الأربعاء، 21 نوفمبر 2018

قيام وانهيار دولة التلاوة


شاعت أجهزة التسجيل فى النصف الأول من سبعينيات القرن الماضى، وشأن أى تطور كانت هناك ضحايا لهذا الشيوع، وكان على رأس قائمة الضحايا «فن تلاوة» القرآن الكريم، فبعد أن كانت شهرة قارئ القرآن مرهونة بإجازة الإذاعة له، أصبح متاحًا لأى كان أن يملأ شريط كاست بأى تلاوة كانت، دون رقيب ولا حسيب.تلك السنوات كانت بداية انهيار دولة التلاوة المصرية بمدرستها الرائدة التى أسسها بالعرق والعلم جماعة من أفذاذ القراء الذين وهبهم الله حلاوة الصوت، ورهافة الحس، ثم فرغوا هم أنفسهم لصيانة مواهبهم الإلهية، وتعلموا كل قواعد التلاوة، والتزموا بها فى صرامة قل نظيرها، حتى أصبحت المدرسة المصرية فى التلاوة صرحًا لا يطاوله صرح.فى الفترة التى أشرت إليها هبت علينا أصوات تتاجر بالتلاوة، ولكى تكسب أرضًا جديدة وتربح أنصارًا، فقد عمد هؤلاء إلى التفنن فى التلاوة، معتمدين على أشذ القراءات، والعجيب فى تلك الأيام، أن انهيار دولة التلاوة قد تزامن مع صعود نجم الجماعات المسلحة، التى كان الإعلام يطلق عليها الجماعات الإسلامية.تلك الجماعات لم تكن تترك شيئًا إلا وحرمته على المصريين، ولكن الغريب، بل قل المريب أنها وقفت صامتة وهى ترى شواذ القراء يتلاعبون بالتلاوة الكريمة. أيامها لم يكن يواجه طوفان التلاعب بالتلاوة إلا عصبة من الأزهريين.ثم مرت السنون، وفشت ظاهرة المتلاعبين حتى سادت، فلم نعد نسمع لغيرهم إلا فى القليل النادر، ولأن الحديد لا يفله غير الحديد، فقد تصدى لهؤلاء نفر من العارفين بالقراءات الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعى التى جعلها المتلاعبون منصة ينطلقون منها.قد يأتى اليوم الذى يذكر فيه التاريخ جهود الكاتب الصحفى هيثم أبو زيد، الذى حمل منفردًا عبء التصدى لهؤلاء.ولمن لا يعرف الأستاذ هيثم، فهو قد حفظ القرآن، وجوده وبدأ دراسة القراءات وهو دون العشرين من عمره، ولم يكف عن دراستها إلى يومنا هذا. التحق بمعهد القراءات عام 1998، ونال شهادة عالية القراءات عام 2003 من معهد قراءات المنصورة، حفظ الشاطبية فى القراءات السبع، وقرأ تقريبا كل شروحها، كما اهتم بتاريخ التلاوة وأعلام القراء، وانغمس فى هذا الأمر منذ عام 1988.. أى من 30 عاما كاملة، والأستاذ هيثم مهتم أيضا بالغناء الكلاسيكى والموسيقى الشرقية، ودرس مقامات النغم، والتحق لفترة ببيت العود فى القاهرة، وتعلم العزف على آلة العود.وقد سألت الأستاذ هيثم عن المؤيدين لحملته الداعية لانقاذ دولة التلاوة، فقال لى: يقف معى بكل قوة فى هذه الحملة أستاذ كبير، وعالم جليل، هو الشيخ محمد على بحرى، الموسيقى الحلبى، الذى هو ودون مبالغة موسوعة تمشى على الأرض، وأخبر الناس على وجه البسيطة بالموشحات ومقاماتها وإيقاعاتها، وهو مرجع كبير ومهم يعرفه المختصون فى العالم.. وقد تعرض حسابه على الفيسبوك للإغلاق ربما عشر مرات من قبل المنزعجين من الحملة.وأيضا يساندنا الأستاذ الشاعر الناقد عبدالرحمن الطويل، وقد كتب دراسة فى هذا الباب، أزعم أنها غير مسبوقة، وهى فى غاية الدقة والقوة والإحكام.وأضاف الأستاذ هيثم: بدأت الحملة يوم 15 أكتوبر.. أى من نحو شهر.. بمقال بعنوان «كلمات.. فى وصف تلاوة ابن الشحات».. وفوجئت بردود فعل واسعة جدا.. وحقق المقال عشرات الآلاف من القراءات.. وتلقيت نحو 1000 طلب صداقة.. وألف رسالة.. واتصل بى عشرات القراء مساندين ومباركين.
فقام المتلاعبون بالتلاوة، وأغلقوا حسابى على فيسبوك.. واستعدته.. وأرسلوا رسائل شتائم بشعة.. ثم وصل الأمر لتهديدات بالتليفون، ومن المهم أن أقول لك إننى لا أستهدف المتلاعبين بهذه الحملة، فلا رجاء لى فيهم، إننى أستهدف توعية المستمعين، بعدما رأيت كثيرا من أصدقائى ينخدعون بالعناوين الكاذبة والألقاب المزورة.الكرة الآن فى ملعب نقابة محفظى القرآن الكريم، ومشيخة عموم المقارئ المصرية، ولجنة مراجعة المصحف الشريف بمجمع البحوث الإسلامية، فهذه الجهات وغيرها يجب أن تساند حملة انقاذ دولة التلاوة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منشور بجريدة صوت الأمة السبت 17 نوفمبر 2018

الاثنين، 12 نوفمبر 2018

للأسف نادي الأهلي أصبح مصريًا !


