الخميس، 30 أبريل 2015

صورة الرسول






مظلوم والله رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، لقد أصبح فى أعيننا جميعا -المؤمنين به والمخالفين له- كأنه السماء، لا نستمتع بزُرقتها ما دامت زرقاء، نفتقدها فقط عندما يتغير لونها، كأنه البحر لا نفتقد نعومة موجاته إلا عندما يثور ويتوعد ويهدد، كلنا نتعاطى مع هذا الرسول الكريم بوصفه أمرا من أمور الطبيعة لا ننشغل به إلا عندما يمسه التغير ولو مسًّا لطيفًا.

عندما يمنّ الله علينا بنعم مثل نعم الإنصاف وسكينة النفس وتفتُّح العقل، سنرى جيدا بعين البصيرة المضيئة، معجزة من معجزات عظمته، أعنى معجزة يُتمه.

سنرى طفلا اسمه محمد (لم يكن الاسم شائعا فى زمنه الأول) هذا الطفل لن يرى أباه، مات الأب والطفل لا يزال جنينًا يتقلب فى بطن أمه، ثم عندما يُولد لا ينعم بحضن أمه إلا أقل القليل، يرحل مع مرضعته إلى البادية (وفق أعراف كانت سائدة فى ذلك الزمان) وعندما يعود صبيًّا تلوح من قسمات وجهه علامات الذكاء والنجابة، تموت أمه.. يشهد خروج روحها من جسدها.. يشهد دفنها فى صحراء شاسعة (الله وحده يعلم بدموعه الحبيبة الغالية، الله وحده يعلم بحرقة قلبه وارتجاف بدنه).

وعندما يأوى لحضن جده يرحل الجد!

أىّ يُتم هذا الذى ذاقه الطفل الحبيب؟

أىّ قلب كان قلبه؟

كيف لم يتفتت قلبه تحت وطأة كل هذا الفقد، كل هذا الهجر، كل هذا اليتم؟

أكان من حقه أن يصرخ بكل كيانه: يا وحدى، يا وحدتى، يا وحشتى، يا غربتى، يا يتمى؟

أكان من حقه أن يتشرد فى صحراء بلا ملامح حتى يتهرب من ذكريات لم يشبع منها؟

كان من حقه، ولكنه تنازل طائعا مختارا عنه، وصرخ فى ضمير العالم مذ كان العالم وإلى يوم النهاية: يا كلنا، يا جمعنا، يا حشدنا، كونوا بشرا من حب، ولا تكونوا قلوبًا من حجارة.

ثم يكبر الطفل ويصبح رجلا، ويمنّ الله عليه بنعمة الحب، يحب أمنا خديجة عليها السلام، يحبها بكل يتمه وغربته، يحبها فتصبح الأم والأخت والخالة والعمة والصديقة والزوجة وأم البنين والبنات، يحبها حتى إنه يشتاق إلى وقع خطواتها على الأرض.

ثم تباغته خديجة الطاهرة برحيل مبكر، تلحق بأبيه وأمه وجده وعمه، تلحق بكل أحبابه الذين لم يرتوِ من محبتهم.

وآه يا خديجة يا حبيبة يا طاهرة، يا من كنتِ له بعد الله المأوى والسند والملاذ، ترحلين فيتفجر اليتم مجددا وتبكيكِ أركان البيت الشريف.

حتى بناتك يا خديجة يلحقن بك، وحبيبك الذى كنت تضمينه بين جلدك وقميصك، يصلى عليهن صلاة الجنازة، الواحدة بعد الأخرى، ولا تواصل معه الرحلة سوى الزهراء عليها السلام.

والآن.. هل فتح الله لنا بابًا من أبواب الإنصاف لكى نتأمل حال رجل ابتلاه الله بكل ما فى اليتم من يتم؟

هل قسا قلبه؟

هل تحجرت مشاعره؟

هل أذلَّ يومًا رقاب العباد؟

أمامنا سيرته وبين أيدينا أدق تفاصيل حياته، ثم لن نجد سوى طيب العطر ونعومة الحرير.

يا سيدنا نحن لا نحتفل بك، فأنت عيدنا الدائم.

يا سيدنا نحن لا ندافع عنك، لأنك لست متهمًا.

يا سيدنا نحن نتقرب إلى الله بأن ننظر نظرة منصفة إلى سيرتك.


يا سيدنا طبتَ حيًّا وميتًا، عليك منا سلام الله ما دامت السماوات والأرض.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير بتاريخ 23 يناير 2015

الاثنين، 27 أبريل 2015

مبارك .. من يضحك أخيرًا سيضحك دائمًا

  






ما مصدر الفعل " طار " ؟ .
يقولون : طيران .

كذبوا ، المصدر هو طيار ، وأنا الطيار ، طرتُ بمعني سموتُ وعليتُ وأرتفعتُ وأرتقيتُ ، لا بذلك المعني السوقي البشع ، " فلان طار " يعني أصبح في وحشة العراء وقبضة الخلاء  ،  أنا مقيم يا أولاد الأفاعي ولن أطير أبدًا .

