الثلاثاء، 26 مارس 2002

ماذا يفعل إبراهيم نافع بـ "الأهرام"؟!


 
 
الذي نعلمه من مناصب الأستاذ إبراهيم نافع أنه يعمل رئيسًا لتحرير "الأهرام" ورئيسًا لمجلس إدارتها ونقيبًا للصحفيين المصريين ورئيسًا لاتحاد الصحفيين العرب وعضوًا بمجلس الشوري المصرى، هذا ما نعلمه دون الدخول فى محاولات تقصى وظائف وأعمال ومناصب أخرى يشغلها الأستاذ نافع.
 
وكنا – لغفلتنا – نظن أن مناصبه "المعلنة" تكفي لجعله يتعامل مع كارثة غزو العدوين الأمريكي والبريطاني وعملائهما لأرض العراق الشقيق بشيء من "التعقل" ولا يندفع هذه الاندفاعة لمناصرة قوات الأعداء.
 
كنا لغفلتنا نأمل ألا ينساق نقيب الصحفيين المصريين ورئيس اتحاد الصحفيين العرب وراء دعاية العدو الأمريكي حتى أصبحت كتاباته وكأنها كتابات موظف في خارجية العدو.
 
فمنذ صدور القرار المجرم (1441) القاضي بنزع أسلحة يزعم العدو الأمريكي أن العراق يمتلكها والأستاذ نافع يقدم يومياً في عموده "حقائق" أو في مقاله "بهدوء" قراءة عجيبة لا نريد أن نقول مريبة لهذا القرار المجرم. فهو يبدأ عموده أو مقاله محذرًا من الحرب وأضرار الحرب وكأننا في "حصة مطالعة" وكأنه يخاطب أطفالاً لا يدرون ما الحرب وما أهوالها، وبعد "لف ودوران" يطالب الرئيس العراقي بأن ينزع فتيل الأزمة وينقذ نفسه وشعبه وأمته ويلم ملابسه في "بقجة" ويرحل تاركًا الجمل بما حمل.. وما يدعو إليه الأستاذ نافع هو ذاته ما يدعو إليه المجرمون كولن باول ورامسفلد وتشيني وكبيرهم المجرم بوش الصغير وتابعه بلير.
 
ولا ندري ما الصدف السعيدة التي توحد بين نقيب الصحفيين المصريين المعارضين في أغلبهم للعدوان وبين مجرمي واشنطن؟
 
كلنا نعلم – فيم عدا الأستاذ نافع – أن مجرمي واشنطن يريدون رحيل صدام لكي يأخذوا العراق على طبق من فضة أو من ذهب أو من ماس وكلنا عدا النقيب نعلم أن وجود صدام يضمن وجود مقاومة للعدوان ولو في حدها الأدنى، ثم إن رحيل صدام سيمهد الطريق أمام مجرمي واشنطن ولندن لكي يفعلوا ثانية مع فلان وعلان من الحكام العرب.
 
وبرغم وضوح الأمر وضوحًا يفوق وضوح الشمس تبنى النقيب دعوة العدو الأمريكي ضاربًا بالأمن القومي المصري ومصالحه عرض الحائط ومتجاهلاً في الوقت ذاته عقل قارئه الذي بلا شك يعلم أن صدام ليس أكثر من مسمار جحا يتعلل به العدو الأمريكي ليغزو العراق. وعندما أعلن العدو الأمريكي أنه سيدخل بقواته الأرض العراقية سواء رحل صدام أم لا.. قلنا: الآن سيعتذر سيادة النقيب فها هو العدو يكشف كل أوراقه ويعلن عن عدوانه بعيداً عن بقاء صدام أو رحيله، ولكن خاب أملنا كالعادة وقفز الأستاذ نافع فوق هذه الحقيقة التي هي أوضح من الشمس وواصل قصفه لعقل قارئه ولمصالح بلده وأمن أمته وتشبث بالدعوة لرحيل صدام. ألا يعلم النقيب أن كثيرين غير صدام مهددون بنفس مصيره إن هم رفعوا أصبعاً في وجه العدو؟ ألا يعلم النقيب أن بلده مصر ورئيسه المصري الأسبق جمال عبدالناصر قد عاشا الموقف ذاته أيام العدوان الثلاثي؟ هل لو كان أيامها نقيبًا للصحفيين المصريين كان سيطالب عبدالناصر بأن ينقذ شعبه ويأخذ أولاده خالد وعبدالحكيم وهدى ومنى وزوجته السيدة تحية "ويسيح" في بلاد الله؟
 