أعترف بأنني زملكاوي ، من ألف الزمالك إلى كافه ، ولكن زملكاويتي التي ورثتها عن أسرتي وورثتها لأولادي ولو أمتد بي العمر سأورثها لأحفادي ، لم ولن تفرض عليّ انكار  ضخامة كيان الفريق المنافس وهو النادي الأهلي .
الأهلي من حيث التاريخ هو الأعرق ومن حيث البطولات خزانته ممتلئة ، أما من حيث مهارة لاعبيه فحدث ولا حرج ، من حيث حنكة إدارته فلا إدارة كإدارة الأهلي انضباطًا وتفرغًا وموهبة .
ولكن حدث أن فقد الأهلي في موسمنا هذا شرط تميزه  وهو الإدارة .
 جاءت إدارته بمدرب أسباني لفريق كرة القدم ( وهو عنوان النادي وصانع أمجاده ) ذلك المدرب كان أبلد مدرب مر في تاريخ الفريق العريق ، لم يكن به من ميزه سوي جاكت بذلته القصير !!
المدرب المغمور غير الموهوب جعل الفريق ينزف نقاطًا كثيرة ، في الوقت الذي كان منافسه الزمالك يربح نقاطًا كثيرة ، وهو ما أدي في النهاية إلي انفراد الزمالك بالصدارة .
منذ بدايته القديمة كان الإعلام الأهلاوي ـ فيما يخص الأهلي علي الأقل ـ يحق الحق ويبطل الباطل ، أذكر أن الأهلي كان سيئًا جدًا في بداية الألفية حتى أنه خسر من فريق أفريقي في القاهرة برباعية ، يومها خرج الإعلام الأهلاوي ممثلًا في مجلة النادي بعنوان علي صدر الصفحة الأولي يقول : إن هؤلاء اللاعبين عار علي الفانلة الحمراء وليسوا جديرين بها !!
تلك المعالجة المحقة والصادمة جعلت الفريق يعيد حساباته ويأتي بالساحر  جوزيه ومعه كتيبة من أمهر لاعبي مصر ، وبهما معًا جوزيه والمهرة فاز الأهلي بكل البطولات وتقدم مستواه حتى بات قريبًا من مستوى الفرق الأوربية .
الآن سقط الأهلي في فخ  الحالة المصرية ، وهو فخ التبرير ونفي التهمة عن الذات والتقليل من الآخرين ونسب نجاحهم إلي عوامل خارجة عن إرادتهم .
للأسف ألتحق الأهلي بالنوادي المصرية وأصبح مصريًا يرى القذى الذي في عين الآخر ولا يرى الخشبة التي في عينه هو !!
مجلة النادي العريق بلغت سن الرشد من زمن بعيد بل هي الآن في سن الحكمة بعد أن تجاوز عمرها الأربعين عامًا ومع ذلك قدمت المعالجة الأسوأ والتي تنذر ببعثرة الفريق .قدمت معالجة مراهقة ورخيصة مثل فرش الملاية لنساء الحارات .
قالت المجلة في عناوين عددها الأخير إن فقدان الأهلي للدوري ما هو إلا زكاة عن الفريق !!
ثم قالت  إن ختام الدوري كان " التفويت " واضح طبعًا أن المجلة تشير  إلي مباراة الزمالك مع الإسماعيلي ،   التي أسفرت عن فوز الزمالك بثلاثية نظيفة قربته كثيرا من حسم اللقب .
ثم قالت المجلة إن مسابقة الدوري شهدت فوضي التحكيم وإرهاب اتحاد الكرة بالصوت العالي .
تلك كانت عناوين الصفحة الأولي ، باقي الصفحات كانت في سوء الصفحة الأولي بل اشد سوءًا .
فخ التبرير مريح جدًا لكنه علي المدى البعيد مهلك ،الأهلي الآن يحتاج إلي قسوة الناصح الأمين وليس إلي طبطبة المجامل ،  لو كانت المجلة منصفة كما كانت في السابق لقالت إن إدارة النادي قد أخطأت عندما تعاقدت مع الرجل صاحب الجاكت القصير .
وأخطأت عندما لم تسارع بإقالته بعد تكاثر أخطائه التي تحدث عنها الجميع .
لو كانت المجلة تريد استعادة الأهلي لمستواه المعروف لقالت إن إدارة الزمالك ( أنا لم أنتخب مرتضي منصور ولن أنتخبه أبدًا ) كانت بارعة في التعاقد مع مدرب له اسمه وشخصيته ومع لاعبين هم الآن الأبرز علي الساحة المصرية .
لماذا أفلت باسم مرسي وأيمن حنفي وعلي جبر ومحمد كوفي وأحمد الشناوي من الأهلي ؟
أليس في هذا رعونة من إدارة الأهلي ؟
هل حصد الزمالك كل نقاطه بضربات الجزاء ؟ وهل ضربات جزاء الزمالك كلها لم تكن مستحقه ؟
ثم أين كان إرهاب الحكام والزمالك يسجل هدفين في فريق إنبي ولا يحتسبهما الحكم ويخرج الزمالك خاسرًا اللقاء ؟؟؟؟
ثم أين هو الإرهاب والأهلي يرد الهدية بأن يخسر من فريق الاتحاد برباعية ؟.
ثم كيف كان الأهلي سينافس وهو يخسر خمسة لقاءات ويتعادل في ثمانية ؟.
كان المنتخب الوطني المصري بخير عندما كان الأهلي بخير ، وكان الأهلي بخير عندما كان يواجه نفسه بعيوبه ويقر بأن أول الشفاء هو الاعتراف بالمرض .
إدارة الأهلي بدأ التخبط يعرف طريقه إليها بعد أن كانت هي الأمهر في كل شيء ، في لقاء خاص جمعني وواحد من كبار مسئولي الأهلي قال لي :" طلب منا الزمالك أن نعلمه كيف يدير ، وكان ذلك علي عهد رئيسه نور الدالي ، فلم نتأخر وذهبنا إليه بمعارفنا ، ولكن الحمد لله ـ الكلام للمسئول ـ تكاتف أولاد الحلال ورموا بما قدمناه لهم في سلة المهملات ، فظل الأهلي يصعد والزمالك يتدهور ".
علي ما سبق فليس مطلوبًا من إعلام الأهلي أن يخترع العجلة ، كل المطلوب منه أن يعود مهنيًا ومنصفًا ناقدًا لا مجاملًا ، ساعتها لن يتحدث أحد هذا الحديث الرخيص عن التفويت والإرهاب وكأن إدارة الزمالك تنتمي إلي داعش !
ـــــــــــــــــــ 

