الثلاثاء، 24 أكتوبر 1995

إلى عماد أبو صالح.. العمر المديد لزوج نيرمين




كلما قرأت قصيدة نثرية قفز إلى ذاكرتى البصرية المشهد السينمائى «الغابر» لامرأة تستند إلى عمود إضاءة ووجهها يئن تحت وطأة أطنان من المساحيق تنفث دخان سيجارتها وتداعب بأصابع مرهقة خصلات شعرها التى جعدها المطر.. امرأة مستباحة «لا ترد يد لامس».. تدعو من رغب لإحياء ذكرى جمالها الراحل. وما أشبه قصيدة النثر «بخرابة» «يفك» فيها المضطر «حصرة» مشاعره.. وسرعان ما يتركها ويمشي غير مكلف نفسه عناء إلقاء حفنة من تراب يوارى بها «سوأة ما أفرز» من كوابيس وخبل وطلاسم وتهاويم.

والذى رسم هذه الصورة لقصيدة النثر ليس أنا بالتأكيد وإنما كاتبوها الذين يمارس معظمهم سطواً علنيًا على ما تيسر لهم من أشعار «رامبو» و«أدونيس» و«يمصرون» ما ينهبونه ويسمون أنفسهم شعراء.
ولكن يبقي هناك من «يتعب» نفسه وتحمله موهبته نحو فضاء الشعر ليعود محملاً بالأقمار والشموس والعصافير وقبساً من نور يضىء بها عتمة دمنا.
ومن هؤلاء عماد أبو صالح الذي أصدر عن نفقته الخاصة مؤخراً مجموعته «أمور منتهية أصلاً» التي وإن انتمت لقصيدة النثر إلا أن الشاعر حافظ فيها علي قدسية كينونة الشعر من حيث هي «تعبير مدهش عن تجربة حارقة».

كرس أبو صالح مجموعته لأحلام وأشواق وتجارب الواقفين - مثله - بساحة الشيخوخة المبكرة محتفيً بالولد الذي «حينما يعيرونه بساقه.. ويمنعونه من اللعب معهم.. كان يفرغ عجلة أقرب عربة ثم يقف مبتسماً.. وهي تسح من كشافيها قطرات نور حار.. وتعرج على ثلاث عجلات»

ويتمهل عند لحظة وداع محبين فيقول: "عند الوداع تتشبث كفه بكفها.. بالتأكيد سيتقابلان ثانية.. ليسترد كل منهما.. أصابعه"

و"نفض" أبو صالح "غبار" اليومي والعادي عن اللحظات الرتيبة التي تقتلنا ويعيد هندستها "بصرامة" "نافخًا" فيها روح الشاعر المقدسة ويجعل من عينيه "كاميرا" يقتنص بها المشاهد وتتكفل روحه الشاعرة بالحفاظ عليها "طازجة" ومن ذلك قوله: "مشبك في الشرفة.. يمنع ثوب امرأة وحيدة.. من أن يطير.. لجلباب رجل وحيد", ويسجل في تكثيف جميل احتفاء أم بجمال بنتها فيقول: "حينما ينطفئ المصباح فجأة.. تقول لها أمها: - التي نهرتها مراراً - عري ساقيك.. لنهتدي لمكان الثقاب"
ويبلغ التكثيف مداه عندما يسجل عماد أبو صالح انبهاره بامرأة جميلة في سطر واحد "حين تنفض قميص نومها.. تمتلئ الحجرة بفراشات بيضاء" وكأنما أغرته صورة الفراشة والمرأة فعاد إليها مرة أخرى "الفراشات الجميلة.. سيصنعن ثوب زفافك يذهبن.. فراشة.. فراشة.. ويتركنك عارية لي" وعلى هذا النسق تمضي المجموعة صانعة "نفحة" من الاندهاش الذي غاب عنا طويلاً فالشاعر يعتمد اعتمادًا شبه كلي على المقطوعات الصغيرة "المدببة" في إقامة علاقة حميمة مع قارئ نصوصه ناجيًا بنفسه ويشعره من الوقوع في "فخ" الأساطير الإغريقية والرومانية التي تخنق روح قصائد  أترابه التي لا تتماس ووجدان القارئ العربي إلا بشق الأنفس فليس في قصائد أبو صالح  إلا ما يعرفه هو ويؤلمه هو محددًا بذلك ملامح دمه الذي يشبه دمنا كثيراً إن لم يكن قطرة منه نحن الأولاد الصغار الذين يأسف لهم عماد قائلاً: "بكل أسف عملنا قوادين - نحن الأولاد القرويين الصغار - الذين حملنا بطاتنا.. ليضاجعها ذكور بطات الجيران".

