الخميس، 15 مارس 2018

محمد غنيم رجل الأحلام المستحيلة والنجاح المدوى




 
كان اليوم يوم جمعة وكانت أسرتى مجتمعة حول الراديو تستمع لبرنامج "على الناصية" قالت آمال فهمى صاحبة البرنامج فى مقدمته بلثغتها اللطيفة أن رجلًا اسمه محمد غنيم قد صنع شيئًا رفع به اسم مصر عاليًا.
كنت وقتها فى العاشرة من عمرى، الذى مكث فى ذاكرتى هو اسم محمد غنيم وتصفيق أخوتى وهتافهم: الله أكبر تحيا مصر.
فى العشرين من عمرى سأدمن قراءة جريدة الأهالى التى لم تكن تكف عن التنويه بذكر غنيم الذى سبق كل دول المنطقة حتى إسرائيل ذات نفسها وقام بزرع كلى لفلاحة من فلاحات مصر، وقد نجحت عمليته نجاحًا منقطع النظير وأصبح اسمه يتردد على كل لسان.
فى الثلاثين زارتنى صديقة من طبيبات المنصورة، وبعد السلامات والتحيات قالت بخجل: لا تنس الدعاء لى أن يقبلنى غنيم متدربة عنده !
سألتها: لهذه الدرجة الرجل صعب؟
قالت: هو لا يقبل شفاعة من أى نوع، إنه يريد العلم والعلم فقط، لو تدربت على يديه فسأصبح فى مكانة أحلم بها لنفسى.
فى أربعينى، دخلت مركزه لعلاج الكلى والمسالك البولية.
همست لى ممرضة: الرجل غنيم هذا هو أحد رجلين، وليّ من أولياء الله أو بسم الله الرحمن الرحيم ملبوس !
سألتها لماذا؟
نظرت إلى يمينها ثم إلى يسارها وقالت: هو يقص أظافر المريض، ثم يشرف على عملية غسله وكأنه تغسيل ميت، ثم يأتى له بملابس نظيفة، وبعد العلمية يزوره فى بيته فينظر إلى طعامه وشرابه، ولو وجد شيئًا يضر بصحته فمن الطبيعى جدًا أن يقلب بيت المريض فوق رؤوس ساكنيه.
انتهت الممرضة من همسها ثم ذهبت لشأنها، وتركتنى أظن أن كلامها يحمل شيئًا من مبالغات العوام التى ينسجونها حول المشاهير.
ثم عندما قابلت غنيم وجهًا لوجه تأكدت أنه ملبوس فعلًا، ملبوس بروح العلم وبلطف الرحمة الإلهية التى تتنزل على قلبه وقلوب فريقه فتجعلهم يواصلون العمل وكأن لهم عمر نوح وصبر أيوب، إنهم يعملون دائمًا وأبدًا ليرفعوا عن الأجساد العليلة وطأة الألم القاتل.

كنت قد جاوزت الخمسين عندما نشر النبيل محمد المخزنجى كتابه "السعادة فى مكان آخر"، وفى مقدمته شكر خاص للذين ساعدوه لو بنصيحة بسيطة لكى يتم كتابه، وكنت لحسن حظى من هؤلاء.
الكتاب هو ترجمة راقية أمينة دقيقة لسيرة محمد غنيم، اسمى وغنيم بين دفتى كتاب واحد، اللهم لك الحمد الذى يليق بجلال وجهك وعظيم سلطانك.

هذا كان عن معرفتى بغنيم، فكيف عرفه المخزنجى؟
كان المخزنجى طالبًا بطب المنصورة، شابًا متأجج اليسارية، يبدو وديعًا ولكنه وللحق "جن مصور" يلعب الجمباز ويقرأ أدب الروس ويكتب القصص القصيرة ويصاحب يوسف إدريس ويشارك فى كل مظاهرة، ثم هو يشرد كثيرًا وطويلًا، ويجد راحته فى الأماكن العجيبة.
كان المخزنجى طالب إعدادى الطب يجلس دائمًا فى محطة قطارات المنصورة حيث يعمل صديقه الأديب "أحمد حسنى"، حسنى هذا كان يتحمل نزق الشاب المخزنجى ويقدر شروده، وذات صباح كان المخزنجى يشرب شاى النافذة، وهو ذلك الكوب الذى يضعه على قاعدة نافذة المحطة ثم يرشفه على مهل متأملًا أحجار المحطة وبشرها.
فجأة قال حسنى للمخزنجى: "شايف الراجل دا؟ الأفندى اللى ماشى بالراحة جنب الفلاح اللى باينه تعبان؟ أكيد تعرفه، دا دكتور عندكم فى الكلية".
عندما وصلت أنا إلى هذا المشهد سمعتنى أصيح صيحة أخوتى القديمة: الله أكبر، تحيا مصر.
الدكتور كان غنيم ولا أحد غيره، الممرضة كانت محقة، غنيم ملبوس فعلًا.
يتذكر المخزنجى ذلك المشهد القديم بوضوح تام كأنه قد وقع أمس.
ترك المخزنجى نافذته الحبيبة وسار خلف غنيم وفلاحه المريض، سار متلصصًا، رأى غنيم وفلاحه يتجهان نحو محطة القطار، رأى غنيم وهو يقطع تذكرة سفر من ماله الخاص للفلاح، رأى غنيم وهو يساعد الفلاح على الصعود إلى عربة القطار المزدحمة، سمع غنيم وهو يداعب شابًا مفتول العضلات قائلًا: "قم، وخد أخوك مكانك."
سمع المخزنجى غنيم وهو يوصى المسافرين برعاية فلاحه المريض حتى يصل إلى بيته سالمًا.
أخيرًا رأى المخزنجى غنيم وهو يطيّر قبلة فى الهواء للشاب الذى ترك مقعده للفلاح.

