الخميس، 14 مارس 2024

عبد العزيز البشري.. الجاحظ المصري


 

جاء على مهن الصحافة والكتابة والفن حين من الدهر لم تكن فيه سوى جالبة لسخرية المجتمع وازدرائه، فلم يكن المجتمع يقبل شهادة الصحفي ولا الممثل، وكان أولاد الأكابر عندما يؤلفون الروايات يضعون على أغلفتها أسماء مستعارة.

 في ذلك المناخ المقبض ولد الشيخ الأستاذ عبد العزيز البشري في العام 1886، وكان المنطقي أن يكون الصبي عبد العزيز كوالده فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر سليم البشري، فإن لم يكن كوالده فعلى الأقل يُضيّق الوالد على ولده لكي يلتزم بالسير بجوار الحائط لكي يصعد إلى المكانة التي يجب أن يرقى إليها.

الشيخ التقدمي

الإمام الأكبر سليم البشرى الذي ولد في العام 1832 وتوفي في العام 1916 وبرع في علم الحديث الشريف، خالف كل التوقعات وترك لابنه حرية اختيار كيف ستمضي حياته.

هذه النقطة تعد من النقاط المركزية جدًا في حياة عبد العزيز البشري الذي كان حريصًا على أن يكون خير ممثل لفكر أب حر لا يخضع لتقاليد زمانه.

 

البشري الأب لم يكن شيخًا كغيره لقد رفض مشيخة الأزهر لسنوات، وعندما قبلها تقدم باستقالته لأن أمرًا من الأمور لم يرق له، ثم بعد سنوات جاءته المشيخة مرة ثانية فقبلها على شروطه ومكث بها حتى رحل عن دنيانا، وكانت لرحيله أصداء مدوية نعرفها من رثاء شاعر النيل حافظ إبراهيم له بقوله:

"أيدري المسلمون بمن أصيبوا

 وقد واروا «سليما» في التراب؟

 هوى ركن «الحديث» فأيُّ قطبٍ

لطلاب الحقيقة والصواب؟

فما في الناطقين فم يوفي

 عزاء الدين في هذا المصاب

 قضى الشيخ المحدث وهو يملي

على طلابه فصل الخطاب".

عندما ولد البشري الابن دفع به أبوه إلى حديقة القرآن فحفظه حفظ إتقان فسلم لسانه وقلمه من رطانة العجم، ثم دفعه إلى الأزهر فتخرج فيه سنة 1911 وما بين الكُتّاب والأزهر تتلمذ البشري على يد الشيخ الأستاذ سيد المرصفي، الذي يكاد يكون مسئولًا مسئولية تامة عن تثقيف وتعليم طائفة من فحول الأدب العربي، نذكر منهم طه حسين وأحمد حسن الزيات والبشري ومحمود محمد شاكر.

بعد أن أتم تعليمه الأزهري عمل عبد العزيز البشري بوزارة الأوقاف، ثم بوزارة المعارف (التربية والتعليم حالياً)، ثم عمل في القضاء الشرعي، وأخيرًا ذهب إلى المكان الجدير به فقد تولى منصب المراقب العام لمجمع اللغة العربية وظل به إلى أن مات في العام 1943.

رجل مثل البشري الابن كان يلهو وهو طفل في زوايا مكتبة والده عالم الحديث الأشهر، ثم عندما تمكن من القراءة راح ينهل من ذخائر المكتبة حتى ارتوى، ثم تتلمذ على يد المرصفي، ثم جمعه بالعميد طه حسين حب الأدب، كيف كان سيكون مصيره؟

صحبة العميد

يقول طه حسين عن أيامه مع البشري: "كان عبد العزيز البشري يزورني في الغرفة التي كنا نعيش فيها في ربع بيت كبير يضم العديد من الغرف الصغيرة يسكن معظمها طلاب الأزهر من ربوع خان الخليلي وكنا نلتقي فيها حين نتفرق عن دروس الفقه، لنقرأ بعض كتب الأصول أو بعض كتب البلاغة، وكان عبد العزيز البشري يلهينا بدعابته وفكاهته عن جد البلاغة والأصول، وإني لأراني مع عبد العزيز وعلي عبد الرازق في هذه الغرفة نفسها بعد أن نصلي العصر نقرأ كتاب «الكامل» للمبرد، ونُحصّل بهذه القراءة اللغة والأدب، وكان عبد العزيز يجلس معنا يمرح ويمزح ويتفكه بنوادره الطريفة ليُسرّي عن أنفسنا عناء التعب والمشقة التي لاقيناها من القراءة في هذه الكتب العميقة المعنى، والبديعة الأسلوب".

في تلك السنوات وقع البشري في هوى الجاحظ أديب العربية الأكبر، ولم يكون الهوى، هوى المحبة، ولكنه كان هوى التعلم والدرس والمذاكرة والسير على النهج نفسه.

ظل البشري عاكفًا على دراسة الجاحظ حتى يكاد يكون قد حفظ مؤلفاته، فسرى أسلوب الجاحظ في وجدان البشري سريان الدم في العروق، ليواصل البشرى حضوره وانتشاره في كل مكان يكون للأدب فيه كلمة، وكان ذلك الانتشار مقصودًا لتحقيق هدفين مهمين، الأول: أن يخلع البشري جلباب أبيه، فهو لن يكون شيخًا من مشايخ الأزهر – مع عظيم تقديره لدورهم ـ والثاني: أن يعرف الجميع من هو عبد العزيز البشري قبل أن يدخل الميدان محترفًا.

 وقد أحسن الباحث الأستاذ يسري عبد الغني عندما كتب عن حركة البشري في مجتمع القاهرة: "كان رجلنا يحب التنقل ومعايشة الأصحاب من كل الطبقات والفئات، فكنت تراه مصبحًا في هذا الحي من أحياء القاهرة القديمة في الأزهر، أو قريباً منه، فإذا صليت الظهر رأيته في حي آخر من أحياء القاهرة قريباً من دار الكتب أو في قهوة من مقاهي حي باب الخلق التي كان يجلس عليها أهل الفن والأدب، أو في حي الأزبكية، فإذا صليت العشاء رأيته في حي آخر من أحياء القاهرة، تلقاه عند آل عبد الرازق في حي عابدين، وتلقاه عند غيرهم من ذوي المكانة والجاه، وقد تلقاه في قهوة من مقاهي الناصرية القريبة من حي السيدة زينب مع جماعة من الأدباء يتصدرهم حافظ إبراهيم".