عجيب أمر سيادة النقيب الذي جعل من أكبر وأعرق مؤسسة صحفية عربية منبرًا للدعاية للعدو الأمريكي والذي يتجاهل مع سبق الإصرار والترصد بديهيات لا نظنها تغيب عن عقل صحفي تحت التمرين فما بالنا بنقيب الصحفيين ذات نفسه.
 
وليست الأستاذ نافع قد اكتفي بمساندة أمنية العدو في رحيل قائد عربي عن بلاده.. فلو اكتفي بها لقلنا سقطة و"تفوت" ولكنه بإصرار عجيب راح يورط نفسه ومناصبه ومؤسسته بل وبلده في مواقف حتماً سيسجلها التاريخ ضده.
 
صباح الخميس وكانت طائرات العدو قد بدأت تقصف بغداد نشر الأستاذ نافع في الصفحة السابعة عشرة من "الأهرام" إعلانًا تحت عنوان: "أطفال العراق هم ضحايا صدام" والإعلان مقدم من "لجنة مناهضة استعمال الأسلحة الكيمياوية ضد الشعب العراقي" حركة الوفاق الوطني العراقي. الإعلان طبعاً يتحدث عن استخدام النظام العراقي لمادة الخردل وكلام كثير عن أنواع الغازات السامة وأضرارها ويزعم الإعلان أن النظام العراقي يستخدمها ضد شعبه.. وفي الإعلان صورة لطفل وجهه مشوه أو ملطخ بمادة ما. هذا هو الإعلان.. والآن نسأل:
 
1-    هل كان "الأهرام" سيعلن إفلاسه إن لم ينشر هذا الإعلان؟
 
2-    ألا يمثل هذا الإعلان دعمًا مباشرًا لكل الأكاذيب التي يروجها العدو الأمريكي عن قيام صدام بقصف أطفال بلاده؟
3-    لنفترض أن صدام فعلها فعلاً وقصف أطفال بلاده فأين كان سيادة النقيب وقتها ولماذا لم نقرأ له ولو مقالاً واحدًا يفضح فيه هذا العدوان علي أطفال أبرياء؟
 
وأخيرًا فإن النقطة المفصلية في "حدوتة" استخدام صدام للأسلحة المحرمة دوليًا ضد شعبه تثبتها التقارير "الغربية" التي أكدت قيام صدام بقصف جماعات كردية بالأسلحة المحرمة دوليًا في منتصف الثمانينيات.
 
أيامها كان سيادة النقيب كما هو الآن صحفيًا كبيرًا ورئيسًا لمجلس إدارة وتحرير "الأهرام" وأيامها لم نسمع له صوتًا يستنكر أو نقرأ له مقالاً يدين.. أيامها كان سيادة النقيب ومعه الصحفيون الرسميون يقدمون لنا صداماً بوصفه حامي حمي الجبهة الشرقية للأمة ومحرر العرب من المجوس – الذين هم شعب إيران المسلم – وقائد القادسية الثانية و... وكلام كثير كدنا معه نصدق أن صدام حسين هو على الأقل من أولياء الله الصالحين.
 
فما الذي حدث لكي يقلب سيادة النقيب في الدفاتر القديمة فيكتشف ويا سبحان الله فجأة أن صدام قصف شعبه بالكيماوي والجرثومي؟
 
وبعد هذا الإعلان الصدمة الذي لم يكن الوقت وقته ولا المكان مكانه أجرى أو هكذا قال الرئيس النقيب حوارًا مطولاً مع نائب رئيس العدو الأمريكي ديك تشيني – نشر تنويها عنه يوم الخميس في الصفحة الأولى من أهرامنا العريق العتيق ونشره بأكمله يوم الجمعة جزء بارز منه في الصفحة الأولى والباقي على الصفحة الثالثة.
 
