الخميس، 29 مايو 2014

مسافر على الرصيف.. كل هؤلاء العظام فى كتاب واحد




عمدة الجيزة جلس على القهوة وراح يحكى ويبكى


تمنيت من الله ولا يكتر على الله شىء أن اتصل يوماً بمحمود السعدنى وأسأله فى أى "حالة مزاجية" كتبت كتابك الفذ "مسافر على الرصيف"؟ ولكن كلما هاتفت العم محمود كان مشغولاً.

العازف بأسلوب محمود السعدنى سيشغله سؤالى "فى أى حالة مزاجية كتب مسافر على الرصيف" وذلك لأن هذا الكتاب وسط كتب السعدنى هو الدرة اللامعة واللؤلؤة المجنوءة وعرق الذهب المدفون وسط الصخور.. تأمل عنوان الكتاب "مسافر على الرصيف" يوجب الإقامة والسكون والسفر يستوجب الترحال والمشى، ولكنها "سلطنة القافية السعدانية" التى تجمع بين متناقضين السفر والإقامة فى عنوان واحد.

يبدأ السعدنى كتابه بمقدمة متفردة بين سائر مقدمات كتبه يقول فيها "أنا الحقير إلى الله – هل لاحظت الحقير هذه – محمود بن عثمان بن على بن السعدنى أنحدر من أصول يمنية ومن قبيلة على حدود صنعاء رحل جدى الأول مع الفتح الإسلامى وراقت له الحياة فى مصر فأقام فى الشرقية ثم هاجر السعادنة إلى كل مكان. ولكنى لا أظن واحداً من السعادنة قد داخ السبع دوخات كما داخل العبد لله"..

 ويمضى العم محمود فى سرد الأماكن والدول والقارات التى زارها والناس التى التقى بها ولكنه يقطع سياق ذكرياته فجأة ليؤكد أن أعظم سفر قام به وتعلم منه هو سفره على رصيف مقهى عبدالله "وعبدالله هذا هو رجل بلا شأن ولا ذكر ولكنه مثاب رغم أنفه فقد دخل التاريخ من أوسع الأبواب وفى هذا المقهى الذى كانت أنواره باهتة ومقاعده مهشمة ورصيفه أعرض من حظه وشهرته أوسع من الميدان الذى كان يطل عليه. فى هذا المقهى التقيت بعشرات الأدباء والشعراء والفنانين، نماذج من البشر قل أن يجود الزمان بمثلهم ونادراً ما يجتمعون فى زمان واحد، هم جميعاً من زبدة مصر وجزء من سحرها وقبس من روحها وحفنة من ترابها وهم فى النهاية مصر نفسها".

من هم هؤلاء الرجال يا عم محمود؟ يجيب السعدنى إنهم أنور المعداوى وزكريا الحجاوى ومحمود حسن إسماعيل وعبدالقادر القط وعبدالرحمن الخميسى وزهدى ونزار قبانى وعبدالحميد قطامش ونعمان عاشور ويوسف إدريس وصلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطى حجازي وصلاح جاهين وحسن فؤاد وأبو المعاطى أبو النجا وأحمد عباس صالح ورجاء النقاش ويوسف الحطاب وعشرات غيرهم كل هؤلاء فى زمن واحد وعلى مقهى واحد.

ثم يعود السعدني ليؤكد "إن سياحتى فى قهوة عبدالله هى أهم سياحة فى حياتى خلالها هى أطول رحلاتى فقد امتدت عشر سنوات كاملة تنقلت فيها خلال الجزر الخصبة والصحراوات المجدبة ولكنها بخيرها وشرها كانت حياة حافلة وجامعات كبرى للفلسفة والتاريخ والمنطق والفن والأدب والشعر والموسيقى وفن النكتة وعلم الحديث والكلام".

