الخميس، 9 مايو 2024

من التاريخ السري للمواجع

 


بعد فراغي من قراءة كتاب" عين شمس 1995 وهزائم أخرى " الصادر عن كتب خان، لباسل رمسيس وجدتني متأثرًا تأثرًا جعلني أحيانًا أحبس دموعي لكيلا يبتذل هطولها جلال المشهد.

لا شيء يربطني بباسل وعالمه، فأنا مسلم وهو مسيحيي، وأنا أزهري ابن مشايخ وهو علماني ابن قساوسة، وأبوه رمسيس لبيب كاتب اشتراكي لامع وأبي كان على يمين الاشتراكيين وعلى يسار الإخوان، وأمه كوالده اشتراكية وابنة لقسيس،  وأمي لم تعرف من الدنيا سوى محبة زوجها وأولادها، هو له شقيقة واحدة ، وأنا كنت تاسع تسعة، خطف الموت منهم سبعة وبقى اثنان، أنا أحدهما، هو من خريجي جامعة عين شمس التي هى معقل من معاقل اليسار المصري في الثمانينات والتسعينيات، وأنا أزهري، حيث الإخوان والجماعات الإسلامية وقلة ناصرية لا تذكر، هو مخرج سينمائي وأنا صحفي.

هو قاهري النشأة وأنا صعيدي النشأة والهوى.

كانت باحة كنيسة قاهرية هي ملعب طفولته

وكانت باحة مسجد صعيدي هى ملعب طفولتي.

هو يصغرني بسنوات لا تجعلنا أبناء لجيل واحد.

والحال كما ترى فما الذي يربطني بباسل رمسيس؟

لا شيء غير الصداقة في واقع افتراضي ملون بالصدق وملوث بالأكاذيب.

لقد رأيت باسل مرة واحدة، ففي أعقاب ثورة يناير كنت وصديق، أظنه مؤمن المحمدي نعبر شارعًا من شوارع وسط البلد، فجأة ظهر باسل وهو يعرج عرجًا خفيفًا، أشار له صديقي بحرارة ممتزجة بغير قليل من المرارة.

سألت صديقي: من هذا، وفيما مرارة صعدت إلى صفحة وجهك؟

قال: إنه باسل رمسيس.

قلت سمعت به

قال: المرارة لأن باسل كان في إسبانيا وعاد مع الثورة، وغالبًا ناله من خرطوشها شيء تركه يعرج.

وكانت تلك هي المرة الأولى والأخيرة التي لمحت فيها باسل رمسيس على وجه اليقين.

للمرة الثانية: ما الذي يربطني بباسل رمسيس؟

لا شيء، وكل شيء!

كل شيء هذه شرحها الحكيم أبو تمام عندما قال:

"إن كان يجمعنا الإخاء فإننا ... نغدو ونسري في إخاء تالد

أو يفترق نسب يؤلف بيننا ... أدب أقمناه مقام الوالد".

هذا الأدب اسمه عندي " وحدة الألم الإنساني" كلانا متألم منذ بدء أمره، كانت تؤلمه سيطرة الحاجة ثريا لبنة قطبة الحزب الوطني، على حيه (مدينة نصر) وكانت ذات الحاجة تؤلمني في غدوها ورواحها عندما كنت أسكن الحي العاشر بمدينة نصر وقت أن كان ذلك الحي هو آخر الدنيا وانقطاع العمران.

وحدة الألم الإنساني هي التي ستجعلنا نتشارك مشاهدة الأفلام ذاتها، من ليلة البحث عن سيد مرزوق، إلى" آه وآه من شربات"!

أفلت مني فيلم " موسم الاحتراق"

وحدة الألم الإنساني جعلتنا نستمع إلى نفس الأغاني، من مارسيل خليفة والشيخ إمام إلى محمد عزت وعلى الحجار.

وحدة الألم الإنساني هي التي ضغطت على قلب باسل ليكتب وضغطت على قلبي لأقرأ ثم لأحبس دموعي لكيلا تبتذل اجلال المشهد.

ضربة البداية التي لعبها باسل، مكنته من إحراز هدف مبكر، لقد بدأ باسل كتابه بالحديث عن الصيادين الذين يربون الكلاب السلوقية البارعة في صيد الأرانب وغيرها من مخلوقات الله البريئة.

العلاقة بين الصيادين وكلابهم، مركبة، بل الأصح معقدة، تذهب العلاقة إلى ذروة جنونية، عندما يطلق الصياد النار على كلبه!

هؤلاء ليسوا مجرد صيادين، وهذه ليست مجرد كلاب، الأمر على حقيقته هو رسالة ماكرة من باسل، ليذكرنا بحقائق، الخوض فيها سيضع المزيد من الملح على جراح ما تزال تنزف.

من تلك العلاقة الجنونية ينطلق باسل ليسرد وقائع هزائم عشناها سويًا، لقد وحدنا الألم الإنساني، فسمعت معه ياسر عرفات وهو يخاطب صدام حسين" يا جبل ما يهزك ريح" وسمعت معه القذافي وهو يهدد أمريكا بثورة عالمية، وبكيت معه تدمير العراق.

كان باسل في قلب اللعبة عندما تهاوى الاتحاد السوفيتي، هل كانت تلك اللحظة هي فاتحة كتاب الهزائم وآية المواجع الكبرى؟

أيامها لم أكن حزينًا، كنت خائفًا من انفراد الأمريكان بصدارة المشهد العالمي، الحقيقة كنت متعجبًا من حزن اليساريين المنظمين، فسعيت إلى يساري عتيد فقال لي: كيف سيكون قلبك عندما يصلك خبر موت والدك؟

قلت: سيتفتت قلبي.

قال: هذا ما حدث لنا!

في منتصف الكتاب مشهد لباسل وأصحابه وهم يشربون ثم بوعي مرعب، يغنون، لعلي الحجار: “على قد ما حبينا وتعبنا في ليالينا... الفرحة في مشوارنا تاني هتنادينا.. طول ما القلب صافي بحر العشق وافي.. وكل عذاب الدنيا هيروق بكرة ليا... بس امتى ليالينا عالحلم ترسينا" هذه الأغنية لا علاقة لها بأغانيهم الأيدولوجية، هل كانت تلك الأغنية هي بوابة الخروج؟

سيطلق باسل التنظيم، ويغادر ليتعلم السينما، وعندما يجد نفسه قد أصبح رجلًا خمسينيًا، سيمد يديه بعزيمة حديدية ليفتح خزائن الماضي حيث تقبع الذكريات السود تجاورها لحظات البهجة التي حلقت بنا في سماء النشوة العالية، كأن باسل كتب كتابه ليقول لي أنا: لم تكن وحدك، فقد جمع بيننا الألم الإنساني.

ــــــــــــــــــــــــ

منشور بصوت الأمة / السبت 5 مايو 2024