الاثنين، 22 يناير 2018

هناك فرق بين "الفن" و"المليَطة" ..





أعلم أنهم يصدّعون رأسك بـ"الواقعية" و"الضرورة الدرامية" وبقية قائمة الشعارات التى إن ذهبتَ تبحث عن جذرها فلن تجد سوى السراب الذى يحسبه الظمآن ماءً.
أعلم أنهم يتلاعبون بمشاعرنا نحن المشاهدين المساكين، ولكن يحدث أحيانًا أن يشهد شاهد منهم، فيكشف المستور.
قبل سنوات أجرت مجلة "صباح الخير" حوارًا مع النجمة رغدة عن مشاركتها فى فيلم "أبو الدهب" الذى لعبت بطولته مع الراحل أحمد زكى، أثناء الحوار كشفت رغدة عن سراب الشعارات.
قالت: فى يوم من أيام التصوير، كان مشهدى سيصور زيارتى للقصر الفخم الذى يمتلكه بطل الفيلم أحمد زكى، لكى أقدم لزوجته صورًا للفساتين التى سأصممها لها بوصفى خيّاطة محترفة، أثناء مرورى بحديقة القصر وجدت بشكير السباحة والبُرنس والمايوه وأريكة من تلك التى يستلقى عليها الذين أنهكتهم السباحة.سألت فريق العمل: لماذا هذه الأشياء هنا؟
قالوا: هى لك.
قلت: لى أنا، لماذا؟! المشهد ليست به سباحة.
قالوا: المنتج قال يجب أن تلبسى المايوه.
راحت رغدة تقنعهم أن المنطق يقول إن الهانم زوجة البطل لن يمكن أن تسمح لخياطتها بالسباحة فى حمام سباحتها.
قالوا: المنتج يريدك بالمايوه.
قالت: لن ألبس المايوه ولن تبيعوا لى ضروريات الدراما.
رغدة رفضت ولكن العالمية سلمى حايك وافقت!
أنقل عن "نيويورك تايمز"، قالت "حايك" إن منتج هوليوود الأشهر هارفى واينستين قال لها ذات مرة: "سأقتلك! لا تظنى أننى لا أستطيع فعل ذلك".
وأضافت سلمى فى تصريحاتها لـ"نيويورك تايمز"، التى تحدثت فيها عن علاقاتها بـ"هارفى" توصلت إلى اتفاق مع"واينستين" بشأن حقوق الفيلم التى كان سيعرض خلال عام 2002، أنها اضطرت مرارًا لرفض إيحاءات جنسية من هارفى.
وكتبت:
- لم أسمح له بالاستحمام معى.
- لم أدعه يشاهدنى أثناء الاستحمام.
- لم أسمح له بتدليكى.
- لم أسمح لصديق له بتدليكى وهو عارٍ.
- لم أسمح له بممارسة الجنس الفموى معى.
- رفضت الظهور عارية مع امرأة أخرى.
واتهمت حايك منتج هوليوود بتهديدها بإلغاء الفيلم ما لم تؤدِ دورًا جنسيا مع ممثلة أخرى.
وأضافت وهى تسرد اضطرابها أثناء تصوير المشهد الذى قالت إنه كان غير مبرر: "اضطررت لتناول المهدئات، التى أوقفت فى النهاية البكاء لكنها تسببت فى حدة التقيؤ".
هل رأيت كم هى متعبة ومرهقة تلك الضرورة الدرامية؟
إنها تجعل الممثلة تصل لحد التقيؤ.
هذا عن الدراما عندما تكون صورًا متحركة، فماذا عنها عندما تقدم الرسالة والمضمون والمحتوى؟!
هل تؤمن أن للدراما رسالة؟
أنا أؤمن أن للدراما رسالة ومن منطلق إيمانى هذا أدافع عنها، مزيلًا عن جسدها الطيب قاذورات يلقيها البعض على الجسد الطيب الذى لا يريد بنا سوى الخير.
بدعوى الواقعية، وبزعم الاشتباك مع اليومى والمألوف يقدم بعضهم نفايات يعج بها محيطه هو بوصفها الفن الذى لا فن قبله ولا فن بعده.
مخرجة سينمائية شهيرة عاتبوها على استغراقها فى تقديم الجنس المجانى عبر أفلامها فقالت علانية: "هذا هو الواقع وبنات مصر يخضعن لطبيب ترقيع غشاء البكارة قبل زفافهن"!