وهذا الحوار الفضيحة ينسف أولاً ما يشاع عن "حياد الأهرام" لأن الحياد – هذه الكلمة البذيئة في ظروف كالتي تعيشها أمتنا – كان يحتم على رئيس مجلس إدارة الأهرام ورئيس تحريره أن يحاور مسئولاً عراقيًا في الوقت نفسه لكي تعتدل كفتا الميزان ولكي لا يصبح الأمر كما رأيناه دعاية مجانية لأكاذيب العدو.. أما ثانية سقطات هذا الحوار الفضيحة فكان قيام الرئيس النقيب بتحويل نفسه طائعًا مختارًا إلى جهاز تسجيل يتلقي إجابات المجرم تشيني دون مراجعة أو حذف أو إضافة، هي المرة الأولى والله التي نعلم فيها أن تشيني حديثه قرآن لا يرد عليه، فالأستاذ نافع يسأل أو هكذا قال لنا والمجرم يجيب والأستاذ نافع ينشر الإجابات كما هي دون تعليق ولو كان هذا التعليق بسيطًا وصغيرًا.. في حجم علامة استفهام أو تعجب.
 
في هذا الحوار الفضيحة ترك الأستاذ نافع الحبل علي الغارب للمجرم تشيني فصال وجال منفردًا وكأنه يحاور نفسه أو يلقي بيانًا لمجموعة من جنود مشاة البحرية قال المجرم وبدون مقاطعة أو حتى استفهام من نافع "العراقيون سيرحبون بنا كمحررين" وقال أيضاً "إننا في العراق لننجز شيئًا نافعًا للشعب العراقي" و"إننا نحترم انخراطنا في شئون المنطقة لتشجيع الحرية والسيادة" و"إننا لا نريد إيذاء الشعب العراقي".
 
هذه الدعاية وغيرها من السخافات التي نطق بها المجرم تشيني نشرها نافع وكأنها قرآن منزل.. ألا يعلم نقيب الصحفيين المصريين ورئيس تحرير أكبر صحيفة مصرية وعربية أن حكومة مصر قد خرجت في مظاهرة تندد بالحرب وترفض وقوعها؟!
 
ونحن نسأل منذ متى والأستاذ نافع يعارض سياسة، أية سياسة للحكومة حتى يخرج علينا بمقالاته وأعمدته وحواراته التي تؤيد الحرب لدرجة أنه يتبنى المصطلح الذي أطلقه العدو الأمريكي على حربه السافلة ضد العراق "حرب تحرير العراق".
 
كل حكومة مصر ترفض الحرب إلا المعارض القوي الأستاذ إبراهيم نافع.
 
الذي أصبح معارضًا حتى لتوجه جريدته وللصحفيين العاملين بها فقد نشرت الزميلة "العربي" بياناً أصدره صحفيو "الأهرام" استنكروا فيه ما يقوم به نافع من ترويج للعدوان الأمريكي على شعبنا العربي المسلم في العراق.
 
لقد اختار نافع الانضمام إلى شرذمة من مؤيدي المجرم بوش وتجاهل أمن بلده ومصالح أمته وكأنه لا يعلم أن العدو يضع مصر على أجندة ضرباته.
 
_________________
الصدى - 26 مارس 2002

الثلاثاء، 12 مارس 2002

مصباح قطب

                                         


 
لا أحب "الاقتصاد" ربما لأنه مرتبط عندي بالفلوس وأنا مفلس أبد الدهر وربما لذلك الارتباك الذي يصيبني إذا وجدتني أمام أرقام أكبر وأقسى من أن أتعامل معها.
 
ومع كرهي المتأصل لهذا "الاقتصاد" أحببتك يا عم مصباح قطب.
 
يبدو الأمر متناقضًا كيف أحب من كرس نفسه وقلمه للكتابة في علم أكرهه؟
 
لا تناقض هناك،  فقلمك البارع وقلبك الطيب كانا يقودان كتاباتك إلى الاقتصاد الذي هو انعكاس لحال البلاد والعباد لا إلى هذه الأرقام التي أكد لنا واقع الحال أنها كذوب كذوب كذوب.
 
