الثلاثاء، 8 سبتمبر 2015

البطل المنسى





وُلد محمود يونس، قبل عبد الناصر بثمانى سنوات ورحل بعده بست سنوات، وربط النضال بينهما فى عام 1956، كان عبد الناصر يعلن تأميم القناة، وكان المهندس محمود يونس يتولى التنفيذ.


غاظنى أن الإعلام المصرى قد احتفل واحتفى حتى بهؤلاء الذين مروا يومًا بجوار قناة السويس، بينما غاب اسم المهندس الأول لعملية استرداد القناة، وما كان أخطرها وأشقّها من عملية.


سطورى القادمة ليست أكثر من «فش» غيظ، لأن المهندس محمود يونس أكبر وأجلّ من أن تحتويه مقالة.


فى رحاب السيدة زينب ولد يونس فى عام 1911 لأب يعمل موظفًا فى السكة الحديد وهو أحمد يونس، واصل محمود يونس رحلة التعليم منطلقًا من «كُتاب» الشيخ محمود فى شارع العدوى بالسيدة، ثم حصل على الابتدائية والكفاءة والبكالوريا عام 1930.


قد لا نلتفت الآن إلى تلك الشهادات، ولكنها فى أيامها، حيث كان الشعب يعانى من ثالوث المهالك (الحفاء والأمية والمرض) كانت شهادات لها قيمتها وخطورتها.

التحق يونس بكلية الهندسة، التى كانت تسمى مدرسة الهندسة الملكية، وكان فى أثناء دراسته من زعماء الطلاب أصحاب الاهتمامات السياسية.


بعد معاهدة 1936 التحق بالهندسة العسكرية، وكان ضمن أول دفعة مهندسين مصريين فى الجيش المصرى، هنا أيضًا لم يعد أحد يتذكر دور مصطفى باشا النحاس فى تطوير وتحديث الجيش المصرى عندما أصر على أن تتضمن المعاهدة نصا صريحا بزيادة عدد القوات المسلحة المصرية، وهو الأمر الذى فتح أبواب الكلية الحربية أمام 99% من الضباط الأحرار، فلولا معاهدة النحاس باشا ما تمكنوا من أن يصبحوا ضباطًا بالجيش المصرى.


عرف يونس عبد الناصر خلال مشاركتهما فى حرب فلسطين 1948، وبعد الثورة وفى أثناء مفاوضات الجلاء ظهر الدور الفدائى ليونس ولصديقه محمد عادل عزت، الذى يروى هذه القصة اللافتة: «عندما بدأت مصر التفاوض مع الإنجليز من أجل الجلاء، أخذ الجيش على عاتقه تدريب الفدائيين فى منطقة القناة، بينما كان الإنجليز يتباطؤون ويماطلون فى المفاوضات، ووسط هذا كله فكّر عبد الناصر فى احتمال تدخل القوات الإنجليزية فى القنال لقمع الحركات الوطنية المطالبة بالاستقلال، وفكّر فى إرسال مجموعة مهندسين مصريين لتدمير معملين لتكرير البترول لا يوجد غيرهما فى مصر، هما معمل التكرير الحكومى ومعمل شركة (شل)، والاثنان فى السويس، بحيث يحرم الإنجليز من الوقود اللازم لمعداتهم حال تدخلهم بعنف، ويمنح المصريين فرصة للتغلب على القوات الإنجليزية.


وكلف عبد الناصر المهندس محمود يونس، وكان «بكباشى» ومدرسا فى كلية أركان حرب، وزميلًا لعبد الناصر، بهذه المهمة، والمهندس يونس بدوره اختارنى وكنت قائدًا لجناح المفرقعات واختار المهندس عبد الحميد أبو بكر، وبالفعل تسللنا نحن الثلاثة مع المجموعات التى اخترناها خلف خطوط معسكرات الإنجليز فى السويس لوضع الخطة لنسف المعملين، وأقمنا هناك فترة فى انتظار ما ستفسر عنه المفاوضات، ودرسنا كل ما يخص البترول والقناة، وعندما نجحت المفاوضات ألغيت المهمة وعدنا إلى القاهرة».