تلك كانت بداية معرفة المخزنجى بغنيم وهى معرفة ستتواصل حتى يتوجها المخزنجى بكتابه "السعادة فى مكان آخر".
أشهد أن هذا الكتاب هو أهم وأجمل كتاب وقع بين يدى فى العشر سنوات الأخيرة، وأسأله تعالى ألا يصمد لعشر سنوات مقبلة، لأنى أعرف أن المخزنجى يفرح لخير الآخرين ونجاحهم ويتمنى لو تواصل التفوق المصرى فى كل مجال خاصة فى المجال المحبب إليه وهو مجال الكتابة.


مع ضربة البداية يزيح المخزنجى الستار عن حياة غنيم الشخصية.
غنيم بطوله المفرط ولونه القمحى ويديه العملاقتين ولكنته الخاصة وفصحاه الصافية، ليس فلاحًا ولا تربطه رابطة نسب أو دم بالمنصورة التى هى أحب بلاد الله إليه.
غنيم ابن العاصمة القاهرة، ولد فى بيت جده لأمه فى السابع عشر من مارس من العام ١٩٣٩ فى حى العباسية الشرقية عندما كانت الحدائق والقصور والبيوت الكبيرة هى ملامح الحى الرئيسية.
جد غنيم لأمه كان عميدًا لكلية الطب البيطرى، والد غنيم كان يحمل الدكتوراه فى تغذية الحيوانات من زيورخ بسويسرا، والدة غنيم كانت تحمل التوجيهية التى هى الثانوية العامة الآن.
أصدقاء غنيم فى المدرسة كان من بينهم طارق سليم الذى سيصبح نجم مصر والنادى الأهلى فى كرة القدم وأحمد فتحى الذى سيصبح المعمارى الشهير مصمم فندق شيراتون الجزيرة.
هكذا كانت مصر قبل سبعين عامًا فتأمل !
كان غنيم متفوقًا فى دراسته فحصل على التوجيهية فى ثلاث سنوات وليس أربعًا كما كان قانونها، مجموع درجات غنيم يفضح مافيا الدروس الخصوصية وتجارة العلم الزائف، غنيم بجلالة قدره حصل على ٧٩ ٪ فى الثانوية العامة، كانت درجاته ممتازة جدًا تكفى وزيادة لكى يلتحق بكلية الطب ولكى تفوز مصر بوحيد عصره وفريد زمانه.
كل نوابغ الأمة لم يحصلوا على تلك المجاميع الفلكية التى نسمع بها الآن والتى تجعل الريبة تتسلل إلى القلوب، كيف يحصل طالب علم على الدرجات النهائية فى كل العلوم ثم يكون جاهلًا بألف باء الحياة؟
فى العام ١٩٥٥ أصبح غنيم طالبًا بكلية الطب وعمره خمس عشرة سنة ونصف السنة !
كانت الجامعة تعج بالإضرابات والحيوية السياسية، كان يشاهد ولا يشارك فقد كان أصغر الجميع سنًا ووقته كله لتلقى العلم.
بعد مرور كل تلك السنوات يذكر غنيم للمخزنجى أسماء حشد من العلماء الذين تعلم على أيديهم، هذا الذكر يتجاوز خلق الوفاء ورد الجميل، لأن غنيم عندما يتذكر ويذكر ويشيد بأساتذته يستغرق فى سرد تفاصيل تبدو صغيرة ولكنها كانت من محاور تكوينه الاجتماعى والثقافى، فهو مثلا يتذكر أستاذه الذى علمه كيف يستمع ويستمتع بالموسيقى الكلاسيكية.
باختصار تبدو إشادة غنيم بأساتذته كأنها رسالة مشفرة، يرسلها للذين يرون مصر صغيرة ولن تكبر سوى على أيديهم هم.
غنيم يؤكد أن مصر ولدت كبيرة ولدت رائدة ولدت عملاقة ولن تقزمها مزاعم بعضهم.

من مدرجات الجامعة ذهب غنيم إلى مستشفى قصر العينى، وهناك ثار ثورة عارمة اعتراضًا على موقف رأى فيه إهمالًا فى علاج مريض، فتقدم فريق التمريض بشكوى ضده، فجرى خصم ثلاثة أيام من راتبه، ذلك الخصم التافه كان سببًا فى عدم تعيين غنيم فى قصر العينى، ولحسن حظنا أنه لم يعين هناك.
ذهب غنيم إلى مستشفى بنها العام أنا لا أعرف سر ولع هذا الرجل ابن الذوات والعاصمة بأماكن البسطاء والمهمشين فى بنها تعرف على مدير المستشفى الذى أحبه ووثق به وأتاح له فرصة طيبة للعمل.
عندما أعلنت جامعة المنصورة وكانت فى مهدها عن حاجتها لمعيدين تقدم غنيم وفاز بالوظيفة ليدخل إلى المنصورة ثم لن يغادرها أبدًا.
الرجل الذى طاف أرجاء الكرة الأرضية يؤكد أكثر من مرة للمخزنجى أن المنصورة هى أجمل بلدان الدنيا.
حصل غنيم على درجة الدكتوراه من جامعة القاهرة، وعندما عاد للمنصورة ليواصل عمله وقعت كارثة الخامس من يوينو.