والمقطوعات الصغيرة "المدببة" التي هي نواة المجموعة الصلبة أشبه ما تكون بالمشي فوق جمرات صغيرة تمهيدًا لأن يلقي الشاعر بجسده الأخضر في فوهة بركان اسمه "نيرمين وزوجها" عن الكتابة عن "محرقة" نيرمين يبطئ إيقاع الشاعر وكأنه يدعونا "للفرجة" على جرحه المفتوح, ويمطرنا بسيل من أسئلة العشاق الساذجة الطيبة المدهشة وكلها عن نيرمين شأنه في ذلك شأن أي محب يقسم أن محبوبته كائن نوراني لم يمسها من غبار الآدمية شيء
 يقف "الملدوغ" بنيرمين أمامها ويقول: "أهي امرأة كالنساء؟! لها مساحيق, وجارة تغار منها, ومطبخ صغير! هل تداهمها الإنفلونزا؟ وهل تتسخ ملابسها الداخلية؟ أكان لها - وهي طفلة - أبوان يتشاجران كل مساء؟ هل ضربها مرة مدرس الرياضيات؟ وهل سيحاسبها الله مهما ارتكبت من آثام؟ "إن ارتكبت أصلاً" وهذه الأسئلة كانت الوجه المضيء من القمر ولا مهرب من الوجه الآخر, فعندما تنفض نيرمين يديها منه يعمد إلى تعريتها من أثوابها النورانية التي كساها بها..
ومثل الأطفال عندما يغضبون يقولون كل شيء يصرخ "الملدوغ" بنيرمين  : "تداهمها الدورة الشهرية.. ولها زوج قذر يضاجعها مرتين أسبوعيًا.. وأبوان قذران لايزالان يضربان بعضهما.. لولا المساحيق لبدت بشعة جدًا نيرمين ثم إن مطبخها الصغير به بقايا فاصوليا.. وأوان كثيرة "وسخة" وهي - كذلك - شهوانية جدًا.. ييوهو هووه.. فتحت الباب فجأة وجدتها قريبة جدًا.. من رئيس العمل ويقال إنها تفعل أشياء.. ـ لو لم يكن للواحد أخوات بنات لذكرتها لكم كاملة ـ  والله - حتمًا - سيقذف نيرمين في جهنم يا إخواني
" وبعد "تعرية" نيرمين ظننا أنه قد "تاب" عنها ولن يعود لذكرها ولكنه فاجأنا بقصيدة أخرى كلها اشتهاء "لمجرد وجودها في الحياة" تمنى فيها أن يموت زوج نيرمين لكي تعود له ونسى أنها تفعل أشياء "استغفر الله العظيم" مع رئيسها في العمل.. بل مضى يرسم وبدقة كيفية موت الزوج ويوم موته بالتحديد :  "سيموت مساء الأربعاء القادم.. حين يضغط مفتاح الإضاءة ويده مبتلة بالماء.. إن منظرة مضحك جدًا.. والأباجورة ملقاة على مؤخرته.. والزبد على شفتيه اللتين قبل نيرمين بهما.. الأطباء وجدوا كرات ثلجية وهم يشرحونه بالمقصات والمشارط" . وتقوده الأماني بعد موت الزوج إلى الزواج بنيرمين : "سيكون شكل نيرمين رائعًا في الأسود.. أرملة صغيرة تستقبل المعزين.. منديلها عليها دمعة صغيرة. سرادق عزاء أم حفل عرسنا"؟!
ها قد مات المسكين وها هي نيرمين يلقي إليها "الملدوغ" بأوامره:

"أريد فاصوليا على الغداء يوميًا
يا نيرمين قلت لا تطلي من الشرفة, سأسمح أن تناديني أسبوعًا باسمه".
وقبل أن يكمل إملاء باقي شروطه يتذكر محسورًا أن زوج نيرمين لم يمت بعد فيعاود "الابتهال" "يموت يوم الخميس على أكثر تقدير".
ويا أيها الملدوغ بنيرمين،  زوجها لن يموت وإن مات فلن تكون لك, وإن أصبحت لك فستكون قد "شاخت" لا تقوى حتى على صنع طبق من الفاصوليا, ادع معي أيها "الملدوغ": العمر المديد لزوج نيرمين لتظل محترقًا بها ويتدفق دمك عليها شعرًا مدببًا مدهشًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة الأحرار - الثلاثاء 24 أكتوبر 1995

الأربعاء، 11 أكتوبر 1995

هيكل وحمودة وأسئلة من الوزن الثقيل






لحظة حدوث محاولة اغتيال الرئيس مبارك تلفت عادل حمودة نائب رئيس تحرير روزاليوسف يبحث عمن يفتش معه عن بقعة ضوء في ظلام لحظة ارتجف لها بدن الوطن لم يكن حمودة يبحث عن «هتيف» يصرخ سيسقط الخونة» كما لم يكن يبحث عن «حاوي» يخرج من قبعة التاريخ «كتكوتًا» ملونًا يلهى به الأبصار ويضلل البصائر وينتزع «بصوصوته» التصفيق.. كما لم يكن حرج اللحظة يسمح بترف الجلوس إلى أكاديمي يغوص في «برك» الأكاديمية راميًا علينا طالب مصطلحات كذوب لا يفهمها هو ولا نحن.


ولأن اللحظة استثنائية فلابد من الذهاب إلي رجل استثنائى لايزال يعمل عقله ويقدر لرجله قبل الخطو موضعها.. ولم يكن الرجل سوي إمام كتاب عصرنا محمد حسنين هيكل.. وعليه فقد حمل حمودة منصبه كنائب لرئيس تحرير روزاليوسف «على كفه» وذهب لمحاورة هيكل.. لا مبالغة هناك.. فما أن بدأت روزاليوسف تنشر أولى حلقات الحوار الثلاث حتى هبت العواصف من كل جانب فكتب عبدالعظيم رمضان مقالات «ردح» فيها كعادته لهيكل وعبدالناصر وكل شىء وكل أحد وقامت «أكتوبر» و«الأهرام» بنشر المقالات ثم أخرجتها الهيئة العامة للكتاب في كتاب فخم قبل أن تنتهى «أكتوبر» و«الأهرام» من نشرها!!

وتوالت ردود الأفعال من داخل الوطن وخارجه كل حسب موقعه.. فالذين «مع» الجمود أقلقهم «عقل إجابات «هيكل» و«مشرط أسئلة حمودة» وأزعجتهم محاولة حمودة وهيكل صياغة موقف عقلاني يليق بقوة ما حدث في أديس أبابا والذين هم «ضد» الجمود والثبات وبقاء الوضع كما هو عليه جدد الحوار آمالهم في استيقاظ ضمير الأمة لتعرف كيف كانت وإلى ما صارت ولم يكن غريباً في هذا السياق أن يكتب الإرهابى شمعون بيريز وزير خارجية العدو الصهيونى رداً على الحوار.. وما أن جاءت الحلقة الثالثة والأخيرة من الحوار حتى انتشرت في الوسط الصحفى شائعة عن اقتراب ميعاد رحيل حمودة عن مؤسسته عززها ما نشرته جريدتا العربي والأهالى عن الموضوع نفسه، فقد قالتا إن ثمة مسئولين أغضبهم الحوار لما به من جرأة فى الأسئلة والإجابات معاً.. ولأنهم أي المسئولين لا يملكون تحجيم «عقل هيكل» فإنهم يستطيعون إقصاء «مشرط حمودة» عن مجلة «روزاليوسف».