صباح أمس السبت الرابع من ابريل من عام يبدو طويلًا وثقيلًا يقولون إنه العام 2015 جاءتني الهليكوبتر لتنقلني  إلى أكاديمية الشرطة، حيث مقر إعادة محاكمتي  أمام محكمة جنايات القاهرة فى القضية المتعلقة باتهامهى وولديّ السيدين علاء وجمال  بارتكاب جريمة الاستيلاء على أكثر من 125 مليون جنيه من المخصصات المالية للقصور الرئاسية.

عجبًا لك يا زمن ، أنا أحاكم ، أنا متهم ، لن أدافع عن نفسي ، فأنا الطيار فوق الجميع وفوق السحاب ولن يلحقني من غباركم شيء ، أنا لامع ناصع وقد أمرتُ روحي بالأ تشيخ أبدًا، كل هذه السخافات من محاكمات واتهامات لا تهز شعرة من شعر رأسي ، لكن هناك سخافات لا أغفرها، أصارحكم بأنني لا أحب الهليوكوبتر ، ضئيلة ومزعجة ، ليس بها براح طارتي الرئاسية ، وليست بها خطورة الإف 16 ، كأنني مريض يصعدون بي إلي الهليكوبتر الوضيعة ، ما علينا ، من يضحك أخيرًا سيضحك دائمًا ،سأظل أضحك حتي النهايات البعيدة القصية ، سأضحك من عيال التحرير وأوهامهم ، هؤلاء البلهاء يظنونني شخص ، رجل ، آدمي ، لا يعرفون لتعاستهم أنني روح الأبد تسري في عروق هذا البلد كما يسرى الدسم في الحليب ، صعدوا بي إلي الهليكوبتر ، صوت محركاتها كطنين الذباب ، ما علينا ، النيل أسفل مني ، إنه نيلي أنا ، نظيف ومتسع ، موجاته ناعمة لينة ، شوارعي وسياراتي وأشجاري وناسي ، كلهم أسفل مني ، أراهم ولن ألوح لهم ، لا يستحقون هذا الشرف ، من هؤلاء الذين لا يغضبهم صعودي إلي الهليكوبتر ، لقد غسل عيال التحرير أدمغتهم وطمسوا بصائرهم بدعاياتهم الكذوب ، أنا الطيار  لص قصور ؟ هل كانت لكم قصور قبلي ، هل كنتم أنتم شيئًا مذكورًا قبلي ؟ .


لا أسعي وراء إجابتكم ، من أنتم حتي أشغل بكم فكري؟.
هبطوا بي من الهليكوبتر في فناء أكاديمية الشرطة ، التعساء لم تهز الأرض أقدامهم وهم يؤدون لي التحية العسكرية ، يتعاملون معي كانيي مواطن متهم في قضية سرقة ، لا موسيقي ولا نفير أبواق ولا عرق يلمع فوق جباههم وهم يرونني بشخصي أمر أمامهم .


حسنٌ ، وقسمًا بالقاذفات التي كنت أمتطي ظهرها سأجلس مرتاحًا في تكييف قاعة محاكمتكم ثم لن أكف عن الضحك ، سأضحك حتي تسقط الدموع من أعينكم أيها التعساء ، سأضحك منكم حتي تتفجر الدماء من أنوفكم وأفواهكم ، أنا روح الأبد وسره المكنون ،أنا الطيار وأنتم جميعُا أسفل مني .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير يوم 5 أبريل 2015

تعذيب الوحمة!







قبل أسبوع من الآن قام وفد من المجلس القومى لحقوق الإنسان، يضم جورج إسحق، ومحمد عبد القدوس، وصلاح سلام، وراجية عمران، نبيل شلبى، ومعتز فادى، وأحمد عبد الجيد، وأحمد نصر، بزيارة سجن أبو زعبل.


وبعد الزيارة التى لم تستغرق سوى نصف ساعة أصدر المجلس تقريرًا جاء فيه أن الوفد قد التقى أربعة سجناء لمناقشتهم حول بلاغاتهم التى تقدموا بها إلى النائب العام، وأن السجناء قد أكدوا عدة نقاط، منها أن إدارة السجن لا تطبق لائحة السجون الجديدة فى ما يتعلق بالزيارة ومدتها، والتريض ومدته وأماكنه، وأن إدارة السجن قامت بوضعهم فى غرف التأديب لفترات تتراوح ما بين أسبوع إلى أسبوعين، وفى ظروف غير إنسانية تمثلت فى عدم إمكانية قضاء حاجتهم، وقلة ورداءة الطعام المقدم، وتقديم مياه شرب غير صالحة للشرب، وعدم وجود تهوية.


ثم فحص أعضاء الوفد السجناء الأربعة، وتبين وجود آثار ضرب على أحدهم، وتبين للوفد خلال استماعه إلى الشهادات، خوف السجناء الشديد بعد تلقيهم تهديدات غير مباشرة من إدارة السجن إن هم تواصلوا مع وفد المجلس!


انتهى التقرير الذى قبل أن نناقشه سنعرض لرد الجهة المختصة، وهى وزارة الداخلية التى قال بلسانها اللواء أبو بكر عبد الكريم، مساعد وزير الداخلية لشؤون حقوق الإنسان، إن زيارة وفد حقوق الإنسان لسجن أبو زعبل جاءت بناء على طلب من محمد فايق، رئيس المجلس القومى لحقوق الإنسان، لتلقى عدة شكاوى من بعض النزلاء بتعرضهم للتعذيب من قبل بعض الضباط والأفراد بالسجن.