وبعد أن أزال "ود" قلمك الجفوة التي قامت بيني وبين هذا العلم رحت أتأمل أسلوبك، رأيتك يا صديقنا الغالي تكتب وكأنك مصور سينمائى محترف وفنان ومرهف وصادق، مصور لا يعتمد على عدسة واحدة، بل هناك عدسات كثيرة ترصد بلقطة بارعة وسريعة كل جوانب المشهد، هذا التكثيف البليغ لم يخل أبداً بالمعنى الذي تريد بسطه بين يدي قارئك.
 
والآن لا أدري كيف "كثفت" حالتك هذا التكثيف المزعج الذي لم نعتده منك.. بمرضك أنت تقول لنا إياكم والشرف، فهذا الوطن يعاقب الشرفاء، يغريهم بحبه حتى ينفذ إلى نخاع عظامهم وعندما يتيقن من مكانته في قلوبهم يتركهم للعراء.
 
جميلنا الغالي مصباح.. لو كنت رضيت بالدنيئة في دينك ووطنك وقلمك.. لو كنت أغمضت عينيك ولو نصف إغماضة عما يجري.. لو كنت تربحت مثلما تربحوا.. لو كنت ارتشيت مثلما ارتشوا.. لو قلت مثلهم جميعًا وأنا مالي؟
 
لكنت الآن معافي صباحاً تجالس سفاحا وظهرا تحادث قاتلا وليلا تسامر مجرما. والحجة جاهزة: "هؤلاء رجال أعمال وطني" ولكنك مثل كل محب وهبت نفسك للمحبوب وما كان أكثرنا سوداوية يظن أن المحب سيأخذ كبدك ويعطيك مناشدات لأهل البر والتقوي فاعلي الخير.
 
مرضك يا أيها العم النظيف الجميل رسالة تحذير لكل الشرفاء تقول كلماتها.. لن ينفعكم شرفكم في وطن قرر بيعكم على قارعة الطريق جزاء محبتكم له وحرصكم عليه.
 
ستغادر بإذنه تعالى مرضك سالماً وساعتها سأجبرك على كتابة قصيدة هجاء في هذا الوطن الذي يعاقب الأطهار ويحتضن الأوساخ.
 
_________________
الصدى - 12 مارس 2002

الثلاثاء، 5 مارس 2002

شيرين "طراوة"

في الطراوة و"أبيض يا ورد" و"ماسح" و"ع الزيرو" و"دماغه عالية" و"بعافية حبتين" و"مش من هنا" و"الأخ مع مين".
كل هذه الكلمات نستخدمها في حياتنا اليومية للدلالة على أن الشخص الذي نتحدث عنه لا يعرف "السما من العما" ولا "ألف من كوز الدرة".
وقد ذكرتني المغنية شيرين صاحبة الصوت "العربي" – معظم مغنينا الآن "خواجات" وراجعوا مخارج حروفهم – بهذه التعبيرات البليغة الفصيحة حتى وإن اكتست بثوب عامي.. شيرين في مؤتمر صحفي أقيم على هاشم حفل أحيته في دبي، استفرد بها صحفي "من إياهم" وجرجرها للكلام فيما نعتبره نحن سياسة، سألها الصحفي عن بث فضائية إسرائيلية لأغنيتها الشهيرة "آه يا ليل" ارتبكت "شيرين" وراحت تتحدث وكأنها خالتي أم علاء "زوجة" عمي أبو أشرف البواب.
قالت شيرين إنها لا تعرف بالأمر ثم أنها لو عرفت فليس بمقدورها منعه، إلى الآن لم تقع شيرين في الخطأ ولكن الصحفي الذي لا يجرؤ على إحراج "نوال الزغبي أو أحلام أو أوهام أو كوابيس" أصر إصرارًا على توريط شيرين وقد نجح، إذ أردفت شيرين – لافض فوها: "دا حتى فيه إسرائيليون متأثرون باللي بيحصل في فلسطين".. وجدها الصحفي علي حجره بعد أن ظنها في السماء واستخلص من كلام شيرين "الأبله العابر" أنها من مؤيدي التطبيع ومن مناصري حركة السلام الآن ومن دعاة محاورة اليسار الإسرائيلي و...
والسؤال الآن من المدان في هذه "الورطة" بصراحة ، أنا أدين شيرين لا الصحفي، لأن هذا "النوع" من الصحفيين يري مهمته المقدسة في توريط خلق الله وقد نجح في أداء واجبه السامي، أما شيرين فلو لم تكن في "الطراوة" لم استطاع أحد توريطها، لو تسلحت بقراءة "الأهرام" مثلاً لعرفت كيف تجيب وتفحم، لو أنها شاهدت ولو نشرة أخبار واحدة لما جاءت إجاباتها وكأنها إجابات خالتي أم علاء سالفة الذكر.
لا أطالب شيرين بأن تكون واعية وكأنها "لطيفة  الزيات" أو فصيحة وكأنها "بنت الشاطئ" ولكنني أطالبها بأن تعرف أن العالم ليس استوديو التسجيلات فقط وأن الدنيا ليست هي البيه الموزع والباشا الملحن والخديوي المنتج. يا مطربتنا الجميلة أن تصبحي مشهورة فهذا يلقي عليك مسئولية المعرفة، معرفة البديهيات علي الأقل، لكي لا يضحك عليك مستقبلاً أحدهم وينتزع منك اعترافًا بأنك المسئولة عن هزيمة المسلمين في غزوة أحد .
_________________
الصدى - 5 مارس 2002