الدخول فى نقاش مع تلك الشهيرة سيزيد الأمر سوءًا، فهى تحكم بما ترى وخصمها سيحكم بما يرى، ولا توافق بين المشاهدات ولن يكون.
الحياة التى هى الأفعال اليومية تسبق الفن ولن يلحق بها، لأن الحياة هى التى تقدم المادة الخام التى سيعمل عليها الفنان، ولكن هل كل المادة الخام صالحة لأن تقدم للمشاهد؟
المادة الخام تقول إن الميت يجرى تغسيله، فهل تقبل بمشهد كهذا؟!
المادة الخام تقول إن الأزواج يفعلون كذا، فهل تقبل برؤية هذا الـ "كذا" مجسدًا على الشاشة؟!
المادة الخام تقول إن الإنسان يدخل الحمام لقضاء حاجته، فهل تقبل بمشاهدة الفضلات؟!
المادة الخام تقول إن بلدنا يعانى من كثرة حالات الطلاق، مع ما يعنيه الطلاق من خراب ودمار وفوضى، فهل نناقش القضية من أى زاوية كانت وليس شرطًا تقديم الحل؟ أم نتبنى صرعة جديدة دخلت حياتنا اسمها "سينجل مازر"؟!
انتبه! إنهم يتلاعبون بالألفاظ والمصطلحات، يقولون "سينجل مازر"، يقولون "المرأة العزباء"، يقولون مصطلحات شتى ليس من بينها المصطلح الحقيقى وهو "المرأة الزانية".
هذا التلاعب خطير غاية الخطورة، حتى أن كاتبة أحسبها عاقلة كتبت تدافع عن تقديم تلك النماذج ما ملخصه: كنا نتعاطف مع شادية وفاتن حمامة وبقية الممثلات عندما يحملن من سفاح، فماذا حدث لنا؟!
لقد دخل المصطلح المراوغ على عقل الكاتبة فحطم الصورة، نعم كانت الدراما القديمة تقدم هذه النماذج ولكن فى أى سياق؟
كان سياق خداع البطل للبطلة، وكان السياق افتراس البطل لجسد البطلة، ودائمًا كانت هناك حسرة الندم وحرقة المشاعر وحيرة المأزوم، وأبدًا لم تكن هناك تلك الدعوة العجيبة التى تجعل بطلة مسلسل تحاول الحمل من صديقها مشترطة عدم الزواج، لأنها تريد طفلًا لا طفلًا وزوجًا!
هل يوجد بمصر "سينجل مازر"؟
نعم، كما فى كل الدنيا وفى كل العصور، ولكن ما هى الرسالة التى يريدها الذى سيصور تلك النماذج؟
هل توجد بمصر بنات تدخن الحشيش؟
نعم كما فى كل الدنيا وفى كل العصور، ولكن تبنى مثل تلك الحالات هو قصف نيرانى يمهد لما هو قادم؟
هل أسئلتى هذه تعنى أننى وفريقى نريد دراما على مقياس المخرج الراحل محمد كريم الذى كان يغسل الجاموسة التى ستعبر خلف البطل، وكان يكنس التراب الذى بجوار شجرة الصفصاف التى تقف تحتها البطلة؟
هل نريد وعظًا وإرشادًا وخطابًا فجًا؟
هل نريد مجتمعًا ملائكيًا ورديًا حالمًا هامسًا؟
إن افترضتم فينا هذه الخيالات فقد رميتمونا بدائكم وانسللتم.
نحن نريد الفن القوى العفى الذى يسكن القلوب ويعمل عمله فى العقول.
هل رأيتم سينما توفيق صالح؟
هل رأيتم سينما محمد خان؟
ألم يشتبكا - ما وسعهما الاشتباك - مع الواقع، هل أنكرنا عليهما اشتباكهما؟
بجملة واحدة: هناك فرق - كان وسيبقى- بين الفن"والمليطة"، فخذوا قراركم أى سبيل ستسلكون.
ختامًا.. سأذكركم بكلمة منسوبة لتشرشل قائد بريطانيا فى أوج مجدها، قال: "نحن على استعداد للتنازل عن كل ممتلكات بريطانيا العظمى فى كل مكان على الأرض ولكن لا نتنازل عن عمل من أعمال ابن بريطانيا شكسبير".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر بجريدة "صوت الأمة" ديسمبر 2017