في تلك الجولات المكوكية بين أحياء القاهرة، رسم البشري ملامح شخصيته، إنه الأزهري حافظ القرآن، ابن شيخ الأزهر، الفقيه في علوم العربية، المثقف الموسوعي، خفيف الظل، القادر على أن يجعلك تضحك عندما تقرأ له أو تسمعه وهو يكتب أو يتحدث بالفصحى العالية الشريفة.

قبل أن ينزل البشري ميدان الاحتراف سجل نوادر وطرائف تكشف عن عمق ثقافته وعن سرعة بديهته وعن ذكائه الفطري اللطيف الذي لم يستخدمه قط في أذى الآخرين، لقد كان يستخدم ذكاءه في رد المواقف والكلمات.

ولتوضيح منهجه ذلك نورد هنا مثالين.

قالوا: إن البشري وجماعة من الأدباء نزلوا ضيوفًا على واحد من الأعيان، وبعد الطعام خلع البشري جبته الأزهرية وذهب لغسل يديه، فقام أصحابه برسم حمار على جبته، وعندما عاد ورأى ما فعله أصحابه لم تفلت أعصابه بل نظر إليهم في برود ثم سألهم: «مَنْ منكم يا أفاضل الذي مسح وجهه في جبتي؟».. فضحك الجميع وعرفوا أن النيْل من البشري يكاد يكون مستحيلًا، وذلك لأنه رد الصاع صاعين وفي هدوء تام.

وقالوا: إن البشري كان مجتمعًا في مجلس مع الفريق إبراهيم فتحي الذي كان وزيرًا للحربية، فأراد إبراهيم باشا فتحي ممازحة البشري الذي كان أيامها من القضاة الشرعيين، فسأله: «هل جاء في الحديث الشريف، قاضٍ في الجنة وقاضيان في النار؟».. فرد البشري: نعم، وجاء في القرآن الكريم «فريق في الجنة وفريق في السعير".

المرآة الكاشفة

قبل أن نتحدث عن زمن احتراف البشري للكتابة، يجدر بنا التوقف عند نقطة مهمة وهي أن الشيخ – على عظيم علمه وعمق ثقافته – لم يؤلف سوى كتابين اثنين فقط، ولن تجدهما الآن إلا بضربة حظ لدى باعة الكتب القديمة.

لقد كتب الكتابين بتكليف من وزارة المعارف «التربية والتعليم حاليًا»، الكتاب الأول هو «المفصل» وموضوعه التربية الوطنية، ثم كتاب «المنتخب» وموضوعه تاريخ الأدب المعاصر. ثم هناك ثلاثة كتب كانت في الأصل مقالات للشيخ ثم جمعها في كتب، وهي «المختار» وفيه الأبحاث الأدبية، والتراجم لبعض أدباء عصره.

والكتاب الثاني هو «قطوف»، ويقع في جزأين، ويتناول بعض الدراسات العربية الإسلامية.

أما الكتاب الثالث الذي سنتوقف عنده فهو «في المرآة». وهنا لابد أن نشكر مشروع «القراءة للجميع» الذي أعاد نشر هذا الكتاب النفيس، وهو تجميع لبعض مقالات الشيخ التي نشرها في جريدة السياسة في العامين 1926 و1927.

كان للشيخ خطة في تلك المقالات سندعه هو يتحدث عنها: «إن هذا النوع من البيان رويناه عن كتاب الغرب، وما فتئنا نقلدهم فيه تقليداً، على أن كتاب العرب من أمثال الجاحظ قد سبقوا إلى شيء من هذا التصوير البياني، إلا أنهم لم يعدوا فيه هنات المرء، والصولة عليها بألوان التندر والتطريف، أما التوسل بمظاهر خلال المرء إلى مداخل نفسه، منازع طبعه، وإجراء هذا على أسلوب علمي وثيق، فذلك ما لم نقع عليه في منادرتهم ووجوه تظرفهم".

كان هذا عن منهجه في الكتاب، منهج تحليل الشخصيات، أما عن أسلوبه فيقول عنه: «إن الرسام الكاريكاتوري، يعمد إلى الصفة البارزة في خلال المرء، فيزيد في وصفها بما يتهيأ له من فنون القول، ولا يتناول إلا أمراً يتصل بالشؤون العامة، على ألا يضيف إلى المرء ما ليس فيه، ولا يتدسس إلى مكارهه، ومستور هناته، حتى لا ينصرف الكلام إلى السخرية غير المحمودة به".

وبتلك الخطة أظهر الشيخ في مرآته صور شوقي وحافظ وسعد زغلول وإسماعيل صدقي ومحمد محمود وطائفة من أهل السياسة والأدب والشخصيات العامة.

سنقرأ الآن افتتاحيته عن زيور باشا الذي كان وقت تناول البشري له رئيسًا للوزراء، حيث يقول البشري في وصفه لزيور باشا: «أما شكله الخارجي وأوضاعه الهندسية ورسم قطاعاته ومساقطه الأفقية فذلك كله يحتاج فى وصفه وضبط مساحاته إلى فن دقيق وهندسة بارعة. والواقع أن زيور باشا رجل -إذا صح هذا التعبير- يمتاز عن سائر الناس فى كل شيء، ولست أعنى بامتيازه فى شكله المهول طولا ولا عرضه ولا بعد مداه، فإن فى الناس من هم أبدن منه وأبعد طولا وأوفر لحما، إلا أن لكل منهم هيكلا واحدا، أما صاحبنا فإذا اطلعت عليه أدركت لأول وهلة أنه مؤلف من عدة مخلوقات لا تدري كيف اتصلت ولا كيف تعلق بعضها ببعض، وإنك لترى بينها الثابت وبينها المختلج، ومنها ما يدور حول نفسه، ومنها ما يدور حول غيره، وفيها المتيبس المتحجر، وفيها المسترخي المترهل. وعلى كل حال فقد خرجت هضبة عالية مالت من شعافها إلى الأمام شعبة طويلة أطل من فوقها على الوادي رأس فيه عينان زائغتان، طلة من يرتقب السقوط إلى قرارة ذلك المهوى السحيق".