الاثنين، 4 مارس 2002

قراءة في رواية الأيام الوردية لعلاء الديب




 
وما فلسطين إلا أطفال يرشقون الدبابات بالحجارة، وملثمون يصوبون بنادقهم القديمة تجاه الطائرات، وسيارات إسعاف مكدسة بالجرحي، وحرائق مشتعلة في كل مكان، واستشهاديون يفجرون أنفسهم في المشهد كله.
 
هذه هي فلسطين كما نشاهدها مساء كل يوم فى نشرات أخبار التليفزيون ونطالعها صباح كل يوم على صفحات الجرائد.
 
أما في رواية الفنان الكبير علاء الديب الجديدة "أيام وردية" فهناك فلسطين أخرى سرية، تضغط بجبروت حضورها وبقسوة جمالها وبطغيان مأساتها على قلب بطل الرواية "أمين الألفي" الذي هو "إخصائي اجتماعي بمدرسة المنصورة الثانوية، مفكر عربي قديم، مصلح اجتماعي سابق، مترجم وكاتب ولكنه ــ أساساً ــ مفكر عربي وحيد، كثير الأقنعة، بعد طول ازدواج وظلم صار فقط لحظات مفتتة وماضياً يتوارى من نفسه، صارملاحاً قديماً رابضاً على الشاطئ مهزوماً في الليل والنهار" ذلكم هو أمين الألفي الذي كان مؤمناً ثم جاء الخامس من يونيه 1967 ففتت إيمانه وبعثر يقينه.
 
خرج الألفي بجروحه من القاهرة ــ التي أصبح لا يحتملها إلى المنصورة مقنعًا نفسه أنه بالإمكان البدء من أول وجديد، وهناك اخترع لنفسه عملاً "إخصائي اجتماعي" فكر وكتب ونسق وألقى محاضرات وأقام مؤتمرات ونظم ندوات لكي يبدأ هو ومن معه من أول وجديد، واحتمى بأحضان زوجته "مس شادن البيلي" مدرسة الإنجليزي وبضحكات ولديه "بهجت وبسمة" ولكن ويوماً بعد يوم تتكشف أمام الألفي الحقيقة عارية تماماً ، إن ما يصنعه كل ما سيصنعه هو حرث في البحر ونفخ في قربة مقطوعة. مدرسته هي هي بل إنها كل يوم تصبح أسوأ، فصول قبيحة وتلاميذ مكدسون ومدرسون أصابهم سعار الدروس الخصوصية، وإدارة فاسدة من رأسها حتي أخمص قدميها. وشادن البيلي التي كانت حقل حنطة يعد بالخصوبة والأمان والجمال أصبحت أرضاً خربة، لقد استولت عليها "الحاجة زينب" وما أدراك ما الحاجة زينب، إنها في الأصل "زيزي" امرأة من نوع  غريب، كاملة التسليح، في الحجم والجمال والذهب. كتاب الله، حجابها الأنيق وذكاؤها الخارق أمور جعلت لها في المنصورة نفوذاً بالغاً، بعد سنوات إعارتها هي وزوجها صنعا معاً ثروة وفعلا معاً كثيراً من أعمال الخير، وأعمال الشر التي تجبرك عليها الحياة العصرية، والحاجة زينب أو "زيزي" دائماً في زيارة وتجارة هي دائماً مشغولة متعددة المقاصد، فعلى الرغم من أنها تؤكد أنها لا توافق على "أبعديات" الدروس الخصوصية التي أقامها الزملاء الأجلاء إلا أنها تأتي لكي تتحدث معهم في صفقات ومصالح متبادلة، مع كل واحد منهم لها أسلوب وطريقة".
 