الخميس، 4 يناير 2018

لماذا قتل الإرهابيون الخلفاء الراشدين فى المساجد؟




أفزعت حادثة قتل المصلين بينهم أطفال بمسجد الروضة بسيناء المصريين، وقد بلغ الفزع غايته حتى تردى بعضهم فى كلام سخيف لن نعيده تنزيهًا لأرواح الشهداء واحترامًا لألم المصابين.
عندما يهدأ المصريون وهذا قادم بعون الله ولطفه، سيضعون تلك الحادثة الشنيعة فى حق موضعها، فما تلك الحادثة إلا حلقة من سلسلة سوء تريد إذلال الأمة وكسر قلبها، وما السؤال عن دين مقترفى تلك الحادثة سوى كلام مبعثر فى الهواء، الدين عند هؤلاء المجرمين ما هو إلا قتل ثم قتل ثم قتل وهم يقتلون تحت ألف عباءة وعباءة، فلماذا نشغل أنفسنا بالسؤال عن دينهم ومدى تمكن المشاعر الإنسانية من قلوبهم؟
لقد سبق هؤلاء أبو لؤلؤة المعروف بالمجوسى، الذى قتل أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب فى الشهر الحرام وبداخل مسجد الرسول وفى صلاة الفجر!
يعنى قام بانتهاك الحرمات جميعها، ولأن المسلمين أيامها كانوا نبهاء لم يشغلهم دين أبى لؤلؤة، لقد شغلهم أمر دولتهم فلم تمر سوى أيام قلائل حتى اختاروا ذا النورين عثمان بن عفان أميرًا للمؤمنين لكى تظل دولتهم مصونة مهابة .

حكم الفاروق عمر بعد موت الصديق أبى بكر، وكلنا يعرف الفاروق وعدله وكلنا نباهى به ونفاخر، وعن نفسى وقد أطلت النظر فى كتب التراجم لم أر أحدًا من الصحابة أو التابعين يقول كلمة سوء عن الفاروق عمر، فلماذا يقتل رجل العدل والحزم؟
فى اليوم السادس والعشرين أو السابع والعشرين على اختلاف الروايات ذهب عمر كعادته إلى المسجد النبوى ليؤم الناس فى صلاة الفجر، كان من عادات عمر أن يمر بين الصفوف قائلًا للمصلين: استووا.
استوت الصفوف وكَبّر عمر تكبيرة الإحرام وبدأ يتلو الفاتحة، فى الصف الأول كان يقف عبدالله بن العباس، وفى الصف الثانى كان يقف عمرو بن ميمون.
عمرو بن ميمون هذا من أكابر التابعين ومشايخهم أدرك الجاهلية والنبوة وأسلم ولكنه لم ير النبى لذلك لم يعده العلماء من الصحابة وإنما من المخضرمين من كبار التابعين.

يروى ابن ميمون تفاصيل الحادثة فيقول: إنى لقائم فى الصف ما بينى وبين عمر بن الخطاب إلا عبدالله بن عباس، فما هو إلا أن كبَّر (أى عمر) فسمعته يقول: قتلنى -أو أكلني- الكلب، حين طعنه، فطار العلج (الرجل الشديد الغليظ من الكفار) بسكين ذات طرفين، لا يمرُّ على أحد يمينًا ولا شمالًا إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلًا، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه بُرْنسًا، فلما ظنّ العلج أنه مأخوذ نحر نفسه.
علينا أن نذّكر أن الفاروق قتل فى أواخر ذى الحجة، يعنى فى شهر من الأشهر الحرم، وقتل وهو إمام للمسجد النبوى، وقتل وهو يصلى الفجر بالمسلمين وبينهم كبار صحابة الرسول، فكيف دخل عليه القاتل إذا كان القاتل كافرًا؟

هناك رأيان فى أبى لؤلؤة، رأى لأهل السنة والجماعة الذين يرون أن أبا لؤلؤة كان كافرًا، ورأى لجماعة معتبرة من الشيعة الذين يقولون: كان أبو لؤلؤة "فيروز" من المسلمين المخلصين كما صرّح به علماؤنا الأبرار.
قال الميرزا عبدالله الأفندى فى "رياض العلماء": "أبو لؤلؤة فيروز الملقّب ببابا شجاع الدين النهاوندى الأصل والمولد، المدنى قاتل ابن الخطّاب".
ثمّ قال: "اعلم أنّ فيروز هذا قد كان من أكابر المسلمين والمجاهدين بل من خلّص أتباع أمير المؤمنين عليه السّلام (يعنى عليًا عليه السلام) وكان أخاً لذكوان وهو أبو "أبى الزناد عبدالله بن ذكوان" عالم أهل المدينة بالحساب والفرائض، والنحو والشعر، والحديث والفقه".
ثم هناك مزار أو نُصّب تذكارى مقام لأبى لؤلؤة فى مدينة إيرانية ظل يستقبل الزوار لقرون حتى تم إغلاقه فى العام 2007 بعد جهود بذلها الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين.
بعيدًا عن حفاوة شيعة إيران على وجه التحديد بأبى لؤلؤة، فالرجل كان مسلمًا أو على الأقل أظهر الإسلام بلسانه، أما ما فى قلبه فيعلمه الله.