وأضاف أبو بكر أن أحد السجناء الذين تقدموا بالشكاوى الصحفى أحمد جمال زيادة، قد تم توقيع الكشف الطبى عليه من قبل طبيب السجن، وأن العمليات والآثار الموجودة على ظهره من المرجح أن تكون آثارًا «لوحمة» قديمة وليست نتيجة لتعرضه للتعذيب، مضيفًا: الطب الشرعى هو الفيصل فى هذه القضية.


عند هذه «الوحمة» يجب أن نتوقف ونبدأ فى قراءة الموال من أوله، موال الإهانة المتواصلة كأنها لعنة أبدية، هؤلاء القوم لم يتعلموا قط ولن يتعلموا أبدًا، يؤمنون أن الأمس واليوم والغد لهم بمفردهم لا شريك لهم ولا محاسب لهم ولا عقاب سيوقع عليهم، ما معنى أن يتعرض إنسان أى إنسان للتعذيب؟ أليس السجن ولو كان فى أرقى القصور عقابًا موجعًا ومؤلمًا؟

متى ستعرف الداخلية فضيلة التواضع أو حتى فضيلة «الكذب المنسق»؟


لقد حظى تقرير المجلس القومى لحقوق الإنسان بأقل قدر من التغطية الإعلامية، ولولا سطور من كاتب هنا وخبر بثه موقع هناك لمضى التقرير إلى مقبرة الصمت الأبدية!


هل نحن فى قرارة أنفسنا نرحب بتعذيب السجناء ولا نرى فى هذه الجريمة عملًا قذرًا تنهار به الأمم؟


هل يظن الإعلاميون والمهتمون بالشأن العام أن صمتهم عن إدانة جريمة التعذيب هو مجاملة مقبولة وعادية للحكومة؟


المجلس القومى قام بما يجب عليه القيام به، وأحال الواقعة كلها إلى مكتب النائب العام، ولكن ماذا سيفعل سيادة النائب العام وليس هناك أدنى اهتمام شعبى أو رسمى يضغط فى صالح توقف جريمة التعذيب توقفًا نهائيًّا بلا رجعة.



سمعت أحدهم يقول: «النبش فى هذا الموضوع سيصب فى صالح جماعة الإخوان». من الواضح أن أغلبية المصريين، وهى أغلبية معادية تمامًا لجماعة الإخوان، توافق على هذه الرؤية الوضيعة التى ستهدر أى مكسب لأى عمل وطنى يستهدف محو وصمة العار من فوق جباهنا جميعًا، نعم يجب أن يخنقنا العار، لأن سجينًا (أيًّا كانت تهمته) يتم تعذيبه، إن لم يتوقف التعذيب ويعاقب الذين يقترفونه، فنحن نسير بسرعة الصاروخ إلى هاوية بلا قرار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير في 8 أبريل 2015

الخميس، 23 أبريل 2015

مصر ليست السودان








قبل سنوات أهدانى الكاتب الصديق هشام أبو المكارم كتابًا من منشورات داره «أوراق»، كان الكتاب لأنور عوض، وهو كاتب ومؤرخ سودانى يقيم فى لندن، عنوان الكتاب كان «240 ماتوا وقوفًا»، قرأت الكتاب لأجد نفسى أمام كابوس لا تجد نظيره إلا فى هذه البقعة المسماة بالوطن العربى، الكتاب والكاتب ينبشان جرحًا لم يندمل ولن يندمل إلا بالعدل الكامل.

المكان: قرية جودة السودانية.

الزمان: منتصف الخمسينيات.

الحدث: خلاف بسيط وعارض بين أهل القرية من زارعى القطن والحكومة المركزية، تقوم الحكومة على أثره بحبس 240 من الفلاحين فى زنزانة واحدة، ولكى تضمن عدم هروبهم، فقد قامت الحكومة باتخاذ أقصى إجراء أمنى ممكن أيامها، جاءت ببلدوزر وسدت به باب الزنزانة.


النتيجة: مات الفلاحون جميعًا. النتيجة النهائية، تخثر هذا الكابوس فى القلب السودانى، دم الكابوس تجلط، دم الكابوس هيمن وسيطر، ولا شفاء.


بعد قراءتى الكتاب طمأنت نفسى بأن هذا الذى حدث بالسودان قبل أكثر من نصف القرن لا يمكن أن يحدث مثله فى مصر، خصوصًا وثورة يناير قد بشرت بنهاية الخوف والتعذيب وإهانة الإنسان تحت أى بند كان.

تخلصا من هذا الكابوس قلت: «مصر ليست السودان».