سافر الشاب الطموح إلى بريطانيا وهناك سيكتشف "التمريض الإنسانى".
إنه ذلك التمريض الذى جعل الممرضة المصرية تقول لى إن الرجل ملبوس.
فى بريطانيا شاهد غنيم الممرضة وهى تقص أظافر المريض وتقوم بغسله وتضحكه.
تلك التقاليد سينقلها غنيم لمركزه فى المنصورة ولن يتنازل عنها.
فى بريطانيا سيعمل غنيم بجدية تليق بطموحه، الإنجليز الذين هم الإنجليز، كانوا يقدرون جدًا شهادة جامعة القاهرة التى حصل غنيم على الدكتوراه منها، كانت لجامعة القاهرة سمعة طيبة !
يقول غنيم للمخزنجى: بعد رحلة بريطانيا أردت الذهاب إلى أمريكا لكى أكمل بعض الجوانب الناقصة فى تدريبى، مررت بامتحان كان من السهل بالنسبة لى اجتيازه، فقد كان مستوى العلم فى مصر قريبًا من المستوى العالمى، ولا أعرف أحدًا من المصريين فشل فى عبور ذلك الامتحان !

هل قرأنا الجملة السابقة جيدًا؟

سيتابع غنيم نصر أكتوبر وهو فى قلب أمريكا وسيقشعر جسده وهو يرى الصدمة الأمريكية للنصر المصرى.
نهل غنيم من علوم الغرب ثم عاد إلى حبيبته المنصورة، نتحدث عن المنصورة قبل أربعين عامًا.


نحن الآن فى عام ١٩٧٥ رأى غنيم زملائه وهو يبذلون كل جهدهم لغسيل الكلى بجهاز قديم عتيق تجاوزه العلم.
أحد الزملاء كان الدكتور صلاح الحمادى الذى قال: لماذا لا نجرى عملية نقل كلى؟
من جهاز عتيق تجاوزه العلم إلى نقل كلى، الأمر يبدو مثل قفزة فى الفراغ، ولكن الدكتور غنيم وفريقه من العظماء فعلوها، هذه هى مصر المتحدية القادرة المستطيعة عندما تريد وتقرر، بعد أن تدفع ضريبة العلم وثمن التفوق.

جاء العام ١٩٧٦ عام سماعى لأول مرة باسم غنيم، هذا عام استثنائى فى حياة غنيم، هو يقول للمخزنجى: شهد العام فترات من السعادة الطارئة، لقد نجحت عملية نقل الكلى ناجحًا باهرًا، وفاز فريق المنصورة على الأهلى بهدفين نظيفين سجلهما أحمد شاكر ومحمد البابلى وولد ابنى الأول.

هل رأينا مفهوم السعادة عند غنيم؟

العالم الشاب وفريقه يعرفون فقر الجامعات المصرية، راحوا يراسلون دول العالم لكى تتبنى أحلامهم ماديًا، لم يلتفت إليهم أحد سوى هولندا التى سيكون دعمها السخى الإنسانى هو الحجر الأول والمهم فى بناء صرح مركز غنيم الذى سيصبح بعد قليل مركزًا عالميًا يتدرب به الأجانب، نعم الخواجات رأيتهم أنا بعينيّ رأسى يقفون بشقرتهم أمام الدكتور "صبح" أحد أنجب فريق غنيم يستمعون لشرحه ويمطرونه بأسئلتهم وهو يجيب فى محبة.

أقرأ كتاب المخزنجى وأقول: غنيم مصرى عربى مسلم أفريقى، الجين المصرى ليس "مضروبًا" كما يشيع عبيد الاحتلال الذين يحتقرون ذواتهم ولا يرون فى هذا الشعب الطيب الصابر المقاوم المحتسب سوى حفنة من الحثالة الذين يجمعهم المزمار وتفرقهم العصا.
غنيم الذى ولد فى العباسية الشرقية وكان بيت ولده فى شارع مراد سيغزو وفريقه العالم، سيحاضر فى أعظم جامعات الكون وسيتحدى ويربح الرهان دائمًا، غنيم لا يصنع شيئًا سوى الإخلاص لأحلامه التى كانت تبدو مستحيلة ولكنه حققها وزيادة.

عندما كان غنيم فى الثامنة والثلاثين من عمره كان قد أصبح أيقونة طب المسالك، سمع به السادات الذى كان بطل الحرب والسلام، زار السادات الجناح الذى يعمل غنيم به وأسعده ما وقعت عيناه عليه، قال السادات بلهجته الفخمة لسكرتيره: غنيم سيصبح المستشار الطبى لرئيس الجمهورية.
هل فرح غنيم؟ لا، بل جن جنونه، هو لا يريد أن يصرفه شىء عن متابعة عملياته التى ستصبح رائدة.
ثم هو يريد معرفة حقوق وواجبات هذا المنصب العجيب، قرر المبادرة بالجلوس مع سيادة رئيس الجمهورية لكى يستوضح منه حقيقة الأمر.
جلس غنيم مع السادات، ثم طلب من السادات أن يسمح له بالتدخين فسمح الرئيس، هنا سيقول غنيم للمخزنجى: هل الطلب كان حماقة شاب.
بعد التدخين شرح غنيم الأمر فقاطعه السادات ببساطة قائلًا: "يا ابنى أنا مش محتاج دكاترة، أنا عايز أساعدك، لما تعمل كارت وتكتب عليه المستشار الطبى لرئيس الجمهورية سيفتح لك هذا الكارت الأبواب ولن يقف أحد فى وجهك".
فى هذه كان السادات فلاحًا مصريًا مخلصًا وعارفًا بكوارث دهاليز البيروقراطية المصرية.
بطاقة السادات فتحت الأبواب لغنيم، إنه مستشار الرئاسة فمن ذا الذى سيرفض طلبا له؟