وعندما قرر عبد الناصر استعادة القناة تكونت ثلاث مجموعات، إحداها رئيسية فى الإسماعيلية والثانية فى السويس والثالثة فى بورسعيد، وكان يونس على رأس مجموعة الإسماعيلية، ولم يكن أحد يعلم سر مهمة التأميم فى المجموعات الثلاث سواه وعبد الحميد أبو بكر وعزت عادل، وبعد نجاح مصر فى استعادة وتشغيل القناة تولى يونس رئاستها لنحو عشر سنوات كاملة.


كل تلك الإنجازات انتهت إلى الظل، رغم أن الظرف يحتم أن تتصدر ذكرى وذكريات وإنجازات يونس ورفاقه المشهد.

أولًا الرئيس عبد الناصر كلف المهندس محمود يونس بتنفيذ عملية تأميم القناة، ويونس بدوره طلب آخرين يشاركونه العملية، ووافق عبد الناصر وطلب منه ترشيح مَن يرى من أسماء، وفعلًا رشح محمود يونس عبد الحميد أبو بكر وأنا، والرئيس عبد الناصر وافق. أما لماذا رشحنا يونس.. ولماذا وافق عبد الناصر على ترشيحنا فهذه قصة أخرى تعود بداياتها إلى ما قبل التأميم بنحو عامين.



هذه الواقعة من المؤكد جعلتنا نحن الثلاثة فريق عمل أثبت قدرته على التعامل مع المواقف الطارئة والصعبة وعلى استعداد للدخول فى مواجهات، وهذا ما جعل عبد الناصر يوافق على ترشيح اسمى أنا وعبد الحميد أبو بكر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة التحرير في 17 أغسطس 2015

البحث العلمي لا يعرف الفهلوة











بعد تحرر الهند من الاحتلال البريطانى فى العام 1947 أصبح جواهر لال نهرو، وهو أحد أكبر دعاة الاستقلال أول رئيس لمجلس الوزراء الهندى فى عهد الحرية.


كل مشكلات الهند وبعضها يصل لدرجة الكارثة لم تجعل نهرو ينحرف عن معتقداته السياسية والثقافية والاجتماعية، نهرو كان مؤمنًا بأن العلم هو الباب الوحيد الذى من خلاله ستغادر الهند موقعها كواحدة من مستعمرات التاج البريطانى لكى تصبح قوة إقليمية تقود منطقتها الآسيوية على الأقل.


ولكى ينفذ نهرو سياسته تلك فقد كان أول قرار يتخذه هو تخصيص ثلث الميزانية العامة للبحث العلمى.


هنا عارضه الشعب الهندى الخارج من تحت قبضة الاحتلال لتوه، وشارك فى المعارضة أعضاء حزب المؤتمر الذى يعد نهرو من مؤسسيه الأوائل، وكان هؤلاء الأعضاء من رفاق كفاح نهرو وبعضهم كان من أصدقاء عمره، وكانت حجة الجميع تدور حول أن البلد فقير ولا تستطيع مزانيته تحمل هذا العبء، وأن هناك أمورا أولى بأن نبدأ الإنفاق عليها قبل هذا البحث العلمى الذى لم يكن معظم الهنود يعرفون عنه شيئًا.


استمع نهرو إلى حجج معارضيه، ثم قال لهم كلمته الخالدة التى ستكون كلمة السر فى القفزات التى حققتها الهند: «نحن أفقر من أن نستغنى عن البحث العلمى».

ومن يوم نهرو العظيم وإلى يومنا هذا والهند تنفق على البحث العلمى حتى وصلت لأن تكون دولة نووية ومطلقة أقمار صناعية ورائدة فى صناعة البرمجيات.