هذه هي الحاجة "زيزي" كما برع علاء الديب في تقديمها نوع من أنواع "الإسلام التجاري" الذي شيد السادات عمارته وأعلى شأنه، مع الحاجة زيزي لا تتكلم عن "الروح والحقيقة والقلب والاقتناع والطهر" فكل هذه الأشياء خارج وصفة "الإسلام التجاري" حيث الأمور "خد وهات" و"بزنس إذ بزنس".
 
ولأن "هداية العصاة" مشروع قومي من مشاريع الحاجة زيزي قد اقتحمت بيت الألفي وحاصرت زوجته شادن البيلي حتي ابتعدت عن زوجها تماماً لم يقف الألفي مكتوف اليدين أمام هذا الغزو بل "خاض من أجل الإبقاء على زوجته أهوالاً، دخل في خطط طويلة ومؤلمة، دخل في نقاشات عقيمة، داس في أحلام مجهضة، وأفكار مرتبكة، ومزايدات مزيفة، الكلام أو النقاش صار بعد الأيام الأولى مكرراً مرهقاً بشكل لا يطاق، يراقب رفضها له وهو يتصاعد فيختلط عنده الغضب بالإشفاق باليأس من كل شيء.
 
يراقب كيف تبني بينهما هذه الجدران والسدود، ذابت كل المعاني والقيم التي ظن أنه أقام عليها علاقته بشادن، والأولاد، ليس حوله من يكلمه في الموضوع أو يأخذ رأيه، الجميع حوله يري أن ما يحدث أمر طبيعي بل هو مرغوب فيه ومطلوب".
 
ها قد خسر الألفي إيمانه القديم بعد يونيو وزوجته بعد سيادة "الإسلام التجاري" وما عاد له غير فلسطين.
 
كانت فلسطين في عقل أمين الألفي في هذه الأيام وقبلها وبعدها: رمزًا، فكرة مسيطرة يقيس بها مواقع الناس، "عاملاً مساعدًا" يكشف به الصدق من الكذب.
 
هو قد خلع نفسه من السياسة، أو هي التي خلعته ولكن بقيت فلسطين السليبة معنى يسافر وراءه واسماً يبحث عنه في دواوين الشعراء، وكلمات الصادقين، كوى بها جراح يونيو، وعيش الفقراء حوله والمطحونين، ولا طاب جرح ولا نفع دواء سمع أحد المدرسين يشير إليه ساخرًا "بتاع فلسطين".
 
ما الذي بقى للألفي؟ تقريباً لا شيء اللهم إلا شجرة عشقها كان يبثها همومه ثم اللا شيء. حياة كهذه تقود إما إلى الجنون أو الانتحار، ولكن صديقًا وطبيبًا مسيحيًا أنقذه من الحالتين وقاده إلى مصحة نفسية وهناك عاش الألفي أيامه الوردية، هل رأيتم كل هو مخادع هذا الفنان الكبير علاء الديب؟
 
الأيام الوردية هي تلك التي عاشها الألفي محتمياً بجدران المصحة ونعم الأيام ونعم الورد!!
 
ولكن إلى أين يمضي هارب من دمه؟؟ في المصحة "يسمع التليفزيون ولا يراه، تستوقف حالته الراهنة مصطلحات الـ 13% والـ 11% لا يدرك علاقة هذه النسب المئوية بالوطن، يرى بعين خياله فلسطين تمزق بسكين باردة.
 