المدينة وقبلها مكة محرمتان على غير المسلمين، هذه واحدة، الثانية أن الرجل دخل المسجد النبوى وهو أشد بقاع المدينة حرمةً، وما كان المسلمون سيسمحون له بالدخول لو علموا كفره، الثالثة أن عمر بن الخطاب نفسه كان لا يسمح بوجود الأرقاء غير المسلمين بالمدينة أو مكة، فإذا أسلم الرقيق دخلهما وإلا بقى خارجهما فى أى مدينة يختار.
يبقى السؤال قائمًا، لماذا انتهك أبو لؤلؤة كل حرمة وقتل الفاروق؟
يقولون إن أبا لؤلؤة كان عبدًا للمغيرة بن شعبة، وكان المغيرة يطلب منه أن يدفع له درهمين يوميًا.
هنا نقف ونسأل هل الدرهمان من حق المغيرة؟
لو كان أبو لؤلؤة عبدًا مملوكًا فكله لا الدراهم فقط ملك المغيرة، فما معنى النص على دفع الدرهمين؟
ولو كان مكاتبًا، والمكاتب هو الذى يتفق مع سيده على أن يحصل على صك الحرية إذا دفع له كذا، مائة دينار مثلًا.
لا أعرف لماذا تضطرب الروايات فى تحديد الوضع الاجتماعى لأبى لؤلؤة، وذلك التحديد مهم لأن للرقيق المملوك أحكاما وللمكاتب أحكاما غيرها وللموالى أحكاما.

ما علينا، ونعود لسياق الحادثة، قالوا: إن أبا لؤلؤة قد شكا المغيرة لعمر، فأجزل له عمر العطاء حتى يخفف عنه عبء الدرهمين، فبلغ عطاؤه من بيت المال مائة درهم شهريًا.
طبعًا اللئيم لا يغيره المعروف، ولكن على الأقل يحجم لؤمه شيئًا ما، فلو كانت الرواية صحيحة، وهى صحيحة من ناحية السند، فإنها ناقصة مبتورة.
لنا أن نقول إن كل ذلك كان ولكن الحقيقة هناك فى مكان آخر، الحقيقة أو القريب منها أن أبا لؤلؤة ليس كافرًا مظهرًا الكفر، وهو من المتحمسين لقومه الباكين على المجد الذى أضاعه فتح عمر لفارس، كأن الرجل واحد من المغالين فى الشعوبية التى ترى العرب أحط وأقل من أن يحكموا فارس العظيمة ويجلس الواحد منهم متربعًا فى إيوان كسرى.

أنا الآن وبعد تلك القرون أرى القصة قصة عنصرية وليست شيئًا آخر، أبو لؤلؤة عنصرى هُزم قومه ولكنه لم يستسلم للأمر الواقع فقتل هازم قومه انتقامًا لمجد غابر.
إذن مات أعدل حكام المسلمين بعد رسول الله، يقول الواقدى: طعن عمر يوم الأربعاء لأربع ليالٍ بقيت من ذى الحجة سنة ثلاث وعشرين، ودفن يوم الأحد صباح هلال المحرم، سنة أربع وعشرين، فكانت ولايته عشر سنين وخمسة أشهر وواحد وعشرين يوما، وبويع لعثمان يوم الاثنين، لثلاث مضين من المحرم.
استشهاد الفاروق كان أول قتل فى المسجد فى تاريخ الإسلام، وبعده سيتواصل القتل لأسباب شتى.

بعد رحيل الفاروق جاء ذو النورين عثمان بن عفان، الذى قتل وهو يقرأ القرآن فى مصلاه، أى فى غرفة من بيته خصصها للصلاة، فكأنه قتل فى المسجد أيضًا، ثم حكم من بعده الإمام على بن أبى طالب.

