الأربعاء، 21 يونيو 1995

سحابة في السماء.."ماله القمر حزين؟؟"





الإسم: إمام محمد عيسى

محل الميلاد: أبو النمرس – جيزة

تاريخ الميلاد: يوليو 1917

تاريخ الوفاة: الأربعاء 7/6/1995

مثل القبلة الأولى كان .. عفوياً وحارقاً وعفياً وخجولاً ومربكاً .. كان مثلها تماماً .. مشحوناً بوعود غامضة وأشواق مستحيلة وعذاب "منتظر" مقيم..

يصعد منصة قاعة جمال عبدالناصر بحزب التجمع مساء الأربعاء 23 يوليو 1985 تشتعل القاعة بالتصفيق، يشير لنا نحن "خضر القلوب" بعلامة النصر تطول قامته تصبح صفصاف تحط عليها قلوبنا تبارك أغانيه تمجد حنجرته ، تقدس أوتار عوده.


ينحني على العود يأخذه في تجويف صدره يسمعه دقات قلبه يطعمه دفء ضلوعه ، يصحو العود بين يديه، نسمع الأوتار وهي تتمزق خارجة عن كينونتها الأولى لتصبح شيئاً اسطورياً له حلاوة "رجوع الحق لصاحبه" ومرارات الفقد وأوجاعه.



لم تكن قلوبنا قد حطمت الرقم القياسي في حصد جوائز الهزائم المجانية اليومية ولم تكن أفواهنا قد سكنتها "مضغة" الصبار التي كتب علينا أن نظل نلوكها أبداً ، ولم تكن أعيننا قد انفتحت على مشهد مؤخرات الزعامات والأيدلوجيات والأفكار عارية من غير "لباس" ، كما لم تكن حبيباتنا قد هجرننا وإلى الأبد ، تصايحنا من كل جانب كلٌ يريد أغنية بعينها ، ارتفعت موسيقى عودة وجمح صوته "كانساً" عتمة "الفردية" وجامعاً الكل في ترنيمة واحدة منشداً دور يا كلام على كيفك دور

خلى بلدنا

تعوم فى النور

إرمي الكلمة في بطن الضلمة تحبل سلمى

وتولد نور

دور يا كلام على كيفك دور

ونكمل نحن باقي الأغنية بأصواتنا التي بحها الحماس

عم إمام عنده كلام ومسوح في بلاد الناس

من شوق نوله

يغزل قوله ويغني مرفوع الرأس



ويتدفق نهر الأغاني واحدة لفلسطين وثانية لبيروت وثالثة "لطهران الثورة" ودائماً وأبداً هناك مصر، يلتفت بكل قلبه ونور بصيرته يمجد بناتها، في الجامعة كن أو واقفات أمام دكاكين العطارة في الغورية والحسين يغني " لعبدالودود" موصياً اياه أن تظل نيران الثأر مشتعلة في قلبه.

ع اقولك وانت خابر كل القضية عاد

ولسة دم خيك

مشباش التراب حسك عينك

تزحزح يدك عن الزناد

وما كنا نسمح له أن يكف حتى يغني

كان جدي كبير السن وكان بيقولي كلام زى القرآن

الحق عجوز وقديم ويغر

لكن ما يموتش وله طلاب

والتار قنطار فوق كتف الحر

والصبر فى وقت البلوى عذاب

والعزم صديق فى الوقت المر

ولا غير العزم تلاقي صحاب

والأرض براح

وان داسها الذل تضيق بالناس

والخضرة تموت

ويعربد فيها البوم اجناس

ولا تبقى حياة

ولا يبقى نظام

ولا خطوة تسير الناس قدام ولا تعرف بكرة حيجي بايه

ولا تفهم معنى لأى كلام

لم نكن ننظر اليه أبداً بوصفه فناناً أو سياسياً لأنه ظل دائماً قائدنا نحو "سنة أولى سياسة" برفق تكشف لنا حنجرته ماوراء الستار نغني معه فنتيقن أن أمريكا ضعيفة وأن فيتنام قوية وأن الخيانة لن تكون يوماً وجهة نظر نصرخ معه.

احنا مين وهما مين

احنا قرنفل على ياسمين

احنا الحرب حطبها ونارها

واحنا الجيش اللى يحررها

واحنا الشهدا فى كل مدارها

منتصرين أو منكسرين

احنا مين وهما مين

احنا الفعلا البنايين

احنا السنة واحنا الفرض

احنا الناس بالطول والعرض

من عافيتنا تقوم الارض

وعرقنا يخضر بساتين

ثم جرت في النهر مياه كثيرة وما عاد أحد يدعو الشيخ إلى الحفلات والندوات التي كانت تقام في الأساس للإستمتاع إلى أغانيه أصبحت المعارضة علنية"فباخت" على حد وصف صلاح عيسى.. وسقطت الأحزاب في "النصفية العاهر" وأغاني الشيخ لا تدعو سوى للواحد الصحيح الشعب، الوطن الحق، الحرية.. ولم يعد في أيدينا نحن الذين كنا "خضر القلوب" إلا أن نفسح مكاناً لأغاني الشيخ في حجرة ذكرياتنا نستدعيها ونقول والله زمان.

وفي صباح الأربعاء 7 يونيو 1995 كنا وقد ضاقت قلوبنا نتجمع في نقابة الصحافيين نحاول صنع موقف يواجه طوفان قانون الإزدراء تعمل في داخلنا أغاني الشيخ تصرخ فينا.

الجدع جدع والجبان جبان

في هذا الهول أعلن الشيخ للمرة الأولى تخليه عنا رحل تاركاً أمانيه وأشواقه المستحيلة، وكأنه كان يوبخ قلوبنا برحيله المباغت عالماً أننا سنفتقده مثله مثل البدر في الليلة الظلماء عارفاً أننا لن نبكيه كما يجب فقد اختار يوم الهول يوم وداع وبرحيله اكتملت الدائرة ليصبح نهارنا جهنمياً وليلنا يشكو قمره من ملاحقة السحائب السود له لنغني مرة آخرى

سحابة فى السما

ماله القمر حزين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة الاحرار:الاربعاء 21 يونيو 1995