ثم جاءت جريدتنا «التحرير» لتنشر قصة إخبارية كتبها زميلنا محمد رشدى، وملخصها لمن لم يقرأها يقول: «إن المستشار تامر العربى، رئيس نيابة مصر القديمة، قد خاطب مستشفى قصر العينى بتشكيل لجنة من الأطباء، للكشف على الإصابات والأمراض التى يعانى منها المتهمون داخل محبسهم بقسم مصر القديمة، ولمعرفة هل تكدس عدد أكثر من 350 فردًا داخل ما يقرب من 7 حجرات، يؤدى إلى موت المحتجزين أم لا؟


كما أمرت النيابة بتشكيل لجنة أخرى من الطب الوقائى بوزارة الصحة، لمعاينة أماكن التهوية الموجودة داخل الحبس، وهل تلك الأماكن متوافرة أم لا؟

وفى نفس السياق كلفت النيابة الطب الشرعى بتشريح جثة المتهم ماجد.م، 33 سنة، عاطل، عقب وفاته فجأة داخل محبسه بقسم مصر القديمة، وكان المتهم دخل الحجز منذ 3 أيام على خلفية اتهامه بالشروع فى سرقة بطارية سيارة ملاكى.


وتأتى تلك القرارات بعد أن توفى سجينان فى يومين متتاليين فى القسم، حيث انتقل رئيس النيابة إلى غرفة الحجز، فى محاولة منه لمعرفة سبب وفاة المتهمين فجأة، بالإضافة إلى مناظرته جثة المتهم، والتى تبين منها عدم وجود شبهة جنائية، وأنه تُوفى نتيجة هبوط حاد فى الدورة الدموية».


انتهت قصة «التحرير»، ثم بالبحث عن مناطق جانبية فى هذا الكابوس، تبين أن النيابة قد تأكدت من أن حجز قسم مصر القديمة لا يستوعب أكثر من مئة وأربعين محتجزًا، ولكن الذين بيدهم الأمر والنهى وضعوا فى الحجز 350 محتجزًا!


هذا التكدس الذى هو أقرب للقتل البطىء منه لأى شىء آخر، جعل مرض «الجرب» ينتشر بين المحتجزين، ثم تدهور الوضع حتى وصل إلى موت اثنين من المحتجزين عاينت النيابة جثتيهما ولم تجد بهما علامات تعذيب.


لقد تعذبا بهذا التكدس الذى فاق ما حدث فى قرية جودة السودانية، هل بعد نقص الهواء الذى نتنفسه من عذاب؟


نعرف أن «الداخلية» فى مواجهة مفتوحة مع قوى الشر والإرهاب، ونحترم هذه المواجهة، ونقدر دور «الداخلية» فى تلك المواجهة المصيرية، لكن متى ستحترم «الداخلية» ظهيرها الشعبى؟


متى ستعرف «الداخلية» أنها لن تنتصر إلا باحترامها الكامل والتام لحقوق الإنسان، وبخاصة ذلك الإنسان الذى يكون فى قبضتها وتحت سيطرتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير في 21 أبريل 2015

الثلاثاء، 21 أبريل 2015

"أبريل" يقرأ الفاتحة على قبر صلاح جاهين







أبريل.. يا أبريل مد يديك المباركتين واخلع عن قلوبنا معاطف
 
كآبة الشتاء واكسو بحرير ربيعك عُرى الأشجار لتعود كما كانت وطنًا للخضرة والعصافير.

سيدي أبريل احمل على أجنحتك المباركة الربيع والعصافير والخضرة ولمعة عيون البنات ــ عندما تدهشهن "القبلة الأولى

ونسيم الليل وصبر المراكبية ومواويل النيل وألوان "بالونات" العيال في فرح شم النسيم.. احمل على أجنحتك المباركة كل ما في الكون من جمال واذهب إلى قبر صلاح جاهين واقرأ له الفاتحة إنه صلاح يا أبريل.. صلاح الذي كان يضحك فتنطلق فراشات البهجة لتزين وجه العالم، يبكي فتحس أن الضحك لم يقترب أبداً من شفتيه.

يمثل فلا تنسى الذاكرة مشهد احتضانه "لسعيد مهران" في فيلم "اللص والكلاب".
يؤمن بإنجازات عبدالناصر فيحول خشونة "الميثاق" إلي أغان مازالت تحيا وستظل، يكتب الليلة الكبيرة فتصبح نشيدًا قوميًا للسهرانين على مقهى الفيشاوي، يكتب الرباعيات "فيفلسف" الكون ونهرع نحن إليها لنصنع منها ضمادًا لجروح الروح والقلب معًا.

يكتب السيناريو فنصلب أنفسنا كل "شم نسيم" أمام التليفزيون لنري فيلمه "أميرة حبي أنا" ونغني مع السندريللا ــ رد الله غربتها ــ "بوسة ونغمض وياللا لما نبقى ملايكة بمبي" تشعر معه أنك مع صديق حميم وتؤكد لنفسك أنك لو قابلته في الشارع فلن تتردد وسترمي بنفسك في حضنه "الوسيع" وستحكي له عن البنت التي سهرتك الليالي وسرقت منك النوم وراحة البال.. وستكون واثقًا أنه لن "يشخط" فيك ويعاملك مثل "الكبار الوحشين" ويقول لك :" امشي يا واد العب بعيد" .

بالعكس سيأخذك معه إلى مكتبه بالأهرام وسيجبر خاطرك "برسماية" لك وللبنت التي سهرتك الليالي.
 
وآه يا عم صلاح كم نفتقدك، والله لولا شعرك ورسوماتك لخنق الحزن قلوبنا.