جريدة التحرير / يوليو 2015


الخميس، 1 نوفمبر 2018

حصان عربي

هناك رجل عصيّ على التعريف، وخارج على كل تصنيف، فهو ليس مصريًّا ولا عربيًّا ولا أفريقيًّا ولا آسيويًّا ولا مُسلمًا ولا مسيحيًّا ولا يهوديًّا، هو لا يتبع شريعة ولا ينتسب لعِرق ولا ينتمي لدولة، رجل كل شأنه عجيب، وأعجب ما في شخصية ذلك الرجل معرفته الأكيدة باللغة العربية، وإدمانه مشاهدة تليفزيونات العرب.
طبعًا لو سألته لماذا العربية وتليفزيوناتها؟ لن يجيبك سوى بمطّ شفتيه في حركة تُعني: أنا هكذا.
صباح الثلاثاء الماضي فعل الرجل ما يفعله كل يوم، لقد جلس أمام طاولة طعام بسيطة يتناول إفطاره البسيط، وهو إفطار عجيب مثله لا تعرف من أي المطابخ جاء. أضاء بلمسة شاشة التليفزيون ليعرف كيف هو العالم في هذا الصباح؟! 
تنقّل بين القنوات، حتى استقرّ على قناة عربية أطلّ منها مارك لوكوك، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية.
كان السيد لوكوك تبدو على وجهه علامات الامتعاض وهو يخطب فى الجالسين بقاعة كبرى من قاعات الأمم المتحدة. قال السيد لوكوك: "إن نصف سكان دولة اليمن، البالغ عددهم نحو 14 مليون شخص، قد يجدون أنفسهم قريبًا على حافة المجاعة".
الرجل العجيب يعرف اليمن جيّدًا، ويعرف حضارته التي كانت، وسعادته التي بادت، لم يشرُد الرجل العجيب خلف معارفه العجيبة، وانتبه جيّدًا لخطاب السيد لوكوك الذي واصل قائلًا: "يُوجد الآن خطر واضح من مجاعة وشيكة واسعة النطاق تُفرض على اليمن، أكبر بكثير من أي شيء شاهده أي عامل في هذا المجال طوال حياته العملية".
كان الرجل العجيب قد انتهى من تناول إفطاره العجيب، فأشعل سيجارة الصباح ورشف رشفة من كوب قهوته، ثم قال لنفسه: «ما لي وهؤلاء؟ لماذا أنا مشغول بأُناس لا تربطني بهم رابطة؟ الحقيقة أنا لا أنتمي لأيّ بقعة في هذا العالم، فلماذا أُطارد أخبار اليمن؟ ولماذا أُعكِّر صفاء صباحي بأخبار هؤلاء الجوعى؟».
انتهى من حديثه لنفسه، ثم ذهب إلى قناة ثانية مُمنّيًا نفسه بأخبار طيّبة عن يمنه السعيد، رأى نائب المندوب اليمني لدى الأمم المتحدة يتحدّث، العجيب أن نائب المندوب لم يُنكر حرفًا من كلام السيد لوكوك، بل زاد عليه وقال: "إن الأحوال في بلادي لا تُوصف بأقل من الكارثة، ولكن ماذا نصنع مع الحوثيين الذين يُعطّلون تدفق المساعدات، في سعيهم الخبيث للسيطرة على مفاصل الدولة؟".
ذهب الرجل العجيب إلى قناة تُغطّي أنشطة الحوثيين، فسمع قياديًّا حوثيًّا يقول: "نحن نموت جوعًا، ولكن ماذا نصنع مع حُكّام بلادنا الذين يريدون فرض المجاعة علينا، ويقصفون بيوتنا ومصانعنا ويجرفون مزارعنا؟".
ذهب الرجل العجيب إلى قناة تُغطّي أنشطة جامعة الدول العربية، فلم يجد سوى صورة لقاعة فاخرة خاوية على عروشها.
ذهب الرجل لقناة تبثّ من صنعاء، فوجدها تبث أغنية راقصة يقول مطلعها: «صبّوا هالقهوة وصبّوها وزيدوها هِيل/ واسقوها للنشامى ع ظهور الخيل».
أغلق الرجل التليفزيون وغادر مقعده، ذهب لشُرفته ليرى شمس الله، تشوّشت أفكاره، فرأى سور الشرفة وقد أصبح حصانًا عربيًّا أصيلًا، قفز قفزة رائعة ليمتطى ظهر حصانه، فهوى من شُرفة الطابق السادس ساقطًا إلى الأرض. 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منشور بجريدة صوت الأمة 27 أكتوبر 2018

