن البرلمان كان في معظمه وفديًا بحكم أن  الوفد كان أيامها هو حزب الأمة بدون منازع فقد استخدم الملك حقه الدستوري وحل البرلمان !!.
ثم كلف الملك إسماعيل صدقي(*) باشا برئاسة الحكومة ، فقبل صدقي التكليف ورد جميل الملك بأن ألغي دستور الأمة وصنع على هواه دستورًا جديدًا هو دستور 1930 واستعان في ذلك بجماعة من الفقهاء الدستوريين أمثال عبد العزيز فهمي باشا الذي قال :" إن دستور 23 ثوب فضفاض " وتناسى فهمي باشا أنه كان واحدًا من واضعي دستور 23 !!.

المضحك في الأمر أن صدقي باشا كان زعيمًا لحزب يسمى حزب " الشعب " فقام وحزبه بحل البرلمان المنتخب وإغلاق 15 صحيفة وسجن الكتاب المعارضين لإلغاء الدستور وعلى رأسهم عباس محمود العقاد ، ثم قام بالتنكيل بقيادات الوفد في الدلتا والصعيد بأن أحرق زراعاتهم وسممّ مواشيهم !!.
هل ترى معي أن الليلة كانت سوداء حالكة السواد ؟.

هي كانت بالفعل كذلك ، وفي كل الليالي السود ، يفتقد الشعبُ البدرَ ، لكن البدر كان حاضرًا وجاهزًا لدفع الثمن .
لم يكن البدر سوى زعيم الأمة مصطفى باشا النحاس الذي قرر قيادة الجماهير لإعادة دستور الأمة .
فماذا فعل لإتمام تلك القيادة ؟.



نزل إلى الشارع بشحمه ولحمه ولم يختبئ ولم يتوارى ولم يتلعثم .

تحالف مع الجميع حتى مع أعدائه ( الأحرار الدستوريين وزعيمهم محمد محمود باشا ).

نفض يديه من جماعة الإخوان المسلمين التي لم تشغل بالها ولو للحظة بالجهاد لاستعادة دستور الأمة ، بل راحت تختبئ خلف محاولة حل نزاع نشأ بين آل سعود وأمام اليمن !!.

قاد النحاس ورئيس مجلس النواب ويصا واصف  النواب للاجتماع في البرلمان رغم أنف حكومة صدقي  التي حاصرت البرلمان  وهددت النواب بضربهم بالرصاص ، لكن النواب بقيادة النحاس وويصا واصف حطموا السلاسل بعد التي أغلقت بها الحكومة أبواب البرلمان .

5 ـ ذهب النحاس مع القيادي الوفدي الكبير  سينوت باشا  حنا إلي المنصورة لقيادة الجماهير الغاضبة ، و  كان البوليس والجيش يحاصران مكان اللقاء .
استطاع النحاس بعد معارك دامية أن يخطب في الجماهير  التي سقطت  منها أعداد لا تحصي من الجرحى إضافة إلي اعتقال المئات .

أثناء عودة النحاس في سيارة مكشوفة وكان بجواره سينوت باشا أمر اللواء قائد القوة بمهاجمة النحاس فتقدم منه عسكري وأراد طعنه بالسونكي فتلقي سينوت باشا الطعنة بدلا من النحاس وسقط غارقا في دمائه . وقد مات سينوت متأثرًا بتلك الطعنة .

قام النحاس باستئجار قطار للذهاب إلي الصعيد لحث الجماهير على المطالبة بعودة دستورهم  .

كان القطار يضم النحاس وقيادات الوفد ومعهم محمد محمود باشا وقيادات الأحرار الدستوريين ،  فما كان من حكومة صدقي إلا أن أمرت بتحويل خط سير القطار والذهاب به إلى المقطم وليس إلى الصعيد .

7 ـ بعد معاناة تمكن النحاس ومحمد محمود من الذهاب إلى بني سويف ، وفي محطة القطار  جرت معركة بين مستقبلي النحاس وبين البوليس الذى حاصر النحاس لساعات ، وقام أحد العساكر باختطاف طربوش محمد محمود باشا ، ثم تمكن هو والنحاس من فض الحصار واللقاء بالجماهير ، وعلق محمد باشا على خطف طربوشه قائلًا :" لقد خسرنا  طربوشا  وربحنا معركة ".