ليس غنيم هو "الملبوس" بمفرده "من الواضح كما تقصى المخزنجى الأمر أن عائلة الرجل كلها هم جماعة من الملبوسين، قرر غنيم منذ البدء أن يصبح راهبًا فى محراب العلم، معه بطاقة رئاسية يستغلها فقط فى رعاية مركز صحى وليد، معه شهرة عالمية وعلم عالمى ولكنه يقرر عدم فتح عيادة خاصة !"
أتذكّر أنا الآن فؤاد المهندس عليه رحمة الله وهو يؤدى شخصية الطبيب فى فيلم أيوب، يسأله بطل الفيلم عمر الشريف: "أنت مفتحتش عيادة ليه مع إنك طبيب شاطر"؟
يجيب المهندس بطريقته اللطيفة: "شوف يا صديقى، الدكتور زى القاضى، عمرك شفت قاضى عامل محكمة قطاع خاص وبيحكم على الناس بعد الضهر"؟
غنيم لديه هذا الخاطر، التفرغ للبحث العلمى وعلاج الفقراء يتعارض لديه مع الطموح الشخصى المالى أساسًا.

والد غنيم أستاذ علم تغذية الحيوانات سيشجعه على التفرغ للجامعة ولعلاج الفقراء مجانًا وسيتحمل الوالد الكريم المحب الواعى الفارق بين مصروفات غنيم وبين راتبه الجامعى المتواضع، حقًا هى عائلة ملبوسة بحب العلم والعمل الجاد.
غنيم ابن الذوات المصرى وزوجته صاحبة الخجل المحبب ابنة الإنجليز، لا يريدان المليارات التى كان غنيم يستطيع حصدها فى سنوات قلائل، هما معًا يريدان السعادة التى تعنى التخفف من أعباء الدنيا والتحقق فى مكان آخر غير عد الفلوس.

العرب والعجم سيقفون مع حلم غنيم، مصرى معطاء يرفض ذكر اسمه قدم الملايين لغنيم لكى يقيم فرعًا لمركزه العالمى فى قرية "منية سمنود". 
غنيم يقول للمخزنجى: إن ذلك الثرى المصرى مثقف من طراز رفيع، لعله أهم دارس لتاريخ مصر المعاصر.
لم يفصح غنيم عن شخصية المتبرع الذى أراد البقاء فى الظل، ولكن المخزنجى يجرى الفضول الصحفى فى دمه، لقد عرف الرجل ولكن لم يذكر اسمه احتراما لشرطه، وعندما جلست أنا مع المخرنجى خجلت من أن أطلب منه الكشف لى عن اسم الرجل، فأين ذهب فضولى الصحفى؟
قائمة الأسخياء الواعين تشمل أميرا سعوديا تبرع بوحدة كاملة التجهيزات لمركز غنيم، وحدة تضم أرقى ما توصل إليه العلم من أجهزة.
ومع الأمير تقف دولة الإمارات العربية المتحدة، ثم يأتى الدعم الأوروبى والعالمى وعلى رأس مقدمى الدعم شخصية عجيبة تصلح لأن تكون رواية قائمة بذاتها، أعنى شخصية الطبيب السويدى "نيلز كوك"، كوك هذا كان قد اخترع كيسًا أصبح يحمل اسمه، الكيس هو بمثابة مثانة بديلة من الأمعاء للذين أصابهم السرطان فى تلك المنطقة ذات الحساسية الخاصة، ثم جاء غنيم وفريقه وطوروا الكيس فأصبح شيئًا إنسانيًا وأصبح المريض يستطيع التبول عبر المجرى الطبيعى وكأنه لم يصب بكارثة السرطان.
كوك سيصبح صديقًا لغنيم وسيدعمه قدر ما يستطيع، وما أعذب تلك الفقرات التى يتحدث فيها غنيم عن كوك وما أجمل المخزنجى وهو ينقلها بأسلوبه الشعرى الرائق.
كوك سيقدم الفيزا الخاصة به لغنيم لكى يسافر بها لحضور المؤتمرات والندوات ويطوف العالم !
كوك سأل غنيم: لماذا لا تسافر كثيرًا؟
رد غنيم: ليس فى ميزانية الجامعة ما يسمح لى بالسفر الكثير.
ببساطة قدم كوك الفيزا الخاصة به لغنيم.
غنيم أخذ الفيزا شاكرًا وكان يسافر على الدرجة الاقتصادية وليس السياحية وكان يقتر على نفسه، فكان كوك يطالبه بأن ينفق كما يشاء، ولكنه غنيم الذى وجد سعادته فى مكان آخر غير الهوس بالفلوس والشهرة، وعندما مرت السنوات ورد غنيم الفيزا لصاحبه، وجد كوك أن أربعين ألف دولار لا تزال فى رصيد الفيزا فتبرع بها لفرع "منية سمنود".