والآن.. ماذا جاء في الحوار الذي أزعج الجميع وأصدره مؤخراً حمودة في كتاب مضافاً إليه ما سبقه من حوارات مع هيكل؟
في الحقيقة نظلم الرجلين لو أسمينا ما كان بينهما «حواراً»، فقد كبر كلاهما عن ثوب الحوار الضيق.. وامتد ليصبح محاولة جادة للفهم ولتقييم ما جري ولاستشراف آفاق تبدو ضبابية كانت أسئلة حمودة من نوع «الوزن الثقيل» فهو يسأل هيكل: هل يمكن أن تتخيل شكل السيناريو لو قدر الله ونجحت محاولة أديس أبابا؟ سؤال كهذا لم يطرحه قبل حمودة أحد.. ولم يجب عنه أحد قبل هيكل الذي قال في إجابته: سيدخل الجيش ويأخذ السلطة.. فليس هناك نائب رئيس.. والحكومة الموجودة لا تتمتع بمصداقية.. الوضع المتوقع أن يمد الجيش ذراعه ويأخذ السلطة.. والجيش منطقة محرمة لا نتكلم فيها ولا نعرف ما فيها، ومن ثم صورة الحكم القادمة في هذه الحالة.. مجهولة.. وهذه هي الكارثة.

ويعود عادل حمودة للسؤال: المثير للدهشة أن نتيجة الهزيمة في 1967 كانت التحدي، نتيجة الانتصار في 1973 السلبية والانكسار.. ويجيب هيكل: لأننا ببساطة غيرنا مجموعة القيم التي كانت تحكمنا ولأننا لا نتوقف للفرز ولا للقراءة.

وترتفع حرارة الأسئلة ويبحث حمودة عن مواقف «مصر الرسمية» من حكومة السودان وعن توصيف دقيق لمن دقوا طبول الحرب.. ويجيبه هيكل: الذين يطالبون بأن نقاتل السودان ألا يعرفون أنك حتي تقترب من الخرطوم ستقطع حوالي 1500 كيلو متر في العراء على مجري النيل.. وتصبح عرضة لحرب عصابات ليس لها حل.. ثم.. دم بينك وبين السودانيين.. مستحيل.. ثم هناك شروط للحرب مع السودان أولاً: الشعب المصرى لن يقبل أخلاقياً بالحرب مع السودان ولا الشعب السودانى سيقبل - ثانياً: العالم لن يتركك.. وستكون كارثة - ثالثاً: هذه حرب فوق وسائلك لأنه ببساطة أراضى السودان شاسعة جداً والسيطرة عليها وتأمينها مسألة مستحيلة وإذا قررت أن تضرب ضربة عقابية وتعود فهذا سيؤدي إلي تهديد دائم لمصالحك.. رابعاً: ما الذي تريده من هذه الحرب؟.. إذا تصورنا أن الحرب فرقعة سلاح فهذا خطأ وإذا كانت الحرب انتقاماً للكرامة فالثمن سيكون فادحاً هل تستطيع احتلال السودان؟.. هل تستطيع الوصول للخرطوم وتمسك به هو والبشير.. لا أحد يعرف ما الذي يمكن أن نجنيه من هذه الحرب.. ومن ثم فهي حرب تفتقد شروطها.


ويواصل هيكل إجابته عن السؤال المؤلم: لقد كانت مصر قادرة بتأثيرها ونفوذها المعنوى علي الوصول لكل قلب في الخرطوم.. فماذا جرى لنا؟ إجابة هيكل فتحت الباب أمام سؤال طرحناه جميعاً عن دور الصهاينة فيما جري ويجري ومرة أخرى يحلل هيكل الموقف نفسه دون الوقوع في فخ الإجابات الجاهزة. يقول هيكل: في كتابي «الحل والحرب» قلت إن موشى ديان كان يرى أن الحفاظ علي أمن إسرائيل لا يتحقق إلا بدخول العرب في تناقضات أمنية بعيداً عن إسرائيل وهذا ما حدث.. مصر الآن مشغولة بالسودان، وسوريا مشغولة بالعراق، والعراق مشغولة بالكويت، والكويت مشغولة بالأردن، والأردن مشغولة بقطر، وقطر مشغولة بالسعودية، والسعودية مشغولة باليمن، وهكذا...



 ويبقي من «الحوار الكتاب» الكثير من القضايا التي فجرها حمودة مع هيكل في رحلة بحثهما عن إجابة لأسئلة من نوع «الوزن الثقيل» على نفوس بعض المسئولين!!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة الأحرار - 11 أكتوبر 1995