الأربعاء، 31 أكتوبر 2018

روح أكتوبر لم تصعد إلى بارئها

عندما وقعت الواقعة فى صبيحة الخامس من يونيو 1967 خسرنا كل شىء، جملتى هذه ليست مجازية، نعم لقد خسرنا سلاحنا ورجالنا، عبدالناصر بلسانه اعترف بحجم الخسارة التى جعلت بعضًا من كبار المسئولين فى ذلك الوقت يقترحون حلولًا عجيبة لمواجهة العدو.
أحدهم عرض الاستعانة بـ«نبابيت» الصعايدة، فى إطار حرب شعبية شاملة، وغيره قال بتجهيز مليون قنبلة من قنابل المولتوف.
عبدالناصر القائد الذى أعلن تحمله منفردًا لعبء الهزيمة استمع لتلك الحلول البائسة، ثم أعلن قفزه فوق لحظة الهزيمة، مؤكدًا أن الهزيمة فى معركة ليست قدرًا سيطوق أعناقنا مدى الحياة.
رؤية القائد صاحب البصيرة راهنت على صلابة شعبنا وعلى مكونه الحضارى الراسخ، وقد انتصرت رؤية القائد، فبدأت من الصفر تقريبًا عمليات إعادة بناء الجيش على أسس علمية.
هنا تحضر وبقوة معانى الأمل، إنها تلك المعانى التى تحرك الإنسان لكى يمضى فى طريق الحياة الكريمة، فقدان الأمل يجعل الإنسان- أى إنسان- مجرد خرقة لا تصلح لشىء.
الأمل فى رد الاعتبار والأمل فى تحرير الأرض قاد عمليات بناء الجيش.

تلك العمليات كانت أسطورية بكل ما تحمله الكلمة، لقد كانت السماء المصرية مكشوفة أمام طيران العدو الذى راح يوجه أخس الضربات لكل الأهداف المدنية، سنظل نذكر مذبحة مدرسة بحر البقر، عندما دك طيران العدو جماجم أطفال المصريين.
فى تلك الساعة العصيبة بدأ بناء حائط الصواريخ، كانت الفلاحات المصريات يشاركن فى البناء، فى مشهد لم يجد بعد من يخلده ليكون عبرة لحفيدات لا هم لهن إلا توافه الأمور.
وبعد إتمام البناء بدأت مرحلة انقلاب السحر على الساحر، لقد بدأ الدفاع الجوى المصرى يصطاد الفانتوم فخر الطيران الصهيونى.
فى تلك الأيام بدأ جنين النصر فى النمو، لقد أصبحت مسألة كسر غطرسة العدو مسألة أيام لا أكثر.
وقد جاءت الأيام بعد مرور ست سنوات فقط على النكسة، نعنى أيام أكتوبر الخالدة التى يريد بعضهم طمسها عبر سلسلة من الأكاذيب كأن يشيعون تلك المقولة الوضيعة: «نحن لا نصلح لشىء»! 
والحق أننا نصلح للمعالى والمكارم، وقد فعلنا مرات وليس مرة واحدة، فمن يوم نصر أكتوبر لم يربح العدو معركة واحدة خاضها ضد العرب، كل معاركه تنتهى وهو لم يحقق هدفًا واحدًا من أهدافه، فروح أكتوبر لم تصعد إلى بارئها، بل ما زالت تسكن أجسادنا وهى ستلبى النداء متى أردنا.