ما كتبته ليس عرضًا لكتاب هو عصيّ على العرض، لأنه كتاب أحلام مستحيلة حققها مصرى يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق ويشارك فى المظاهرات ويشارك فى صياغة دستور ٢٠١٤ ويدخن كثيرًا ويتابع كرة القدم ويتعصب لفريق المنصورة ويجيد الغوص وهو فى الثمانين من عمره ويعيش هادئًا فى شقة بسيطة.
تبقى كلمة لعلها تجد مستمعا، دار الشروق مشكورة قامت بواجبها ونشرت الكتاب فى أجمل صورة ممكنة، فهل تتكرم الدولة وتدعم كتاب الأحلام هذا؟
لو كان لى من الأمر شىء لأمرت فورًا بتوزيع الكتاب على مكتبات المدارس والجامعات والنوادى والنقابات، نحن أمام كتاب استثنائى، يصلح أساسًا متينًا لنهضة لابد وأن نذهب إليها قبل أن تقبرنا مشاعر العجز ويذلنا عبيد الاحتلال الذين لا يرون فينا إلا حفنة من حثالة البشرية.

الكتاب يعلمنا المعلومة الأساسية التى تقوم الحضارات عليها، من زرع حصد ومن جد وجد، فهل من مستمع؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر بجريدة "صوت الأمه" بتاريخ  10/3/2017


الخميس، 8 مارس 2018

وديع فلسطين.. راعى النجوم وحاصد الظل





من عجائب الأقدار فى بلد قدرى بطبعه مثل بلدنا مصر، أن أحدهم يقدم نور عينيه للبلد، فلا يحصد إلا التجاهل والإنكار، بل الجفوة الغامضة التى لا تقوم على سبب من علم أو منطق، ثم تأتى ريح غامضة أيضًا فتدفع باسم هذا الذى تنكر له قومه إلى مصاف النجوم!
وهذا ما كان من أمر الكاتب الكبير الأستاذ وديع فلسطين غارس الأشجار وراعى الورد الذى بقرار غامض فرضوا عليه الظل المعتم فرضًا.
فجأة وفى أقل من شهر أصبح الأستاذ فى مرتين متتاليتين من نجوم برامج الفضائيات المسائية.
كانت المرة الأولى عندما حرمته المعاشات من راتب معاشه لأن الموظف أراد التأكد من وجود الأستاذ وديع على قيد الحياة، فأجبره وهو الذى على مشارف المائة من الحضور بشخصه إلى مقر المعاشات، وعندما استنكر الذين فى قلوبهم رحمة هذا التصرف، سارعت السيدة الوزيرة بجبر خاطر الأستاذ وديع وتلاميذه، واعتذرت له على ذلك التصرف غير اللائق، وصرفت له معاشه الذى هو بعض حقه، وأهدته علبة تمر فاخرة.
شكرنا جميعا لطف تصرف الوزيرة، وقلنا ها قد عاد الرجل إلى ركنه الهادئ بعيدا عن توحش الذين ينغصون على الشيوخ شيخوختهم، ولكن الريح الغامضة كان لها قرار آخر.
قبل أيام هاجم لصوص منزل الأستاذ وديع وانهالوا على شيخوخته ضربا ولطما، وعبثوا بمحتويات منزله، وسرقوا عدة ساعات يد وقرابة العشرة آلاف جنيه ثم تركوه يئن تحت وطأة القيود التى قيدوه بها (لاحظ أننى أكتب عن رجل دون المائة بسنوات قليلة!) وكما هبطوا رحلوا.
كان هذا العدوان الشنيع سيمضى كما يمضى غيره، غير أن السيدة "وردة" التى تتولى رعاية الأستاذ وديع عندما جاءته صباحًا كما تفعل كل يوم ورأته فى قيوده سارعت بالاتصال بالكاتبة الكبيرة الأستاذة صافى ناز كاظم التى تتحمل منذ سنوات منفردة عبء التنويه بفضائل الأستاذ وديع، نشرت الأستاذة صافى ناز استغاثة عبر حسابها على الفيس بوك، أسفرت عن تدخل الأمن والإسعاف لنقل الشيخ الجليل إلى المستشفى.
قام الأمن فى إجراء روتينى بالتحفظ على السيدة "وردة" ثم عندما مثلت أمام معالى النائب العام عاملها الرجل بلطف وجبر خاطرها بطيب الكلام وصرفها لأنها ليست متهمة بأدنى مخالفة.
كان الأمر سيذهب إلى جهته الصحيحة بوصف العدوان جريمة جناية لولا ما صرح به الكاتب الأستاذ لويس جريس، الذى قال ما ملخصه: إن العدوان دبرته قوى سياسية لأن الأستاذ وديع كان يكتب كتابًا بعنوان إخوان الشياطين وفيه كشف لعلاقته بجماعة الإخوان!