إنه يُشرّح الشخصية تشريحًا بادئًا بوصف ملامحها الجسمانية، منتهيًا بالكشف عن أعماقها، وعلى ذلك النهج الجاحظي يمضي الكتاب العصي على التلخيص أو العرض، لأنه من الكتب التي يجب أن تقرأ كلها من بدئها لمنتهاها لكي يستمتع مُطالعها بفنون من الكتابة لا يمكن لمقلد أن يقلدها، لأنها فنون أصيلة مرتبطة بشخصية كاتبها الذي يعترف بأنه نسج على منوال الجاحظ ولكنه سار لآخر الشوط مستعينًا بمعارفه العصرية.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منشور بموقع أصوات14 أغسطس 2019

الخميس، 22 فبراير 2024

أطياف كاميليا.. رواية النرجسية الخبيثة

 


تُعد الكاتبة الروائية نورا ناجي من أكثر بنات جيلها جدية، وآية جديتها أنها تكتب عما تعرف، وتستخدم لغتها الخاصة التي تعرف شعابها جيدًا.

نشرت نورا ثلاث روايات حققت بها مكانة متميزة بين الروائيين، ثم نشرت روايتها الرابعة "أطياف كاميليا" عن دار الشروق فظهرت منها ثلاث طبعات في أقل من عام واحد، وهذا يعني مكافأة جماهير القراء لروائية جادة.

ماذا قدمت نورا لقارئها في روايتها الجديدة "أطياف كاميليا؟" لقد قدمت حياة كاميليا عاطف وعالم أسرة مصرية تعيش بمدينة طنطا (لاحظ أن المدينة هي مسقط رأس الكاتبة).

الروائية نورا ناجي ليست من هؤلاء الذين يكتبون نصوصًا تحلق في الفراغ الكوني، بزعم تحطيم القيود، نورا كتبت رواية قبضت فيها على أزمنتها وأماكنها، فهي تبدأ مع بطلتها الرحلة من النصف الأول من التسعينات ثم تتلاعب بالزمن، فتعود إلى الخلف لزمن الحرب مع الصهاينة، ثم تواكب حركة أبطالها واصلًة إلى زمن السوشيال ميديا، ذلك السفر عبر الزمان تقوم به ولا تفلت الخيوط من بين يديها أو تتعقد، أما على صعيد الأماكن فنحن نبدأ من طنطا ونطوف شوارعها ونتعرف على معالمها، ثم نصل إلى القاهرة مع التركيز على منطقة وسط العاصمة.

ولدت كاميليا عاطف لأسرة تبدو طبيعية، والدها كان من مقاتلي حرب الاستنزاف، وفي يوم فقد ساقه، فعاش بين البطولة والمهانة.

البطولة لأنه ضحى بجزء من جسده في حرب الأمة، أما المهانة فلأنه لم يكن يقاتل، لقد أصابه لغم لا يعرف أحد هل نحن الذين زرعناه أم العدو! أما أمها فكانت من الأمهات اللاتي يُهلِكن شبابهن وصحتهن وأعمارهن في المسافة التي تفصل ما بين المطبخ والصالة، ولن يعترف لها الأب بدور إلا بعد رحيلها! ولكاميليا شقيق، له اسم مُركب (محمد ناصر عاطف) درس بالقاهرة، وكان يحلم بالإقامة بها ليتفرغ للإبداع الأدبيّ، ولكن كل أحلامه تهاوت لأنه لم يقاتل لتحقيقها، كتب مسرحية واحدة وحلم بأنها ستحلق به فوق قمم الخلود، ثم عندما لم يجد خلودًا أو حتى شهرة طيبة قنع بالعودة إلى طنطا ليعمل مدرسًا، يطارده الإفلاس فيلجأ إلى الاقتراض من زميله (جمال سلطان).

كانت كاميليا مدللة من الجميع، الأب والشقيق والأم، لم يجرؤ أحد على أن يرفض لها طلبًا، وبعد موت أمها أصبحت سيدة الدار الأولى والوحيدة حتى أنها اختارت صديقتها (نادية إسماعيل) زوجًا لشقيقها.

خارج أسرتها كانت كاميليا تلعب دور ملكة النحل، الكل يشتهيها ولكن مَنْ يقوى على الطيران خلفها لمسافات تزهق الأرواح قبل بلوغ الأمل؟

حققت كاميليا فوق ما كانت تحلم به، درست بالقاهرة، تعلمت التصوير الفوتوغرافي، صورت كل الأماكن التي تحبها، صنعت دائرة علاقات متشعبة وقوية، صارت لها زاوية ثابتة في مجلة "نصف الدنيا" الشهيرة.

بالجملة نجحت في القبض على أحداث أيامها توجهها كما تشاء. والحال كما ترى، فكيف وقعت الواقعة، وغادرت كاميليا ذات صباح بيت أبيها ثم لم تعد ثانية أبدًا ولم يعثر لها أحد على أثر؟ اثنتان فقط تعرفان مصير كاميليا، أولاهما هي الروائية التي تنسج الخطوط بإحكام ودهاء، ثم تدعي أن كل شيء يجري عفو الخاطر كاتمة أسرار أبطالها.

ثانيتهما هي كاميليا الثانية أو كاميليا الصغرى. إنها ابنة محمد ناصر عاطف شقيق كاميليا.

كاميليا الصغرى تكاد تكون نسخة طبق الأصل من عمتها شكلاً وسلوكًا.

الروائية لن تفسد اللعبة وتصرح بما تعرفه عن كاميليا الكبرى، أما ابنة الشقيق فقد لجأت إلى حيلة عجيبة تبرر بها اختفاء عمتها، زعمت لنفسها بأن عمتها كانت تمشط شعرها الطويل الغزير أمام المرآة البيضاوية ثم تلاشت في المرآة.

يجدر بنا نحن القراء أن نسأل لماذا اختفت كاميليا وليس أين اختفت!

للإجابة عن السؤال لا بد من التوقف عند قدرات الروائية نورا ناجي.

إنها تروى روايتها كأنها تنسج أقنعة تضعها فوق وجوه أبطالها، فعلى القارئ أن يصبر ويعمل جادًّا على نزع الأقنعة قناعًا قناعًا حتى تظهر الوجوه على حقيقتها.

كل ظروف كاميليا حسب ظاهر النص ترشحها وبجدراة لسعادة أكيدة، ولكن باطن النص يقول بعكس ذلك.

انظر إلى الأب الذي يدللها ويلبي رغباتها، ويفاخر بها عندما يظهر اسمها في مجلة شهيرة.