لا كثير كلام عن الإمام فهو فتى الفتيان وفارس الإسلام وفيلسوفه، ثم هو أخو النبى ولا فخر فوق هذا، فعندما آخى الرسول بين المهاجرين ترك عليًا دون أن يحدد له أخًا، ثم آخى الرسول بين المهاجرين والأنصار وترك عليًا الذى سأله: لماذا تركتنى بدون أخ؟
فقال له الرسول الأكرم: أنت أخى فى الدنيا والآخرة.
مناقب السيد الإمام لن يحيط بها وصف فنتركها لخالقه يرفع بها له درجاته.
حكم على واضطربت عليه بعض الولايات مثل ولاية الشام التى كان على رأسها معاوية بن أبى سفيان، ورأى الخوارج الذين كانوا يكفرون كل الناس سواهم أن الفتنة سببها ثلاثة رجال هم عليّ ومعاوية وعمرو بن العاص فتعاهدوا على قتلهم جميعًا.
أنقل باختصار عن الطبرى: اجتمع ثَلَاثَةً مِنِ الْخَوَارِجِ; وَهُمْ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو الْمَعْرُوفُ بِابْنِ مُلْجَمٍ الْحِمْيَرِيُّ، وَالْبُرَكُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ التَّمِيمِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ بَكْرٍ التَّمِيمِيُّ.
فَقَالَ ابْنُ مُلْجَمٍ: أَنَا أَكْفِيكُمْ عَلِيَّ بْنَ أَبِى طَالِبٍ، وَقَالَ الْبُرَكُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ: أَنَا أَكْفِيكُمْ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِى سُفْيَانَ، وَقَالَ عَمْرُو بْنُ بَكْرٍ: أَنَا أَكْفِيكُمْ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، فَأَخَذُوا أَسْيَافَهُمْ فَسَمُّوهَا.
فَأَمَّا ابْنُ مُلْجَمٍ فَسَارَ إِلَى الْكُوفَةِ فَدَخَلَهَا، ثمّ ضمّ إليه رجلا يُقَالُ لَهُ: وَرْدَانُ، وَاسْتَمَالَ رَجُلًا آخَرَ يُقَالُ لَهُ: شَبِيبُ بْنُ بَجَرَةَ الْأَشْجَعِيُّ الْحَرُورِيُّ.
فَجَاءَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ وَهُمْ مُشْتَمِلُونَ عَلَى سُيُوفِهِمْ، فَجَلَسُوا مُقَابِلَ السُّدَّةِ الَّتِى يَخْرُجُ مِنْهَا عَلِيّ، فَلَمَّا خَرَجَ جَعَلَ يُنْهِضُ النَّاسَ مِنَ النَّوْمِ إِلَى الصَّلَاةِ، وَيَقُولُ: الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ، فَثَارَ إِلَيْهِ شَبِيبٌ بِالسَّيْفِ، فَضَرَبَهُ فَوَقَعَ فِى الطَّاقِ (يعنى فى الخشبة التى تثبت الباب للحائط)، فَضَرَبَهُ ابْنُ مُلْجَمٍ بِالسَّيْفِ عَلَى قَرْنِهِ، فَسَالَ دَمُهُ عَلَى لِحْيَتِهِ.
وَحُمِلَ عَلِيٌّ إِلَى مَنْزِلِهِ، وَحُمِلَ إِلَيْهِ ابْنُ مُلْجَمٍ، فَأُوقِفَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ مَكْتُوفٌ، قَبَّحَهُ اللَّه ُ، فَقَالَ لَهُ: أَيْ عَدُوَّ اللَّه، أَلَمْ أُحْسِنْ إِلَيْكَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: شَحَذْتُهُ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، وَسَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يَقْتُلَ بِهِ شَرّ خَلْقِهِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ: لَا أُرَاكَ إِلَّا مَقْتُولًا بِهِ، وَلَا أُرَاكَ إِلَّا مِنْ شَرِّ خَلْقِهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ مِتُّ فَاقْتُلُوهُ، وَإِنْ عِشْتُ فَأَنَا أَعْلَمُ كَيْفَ أَصْنَعُ بِهِ.
استشهد الإمام على فى ليلة الجمعة قبل الأخيرة من رمضان عام أربعين من الهجرة، كان قتله بداخل المسجد الجامع بالكوفة وكان سيؤم الناس فى صلاة الفجر، كأن حادثة مقتل الفاروق هى بعينها حادثة مقتل الإمام، القاتل أهدر كل الحرمات لسبب سياسى واضح، هو من الخوارج وعلى قاتل الخوارج وهزمهم والرجل يريد الثأر من الجميع لا من على وحده.
العجيب أن شاعرًا مطبوعًا مثل عمران بن حطان قال يمدح ضربة ابن ملجم لعلى ويمدح ابن ملجم نفسه:
"يا ضربةً من تقيٍ ما أراد بها / إلا ليبلغ من ذى العرش رضوانا
إنى لأذكره يوما فأحسبه / أوفى البرية عند الله ميزانا."
أما ما هو أعجب من شعر عمران فهو عمران نفسه لأنه كان من أئمة التابعين وكان يروى الحديث عن السيدة عائشة، وله حديثان فى صحيح البخارى ولكنه كان خارجيًا متعصبًا لا يرى الإسلام إلا فى الخوارج!