ذلك التصريح العجيب سنرد عليه فى قادم السطور، أما الآن فسنطل على حياة الأستاذ وديع وعلى آثاره التى ستبقى بعده مصدرا طيبا لمن أراد التعرف على أدب العرب وفكرهم.
ولد الأستاذ وديع فى العام 1923 فى مركز أخميم بمحافظة سوهاج لأسرة مسيحية مصرية (الرجل ليس شاميا كما يشيع البعض عن جهل أو كذب متعمد) بعد مراحل التعليم المعتادة، حصل على بكالوريوس الصحافة من الجامعة الأمريكية بالقاهرة.
 وعن حياته الشخصية كتبت الأستاذة صافى ناز كاظم: يعيش وديع فلسطين وديعا فى بيته العريق الباقى من بيوت شارع العروبة الجميلة بضاحية مصر الجديدة، له برنامجه المنتظم المنظم، يُرسل ويتلقى مراسلاته التى لا تزال تجوب أقطار الكرة الأرضية يلتقى بها مع أصدقائه وتلاميذه الموزعين فى كل مكـان، ومن بينهم ابنه باسل فلسطين المهاجر منذ سنوات، حيث يعمل فى محطة التليفزيون الكندى ويمارس هوايته الموسيقية عزفا وتأليفا، يتحمل رحيل زوجته الوفية، منذ سنوات، ويبقى تؤنسه ابنته هناء المتزوجة والمتخصصة فى علـم النفس وأحفاده الأربعة: ولد واحد، وثلاث بنات. يذكر أحيانا عفو الخاطر كلمة عن أشقائه؛ فقد أنجب والده عشرة أبناء: نصفهم ذكور، والآخر إناث، لا أعرف ترتيبه بينهم، لكننى أذكر أسفا خفيفا يلمّح به أحيانا يخص به شقيقه المثَّال لويس فلسطين الذى عاش مغتربا فى إسبانيا حتى وفاته عام 1992. 
هذا عن حياته الشخصية، أما عن حياته العملية فهو رجل صاحب موهبة متفجرة جعلت قلمه يتألق على صفحات صحيفتى "المقتطف" و"المقطم" وكانت تلك الفترة الممتدة من العام 1945 إلى العام 1952 من أزهى مراحله الصحفية، فقد تولى رئاسة القسم الخارجى بالمقطم، وكان يتولى كتابة افتتاحية الجريدة، ثم مع ثورة يوليو جرى إغلاق الجريدة، ولكن الأستاذ وديع كان قد عرف طريقه لتأليف الكتب.
يقول موقع "المعرفة": كتب وديع وترجم أكثر من أربعين كتابا فى الأدب والاقتصاد والسياسة وعلوم الصحافة التى قام بتدريسها فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة على مدى عشر سنوات بين عامى 1948 و1957. ولعل أهم كتبه الأدبية الكتاب الصادر عام 2003 والمعنون "وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره"، وهو فى جزئين، يسجل فيهما علاقاته بنحو مئة من الأعلام فى مصر والبلاد العربية وبلاد المهجر.
 وشارك فى إخراج عدد من الموسوعات منها الموسوعة العربية الميسرة، و"موسوعة الأقباط" باللغة الإنجليزية الصادرة فى ثمانية أجزاء عن جامعة يوتاه فى الولايات المتحدة الأمريكية، و"موسوعة أعلام مصر والعالم"، و"موسوعة من تراث القبط."

كان وديع فلسطين كبير المترجمين أمام محكمة دولية خلال بتّها فى خلاف نفطى كانت أرامكو طرفا فيه، وقد لاحظ المسئولون فى الشركة كفاءة هذا المترجم، وفور انتهاء عملية التحكيم، عرضوا عليه العمل مديرا للعلاقات العامة فى مكتب الشركة فى القاهرة، فوافق على الفور، وكان ذلك فى عام 1956، ليبدأ مشواره مع مجلة "القافلة" ابنة الثلاث سنوات آنذاك.
لعب وديع فلسطين دورا مهما فى تطوير القافلة خلال سنوات قليلة من نشرة توعوية وتوجيهية، كما كانت فى أعدادها الأولى، إلى منبر لمع فى عالم الثقافة على امتداد الوطن العربى بأسره، فبحكم موقعه فى القاهرة، عهدت إليه إدارة المجلة استكتاب كبار الأدباء والكتّاب المصريين. وبالفعل راح فلسطين يستكتب أشهر الأسماء فى عالم الأدب والثقافة، لم يكن عبّاس محمود العقاد إلا واحدا منها، فكان المبلغ الذى يتقاضاه العقاد نظير المقال الواحد 50 جنيها مصريا، وهو مبلغ كبير بمقاييس الخمسينيات من القرن الماضى.
وشارك وديع فلسطين فى عدد كبير من الهيئات والجمعيات الأدبية، فأنشأ مع الشاعر الدكتور إبراهيم ناجى "رابطة الأدباء" وتوالى انتخابه نائبا لرئيسها حتى توقفها عام 1952، وكان عضوا مؤسسا فى رابطة "الأدب الحديث"، وهو عضو فى اتحاد الكتّاب المصريين منذ عام 1981، وعضو فى نقابة الصحفيين المصريين منذ عام 1951، وعضو لجنة تنسيق الترجمات التابعة للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم الملحقة فى الجامعة العربية، بالإضافة إلى عضويته فى الهيئة الاستشارية لمجلة "الضاد" فى حلب.