8ـ  حسن باشا  صبري حمل إلي النحاس عرضا محددا قال له :"  الملك غاضب منك لأنك زرت العقاد في منزله وهو يعرض عليك تأليف الوزارة وإعادة دستور 23 مقابل فصل العقاد من الهيئة الوفدية ومن كل الجرائد الوفدية ".
 رفض النحاس قبول  العرض لأنه سيعد سابقة وقال :"  كيف أفصل أكبر كاتب في البلد من حزب البلد؟  ".

9 ـ عندما كانت حكومة صدقي تستعد لافتتاح البرلمان المزور دعا النحاس أعضاء الهيئة الوفدية لاجتماع سري في بيت مراد الشريعي المجاور لمحطة مصر وانتهي الاجتماع بإرسال برقيات لكل سفارات العالم تفضح تزوير صدقي لانتخابات البرلمان .

10ـ  تواصل النحاس مع عمال العنابر والترسانة  وحثهم علي الاعتصام في أماكن عملهم لمدة عشرة أيام في سابقة هى الأولي من نوعها ،فقام صدقي بقطع الماء عن المعتصمين لكي يموتوا عطشا . استسلم المعتصمون أمام العطش فتم القبض عليهم ولكن بعد أن تسببوا في فضيحة عالمية لصدقي .

11 ـ أوصى النحاس سيدات الوفد والصحفيات
  بتنظيم مظاهرة ضد صدقي من الجيزة وإلي حديقة الأورمان وكاد البوليس يضربهن بالرصاص إلا أن صدقي أمر بحصارهن داخل الحديقة  وتسليط خراطيم الماء عليهن .

12ـ ذهب النحاس لأداء صلاة الجمعة في مسجد  عبد الوهاب الشعراني ، وبعد الصلاة كان ينوي الخطابة في المصلين ، ولكن البوليس حاصر المسجد وقبض على المصلين وسرق أحذية النحاس وأقطاب الوفد  الذين عادوا إلى بيوتهم حفاة .

13 ـ لم يترك النحاس محافظة من محافظات الوطن إلا وزارها وخطب في أهلها وقاد غضبهم للمطالبة بعودة الدستور .
كل ما سبق لم يكن سوى غيض من فيض ، ونقطة من بحر كفاح النحاس وقيادته الشخصية للشعب للمطالبة بإلغاء الدستور الزائف وعودة الدستور الأصلي .
والآن نسأل  هل كان النحاس يخاف السلطة وبطشها ؟.
الخوف شعور إنساني طبيعي ما لم يتحول إلى جبن ونكوص ، كان النحاس يخاف وكان في كل مغادرة له لبيته يودع أخته السيدة " زهرة " وداع المفارق ولكنه كان دائمًا ما يتغلب على خوفه بالاحتماء بجماهير تصدقه لأنه كان صادقًا معها .
ثم تواصل النضال حتى جاء العام 1935 وأسقط النحاس والشعب دستور صدقي وعاد دستور الأمة ليحكم بين السلطات .
هل وصلت الرسالة لمن يهتم بأمرنا ؟
نحن بحاجة للنحاس باشا ، كحاجتنا للماء والهواء .
نحن نحتاج القائد المقدام الفقيه البصير الذى ينظم الصفوف ويتقدمها ويضحى عن طيب خاطر لكي تنعم الأمة بحياة تليق بها .
ــــــــــــــــــــــــــ
هامش

(*) باشا ابن باشوات ، كان في بدء حياته وفديًا ثم انقلب على سعد زغلول وعلى الوفد ، وأصبح ذراع الملك الحديدية ، تولى رئاسة الوزراء مرتين ، وفيهما لم يكن له من حليف واضح سوى جماعة الإخوان ـ توفي في العام 1950 وقد كتب  سيرته الذاتية بعنوان " مذكراتي ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر بجريدة المقال يوم الاثنين 2 مايو 2016