مصر الآن ليست أفقر من الهند فى زمن نهرو ولا تعانى معشار المشكلات التى كانت تعانيها الهند، ومصر لديها تصريحات تطلقها يوميا حول الرغبة الأكيدة للحكومة فى التقدم والنهوض بالبلاد بعد كبوة استمرت لعقود، كل هذا جميل وجيد جدا بل ورائع ولكن الحادث على أرض الواقع يكذب كل التصريحات، ففى الوقت الذى تتبنى فيه الدولة استصلاح مليون فدان زراعى تورد «جريدة المصرى» اليوم خبرا مزعجا جدا يقول ملخصه: «إن وزارة التخطيط قررت تخفيض ميزانية وزارة الزراعة المخصصة للبحوث والاستثمارات».


هذا التخفيض طال ميزانية البحوث بمركز البحوث الزراعية التى انخفضت من 69 مليونا إلى 20 مليون جنيه، بينما تم تخفيض ميزانية مركز بحوث الصحراء إلى 13 مليون جنيه بدلا من 32 مليونا». وأضافت المصادر: «تم تخفيض ميزانية قطاع استصلاح الأراضى من 243 مليون جنيه إلى 200 ألف جنيه».


وأضافت الجريدة أن التخفيض يلغى أكثر من 15 مشروعا بحثيا لخدمة القطاع الزراعى بمركز البحوث الزراعية، و12 برنامجا بحثيا فى مركز بحوث الصحراء، ويهدد برامج مكافحة الأمراض الوبائية التابع لهيئة الخدمات البيطرية.


كما أن التخفيض لحق بميزانية الخدمات البيطرية من 40 مليون جنيه إلى 21 مليونا، ما يخلق عجزا حادا فى الأمصال واللقاحات التى توفرها الهيئة لنحو 9 ملايين رأس ماشية.

وختمت الجريدة تقريرها قائلة إن: «التخفيض يهدد خطة الدولة فى مشروع المليون فدان، الذى يشترك فيه مركزا بحوث الصحراء والبحوث الزراعية، من خلال وضع التركيب المحصولى فى 9 مناطق».


عندما قال نهرو كلمته الخالدة لم يكن يخترع العجلة، كان ينظر إلى ما هو أبعد من تحت قدميه، كان يرى الغد الهندى ويعمل على أن يكون مشرقًا ومساويا لتضحيات الشعب.



على الحكومة المصرية أن تدرك أن العلم شرط التقدم، أما الفهلوة المصرية فلن تجلب لنا سوى المزيد من التخلف.
_________________________
نشر بجريدة التحريرفي 12 أغسطس 2015

لماذا كتب محفوظ «ليالي ألف ليلة وليلة؟»













كان نجيب محفوظ متاحًا كالماء والهواء وباقيًا كأنه النيل، لذا لم استعجل مقابلته، سأقابله متى أردتُ فالرجل متاح كالماء والهواء وباقٍ كأنه النيل، طعنه مخبولٌ في رقبته، فقلت سينجو وسأقابله متى أردتُ، ثم تكالبتْ عليه أيام الزمن، فقلتُ مطمئنًا نفسى: "لن تنال منه وسأقابله متى أردتُ".


قبل رحيله بثلاثة أشهر، قابلته، كان قد أصبح عجوزًا جدًا وثقيل السمع جدًا وضعيف البصر جدًا، كنتُ أمام رجل لم يعد يربطه بماضيه سوى حس أولاد البلد الساخر، حتى وهو على حافة النهاية كان قادرًا على إشاعة البهجة والضحكات بأبسط تعليق يطلقه كأنه لا يقصد شيئًا.


كان محفوظ يجلس كما يجلس مشايخ الحارات، حوله أولاده وأحفاده وعارفي فضله ورفاق زمان شبابه، لاحظ الشيخ بحس أولاد البلد الذي لم يغادره أبدًا ارتباك خطواتنا ونحن في طريقنا لمصافحته فصاح بصوت مجلجل: "بالدور يا زباين".. ضحكنا جميعًا وسلمنا عليه وجلسنا.