وينهى الموقع تقريره الممتاز عن الأستاذ وديع بالتأكيد على أنه قد جرى انتخابه عضوا فى مجمعى اللغة العربية فى كل من سوريا 1986 والأردن 1988. وتحت عنوان "وديع فلسطين.. وطن من أوطانى الثقافية"، كتبت الأستاذة صافى ناز كاظم: غمرنى بكرم عطاياه بكل ما طلبت من كتبـه ومن مقالاته ودراساته، أجمعها فى حيز وحدها بمكتبى من أهمها كتابه: "قضايا الفكر فى الأدب المعاصـر"، وعلى ظهر الغلاف نقرأ حكمته: "فليختلف الأدباء على المذاهب الأدبية المتباينة، وليتناحروا على المعايير، وليتضاربوا إذا شاءوا على إمارة الشعر أو إمامة الأدب، ولكن حذارِ أن يضحوا بهذه القِنْيَة الغالية قِنية الحرية الفكرية وهم يتلاحوْن ويتنابذون". 
ثم كتابه "مختارات من الشعر العربى المعاصر، وكلام فى الشعر" الذى أصدره مركز الأهرام للترجمة والنشر عام 1995.

تعجبنى "عنايته" بفن "الكتابة"، تلك العناية التى وإن كانت وسيلة لتوصيل قوله فقد صارت بذاتها غاية فنية، ونزهة إمتاع للقارئ، تجلت فى موسوعته، "وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره"، التى صدرت فى مجلدين فاخرين عن دار القلم بدمشق، 2003، والتى تضم فى مجملها 93 شخصية بين شاعر وقاص وناقد من كل أنحاء الوطن العربى، بل من كل أركان العالم أينما كان بها كاتب باللغة العربية، أعاد لنا أستاذى وديع فلسطين بها زهوة "فن التراجم" الذى كاد يختفى من ساحتنا الأدبية.
من جملة من تحدث عنهم: "على الغاياتى: المصرى السويسرى"، و"إبراهيم المصرى: القصاص الذى ابتلعته الصحافة"، و"أبو على جورج خير الله"، و"الشاعر المهجرى: جورج صيدح"، و"أشياء من سيرة بشر فارس رائد الرمزية المجهول فى الشعـر العربى الحديث"، و"عبدالله يوركى حلاق الحلبى"، و"على أحمد باكثير: اليمنى المتمصر"، و"خليل مطران وصديقه يوسف نحّاس"، غير أن لوحته الرائعة عن وداد سـكاكينى التى لم تتعد 14 صفحة من مجلة "بناة الأجيال" الدمشقيـة، وتم نشرها فى يناير 1995 تحت عنوان "وداد سكاكينى فى حياتها وآثارها"، تُعد من الدراسات التى تعطيك بصفحاتها المحدودة متعة وثـراء كتاب ضخم.. انتهى الاقتباس من مقال الأستاذة صافى ناز التى وفرت علينا مشقة الرد على ذلك الذى زعم أن وديع كان أستاذا لنجيب محفوظ!

للعلم الأستاذ محفوظ رحمه الله ولد فى العام 1911 يعنى أسّن من وديع بـ١٢ سنة كاملة، عن وديع تنقل الكاتبة الكبيرة ما ملخصه: فى عام 1943 تأسست لجنة النشر للجامعيين، ونشرت رواية "رادوبيس" للأستاذ محفوظ، وقد كتب عنها وديع "وفى اعتقادى أن هذه الرواية تستطيع أن تُزاحم روايات الغرب إذا هى وجدت من يُعنى بتـرجمتها إلى لُغات الأعاجم".
مقال وديع عن محفوظ كان إشادة مبكرة جدًا بمحفوظ، ونبوءة بما سيحققه فى قادم أيامه .

نعود إلى الضجة التى أثارها تصريح الأستاذ لويس جريس.
أولا: التصريح لا أساس له من الصحة لأن الأستاذ وديع لم يعد يكتب منذ سنتين على الأقل، فقد ضعف بصره ضعفا شديدا يحول بينه وبين القراءة والكتابة.
ثانيا: العارف بأسلوب وديع لن يقبل أن ينسب إليه أحد تعبير مثل "إخوان الشياطين" فتلك الجملة لا تصدر عن وديع فلسطين بحال من الأحوال.
ثالثا: وديع لم يقابل حسن البنا قط ولم تكن بينهما علاقة من أى نوع كان.
رابعا: صدر عن حياة وآثار وديع كتابان هما "وديع فلسطين.. حكايات دفترى القديم" للكاتب الأستاذ صلاح حسن رشيد. والكتاب الثانى هو "حارس بوابة الكبار الأخير.. وديع فلسطين"، للكاتبة الأستاذة "ولاء عبدالله أبو ستيت".
الكتابان وهما ترجمتان ممتازتان لوديع لم يذكرا حرفا واحدا عن تلك المذكرات المزعومة.
نعم كانت هناك علاقة وطيدة بين وديع والأستاذ سيد قطب تقول عنها الأستاذة صافى ناز كاظم: "هى صداقة أدبية سامية نشأت بين أستاذ فى الرابعة والأربعين (سيد قطب) فى سمت شهرته وعطائه الفكرى والثقافى والأدبى، وبين ناقد شاب لم يتجاوز السابعة والعشرين من عمره (وديع فلسطين) ولغة المخاطبة الندية الودود التى تبث الهم الثقافى والعلمى والتربوى".
العجيب أن جريدة قاهرية لم تكلف نفسها عناء الذهاب إلى المستشفى الذى يعالج فيه وديع بعد العدوان الغاشم عليه، لكى تستوثق منه صحة خبر المذكرات وراحت تخترع العناوين البراقة عن المذكرات الضائعة! حقيقة الأمر أن وديع فلسطين كان صديقا لسيد قطب وقد جمع بينهما حب الأدب والعمل به، وكان ذلك قبل انضمام قطب لجماعة الإخوان بزمن بعيد، وقد حصلت الأستاذة صافى ناز على صور من سبع رسائل من قطب لوديع ونشرتها على حسابها بالفيس بوك وعنها أنقل:
الرسالة الأولى مؤرخة 22/1/1950: "أخى الأستاذ وديع، تحياتى إليك، فعلى رغم معرفتى بمشاغلك أرغب إليك فى أن تكتب إلى وأن تكون على اتصال بى ما استطعت، فأنا هنا فى وحشة نفسية وفكرية على الرغم من كل الصحف الأمريكانى حولى، كيف تمضى الحياة عندكم، وماذا عندك من أخبار الأدب والتأليف وشئون الفكر بوجه عام؟ وكيف تسير الأحوال السياسية والاجتماعية والصحفية عندكم، وماذا عن الأحكام العرفية والرقابة (طبعا فى حدود الرقابة!.(
هل تقابل الأستاذ فؤاد صروف؟ ماذا يعمل الآن؟ أرجو أن تبلغه تحياتى.. وتحياتى إليك ومودتى. المخلص سيد قطب".