الظاهر أن الأب ليس مقصرًا، فأفعاله أفعال أب محب، ولكن الروائية الماكرة ستشير بجمل قصيرة إلى ولع الأب بمغازلة الفتيات والعبث مع الناضجات، حتى إن بائعات الأسواق لم يكنّ بعيدات عن معسول كلامه، وقد عرفت زوجته ذلك عنه بل شاع أمره بين سكان الشارع، ولكن من يستطيع التصدي للبطل المتأنق الذي وإن فقد ساقه لم يفقد شغفه بالحياة؟

كاميليا عند أبيها ليست الابنة فحسب، إنها فتاة جميلة شابة يتغذى الأب بشم عبير شبابها، يكفي أن تسعى أمامه لكي يواصل تمسكه بشباب ضاع عندما ضاعت ساقه.

لو كان الأب منصفًا عادلاً محبًا لأولاده لما صب على ولده محمد ناصر شقيق كاميليا كل سخائم التقريع والتوبيخ بل والقسوة. محمد ناصر ذكر وكاميليا أنثى وتلك هي المعادلة المسكوت عنها، وهي معادلة يسري سمها تحت السطور لا بينها ولا فوقها.

الأب سمح – بعد عناء – لابنه بأن يتعلم في القاهرة، ولكنه أجبره على عدم الإقامة بها، بينما سمح لكاميليا بأن تتحرك في الحياة بأقصى حد من الحرية. يفاخر الأب بظهور اسم ابنته في مجلة، ولكنه يصف مسرحية ابنه بالكلام الفارغ! فأين الإنصاف والعدل والمحبة؟ حنان الأب وتدليله لكاميليا ليسا سوى جزء من لعبة الأقنعة، التي ستتساقط قناعًا بعد الآخر مع توالي فصول الرواية. وقد برعت الروائية عندما صبت فصولها في قالب الشهادات، فكل أبطال الرواية يتحدثون بألسنتهم ويكشفون أسرارهم وخفايا قلوبهم، وحدها بطلة الرواية، كاميليا الكبرى هي التي تتحدث عبر وسيط، من خلال اليوميات التي تركتها خلفها وعثرت عليها كاميليا الصغرى بمصادفة عجيبة، إننا نعرف البطلة من خلال ما كتبته عن نفسها وما قاله المحيطون بها عنها.

شقيقها صاحب الاسم المركب (محمد ناصر) قال: إنه كان صديقها أولاً قبل أن يكون شقيقها الكبير الحامي والمدافع، كانا يسهران معًا ويروحان معًا ويجيئان معًا، لم تكن تفرقهما إلا ساعات النوم، وكان محمد ناصر يؤمن بموهبته الأدبية ويراهن عليها إلا أنه لم يكن محاربًا فرضخ لتعليمات أبيه، محمد هذا هو الذي بيديه سيقدم شقيقته إلى عالم "وسط البلد"، حيث الذئاب، يتفنن الواحد منهم في اصطياد فريسته بأن يحدثها عن ضرورة "كتابة النص المفتوح" ويركز على المفتوح تلك، أو يحدثها عن قدسية الانتماء إلى الكون المتسع مع التخلي عن قضايا الذات، وإلى غير ذلك من تعبيرات وجمل هي كقصف المدافع، ولا يترك الواحد منهم فريسته إلا بعد أن يفكك أوصالها، ويجعلها كومة من أشلاء بالية. في تلك الليلة التي قدم فيها محمد شقيقته لمجتمع وسط البلد، تألقت كاميليا وسيطرت وهيمنت، وتوارى محمد خلف لعثمته وارتباكه، ولمح صياد صاحب تاريخ في القنص يضغط على كف شقيقته فعرف أن الهاوية تقترب. وعندما يلمح اسم الشقيقة على صفحات المجلة القاهرية يصفها بأنها تمتلك نصف موهبة! وعندما تتألق الشقيقة يسقط محمد في جب النسيان بفعل إدمانه لتدخين الحشيش لكي يهرب من نيران الغيرة التي تلتهم قلبه. هل كان الشقيق يحب شقيقته حقًا أم كان يحتمي بحضورها المشع ويستغل نظرات الإعجاب بها، سعيدًا بأنه شقيق النجمة؟ لقد سقط قناع الأخوة والأبوة، فماذا عن قناع الصحبة؟ كاميليا هي ملكة النحل المتوجة، وكل من في الخلية هم في خدمتها، من الشغالات إلى الذكور، ليست متفوقة دراسيًّا، ولكنها تحظى بإعجاب كل المدرسات والمدرسين، يكفي أن تسير في الشارع حتى تجذب كل الأبصار، من شغالات الخلية، كانت  نادية إسماعيل التي كانت كاميليا تحتقرها، وترفض صحبتها رغم علاقات الجيرة، بل قالت إن نادية قد سرقت دفترها الذي تجمع بين دفتيه صور النجوم، وقد تسببت كاميليا في جرح لنادية لم يندمل قط، شاكستها بسخافة بأن ألقت في طريقها بخطاب من شاب يطلبها لموعد غرامي، وعندما ذهبت المسكينة إلى الموعد المزعوم وجدت كاميليا تضحك منها ساخرة وكاشفة عن أنها هي التي أرسلت الخطاب.

لماذا جرحت كاميليا زميلتها هذا الجرح؟ ظاهر النص يقول: لعب عيال وطيش شباب يحدث كثيرًا. باطن النص يشير إلى دنس يسكن أعماق كاميليا ستكشف عنه الأيام. ها قد عرفنا ماضي العلاقة بين الاثنتين، فلماذا قررت كاميليا أن يتزوج شقيقها بنادية تحديدًا؟ كل ما قالته كاميليا من أسباب هو قطعة من الهراء الفاخر! الحقيقة هي أنها لا تريد منافسة لها بين جدران بيت والدها، تريد جارية تخدمها وتخدم أسرتها تحت قناع زوجة الشقيق، كانت تريد نموذجًا تمارس عليه تسلطها ونفوذها، نموذجًا تسحقه بجمالها وحضورها، ولم يكن أمامها من هو خير من نادية التي تجتمع فيها كل المواصفات القياسية للمقموع! نادية من ناحيتها تعرف المسكوت عنه وتبادل كاميليا أعمق وأشد حالات الكراهية، وسترد لها الصاع صاعين وستنتهك سرها المصون وتتسبب لها في فضيحة مدوية! الجميل أن الروائية لا تتدخل، فتصحح وتصوب كما يفعل بعضهم، إنها تقف على مسافة واحدة من كل أبطالها، وتقص قصصهم كأن لا ناقة لها ولا جمل في كل هذا الصراع الدامي الذي يدور على مسرح روايتها. هل هناك صراع ودماء؟ وأي صراع يا صديقي، لقد غزت كاميليا ربيبة طنطا قاهرة المعز، وصارت نجمة من نجمات منتدياتها الثقافية، ثم كأي حدأة حطت على غصن رسام صعيدي.