انفردت به وهو راقد أهوال قضية فلسطين. ماذا يفهم؟ وماذا يصدق؟ وما كل هذه الكركبة والقدرة على اختراع الأكاذيب؟ الناس تركوه وحده مع ملايين الأحلام والأوهام والأشعار الميتة. هل يتذكر الأحياء أم الشهداء، أم يكتفي بتأمل حطام ذاته؟ هل هي قضية عامة، سياسية قومية أم هي قد صارت بالنسبة له قضية شخصية متورطًا فيها منذ الأزل؟".
 
وفي المصحة يلتقي الألفي وجهاً لوجه مع فلسطين واسمها هذه المرة "عفاف" فتاة فلسطينية اغتصبوها أثناء الحرب الأهلية في لبنان، ولأنها فلسطين فقد تمنى الألفي "أن يجمع لها كل لحظات السعادة والوجود المتكامل التي عرفها في حياته وأن ينثرها تحت قدميها قرباناً وهدية خالصة، علها تداوي التعاسة والشقاء الذي عاشته".
 
وعندما تتمالك عفاف نفسها قليلاً تطلب من الألفي أن يأخذها إلى حيث الكتاب والفنانين والمثقفين الذين عاشت عمراً تقرأ لهم وعنهم. وعندما يأخذها إلى واحد من تلك التجمعات يقابلهما النجم الثقافي اللامع "ف. ف" وما أن يجلس بجوار عفاف حتي تنتفض محمرة الوجه متوترة وكأن أظافر وأنياباً قد نبتت لها، يغادر بها الألفي المكان فتقول عفاف: "كم هو بارع ابن الـ.. لم أدرك عندما حدثني عن العقد، وعن رقبتي ثم عن صدري، بلهاء مازلت كنت ابتسم، ثم مد يده لفخذي. في أقل من ربع ساعة صنع بي كل هذا".
 
مجدداً تغتصب فلسطين من صهيوني مسلح أو كتائبي ملثم أو قاهري مثقف لا فرق.
 
ثم يغادر الألفي المصحة إلى خلاء يسكنه أحد أصدقاء أبيه القدامى يشاركه الألفي مسكنه المقام وسط غابة زرعها من أشجار اللوف وأشجار ست الحسن. "حوله دنيا واسعة خالية، ليس إلى جواره أحد. لم يكن حزيناً. يراقب الأشياء وهي تنتهي ليس في ضوضاء، لكن في سكينة.
 
هذا هو عالم رواية الفنان الكبير علاء الديب التي تؤلم قارئها بقدر ما تمتعه ويأتي الألم من موهبة الديب الخاصة في وضع يده علي التفاصيل الحقيقية لحياة أبطاله، تلك التفاصيل التي تختفي تحت أطنان من تراب المفردات اليومية، يأتي الديب فيرفع التراب ليظهر الجوهر لامعاً نقياً مغسولاً بالحقيقة، وثمة أمور انفردت بها هذه الرواية عن سابقاتها من روايات الديب وأعني بها دخول "الطبيعة" بوصفها بطلاً من أبطال العمل ــ راجع علاقة الألفي بشجرة المنصورة ــ والأمر هنا تعدى علاقة مثقف مرهف الحس بما حوله إذ أن بؤس حياته جعل من الشجرة أخت روح وتوءم محنة وما أجمل تلك الصفحات التي أفردها الديب للحديث عن علاقة الألفي بشجرته، ثم هناك فلسطين وهذا التناول "الأنيق" ــ أعتذر عن كلمة أنيق وكان يجب أن أقول الحقيقى ــ لتلك المأساة الملهاة ، نادرة هي الكتابات التي تخلو من فجاجة الزعيق ورغاوي الأكاذيب، فلسطين في رواية الديب هي تلك التي نحسها ولا نراها، فقد أفلح أولاد الأفاعي في جعلها نشيداً نردده ولا نحسه.
 
أما عن الألم فأظنه "هوية الديب الشخصية" إنه يكثف جمله حتى نتيقن أنه اعتصر ذاته وصفى دمه، ثم ولأنه لا يرحم نفسه فإنه لا يرحم قارئه إذا يقدم له في كل سطر حقيقة من تلك الحقائق الموجعة التي لا نريد أن نكاشف بها أنفسنا ويكفي أن صرخ قبيل النهاية: "هل هذه حياة هل هذا بيت؟".
_________________________
نشرت بجريدة العربي ــ 4 مارس 2002