عم صلاح ليس لدينا ما نقوله لك سوى أننا انتظرنا "خبطك" على باب "الدستور" حاملاً رسومك هدية لنا نحن "عيالك" واثقون نحن من أنك لو عشت لكنت أول من يناصرنا.
بقى سؤال واحد أريدك أن تجيب عليه. أنت شاعر الربيع فكيف تجرأ أبريل وأخذك منا؟
ــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة الدستور ــ 23 أبريل 1997     

الاثنين، 20 أبريل 2015

على سبيل الاحتفال بعيد ميلاد الخال (2ـ 2)







سأحكي لكم حكاية توضح ما أريد قوله : حكاية محمود حسن إسماعيل مع النيل ".
قبل أن يسترسل الخال في قص الحكاية علينا ، قاطعه بلال سائلًا :" هل كانت بينك وبين محمود حسن إسماعيل علاقة شخصية ".

يبتسم الخال قبل أن يرد :" إنها ذات العلاقة التى تربطنا بالمتنبي مثلًا ، عندما كنت وأمل دنقل وباقي رفاقنا من شعراء وكُتاب الجنوب الصعيدي نقيم في قرانا البعيدة عن العاصمة ، كانت أشعار محمود حسن إسماعيل ضروريًا لنا كأنها رغيف العيش ، كنا نحبه هذا الحب الصافي وندرك كم هو فنان متوحد فريد ، عندما جئنا إلي القاهرة زرنا الأماكن التى ذكرها في شعره ، وبدأنا رحلتنا من نخيل منطقة الجزيرة ، ثم عرفت طريقي إلي مبني الإذاعة التى بدأت تذيع بعض الأغنيات التى كنت أكتبها ، وذات يوم قابلني فاروق شوشة فى ممر من ممرات الإذاعة قال لي والفرح المخلوط بالجدية يتراقص علي وجهه :" ابشر ، محمد حسن إسماعيل يريدك ".


لحظة لقائي بمحمود حسن إسماعيل كانت من ضمن اللحظات الفارقة فى حياتي ، إنه الشاعر الشهير الخطير ، يثني علي أغنياتي ويتحدث عن مذاقها الفريد وعن نكهتها الجديدة الطازجة ، ثم دعاني إلي كوب شاي ، أهي يا عيال  كوباية  الشاي دي أعتبرها أحد أرفع الأوسمة التي نلتها في حياتي ، بعد المقابلة سألني شوشة :" ماذا قال لك الشاعر ؟".قلت له :" لقد عزمني علي كوباية شاي ". ضحك قائلًا :" تمام ، لقد وصلت يا عم ، محمود حسن إسماعيل لا يقدم الشاي سوى لأحبابه ".


خفت أن يشرد بنا الكلام ونبتعد عن قصة النيل ومحمود حسن إسماعيل ، فسألت الخال :" هل نعود إلي أصل قصة الوطن والنيل ".

صاح :" ها كويس إنك لسه فاكر ، الأستاذ محمود وهو من هو معرفة بالوطن وناسه ، كان ينزل أسوان في بدايات بناء السد العالي ، طبعًا أنا مضروب بالسد ، ليست مسألة عشق شاعر لبناء حتى لو كان هذا البناء هو السد العالي ، الموضوع أكبر وأشد تعقيدًا من كل هذا الكلام ، السد هو هويتي الشخصية ، أنا إنسان هذا السد ، كأنه أبي وعائلتي وعزوتي ، عرفت بوجود الأستاذ في فندق يطل علي النيل مباشرة ، أخذت فلوكة ، ووصلت بها إلي تحت نافذته مباشرة ورحت أصيح آمحمود  ، يا محمود حسن إسماعيل ، لم يكن يمكنني الوصول إليه إلا بهذا الصياح ، هبط الرجل الخطير بقامته المديدة وسألني :" ماذا تريد مني يا أبنودي " قلت له سأعرفك على النيل ، رد علىّ قائلًا :" هل نسيت أنني صعيدي من أسيوط وأعرف النيل جيدًا ".


قلت له دعك من نيل القاهرة والمدن الكبرى ، بل دعك من نيل أسيوط ، هنا أصل النيل المصري ومنبع خيره ، هنا نيل ليس كمثله نيل ، لعبت الفكرة في رأس الأستاذ ، فركب معي مركبي الصغير ، يومًا بطوله وأنا أطوف به النيل ، قدمته للصخور وللأمواج وللعمق وللطول وللعرض وللشاطئ وللأشجار وللطمي ، قدمته لكل كائنات النيل ، في ختام اليوم الشاق تنهد الأستاذ في راحة ثم قال لي :" الآن أعرف مصر كأني لم أعرفها قط ".


صمت الخال لحظة ثم واصل قائلًا :" هذا يا عيال المعني الذي أريده من الحكاية ، الوطن هو ناسه وأرضه ، لابد من تعب ومكابدة لكي نعرف الوطن ، اعرفوا الناس وتعلموا منهم ، ليس بي أدني قدر من التعصب ولكنى أشهد أن ناس هذا الوطن هم خير الناس ، فقط ينتظرون فرصة الوصول إليهم والاهتمام بهم ، وساعتها سيحدث العناق العظيم بين ضوء الفكرة وحرارة  تطبيقها ، فاكرين قصيدتي " الدايرة المقطوعة " قلت فيها :" إذ مش نازلين للناس فبلاش " هذه هي القضية بكل وضوح ، الناس أولًا وأخيرًا ".