لم يكن هناك أي خداع أو تدليس، كانت تعرف أن الرسام زوج ورب أسرة، وكانت تعرف أنه لن يعدها بشيء ومع ذلك أسقطت نفسها في حبه وفي فراشه! كاميليا أسست عش غرام، حتى إنها جاءت بـ"كِليم" ليغطي أرضية صالة عش غرامها مع الرسام. لماذا أدخلت نفسها وهي الشهية المشتهاة في علاقة معقدة لا ينتظرها سوى مستقبل قاتم؟ الروائية لن تجيب، فهي من البداية لا تتدخل في مصائر أبطالها ولا في أفعالهم، ولذا عليك أنت أن تسقط بيديك قناع كاميليا لترى سيدة مصابة بأسوأ أنواع النرجسية، وتلك يسمونها "النرجسية الخبيثة" أبدأ لن تعرف عن كاميليا شيئًا حقيقيًّا حتى لو عاشرتها سنوات، فهي حسب تعبير الأبنودي "وش الملايكة وقلب الوحوش" لها ألف قناع وقناع وكلما سقط قناع ظهر غيره، لقد ألقت بنفسها في بحيرة الرسام لكي تحظى بعلاقة زعمت هي أنها استثنائية! من ناحيتها كانت زوجة شقيقها تنبش خلفها حتى عرفت بسرها، فنبهت زوجة الرسام لتكتمل أركان الفضيحة.

جن جنون الأب، فها هي فتاته المدللة تعرف الرجال، وقد عاقبها عقابًا صارمًا تلقته هي ببلادة عجيبة، لقد جاء بـ"داية" للتأكد من عذريتها، عن أي عذرية سنتحدث؟

بعد الداية جاء دور طب "ترقيع البكارة" كانت كاميليا مستسلمة استسلام الذي خسر كل شيء وحاقت به هزيمة مذلة.

هنا كان يجب أن يظهر الرسام، لكن الروائية التي منحت للجميع فرصة الكلام والظهور وضنت بهاـ دون مبرر فني ـ على الرسام والابنة الثانية لشقيقها محمد ناصر عاطف.

كان من حق الرسام تحديدًا أن يدلي بشهادته خاصة ودوره محوري في الرواية، وكنا سنتعرف من خلاله على زاوية معتمة من زوايا السيدة كاميليا. الفضيحة –عبر تمتمات زوجة الشقيق– ملأت شوارع طنطا، وكان الحل جاهزًا فهناك “جمال سلطان” صديق وزميل الشقيق الذي تجرأ على طلب يد كاميليا.

لم تتألق نورا ناجي في رسم شخصية بطل من أبطالها كتألقها في رسم شخصية جمال سلطان، مدرس، متلعثم، غني، يقرض شقيقها لا كرمًا ولكن لأنه لا يستطيع رفض ما يُطلب منه. لا علاقة تربط بين عالم جمال وعالم كاميليا، سوى أن جمال يشعر بدونية ساحقة ويريد التخلص من دونيته بأن يتزوج البنت الأجمل والأبهى والأشهر، حتى لو كانت فضيحتها قد سارت بذكرها الركبان. من ناحيتها لم تستطع كاميليا رفضه، فزوّجته لطيفها أو لشبحها أما هي نفسها فقد صارت محرمة عليه، ظن جمال أنه بتوفيره للأشياء التي تحبها كاميليا سينال الرضا، ولكن هيهات، فالمسكين لا يعرف أن النرجسي إن قدمت له أصابعك راح يطالبك بكفك وإن قدمت له كفك طلب ذراعك، ثم لا يرضى أبدًا.

كاميليا نفسها تعترف بأنها لم تقدم لزوجها شيئًا أي شيء ولم تحاول أن تعرف عنه شيئًا أي شيء، إنها لم تسأله قط هل يفضل صدر الدجاجة أم وركها! غرق كاميليا في قصة الرسام جعلها تدون يومياتها، وذلك التدوين من أعذب فصول الرواية لأنه إبحار في نفسية البطلة، لقد كشفها التدوين وجهًا وظهرًا، وعرفنا منه أن شقيقها قد غار منها وظلمها عندما وصفها بنصف الموهوبة، الحق أن كاميليا كانت صاحبة موهبة أصيلة جدًّا ويكفيها ما كتبته عن "أبو قردان" ذلك الطائر الذي لا يهتم به أحد فيعيش سعيدًا خالي البال. لم ينقطع حنين كاميليا للرسام فكانت تغادر بيت زوجها من خلف ظهره وتهبط إلى القاهرة لعلها تلتقي حبيبها، وعندما قابلت حبيبها عادت لتكتب: أين الحب؟

ألف علامة استفهام وألف علامة تعجب لن تكون كافية لإظهار الدهشة من طبيعة نفسية كاميليا، تبحث عن حب هو لم يكن موجودًا بالأساس، إلا إذا كانت تتعامل مع لقاءات الفراش بوصفها الحب الحقيقي! أخيرًا تأكد جمال، من أن غض بصره عن سلوكيات زوجته لن يجعل أمرها يستقيم، فطالبها بالعودة إلى بيت أبيها، وعندما عادت لم يرحب بها الشقيق الذي صار سيد البيت بعد موت الأب، فغادرت المغادرة الأبدية، حتى إن ابنة شقيقها قد آمنت بأن عمتها قد تلاشت في المرآة البيضاوية! نفضت نورا ناجي يديها من تراب قصة كاميليا الكبرى، وكأني بها قد وقفت متحيرة، كيف ستنهي روايتها؟

كان أمامها أحد خيارين، الأول أن تمد الخيط إلى منتهاه، وكان ذلك الخيار الأمثل، خاصة وبين يديها النسخة الثانية من كاميليا الكبرى، أعني ابنة شقيقها كاميليا الصغرى.