تم النشر في موقع صوت الأمة بتاريخ 

الثلاثاء، 09 أكتوبر 2018

الخميس، 15 مارس 2018

محمد غنيم رجل الأحلام المستحيلة والنجاح المدوى




 
كان اليوم يوم جمعة وكانت أسرتى مجتمعة حول الراديو تستمع لبرنامج "على الناصية" قالت آمال فهمى صاحبة البرنامج فى مقدمته بلثغتها اللطيفة أن رجلًا اسمه محمد غنيم قد صنع شيئًا رفع به اسم مصر عاليًا.
كنت وقتها فى العاشرة من عمرى، الذى مكث فى ذاكرتى هو اسم محمد غنيم وتصفيق أخوتى وهتافهم: الله أكبر تحيا مصر.
فى العشرين من عمرى سأدمن قراءة جريدة الأهالى التى لم تكن تكف عن التنويه بذكر غنيم الذى سبق كل دول المنطقة حتى إسرائيل ذات نفسها وقام بزرع كلى لفلاحة من فلاحات مصر، وقد نجحت عمليته نجاحًا منقطع النظير وأصبح اسمه يتردد على كل لسان.
فى الثلاثين زارتنى صديقة من طبيبات المنصورة، وبعد السلامات والتحيات قالت بخجل: لا تنس الدعاء لى أن يقبلنى غنيم متدربة عنده !
سألتها: لهذه الدرجة الرجل صعب؟
قالت: هو لا يقبل شفاعة من أى نوع، إنه يريد العلم والعلم فقط، لو تدربت على يديه فسأصبح فى مكانة أحلم بها لنفسى.
فى أربعينى، دخلت مركزه لعلاج الكلى والمسالك البولية.
همست لى ممرضة: الرجل غنيم هذا هو أحد رجلين، وليّ من أولياء الله أو بسم الله الرحمن الرحيم ملبوس !
سألتها لماذا؟
نظرت إلى يمينها ثم إلى يسارها وقالت: هو يقص أظافر المريض، ثم يشرف على عملية غسله وكأنه تغسيل ميت، ثم يأتى له بملابس نظيفة، وبعد العلمية يزوره فى بيته فينظر إلى طعامه وشرابه، ولو وجد شيئًا يضر بصحته فمن الطبيعى جدًا أن يقلب بيت المريض فوق رؤوس ساكنيه.
انتهت الممرضة من همسها ثم ذهبت لشأنها، وتركتنى أظن أن كلامها يحمل شيئًا من مبالغات العوام التى ينسجونها حول المشاهير.
ثم عندما قابلت غنيم وجهًا لوجه تأكدت أنه ملبوس فعلًا، ملبوس بروح العلم وبلطف الرحمة الإلهية التى تتنزل على قلبه وقلوب فريقه فتجعلهم يواصلون العمل وكأن لهم عمر نوح وصبر أيوب، إنهم يعملون دائمًا وأبدًا ليرفعوا عن الأجساد العليلة وطأة الألم القاتل.

كنت قد جاوزت الخمسين عندما نشر النبيل محمد المخزنجى كتابه "السعادة فى مكان آخر"، وفى مقدمته شكر خاص للذين ساعدوه لو بنصيحة بسيطة لكى يتم كتابه، وكنت لحسن حظى من هؤلاء.
الكتاب هو ترجمة راقية أمينة دقيقة لسيرة محمد غنيم، اسمى وغنيم بين دفتى كتاب واحد، اللهم لك الحمد الذى يليق بجلال وجهك وعظيم سلطانك.

هذا كان عن معرفتى بغنيم، فكيف عرفه المخزنجى؟
كان المخزنجى طالبًا بطب المنصورة، شابًا متأجج اليسارية، يبدو وديعًا ولكنه وللحق "جن مصور" يلعب الجمباز ويقرأ أدب الروس ويكتب القصص القصيرة ويصاحب يوسف إدريس ويشارك فى كل مظاهرة، ثم هو يشرد كثيرًا وطويلًا، ويجد راحته فى الأماكن العجيبة.
كان المخزنجى طالب إعدادى الطب يجلس دائمًا فى محطة قطارات المنصورة حيث يعمل صديقه الأديب "أحمد حسنى"، حسنى هذا كان يتحمل نزق الشاب المخزنجى ويقدر شروده، وذات صباح كان المخزنجى يشرب شاى النافذة، وهو ذلك الكوب الذى يضعه على قاعدة نافذة المحطة ثم يرشفه على مهل متأملًا أحجار المحطة وبشرها.
فجأة قال حسنى للمخزنجى: "شايف الراجل دا؟ الأفندى اللى ماشى بالراحة جنب الفلاح اللى باينه تعبان؟ أكيد تعرفه، دا دكتور عندكم فى الكلية".
عندما وصلت أنا إلى هذا المشهد سمعتنى أصيح صيحة أخوتى القديمة: الله أكبر، تحيا مصر.
الدكتور كان غنيم ولا أحد غيره، الممرضة كانت محقة، غنيم ملبوس فعلًا.
يتذكر المخزنجى ذلك المشهد القديم بوضوح تام كأنه قد وقع أمس.
ترك المخزنجى نافذته الحبيبة وسار خلف غنيم وفلاحه المريض، سار متلصصًا، رأى غنيم وفلاحه يتجهان نحو محطة القطار، رأى غنيم وهو يقطع تذكرة سفر من ماله الخاص للفلاح، رأى غنيم وهو يساعد الفلاح على الصعود إلى عربة القطار المزدحمة، سمع غنيم وهو يداعب شابًا مفتول العضلات قائلًا: "قم، وخد أخوك مكانك."
سمع المخزنجى غنيم وهو يوصى المسافرين برعاية فلاحه المريض حتى يصل إلى بيته سالمًا.
أخيرًا رأى المخزنجى غنيم وهو يطيّر قبلة فى الهواء للشاب الذى ترك مقعده للفلاح.

تلك كانت بداية معرفة المخزنجى بغنيم وهى معرفة ستتواصل حتى يتوجها المخزنجى بكتابه "السعادة فى مكان آخر".
أشهد أن هذا الكتاب هو أهم وأجمل كتاب وقع بين يدى فى العشر سنوات الأخيرة، وأسأله تعالى ألا يصمد لعشر سنوات مقبلة، لأنى أعرف أن المخزنجى يفرح لخير الآخرين ونجاحهم ويتمنى لو تواصل التفوق المصرى فى كل مجال خاصة فى المجال المحبب إليه وهو مجال الكتابة.