جاءت السيدة نهال  بدور شاي صعدي جديدة ، وجلست في مواجهة زوجها الذي نظر إلى قدميها وتمتم :" جزمتك حلوة قوى يا نهال ".
ضحكت وبلال ، بينما لم تسمع السيدة نهال جملة الخال فرجته أن يعيدها فرفض فهممتُ بأن أعيد عليها الجملة فأقسم ألا أفعل قائلًا :" شاعر كبير يغازل حبيبته ، فإن لم تشم الوردة  فلن نقدمها لها ثانية  ".

ضحكنا جميعًا ، ثم أقلقني ما قاله الخال عن الناس وعناء الوصول إليهم فسألته مباشرة :" كيف ترى ميدان التحرير والناس ؟ ".


رد مبتسمًا :" هل تخجل من السؤال المباشر عن رؤيتي لعلاقة شباب ونخب الثورة بالناس ، بل علاقة الثورة ذاتها بالناس ؟ ".

قال بلال :" لقد جئنا للسلام عليك ولا نريد إرهاقك في حوار سياسي ".

قال الخال :" انظروا إلي المسافة بينكم وبين الفلاحين مثلًا ثم تحدثوا عن الثورة ، قرب أو بعد المسافة يحدد نجاح الثورة أو فشلها ، أنا لا أحدثكم عن العشوائيات أو عن طلاب الجامعة أو عن المقاولين ، أحدثكم عن كتلة كبيرة متماسكة لها خبرات في الحياة والنضال والبناء ، مصر بمجملها هي ثمرة عرق الفلاحين ، عبد الناصر كان واعيًا لهذه النقطة فذهب إليها مباشرة ، من أول يوم لثورة يوليو ، كانت ترى خطورة الفلاحين ، وكانت تعرف إن الوصول إليهم هو نجاح أكيد لها ، تعرفون أن عبد الناصر قد اعتقلني ، المعتقل غير السجين ، السجين له حقوق ، واسمه مسجل في الدفاتر ، يعني لو مات أهله سيعرفون له قبرًا ، المعتقل هو بالأساس مختطف لدى جهة لا يعرفها ولا تعرفه ، مجرد رقم لا يدرى متى يعود إلي إنسانيته ، المهم بعد الإفراج عني ، عدت وأنا فى غاية التعب والتشاؤم إلي أبنود ، كنت أنشد شيئًا من الراحة والشفاء من ذكريات الاعتقال ، صباح يوم كنت أمر على أحد جسور أبنود ، كان الخال مش عارف مين ، غاطس في طين غيطه ، رأني أمشي منكسرًا فصاح :" يا رومان ، عبد الرحمان ، مالك يا وليدي ".

فقلت له بصوت مخنوق :" الراجل دا اللى اسمه جمال أبو عبد الناصر حبسني وتعبني ".

فصرخ الخال فلان في وجهي مستنكرًا :" عما تقول إيه ؟ الراجل دا ؟ ناصر حبيبنا بقي اسمه الراجل دا ؟ جرى لمخك إيه يا عبد الرحمان ؟

دا الرئيس جمال أبو عبد الناصر على سن ورمح ، دا الراجل اللى لبسني مركوب في رجلي ، دا الراجل اللى خلاني من الملاك ، وخلاني اشتري لباس دمور استر بيه نفسي ، دا الراجل اللى بيدني السماد والتقاوي ببلاش ، وبيشترى مني المحصول وبيدني تمنه فورى ، اعقل يا أستاذ ، ولو كان عندكم حاجة تقدروا تساعدوا بيها الراجل دا رحوا لغاية عنده وقدموها ليه ، وإن كان بينكم مشاكل ، أهي مصارين البطن بتتعارك ، اصطلحوا معاه وساعدوه علشان كلنا نهم وننهض مع بعض ".


يصمت الخال للحظة ويمسح بكفيه على وجهه كأنه يريح الوجه من عبء الذكريات ثم يقول :" صوت الخال فلان لم يفارقني من يومها ، وكلماته تسكنني ، لقد عرفت منها الكثير ، عرفت منها إن الشعار سيظل شعارًا ، ما لم ينزل إلي الأرض ويغرس جذوره فيها ، هل يعرفكم الفلاحون ؟ هل تعرفونهم ؟ هل ستظلون في التحرير إلي الأبد ؟ من سيصبر عليكم ؟ من سيساعدكم ، ميدان التحرير بكل ما فيه من نبل وحلم وشهامة ومروءة ، هو فكرة ، مجرد فكرة ، اخرجوا بفكرتكم إلي الناس ، كل الناس ، قدموا لهم الدليل على أنكم معهم ، عندما تصل الثورة إلي الفلاحين ، هم سيتولون أمرها ، سيحرسونها ويكبرونها ويقتلعون الحشائش الضارة التى ستتعلق بها ، سيفعلون معها مع يفعلونه مع غيطانهم ، ساعتها أبشروا بالنصر الكامل التام للثورة ، هذا لو كنتم تريدون الثورة بمعناها الحقيقي ، أما إن كان هدفكم إلقاء حجرة في بحيرة الصمت فقد فعلتم وزيادة ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير في 16 أبريل 2015