الرسالة الثانية على ورق فندق روزفلت، شارع جونز وإدى: سان فرانسيسكو 15/3/1950: "أخى الأستاذ وديع، أشكرك كل الشكر على ما جشمت نفسك من عناء فى إرسال أعداد مجلة الأديب وشيخ الصحافة ومنبر الشرق، ولقد سرنى أن أعلم نبأ اختيارك أستاذا لصياغة الأنباء الصحفية بالدراسات العليا بالجامعة الأمريكية مما يدل على أن الجهد الصادق لا بد أن يجد تقديرا فى النهاية، من أعداد الأديب التى أرسلتها إليّ علمت أن هذه المجلة المهمة فى الحقل الأدبى لا تزال تعانى من ركود فى سوق الأدب، وددت لو كنت على شيء من السعة لأجيب تلك الدعوة (فى إعانتها) ومع ذلك سأحاول ما فى جهدى".

الرسالة الثالثة، 2/4/1950: "أخى الأستاذ وديع، وصلتنى رسالتك مفضوضة، كما توقعت، يبدو أن إخواننا فى الرقابة يردون على كلمتك عن الرقابة! على أيه حال ليست الرقابة وحدها هى كل ما فى مصر من ألغاز وأعاجيب! لدى سلسلة مقالات ربما نشرتها فى الأهرام تباعا بعنوان: ألغاز محيرة فى حياتنا المصرية.. لقد كنت معتزما العودة فى مايو القادم فأنا لا أعمل لدراسة معينة، فالشهادات لا تهمنى فى حياتى، إنها ميسورة كل اليسر فى أمريكا، ولكنى أرى الدراسة الحرة فى مثل سنى وموقفى أجدى نفعا.. بهذه المناسبة، إن لدى مشروعا عن سلسلة محاضرات عامة عن كيف نعيد إنشاء أداتنا الثقافية، أعنى وزارة المعارف وملحقاتها على ضوء تجاربى ومشاهداتى.. وستتناول أحاديثى: إعادة تنظيم وزارة المعارف، اختصاص المناطق والدوائر السياسية. طرق وضع المناهج وتأليف الكتب المدرسية، علاقة الأداة التعليمية بعالم التأليف والصحافة والإذاعة المدرسية والعامة".

الرسالة الرابعة بتاريخ 14/5/1950، والخامسة 9/6/1950 جاء فيها: ".. عدم انتظام وصول الصحف والأخبار المصرية إليّ يشعرنى بعزلة عن بلدى.. لست يائسا من مستقبل هذا البلد أيا كانت العقبات التى فى الطريق. لقد استيقظنا ولن ننام مرة أخرى وإذا كنا نتخبط، فقد يزيد هذا التخبط يقظتنا، لأن الصدمات كثيرا ما تنبه الغافلين.. ."

الرسالة السادسة 11/7/1950، والسابعة 28/7/1950 تحدد موعد عودته: "سأغادر نيويورك إن شاء الله يوم 7 أغسطس لأصل مطار فاروق الجوى فى الساعة 7,45 صباح يوم 20 منه، فإذا رأيت أن شيئا من هذا البرنامج يستحق أن تشير إليه فى (جريدة) المقطم قرب يوم الوصول فافعل، وما أريد هذه الإشارة لشخصى، ولكن لدى أفكارا واقتراحات وبرامج أريد لها النفاذ فى مصر للخير العام ومثل هذه الإشارات قد يساعد على تقبل هذه البرامج فى دوائرنا الرسمية التى لا تقيس القيم إلا بظواهرها. لك تحياتى الخالصة وإلى اللقاء. المخلص سيد قطب". 

ثم ولكى يصمت الذين يهولون نجحت الإدارة العامة لمباحث القاهرة فى إلقاء القبض على المجرمين الذين اقتحموا بيت الأستاذ وديع، وقد اعترفوا بجريمتهم وأرشدوا عن المسروقات التى نهبوها من المنزل.
وبعد هل يتكرم علينا المشروع العظيم "مكتبة الأسرة" ويلتفت لنشر مؤلفات الأستاذ وديع؟
نأمل ونرجو قبل أن يباغتنا الرجل منشدًا
كلانا غنّى عن أخيه حياته ونحن إذا متنا أشدّ تغانيا .

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر بجريدة "صوت الأمة"  ديسمبر 2017