مع ضربة البداية يزيح المخزنجى الستار عن حياة غنيم الشخصية.
غنيم بطوله المفرط ولونه القمحى ويديه العملاقتين ولكنته الخاصة وفصحاه الصافية، ليس فلاحًا ولا تربطه رابطة نسب أو دم بالمنصورة التى هى أحب بلاد الله إليه.
غنيم ابن العاصمة القاهرة، ولد فى بيت جده لأمه فى السابع عشر من مارس من العام ١٩٣٩ فى حى العباسية الشرقية عندما كانت الحدائق والقصور والبيوت الكبيرة هى ملامح الحى الرئيسية.
جد غنيم لأمه كان عميدًا لكلية الطب البيطرى، والد غنيم كان يحمل الدكتوراه فى تغذية الحيوانات من زيورخ بسويسرا، والدة غنيم كانت تحمل التوجيهية التى هى الثانوية العامة الآن.
أصدقاء غنيم فى المدرسة كان من بينهم طارق سليم الذى سيصبح نجم مصر والنادى الأهلى فى كرة القدم وأحمد فتحى الذى سيصبح المعمارى الشهير مصمم فندق شيراتون الجزيرة.
هكذا كانت مصر قبل سبعين عامًا فتأمل !
كان غنيم متفوقًا فى دراسته فحصل على التوجيهية فى ثلاث سنوات وليس أربعًا كما كان قانونها، مجموع درجات غنيم يفضح مافيا الدروس الخصوصية وتجارة العلم الزائف، غنيم بجلالة قدره حصل على ٧٩ ٪ فى الثانوية العامة، كانت درجاته ممتازة جدًا تكفى وزيادة لكى يلتحق بكلية الطب ولكى تفوز مصر بوحيد عصره وفريد زمانه.
كل نوابغ الأمة لم يحصلوا على تلك المجاميع الفلكية التى نسمع بها الآن والتى تجعل الريبة تتسلل إلى القلوب، كيف يحصل طالب علم على الدرجات النهائية فى كل العلوم ثم يكون جاهلًا بألف باء الحياة؟
فى العام ١٩٥٥ أصبح غنيم طالبًا بكلية الطب وعمره خمس عشرة سنة ونصف السنة !
كانت الجامعة تعج بالإضرابات والحيوية السياسية، كان يشاهد ولا يشارك فقد كان أصغر الجميع سنًا ووقته كله لتلقى العلم.
بعد مرور كل تلك السنوات يذكر غنيم للمخزنجى أسماء حشد من العلماء الذين تعلم على أيديهم، هذا الذكر يتجاوز خلق الوفاء ورد الجميل، لأن غنيم عندما يتذكر ويذكر ويشيد بأساتذته يستغرق فى سرد تفاصيل تبدو صغيرة ولكنها كانت من محاور تكوينه الاجتماعى والثقافى، فهو مثلا يتذكر أستاذه الذى علمه كيف يستمع ويستمتع بالموسيقى الكلاسيكية.
باختصار تبدو إشادة غنيم بأساتذته كأنها رسالة مشفرة، يرسلها للذين يرون مصر صغيرة ولن تكبر سوى على أيديهم هم.
غنيم يؤكد أن مصر ولدت كبيرة ولدت رائدة ولدت عملاقة ولن تقزمها مزاعم بعضهم.

من مدرجات الجامعة ذهب غنيم إلى مستشفى قصر العينى، وهناك ثار ثورة عارمة اعتراضًا على موقف رأى فيه إهمالًا فى علاج مريض، فتقدم فريق التمريض بشكوى ضده، فجرى خصم ثلاثة أيام من راتبه، ذلك الخصم التافه كان سببًا فى عدم تعيين غنيم فى قصر العينى، ولحسن حظنا أنه لم يعين هناك.
ذهب غنيم إلى مستشفى بنها العام أنا لا أعرف سر ولع هذا الرجل ابن الذوات والعاصمة بأماكن البسطاء والمهمشين فى بنها تعرف على مدير المستشفى الذى أحبه ووثق به وأتاح له فرصة طيبة للعمل.
عندما أعلنت جامعة المنصورة وكانت فى مهدها عن حاجتها لمعيدين تقدم غنيم وفاز بالوظيفة ليدخل إلى المنصورة ثم لن يغادرها أبدًا.
الرجل الذى طاف أرجاء الكرة الأرضية يؤكد أكثر من مرة للمخزنجى أن المنصورة هى أجمل بلدان الدنيا.
حصل غنيم على درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة، وعندما عاد للمنصورة ليواصل عمله وقعت كارثة الخامس من يوينو.

سافر الشاب الطموح إلى بريطانيا وهناك سيكتشف "التمريض الإنسانى".
إنه ذلك التمريض الذى جعل الممرضة المصرية تقول لى إن الرجل ملبوس.
فى بريطانيا شاهد غنيم الممرضة وهى تقص أظافر المريض وتقوم بغسله وتضحكه.
تلك التقاليد سينقلها غنيم لمركزه فى المنصورة ولن يتنازل عنها.
فى بريطانيا سيعمل غنيم بجدية تليق بطموحه، الإنجليز الذين هم الإنجليز، كانوا يقدرون جدًا شهادة جامعة القاهرة التى حصل غنيم على الدكتوراه منها، كانت لجامعة القاهرة سمعة طيبة !
يقول غنيم للمخزنجى: بعد رحلة بريطانيا أردت الذهاب إلى أمريكا لكى أكمل بعض الجوانب الناقصة فى تدريبى، مررت بامتحان كان من السهل بالنسبة لى اجتيازه، فقد كان مستوى العلم فى مصر قريبًا من المستوى العالمى، ولا أعرف أحدًا من المصريين فشل فى عبور ذلك الامتحان !