السبت، 18 أبريل 2015

السيدة بثينة الداعشية










أعرف «مدرسة فضل الحديثة» جيدًا، لأن ابنتى كانت تلميذة بها، المدرسة خاصة بمصاريف باهظة كالعادة، لا تقدم تعليمًا ولا أدبًا يساوى المصاريف التى يتكبدها أولياء أمور التلاميذ ولا تقدم فوضى التعليم الحكومى، هى باختصار تعمل وفق المنهج المصرى الخالد، أعنى «الفهلوة».

ومن المعروف أن «الفهلوة» المصرية تقوم أساسًا على إيهام الزبون بأن كل شىء تمام والأمور منضبطة والعملية التعليمية والتربوية تجرى على قدم وساق.

ظلت المدرسة تعلم تحت سمع وبصر المجتمع وفق المنهج المصرى لمدة تزيد على ربع قرن، ثم حدث صدام المجتمع والدولة مع جماعة الإخوان فتم إدراج المدرسة فى لائحة المدارس المتحفظ عليها بدعوى أنها تابعة بشكل أو بآخر للجماعة المحظورة.

 من ناحيتها لم تقف المدرسة مكتوفة اليدين، وطعنت على قرار التحفظ، ولا يزال الطعن ساريًا وكذا التحفظ، فى لمحة من لمحات ارتباك الإدارة المصرية المعروف عنها أنها تخترع مشكلة لكل حل وحلاً لكل مشكلة!

فجأة وكما فى أفلام حسن الإمام اكتشفت السيدة بثينة كشك، وهى تشغل منصب مدير المديرية التعليمية بالجيزة، أن مدرسة فضل إخوانية وإرهابية وأن مكتبتها تكتظ بكتب تدعو إلى الإرهاب والتطرف.

الاكتشاف المذهل الذى اكتشفته السيدة بثينة وصل إلى إدارة المدرسة التى حاولت توجيه ضربة استباقية لهذا الاكتشاف، فدعت وزارة التربية والتعليم إلى تشكيل لجنة تقوم بفحص المكتبة، وبالفعل تم تشكيل اللجنة التى أفادت بأن كتب مكتبة مدرسة فضل ليست إرهابية ولا متطرفة.

كان يجب أن ينتهى الأمر عند هذا الحد، ولكننا فى مصر أم الدنيا والعجائب يا صاحبى، لقد عز على السيدة بثينة كشك أن تنتهى المهزلة بهذه السرعة، ولذا فقد قامت سيادتها بجولة تفتيش مفاجئة على مكتبة المدرسة واستخرجت وفق علمها الفياض كتبًا ترى هى أنها متطرفة وإرهابية وتدعو إلى العنف.

الكتب الآن تحت قبضة المضبطة القضائية للسيدة بثينة وأمامها عدة خيارات للتعامل مع هذه الكتب الإرهابية:

الأول: تدعو لجنة علمية محايدة لفحص الكتب، فإن أقرت اللجنة أن الكتب إرهابية جاز للسيدة بثينة أن تعاقب المدرسة وفق ما فى لائحة الوزارة من عقوبات.

الثانى: أن تحصل لنفسها ولمنصبها على أعلى درجات الشو الإعلامى، وذلك بأن تأخذ عينات إرهابية من نخاع عظام الكتب وتلف بها على الفضائيات وتفضح المدرسة فضيحة لا تقوم بعدها لها قائمة.

الثالث: تصادر الكتب وتوبخ الإدارة أو تعاقبها وتزود المكتبة بكتب بديلة تشع رقيًّا وتحضرًا وإسلامًا وسطيًّا.

الرابع: تربت بحنان أُم على أكتاف الكتب وتهمس لها: «نامى نوم الأبد، فلا مكتبة هناك ولا تلاميذ يطالعون، والموقف كله عبث فى عبث».

السيدة بثينة المصابة على ما يبدو بإشعاع وطنى حاد وبحروق فكرية من الدرجة الأولى الفاخرة قررت تجاهل وركل كل هذه الاختيارات وقامت مع جماعة لا نعرف من هم بحمل أعلام جمهورية مصر العربية والتمركز بها فى فناء المدرسة، ثم جلب الكتب المغضوب عليها والمشكوك فى حسن سيرها وسلوكها وإشعال النيران بها، كهذا عيانًا بيانًا تحت عيون التلاميذ.