قطع أحد موظفي الفندق الذي أصبح مقرًا للقاءات الشيخ بمرديه بدايات محاولات تقديم أنفسنا لشيخنا وقال للشيخ: "جاءت اليوم سيدة فرنسية مع ابنتها الشابة وتركت لك هذه البطاقة".


باغت الشيخُ الموظفَ سائلًا: "المهم الست حلوة وإلا لأه ؟"، عدنا للضحك لكن محفوظ كان جادًا، تناول البطاقة من يد الموظف وسلمها لصديقه المخرج السينمائي توفيق صالح قائلًا: "بص يا توفيق لا تستغل الموقف وتترجم على هواك، أريد منك ترجمة دقيقة، دي الست جاية من فرنسا مش من طنطا".


يومها كنت مستمعًا فقط، لم أوجه كلمةً واحدة لمحفوظ مكتفيًا بحضوري في رحابه وسماع صوته بشكل مباشر، لو كنتُ تكلمتُ لوجهت إليه سؤالًا واحدًا: "لماذا يا شيخنا كتبت روايتك ليالى ألف ليلة وليلة؟".


كان السؤال يشغلنى حقًا وكنتُ قد بحثتُ عن إجابة له لدى أكثر من ناقد، فما كان جوابهم إلّا أن قالوا: "من حق أيًا كان أن يستلهم أي عمل كان"، لم يقع جوابهم موقع الرضا من نفسي، فهذه ألف ليلة وليلة، العمل الأشهر إن لم يكن الأخلد في تاريخ النثر العربي، العمل الذي سينطلق من الزمان العربي القديم ليخترق الدهور الأوربية الحديثة، فما من كاتب عربي أو أجنبي إلا وكانت لليالي من قلبه نصيب قل أو كُثر.


ثم هذا نجيب محفوظ الذي تُروى الروايات عن حرصه على وقته بل وبخله به، فالرجل إن لم يكن يمتلك جديدًا يقدمه فى سياق استلهامه لأجواء ألف ليلة ما كان سيقدم على إهدار وقته الثمين فى كتابة رواية تحاكي عملًا خالدًا.


هل كان محفوظ قد حقق كل طموحاته بعد أن قدّم الثلاثية وأولاد حارتنا والمرايا والحرافيش و.... ثم رأى أن آوان خلق التحديات الفنية قد جاء فكتب روايته تلك؟ هل في الأمر شيء من استعراض الروائي الجبار لعضلاته الروائية؟


وكأنه يقول لنا: أنا أستطيع تقديم أجواء ألف ليلة وليلة ولكن في عدد أقل من الصفحات وبلغة تبدو حديثة ولا تتخلى عن عراقتها وفي بناء محكم يقنع القارئ بأن الخيال صالح لتفسير الحقائق ؟!!!!!!


منذ ضربة البداية يذهب محفوظ إلى الهدف مباشرة، في سطور قليلة يقدم لنا عالم سلطنة شهريار الملطخ بالدم والقهر والسلطة المطلقة التي هي مفسدة مطلقة، وحدها شهرزاد استطاعت تقليم أظافر هذا الوحش الكاسر الذي يدعى شهريار، قلمت أظافر غروره وغطرسته، لكنت بقيت روحه التي خرّبها سفكه لدماء العذارى.


هل العذارى فقط هن مَنْ دفعن ثمن جنون شهريار؟ هنا تبرز الرؤية المحفوظية لماسأة حياتنا العربية، كل الممالك تدمرها السلطة المطلقة، وكل الرعية تذبحها غيبة الحرية.



لا شيء عند محفوظ أثمن من الحرية، إنها النواة الصلبة لروايته ، يحكى الغرائب ويسرد المعجزات، ويقص الخرافات، ثم يعود للحرية التي هي عنده ليست شعارًا من الشعارات بل هي ماء الحياة، بدونها تخلو المدينة من العقلاء ويظل العاقل الوحيد هو شخص تاجر الانتيكات المعلم سحلول، ليس لأنه الاستثناء ولكن لأنه ملاك كريم معصوم من الرضوخ للطغاة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر بموقع التحرير في 4 سبتمبر 2015