هل قرأنا الجملة السابقة جيدًا؟

سيتابع غنيم نصر أكتوبر وهو فى قلب أمريكا وسيقشعر جسده وهو يرى الصدمة الأمريكية للنصر المصرى.
نهل غنيم من علوم الغرب ثم عاد إلى حبيبته المنصورة، نتحدث عن المنصورة قبل أربعين عامًا.


نحن الآن فى عام ١٩٧٥ رأى غنيم زملائه وهو يبذلون كل جهدهم لغسيل الكلى بجهاز قديم عتيق تجاوزه العلم.
أحد الزملاء كان الدكتور صلاح الحمادى الذى قال: لماذا لا نجرى عملية نقل كلى؟
من جهاز عتيق تجاوزه العلم إلى نقل كلى، الأمر يبدو مثل قفزة فى الفراغ، ولكن الدكتور غنيم وفريقه من العظماء فعلوها، هذه هى مصر المتحدية القادرة المستطيعة عندما تريد وتقرر، بعد أن تدفع ضريبة العلم وثمن التفوق.

جاء العام ١٩٧٦ عام سماعى لأول مرة باسم غنيم، هذا عام استثنائى فى حياة غنيم، هو يقول للمخزنجى: شهد العام فترات من السعادة الطارئة، لقد نجحت عملية نقل الكلى ناجحًا باهرًا، وفاز فريق المنصورة على الأهلى بهدفين نظيفين سجلهما أحمد شاكر ومحمد البابلى وولد ابنى الأول.

هل رأينا مفهوم السعادة عند غنيم؟

العالم الشاب وفريقه يعرفون فقر الجامعات المصرية، راحوا يراسلون دول العالم لكى تتبنى أحلامهم ماديًا، لم يلتفت إليهم أحد سوى هولندا التى سيكون دعمها السخى الإنسانى هو الحجر الأول والمهم فى بناء صرح مركز غنيم الذى سيصبح بعد قليل مركزًا عالميًا يتدرب به الأجانب، نعم الخواجات رأيتهم أنا بعينيّ رأسى يقفون بشقرتهم أمام الدكتور "صبح" أحد أنجب فريق غنيم يستمعون لشرحه ويمطرونه بأسئلتهم وهو يجيب فى محبة.

أقرأ كتاب المخزنجى وأقول: غنيم مصرى عربى مسلم أفريقى، الجين المصرى ليس "مضروبًا" كما يشيع عبيد الاحتلال الذين يحتقرون ذواتهم ولا يرون فى هذا الشعب الطيب الصابر المقاوم المحتسب سوى حفنة من الحثالة الذين يجمعهم المزمار وتفرقهم العصا.
غنيم الذى ولد فى العباسية الشرقية وكان بيت ولده فى شارع مراد سيغزو وفريقه العالم، سيحاضر فى أعظم جامعات الكون وسيتحدى ويربح الرهان دائمًا، غنيم لا يصنع شيئًا سوى الإخلاص لأحلامه التى كانت تبدو مستحيلة ولكنه حققها وزيادة.

عندما كان غنيم فى الثامنة والثلاثين من عمره كان قد أصبح أيقونة طب المسالك، سمع به السادات الذى كان بطل الحرب والسلام، زار السادات الجناح الذى يعمل غنيم به وأسعده ما وقعت عيناه عليه، قال السادات بلهجته الفخمة لسكرتيره: غنيم سيصبح المستشار الطبى لرئيس الجمهورية.
هل فرح غنيم؟ لا، بل جن جنونه، هو لا يريد أن يصرفه شىء عن متابعة عملياته التى ستصبح رائدة.
ثم هو يريد معرفة حقوق وواجبات هذا المنصب العجيب، قرر المبادرة بالجلوس مع سيادة رئيس الجمهورية لكى يستوضح منه حقيقة الأمر.
جلس غنيم مع السادات، ثم طلب من السادات أن يسمح له بالتدخين فسمح الرئيس، هنا سيقول غنيم للمخزنجى: هل الطلب كان حماقة شاب.
بعد التدخين شرح غنيم الأمر فقاطعه السادات ببساطة قائلًا: "يا ابنى أنا مش محتاج دكاترة، أنا عايز أساعدك، لما تعمل كارت وتكتب عليه المستشار الطبى لرئيس الجمهورية سيفتح لك هذا الكارت الأبواب ولن يقف أحد فى وجهك".
فى هذه كان السادات فلاحًا مصريًا مخلصًا وعارفًا بكوارث دهاليز البيروقراطية المصرية.
بطاقة السادات فتحت الأبواب لغنيم، إنه مستشار الرئاسة فمن ذا الذى سيرفض طلبا له؟

ليس غنيم هو "الملبوس" بمفرده "من الواضح كما تقصى المخزنجى الأمر أن عائلة الرجل كلها هم جماعة من الملبوسين، قرر غنيم منذ البدء أن يصبح راهبًا فى محراب العلم، معه بطاقة رئاسية يستغلها فقط فى رعاية مركز صحى وليد، معه شهرة عالمية وعلم عالمى ولكنه يقرر عدم فتح عيادة خاصة !"
أتذكّر أنا الآن فؤاد المهندس عليه رحمة الله وهو يؤدى شخصية الطبيب فى فيلم أيوب، يسأله بطل الفيلم عمر الشريف: "أنت مفتحتش عيادة ليه مع إنك طبيب شاطر"؟
يجيب المهندس بطريقته اللطيفة: "شوف يا صديقى، الدكتور زى القاضى، عمرك شفت قاضى عامل محكمة قطاع خاص وبيحكم على الناس بعد الضهر"؟
غنيم لديه هذا الخاطر، التفرغ للبحث العلمى وعلاج الفقراء يتعارض لديه مع الطموح الشخصى المالى أساسًا.