الخيار الآخر: أن تنهي روايتها بأن تحقق كاميليا الصغرى ما عجزت الكبرى عن تحقيقه، لجأت نورا إلى الخيار الثاني، وظني أن لجوءها كان اضطراريًّا، لأنها خافت من مد الخيط إلى منتهاه لكيلا تصير صاحبة رواية سوداوية تكشف عورات القلوب وتفضح زيف المشاعر.

بكلمة أخيرة، ننتظر المزيد من نورا ناجي الكاتبة الجادة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منشور بموقع ذات مصر الأربعاء 16/12/2020


السبت، 17 فبراير 2024

رسالة مفتوحة لبطل رواية " عازفة الكمان "

 


 عزيزي المهندس طارق أبو النور

تحية طيبة وبعد،،

أرجوك أخي الكريم ألا تعكر صفو اللحظة  وتعترض قائلًا: كيف لعاقل مخاطبة شخصية في رواية؟.. يا أخي ليس لمثلي يقال هذا الكلام!.. أعرف أنك بطل رواية الكاتب أسامة غريب “عازفة الكمان” كما أعرف أمك وأباك وشقيقتك وأولادها وزوجها، وأعرف صديقك الدبلوماسي مدحت الطوبي، وأعرف أن الرواية صدرت مطلع عامنا هذا عن دار الشروق.

الذي لا تعرفه أنت عن نفسك هو أنك لست فكرة طرأت على رأس كاتب أو شخصية اخترعها استثمارًا لمزاج طيب أو هربًا من ملل قاتل، أنت آدمي من لحم ودم وعظام طحنتها الأيام، أنت مثلنا تمامًا ولست صفحات من ورق أصم، لك قلب (وهذه هى المصيبة) ولك عينان وشفتان ولسان وأنف، حواسك الآدمية مكتملة أخي طارق (وهذه مصيبة ثانية).

عزيزي طارق، دعني أبدأ معك من الآهة الأولى من موال الأحزان، أنت يا طارق ابن لرجل طيب مات مبكرًا وأنت ما تزال في طفولتك المتلعثمة وترك لك ثروة تكفيك وأمك الأرملة الشابة لمواصلة الحياة بصورة تبدو كريمة.

أنت تعلمت حتى حصدت شهادة الهندسة من الجامعة المصرية، ووضعت قدميك على أولى درجات سلم الصعود، حتى اللحظة لا مشاكل هناك.

تمهل يا سيد طارق، المشاكل موجودة بل أنت تعاني من أم المشاكل، أنت يتيم يا طارق، واليتامى مصابون بحساسية خاصة تجاه الكون ذاته، إنهم يشعرون بظلم ما وقع على قلوبهم، اليتامى مثلك ينفقون أعمارهم وهم يبحثون عن الدفء، قد يجدونه، وقد يتسرب من بين أصابعهم في لحظة قبضهم عليه، ثم هم يكرهون الظلم لشعورهم بأنهم قد ذاقوا مرارته، بغضهم للظلم سيجعلهم يقعون في فخ مصيبة العدل وفي شراك كارثة الحب.

عزيزي طارق أنا الآن لا أهاجمك ولا أنتقدك، أنا أحاول بنية صافية محبة تفسير أسباب ما حدث لك.كانت حياتك ستمضي كما تمضي حياة الآخرين، ولكنك في اللحظة الحاسمة، لحظة اختيار القرار لم تدرك أن الحياة كل الحياة هي كما قال أجدادنا ثلاث سكك: سكة السلامة، وهذه معروفة، وسكة الندامة وهي معروفة أيضًا، وسكة الذي يذهب فلا يعود، وتلك هي سكة الفن. لقد بدأت أنت الشوط عندما ذهبت بقدميك وبكامل حريتك إلى رجل يعلمك العزف على العود، أنت الذي اخترت، ومن هنا كانت ضربة البداية الخاسرة، لقد أحرزت بقدمك هدفًا في  مرماك في أولى دقائق مباراتك مع الحياة.

أعرف والله أن سكة الفن كانت بحثًا عن الدفء الذي غاب عنك منذ غاب أبوك في التراب، قد تكابر أو تجادل ولكن هذه هى الحقيقة يا عزيزي.. ثم قادتك غواية الفن إلى عشق العدل، حدثت بينك وبين أحدهم حادثة مرور تافهة، مجرد خدش في سيارة أحدكما، كبرت كرة اللهب وتدحرجت حتى وصلت إلى الوقوف أمام حضرة ضابط الشرطة، وهناك لطمك الضابط، لأنك حدثته حديث الند للند، ووقفت في وجهه كما يقف الرجل للرجل، عندما هوت كف الضابط على خدك، تهاوت معاني العدل وماتت في عينيك قيم المساواة والرجولة والشرف والمروءة.

إنها مجرد لطمة يا عم طارق، غيرك تنزل عليه مطارق جهنمية ويواصل حياته.لأنك مريض بالعدل فقد فررت، تركت كل شيء وذهبت لأبعد نقطة عن عالمك، تركت عزف العود وأمك وشقيقتك، وذهبت إلى أمريكا.هل كنت تبحث عن الدفء أم عن العدل أم عن المساواة، أم كنت تفر من كابوس كف الضابط.

عزيزي طارق، هذه الدنيا لا تعرف العدل، إنها صراع شرس متواصل بين المرضى بالعدل وبين هؤلاء الطواغيت، هل وجدت العدل في صقيع أمريكا يا طارق؟.

قبل مغادرتك لمصر كانت حبيبتك قد هجرتك بزعم مواصلة دراستها في المانيا، هي لم تذهب للدراسة، لقد فرت منك وتزوجت بغيرك لأنك لا تصلح لها، هى تأملتك جيدًا فعرفت أنك مريض بالعدل والحب والدفء، هي صارحت نفسها قائلة: هذا لن يكون المصباح السحري الذي سيجلب لي مباهج الحياة، إنه جلاب مشاكل ولن يكف عن جلبه للمشاكل. لقد قرأت هي داخلك جيدًا ففرت، لقد عرفت أنك مثل شاعرك أمل دنقل تنشد فرسًا نافرًا في الغمام أو جوهرة مخبأة في الوحل.

أنت من هؤلاء الذين دينياهم هناك في السماء بينما قضى الله عليهم أن يمضوا أعمارهم وهم يتعثرون في أوساخ الأرض.