وأول دولة يزورها العم محمود هى دولة أنور المعداوى الذى التقى به ذات مساء على قهوة عبدالله وعلى يديه تعلم الكثير، يقول السعدنى عندما رأيت المعداوي حسبته ضابطاً بالجيش فقد كان طويل القامة متين البنيان رافع الرأس على الدوام إنه بالجملة مخلوق من "الكبرياء" شاءت ظروفه وذائقته الأدبية بأن يكره لدرجة العمى روايات وقصص يوسف السباعى وما أدراك ما يوسف السباعى أيامها إنه جنرال الأدب الذى اندفع إلى الصدارة فجأة ليصبح رئيسًا لنادى القصة وسكرتيراً عاماً للمجلس الأعلى للفنون والآداب وسكرتيراً لنادى الأدباء، كل هذه المناصب تحملها المعداوى واتسع صدره لها ولكنه انفجر يوم أصبح السباعى رئيسًا لتحرير مجلة الرسالة يومها عرف المعداوى أن النهاية قد اقتربت وعلى ذلك شن حملة عنيفة ضد الرسالة التى كان فى زمن مضى أحد فرسانها الكبار وقابل السباعى حملة المعداوى بما هو أعنف فتم فصل المعداوى من منصب "مستشار بوزارة التربية والتعليم" ليعلم مدرساً فى مدرسة ابتدائية!! وضيقوا عليه الخناق حتى لم يعد يستطيع نشر حرف من كتاباته ولم يكن يستطيع مواجهة مصاعب الحياة إلا بمعونة مادية من صديقه الأديب محمود شعبان وبعد مقاومة شريفة باسلة انفجرت مرارات الزمن فى جوف المعداوى فمات مقهورًا محسورًا.

ومن حياة المعداوى إلى محمود حسن إسماعيل مروراً بالخميسى والحجازى يمضى السعدنى شارحًا حياة هؤلاء العظام فى لغة لم يكتب بها من قبل ولا من بعد وبحس أنضجته المنافى وبروح أتعبتها الغربة وبطرافة نصفها ضحك ونصفها بكاء. أزعم أن السعدنى عندما كتب مسافر على الرصيف كان فى يأس مطبق ثم فتحت له طاقة الأمل عندما تذكر رفاق الطريق فكتب عنهم كما لم يكتب أحد من قبل.

ستسأل ولماذا لم يشتهر هذا الكتاب – سأتوكل على الله أجيبك أنها الظروف التى جعلت حياة المعداوى فداء لقصص يوسف السباعى وجعلت مسافر على الطريق فداء الوداع للطواجن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة الجيل ــ 24 يناير 1999



الاثنين، 26 مايو 2014

تباريح جريح.. التاريخ السرى للضحك والدموع




كلما قرأت "تباريح جريح" قلت إنها الكتابة بحبر القلب ثم أعود فأستغفر الله لأن "الكتابة بحبر القلب" كلمة ظلوا يكررونها حتى أصبحت مبتذلة، ورحت أبحث عن كلمة تليق بجريح التباريح وحتى الآن لم أعثر عليها.

ويا كل المجاريح أصحاب التباريح أمامكم الآن كتاب يرفع شعار "شر البلية ما يضحك، وأوجع الضحكات ما ينتهى بالدموع" بورك الكتاب وكاتبه وبوركت الدموع.

- الكتاب جميل مثل بستان ولكنه مخيف ومتوحش وفوضوى مثل غابة ولكى تنجو من أسوده عليك بالصدق إنه الباب الوحيد الذى يقودك نحو الفهم الأكمل للتباريح ولن تكون صادقًا إلا إذا قرأته وأنت مغمض العينين ساعتها ستتلقى بركة الدموع وستتنزل عليك رحمة الدماء الخضراء التى تتدفق من جروح شهداء لن يلحقهم الموت.

الكتاب فى الأصل لم يكتب دفعة واحدة إنه مجموعة مقالات نشرتها "الأهالى" وجريدة الوطن الكويتية.