والد غنيم أستاذ علم تغذية الحيوانات سيشجعه على التفرغ للجامعة ولعلاج الفقراء مجانًا وسيتحمل الوالد الكريم المحب الواعى الفارق بين مصروفات غنيم وبين راتبه الجامعى المتواضع، حقًا هى عائلة ملبوسة بحب العلم والعمل الجاد.
غنيم ابن الذوات المصرى وزوجته صاحبة الخجل المحبب ابنة الإنجليز، لا يريدان المليارات التى كان غنيم يستطيع حصدها فى سنوات قلائل، هما معًا يريدان السعادة التى تعنى التخفف من أعباء الدنيا والتحقق فى مكان آخر غير عد الفلوس.

العرب والعجم سيقفون مع حلم غنيم، مصرى معطاء يرفض ذكر اسمه قدم الملايين لغنيم لكى يقيم فرعًا لمركزه العالمى فى قرية "منية سمنود". 
غنيم يقول للمخزنجى: إن ذلك الثرى المصرى مثقف من طراز رفيع، لعله أهم دارس لتاريخ مصر المعاصر.
لم يفصح غنيم عن شخصية المتبرع الذى أراد البقاء فى الظل، ولكن المخزنجى يجرى الفضول الصحفى فى دمه، لقد عرف الرجل ولكن لم يذكر اسمه احتراما لشرطه، وعندما جلست أنا مع المخرنجى خجلت من أن أطلب منه الكشف لى عن اسم الرجل، فأين ذهب فضولى الصحفى؟
قائمة الأسخياء الواعين تشمل أميرا سعوديا تبرع بوحدة كاملة التجهيزات لمركز غنيم، وحدة تضم أرقى ما توصل إليه العلم من أجهزة.
ومع الأمير تقف دولة الإمارات العربية المتحدة، ثم يأتى الدعم الأوروبى والعالمى وعلى رأس مقدمى الدعم شخصية عجيبة تصلح لأن تكون رواية قائمة بذاتها، أعنى شخصية الطبيب السويدى "نيلز كوك"، كوك هذا كان قد اخترع كيسًا أصبح يحمل اسمه، الكيس هو بمثابة مثانة بديلة من الأمعاء للذين أصابهم السرطان فى تلك المنطقة ذات الحساسية الخاصة، ثم جاء غنيم وفريقه وطوروا الكيس فأصبح شيئًا إنسانيًا وأصبح المريض يستطيع التبول عبر المجرى الطبيعى وكأنه لم يصب بكارثة السرطان.
كوك سيصبح صديقًا لغنيم وسيدعمه قدر ما يستطيع، وما أعذب تلك الفقرات التى يتحدث فيها غنيم عن كوك وما أجمل المخزنجى وهو ينقلها بأسلوبه الشعرى الرائق.
كوك سيقدم الفيزا الخاصة به لغنيم لكى يسافر بها لحضور المؤتمرات والندوات ويطوف العالم !
كوك سأل غنيم: لماذا لا تسافر كثيرًا؟
رد غنيم: ليس فى ميزانية الجامعة ما يسمح لى بالسفر الكثير.
ببساطة قدم كوك الفيزا الخاصة به لغنيم.
غنيم أخذ الفيزا شاكرًا وكان يسافر على الدرجة الاقتصادية وليس السياحية وكان يقتر على نفسه، فكان كوك يطالبه بأن ينفق كما يشاء، ولكنه غنيم الذى وجد سعادته فى مكان آخر غير الهوس بالفلوس والشهرة، وعندما مرت السنوات ورد غنيم الفيزا لصاحبه، وجد كوك أن أربعين ألف دولار لا تزال فى رصيد الفيزا فتبرع بها لفرع "منية سمنود".

ما كتبته ليس عرضًا لكتاب هو عصيّ على العرض، لأنه كتاب أحلام مستحيلة حققها مصرى يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق ويشارك فى المظاهرات ويشارك فى صياغة دستور ٢٠١٤ ويدخن كثيرًا ويتابع كرة القدم ويتعصب لفريق المنصورة ويجيد الغوص وهو فى الثمانين من عمره ويعيش هادئًا فى شقة بسيطة.
تبقى كلمة لعلها تجد مستمعا، دار الشروق مشكورة قامت بواجبها ونشرت الكتاب فى أجمل صورة ممكنة، فهل تتكرم الدولة وتدعم كتاب الأحلام هذا؟
لو كان لى من الأمر شىء لأمرت فورًا بتوزيع الكتاب على مكتبات المدارس والجامعات والنوادى والنقابات، نحن أمام كتاب استثنائى، يصلح أساسًا متينًا لنهضة لابد وأن نذهب إليها قبل أن تقبرنا مشاعر العجز ويذلنا عبيد الاحتلال الذين لا يرون فينا إلا حفنة من حثالة البشرية.

الكتاب يعلمنا المعلومة الأساسية التى تقوم الحضارات عليها، من زرع حصد ومن جد وجد، فهل من مستمع؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر بجريدة "صوت الأمه" بتاريخ  10/3/2017