في أمريكا سيبرز بغضك للظلم، لقد جاءت لك فرصة على طبق من ذهب، فثمة مصري ملياردير ينفق بسفه على كل الذين لهم أدني علاقة بنظام حكم الرئيس مبارك، فلو زعمت كاذبًا لهذا الملياردير أنك قريب لفلان أو علان من رجالات النظام لكان قد أنفق عليك وجنبك وعثاء البداية، لكنك تريد العدل والتنافس القائم على أساس متين من التكافؤ.

لن تصاحب في أمريكا سوى الدبلوماسي مدحت الذي يكرهه زملاؤه  رجال السفارة لأنه يعامل الناس بلطف وذوق ولا يشمخ عليهم بعمله الدبلوماسي.

تزوجت أمريكية يا طارق، فلم تسأل نفسك لماذا كان خراب البيت سريعًا؟

أنا أقول لك لماذا فرت منك الأمريكية، لأنك لست المصباح السحري، أنت بدأت العمل في أمريكا سائق تاكسي، ثم بعد جهاد أصبحت مالكًا لمطعم لطيف صغير، هؤلاء النسوة يا صديقي نافدات الصبر دائمًا لا طاقة لهن على العمل الجاد الشاق، هن يشتهين الثروة، ولا يسألن أبدًا عن مصدرها.

بعد الطلاق ستسقط في براثن التدخين وتجرع الخمور ومحبة القمار، بإرادة فذة ستتخلص من غواية المقامرة، وبأمر الطبيب ستتخلص من التدخين، وستبقى الخمور، كأس بعد العشاء وليس إدمان الحثالة الذين يذهب بهم الإدمان إلى المصحات.

الملياردير السفيه سيجلب فنانين مصريين لحفل في أمريكا، ستكون “أمل شوقي” وصاحبتها ليلى ضمن أبرز المشاركين في الوفد.ستقع في حب ليلى من النظرة الأولى. لو تمهلت يا طارق ما وقعت في تلك الكارثة، لقد كنت راضيًا بحياتك وقانعًا بها، الدفء الذي تبحث عنه كان ينبع من داخلك أنت، ولكنك كنت تشتهي دفئًا من خارج ذاتك.

أمل عازفة كمان متفردة، شاغب عزفها الفنان الذي بداخلك، فتركت لجام قلبك فركض كحصان جانح إلى حضنها، فماذا فعلت هى بقلبك؟.أمل تجاوزت سن الزواج المتعارف عليه، ألم يلفت هذا نظرك؟. لقد لفت فصدقت كلامها، قالت: إنا مستقلة ولا أريد رجلًا لا يحترم فني.

ثم بعد شهور من علاقتك  بها ستكتشف أنها قد خطبت ثلاث مرات، وواحد من خطابها كان  مدمن مخدرات!.. وفي كل مرة كانت تقول لك سببًا ملفقًا لفسخ الخطوبة!. أنت طيب جدًا يا طارق، على نياتك يعني، فلو تبصرت ما كنت قد وقعت في براثن أمل.

أنت كريم سخي اليد والنفس بينما أمل شحيحة لا تعرف العطاء فهى لا تتصل بك تلفونيًا لخوفها من دفع فاتورة اتصال مع بلد أجنبي!. أنت ضاحك مبتهج بالحياة رغم صعوبتها، أمل مكتئبة دائمًا وتتعاطى عقاقير تملأ بها حقيبة يدها.

أنت تلوم نفسك لو تجاوزت معدلك من الكحول، أمل حشاشة يا طارق وأنت رأيتها تلقف سيجارة حشيش من بين أصابع صديق لها، بل لعلها عملت على أن تراها تحشش لكي تكشف لك حقيقتها وتفرض شروطها من البداية.

أنت عدت إلى مصر بعد غربة دامت خمسة عشرة سنة لكي تخطب أمل فتملصت منك حتى أنها لم تكن تسعى لرؤيتك وأنت الذي قطع آلاف الكيلومترات لكي يراها. وعندما كانت ترفق بك وتراك كانت تنكد عليك الجلسة، ولكن فور أن ترى أحدًا من  المعجبين بها  تكنس عن وجهها النكد وتتسع ابتسامتها من الأذن إلى الأذن وتقوم منشرحة لكي تلتقط صورة مع المعجب!.

عندما كتبت لأملك قصيدة شعر تفيض بالمحبة الصافية، تركت كل أبياتها ووقفت عند بيت واحد تقول فيه إنك خائف من البوح، وراحت تحاكمك لأنك لم تحبها!.

يا راجل أين كان عقلك، بل أين كان حبك للعدل، أنت هكذا ظلمت قلبك وكدت تدمر حياتك، لقد أهملت مشروعك وعدت تقامر وتسرف في شرب الخمور. أمل شخصية هيسترية يا سيد طارق، فلو كان لك أدنى بصر بكتب علم النفس لكشفت حقيقتها بعد دقائق.

لا شيء حقيقي في حياة هؤلاء، إنها مجرد نوبات تضربهم فيستجيبون لها، أمل تضربها صباحًا نوبة الحب فتغرقك في وعود الوفاء الأبدية، ظهرًا تضربها نوبة الاكتئاب فتفر منك، ليلًا تضربها نوبة الشح فلا تتصل بك.

أمل  يا سيد طارق، كما يقول علماء النفس، مثل كل هيستيرية لديها شخصية اجتماعية وعندها مهارات تواصل عالية تستخدمها ببراعة للحصول على إعجاب الآخرين.ثم هي جذابة جدًا على الصعيد الجنسي، وهي تدخل في مغامرات حادة لشعورها الدائم بافتقاد الإثارة في حياتها.

ثم كل الهيستيريات لا يعطين شيئًا سوى الوعود وقبلات محدودة، هل فزت من أمل بأكثر من ثلاث قبلات وألف وعد؟.لقد نزفت أنت مشاعرك ومالك وراحة قلبك ولم تربح شيئًا، بينما هي ربحت محبًا سخيًا ينفق ماله ووقته ويبعثر عليها مشاعره.

كل أحداث الرواية أنت قصصتها على كاتبها أسامة غريب الذي سطرها كما ذكرتها أنت له، أسامة برئ من تهمة الاختراع ومن عيب الاختلاق، هو فقط رفق بك وبقرائه وبيّض وجه أمل وجمّل سيرتها عندما ختم قصتك معها بموتها المباغت لكي تظل حرارة  قبلاتها تعذب قلبك لا جسدك.