طيب، سيدة تربوية هذا هو مسلكها وهذا هو قرارها واختيارها الأول، كيف نتصرف معها؟ وكيف نطمئن على مستقبل وطن هى إحدى قياداته؟


هذا المسلك الداعشى بامتياز لن يصب إلا فى مصلحة جماعة حسن البنا، التى ملأت الأرض دموعًا على كتب الإسلام التى تحرقها سلطة الانقلاب، أى كلام أو نصح لن يجدى مع الداعشيين، فمرحبًا بالنار التى ستحرقنا جميعًا، فقد تطهرنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير يوم 14 ابريل 2015

الخميس، 16 أبريل 2015

على سبيل الاحتفال بعيد ميلاد الخال ( 1 ـ 2 )







الموضوع وما فيه أنني أريد مصافحة الأبنودي ، وسيعرف هو من المصافحة كم أحبه ، نقلت رغبتي تلك لبلال فضل ، الذي هرش لحيته ثم قال :” لو ذهبنا إلي الأبنودي غدًا فسنكون قد تأخرنا أسبوعين عن ذكري ميلاده الرابعة والسبعين ".

قاطعته قائلًا سنذهب لمجرد المصافحة التى ستقول عنا كل شيء .

دخلنا بيت الأبنودي في الإسماعيلية ظهيرة الثلاثاء 23 ابريل 2012 ، كان يعلم بقدومنا فجهز لنا كلبه الشرس وجعله يعوى ، خفنا ، فضحك قائلًا :” يا عيني علي الرجالة !!!”.

بعد السلامات والمشروبات وقف كأنه سيغادر مجلسنا ثم نظر إلينا وقال :” بمناسبة يوم الثلاثاء العظيم سأعيد تربيتكم من جديد ".

سألته عن سر عظمة الثلاثاء ، فقال :” لا أعرف ، ولكن أحس الثلاثاء عظيمًا هكذا في المطلق ".

باغتنا بأن رفع قميصه عن جسده فصرخت زوجه السيدة نهال كمال :” لا يا عبد الرحمن لا ".

فرد عليها بهدوء :” دعيني أعيد تربيتهم ".

ما تحت القميص كانت كرات مشتعلة الحمرة ، تلف صدر الرجل وظهره ، أغمضنا عيوننا ولكنه نهرنا قائلًا :” كنت أجرى في الدنيا مثل حصان ، لم ألتفت إلى صحتي ، وهذه هي النتيجة ، سيخدعونكم بكلام كثير عن حياة الفنان وعن انطلاقة الشاعر ، إياكم والتفريط في صحتكم لأي سبب كان ".


أسدل قميصه وهو يلهث من الغضب ثم قال :” لولا علاجات أوربا التي يرسلها لي أصدقائي ما استطعت القيام أو القعود ، هذا الحزام الذي يلفني هو حزام من نار يمنعني من مجرد التنفس ".


بلباقة غيّر بلال مجري الحديث متحدثًا عن جمال أشجار المانجو التى تحيط بالبيت ، تلقف الأبنودي خيط الكلام فقال :” ثمة أسطورة صنعها الصعايدة عن كون المانجو تنمو وتنضج وتحلو بتأثير ضوء القمر ، عن نفسي أصدق تلك الأسطورة وأروجها ، جميل أن تطيب المانجو بضوء القمر ، رشدي غني لي هذا المعني ".

ذكر اسم رشدي قاد الحديث بشكل تلقائي لكي يرسو علي شاطئ عبد الحليم حافظ ، قال الأبنودي :” نصف ما تسمعونه عن عبد الحليم هو مجرد أكاذيب والنصف الآخر حقائق ناقصة ومشوهة ".


واصل الخال :” الأغنية هي يقين عبد الحليم الوحيد ، حياته ومماته ، من أجلها يترك كل شيء ، من أجلها قد يقتل ويرتكب كافة الجرائم ، باختصار هي حبله الصري ، بدونها لا عيش ولا حياة ، باقي تفاصيل حياته هي مجرد تفاصيل لا تقدم ولا تؤخر ، الجهل بها لا يضر كما أن العلم بها لا ينفع ، علاقتي به شهدت خلافين حادين ، الأول يوم غني لي :” أنا كل ما أقول التوبة " لم يعجبني توزيعها وهاجمتها بشدة ، كنت أريد لحنًا يحافظ علي صعيدية الكلمات ، ثم هدأ الاختلاف عندما حدثني طويلًا عن الفرق بين الأغنية ونحن نعدها وبينها بعد أن يتم طرحها في السوق ، لحظة طرحها تصبح سلعة تفتح بيوت الآخرين ، ولا يجوز لأصحاب الأغنية التخلي عنها أو مهاجمتها ، اعترف أن هذا المعني وإن كان صادمًا للشاعر بداخلي لكنه كان من المعاني التي تستحق التأمل ، وبعد الصلح بيننا واعتماد كل منا علي صاحبه لكي نواجه معًا كارثة يونيو 1967 ، غني من كلماتي رومانسيات فيلم " أبي فوق الشجرة " كان جرح يونيو ينزف وكنت أرى أنه لا يليق الغناء الآن سوى للوطن ، الوطن وفقط ".



يصمت الخال قليلًا ثم يقول :” الوطن شيء جليل كأنه المطلق ، ولكن لن نعرفه إلا ضربت في أرضه شرقًا وغربًا ، شمالًا وجنوبًا ، وصاحبت ناسه ، سأحكي لكم حكاية توضح ما أريد قوله : حكاية محمود حسن إسماعيل مع النيل ".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر الحوار في العدد الأسبوعي من جريدة التحرير / الخميس 16 أبريل 2015 

الجزء الثاني من الحوار الاثنين القادم بإذن الله .