مقتل الكبيرين الفاروق والإمام فى المسجد لم يحط من قدر الإسلام ولم يهدم مكانة المساجد بيوت الله فى أرضه، هذا القتل كشف عن نفسية المجرمين.
المجرم من هؤلاء، أو الإرهابى بلغة عصرنا، لا يقيم وزنًا لحرمة من الحرمات، هو ليس إنسانًا طبيعيًا يشعر بما يشعر به الأسوياء من البشر، هو باحث عن القتل لألف سبب وسبب.
فمن العيب أن ننصرف عن مواجهة هؤلاء لنبحث فى دينهم وهل هو متين أم لين، ما لنا نحن ودينهم فليكن كما يكون.
ثم من العيب أن نتركهم يفلتون بجرائمهم ثم نجلس نحن نتباحث فى أفكارهم.
كل قاتل لديه فكرة ما، فلا قتل يتم فى المطلق ولا قتل يتم بدون غطاء.
أنا وأنت رأينا الأمريكان يدفنون أسراهم من العراقيين أحياءً، هل لا تزال ذاكرتك تحتفظ بتلك المشاهد؟
هل وراء هذا القتل الخسيس فكرة؟
نعم فكرة الأمريكان أو الغطاء الذى يبررون به القتل كان نشر الديمقراطية فى العراق، أنت سمعتهم يقولون هذا كما سمعتهم أنا.
ثم أنا وأنت رأيناهم يبولون على الأفغان قبل قتلهم ويبولون على جثثهم بعد قتلهم، وكانت الفكرة / الغطاء هى القضاء على تنظيم القاعدة وتخليص أفغانستان من حكم طالبان.
إذًا القاتل المجرم لن يعدم وسيلة يتوسل بها لكى يقتل، سيبحث لنفسه لكى لا ينهار عن غطاء، أهل الضحية أو القتيل سيكونون فى خانة الغفلة التى تقترب من التواطؤ إن هم تركوا سبل مواجهة القاتل وراحوا يبحثون فى أفكاره أو دينه.
لقد رأينا كيف قتل مجرمان اثنين من كبار صحابة رسول الله، وقد جرى قتل الشيخين العظيمين الجليلين فى المسجد، فلم يهدم قتلهما، على أهمية شأنهما، الدولة، بل مضت الدولة فى طريقها إلى الأمام وحلقت فى أعالى جبال العزة والكرامة والتحقق.
الساعة ساعة جد لا ساعة تقليد للبيزنطيين الذين عندما حاصرهم

السلطان العثمانى محمد الفاتح، وكان مصير إمبراطوريتهم كلها على المحك، جلس شيوخ المدينة فى حلقات نقاش حامية بل وحادة، يتباحثون فى أمور فقهية ولاهوتية مثل تحديد جنس الملائكة، هل هم ذكور أم إناث؟ وحجم إبليس هل هو كبير بحيث لا يسعه أى مكان، أم صغير بحيث يمكنه العبور من ثقب إبرة؟
ظل النقاش قائمًا محتدمًا إلى أن دخل محمد الفاتح إلى قلب العاصمة وأزال إمبراطورية الرومان من على ظهر الأرض.
فليصدق المصريون وليؤمنوا بكل قلوبهم بأنهم يعيشون تحت وطأة أشرس حرب، حربهم مع الإرهاب، وتلك الحرب لا نصر فيها سوى بالدم والدموع والحديد والعقل.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منشور بجريدة "صوت الأمة" 2017