عزيزي طارق أعزيك في مشاعرك المراق دمها هدرًا.. واعلم يا عزيزي أن في كل منع منح، وقد منحك الله أسامة غريب الذي خلّد حرقة قلبك.

 # نشر بموقع أصوات بتاريخ 28 يونيو 2018م.


الخميس، 8 فبراير 2024

رمسيس عوض.. رحيل هادئ لرجل المفارقات الصاخبة

 


منطق العلاقات الإنسانية يقول إن الإنسان الذي يولد لعائلة معروفة ينال من حسن الحظ جانبًا، ولكن هذا المنطق يرتبك في حالة الأستاذ الجامعي والمترجم والناقد والمؤلف المعروف رمسيس عوض.

ولد رمسيس في العام 1925 لأسرة عوض المعروفة في صعيد مصر، يكفي أن شقيقه الأكبر هو الدكتور لويس عوض صاحب الوجود الصاخب على الساحة الثقافية المصرية والعربية، لكن لأن الرجل كان رجل مفارقات كبرى فقد أوقع الشيطان بينه وبين شقيقه ذائع الصيت، فلم يربح من صلة القربي إلا الخسائر.

 تلك الخسائر ستتجلى يوم الأحد الثامن عشر من نوفمبر الماضي، وهو يوم رحيل رمسيس، رحل في هدوء بل في صمت مطبق، وكان خبر رحيله باهتًا لا يليق برحلة عمر أفناها في التدريس الجامعي والترجمة والنقد والتأليف منذ حصوله على شهادة الدكتوراه في العام 1956.

 عرف المهتمون بشئون الأدب بخبر رحيل الدكتور رمسيس بعد موته بعشرة أيام، وتلك مفارقة عظمى في حد ذاتها.

بدأت مأساة رمسيس عندما نشر شقيقه الدكتور لويس سيرته الذاتية التي حملت عنوان “أوراق العمر” وتناول فيها ـ من وجهة نظره طبعًا ـ العالم السري لعائلته، وكان من ضمن أفراد العائلة شقيقه رمسيس الذي شن عليه حملة قاسية فقد وصفه بالغيرة والحقد والحسد، بل تحدث عن كونه عقيمًا لا ينجب.

 هذه الآراء القاسية عملت عملها في نفس رمسيس الذي سيسجل واحدة من مفارقاته ولكن بعد رحيل شقيقه لويس. كان لرمسيس رأي سلبي في كل دور النشر الخاصة، فلم يكن يتعامل معها، وقد مد خيط تلك السلبية فحظر إعادة نشر كتب شقيقه التي نفدت طبعاتها، وعندما عارضه المثقفون برر قراره بأن أصحاب دور النشر الخاصة مجموعة من المستغلين وعليهم أن يدفعوا المال الذي يحدده هو لإعادة نشر كتب شقيقه.

 تجرأ صاحب دار نشر خاصة وسأله عن المبلغ الذي يريده، فطالبه بمبلغ خرافي يدخل تحت باب التعجيز، وهنا فطن المثقفون للهدف الخفي لرمسيس، لقد أدركوا أنه يريد حظر إنتاج شقيقه لكي يرد له الصاع صاعين.

قامت قيامة المثقفين وشنوا عليه حملة واسعة ولكنه لم يرد على أحد حتى ماتت الحملة. تخيل معي كاتبًا يحظر نشر مؤلفات كاتب زميل ولا أقول شقيق، وتأمل تقلب القلوب.

 عندما ينظر الناظر إلى قائمة إنتاج رمسيس عوض سيجدها ممتلئة بثمانين كتاب، وهذا رقم كبير جدًا يحقق لصاحبه مكانة رفيعة وشهرة عريضة، لكن المكانة حققها بين تلاميذه الذين عرفوا غزارة عمله وحرصه على إتقان عمله، أما الشهرة فلم يحظ منها إلا بأقل القليل.

 من مؤلفات الدكتور رمسيس التي لا تنسى “برتراند راسل الإنسان”، “جورج أورويل حياته وأدبه”، “الأدب الروسي قبل الثورة البلشفية”، “دوستيوفسكي في المنفى”، “الهولوكست بين الإنكار والتأييد”، “توفيق الحكيم الذي لا نعرفه”، و”هل أنت شيوعي يا مستر شابلن؟”.

فكيف يكون التجاهل هو مكافأة كل هذا الإنتاج؟ لا إجابة سوى أن المفارقة كانت قدر حياة الرجل، ولم يولد بعد ولن يولد الذي يستطيع الفرار من قدره. ومن مفارقات الراحل الكريم أنه وقد عاش فوق الثمانين عامًا لم يفقد خلالها لياقته الذهنية، بل لم يفقد شغفه بالتدريس وتعليم الأجيال الشابة، وهو الأمر الذي سجلته بعذوبة تلميذته “إيريني ثابت” التي قابلته قبل رحليه بعام فكتبت في رثائه: “ما زال كما هو منذ عشرات السنوات بكامل صفاء الذهن، وحسن الانتباه، وذوق الأجيال القديمة، وبشاشة الوجه حين يلقى تلاميذه، وما زال شكله كما هو وكأن السنين لا تجد الطريق إليه، ليس حسدا كما نقول فى مجتمعنا المصرى، ها قد أمسكت الخشب أستاذي، هذا سيقلب لك موازين حسابات العمر وتقدمه، وكأن العمر له قانون آخر غير عدد السنوات وتاريخ الميلاد.

 بمجرد أن لمحته وبصوت عال قلت: “أهلا يا دكتور.. أنا حظي حلو النهارده”، التفت وفي أقل من ثوان كان ينطق باسمي متهللا برؤيتي كما أنا برؤيته، ومتذكرا اسمي، ومن أكون، وكل شيء عني، وعن أسرتي التي سأل عليها فردا فردا.. يا سبحان الله!! أنا لا أتذكر أسماء الطلاب الذين أقوم بتدريسهم أبدا، صحيح أنه كان المشرف على رسالتي ولكن هذا كان منذ عصور مضت”.

لا أبالغ عندما أكشف عن ثقتي بأن الدكتور رمسيس سيواصل من قبره مفارقاته، وسيلمع اسمه ويحتل المكانة التي تليق برجل أفنى عمره بين التعليم والتأليف.

#نشر بموقع أصوات بتاريخ 3 ديسمبر 2018م.