ومنذ قرأته أول مرة وحتى الساعة مازلت أقول كيف لرجل كانت الصحافة مأكله ومشربه أن يكون صادقًا لهذا الحد ولكنها "مصر" التى قالت لصلاح عيسى: "تاتا خطى العتبة" وعبر صلاح العتبة ليجد نفسه سابحًا فى فضاء إلهى لا أول له من آخر، سياسة وفكر وبشر وشظايا من ذكريات ونتف من القهقهات وسحابات من الدموع والأوجاع". وكانت مصر ومصر وحدها هى التى تعيده إلى المدار كلما خطف بصره ومض هنا أو بريق هناك.

حشد من الفلاحين والعمال والصيع والمثقفين وأنصافهم والفنانين والسهارى والمتشوقين إلى النشوات السامية يجلسك صلاح عيسى معهم وأنت وما تحب، إن شئت رأيت اللورد كرومر وهو يستمع إلى سى عبده الحامولى الذى تسلطن فأخذ يعيد ويزيد وهو يغنى "هاتوا لى حبيبى"، ومرت ساعة ثم ساعتان وسى عبده يغنى جملة واحدة هى "هاتوا لى حبيبى"، ففاض الكيل باللورد كرومر فقال للوزير صاحب الحفل ترجم لى أغنية سى عبده فلما ترجمها الوزير صاح اللورد: "ولماذا لا ترسل أحد خدمك لكى يأتى لابن الكلب هذا بحبيبته حتى أذهب إلى فراشى وأنام".

ثم يتذكر صلاح هزيمة عبدالحليم حافظ أمام أحمد عدوية فيقول ذات يوم كدت أموت من الغيظ وانفجر من الضحك عندما صادفت زميلاً صحفيًا يجلس فى مكان عام، قدم لى فتاة كانت معه قائلاً: "الآنسة فلانة.. الخطيبة السابقة لأحمد عدوية". أما الغيظ فلأننى لم أكن أعرف أن عدوية شىء مهم إلى الدرجة التى تجعل إنساناً يتمسك بهذه الصلة الواهية به.. أما الضحك فقد تخلصت منه بسرعة إذ ما كاد الزميل ينطق باسمى حتى تطوعت بوظيفة تلائم المقام قائلاً: "صلاح عيسى الخطيب السابق لجامع الإمام الليثى".

ويمسك صلاح باللحظة التى تطورت فيها الدنيا ولكن بالمقلوب وتقدمت ولكن إلى الخلف وتموعت ولم تتنوع، ويحكى أنه زار قطرًا عربيًا "تقدميًا" واندهش عندما استمع إلى أغانى عدوية تبثها إذاعة القطر التقدمى، ولكن اندهاشه زال عندما قال له مسئول إعلامى: "إنهم يحاربون عدوية فى القاهرة لأنه اشتراكى ألم تسمعه وهو يغنى "يا عينى الوله بيعيط الواد عطشان... اسقوه"، إنهم يحاربونه لأنه يحلل الصراع الطبقى فى أغنية "حبة فوق وحبة تحت"، يومها قرر صلاح عيسى أن يضيف الأعمال الكاملة للريس "بيرة" مؤلف أشهر أغانى عدوية إلى مكتبته لكى لا يفوته التطور الكيفى الذى حدث فى الفكر الاشتراكى العربى.

ومن عدوية ينتقل إلى وصف لقاء شخصى تم بينه وبين محسن محمد الذى كان فى سالفة العصر والأوان رئيس مجلس إدارة دار التحرير ورئيس تحرير جريدة الجمهورية، الذى استدعى صلاح عقب خروجه من المعتقل وقال له نريد منك "طاطش" يسارى فى صفحات الجمهورية وعرف صلاح معنى "الطاطش" بعد جهد جهيد.. يعنى "شعرة" يسار – تجد هذه "الشعرة" فى صحف كثيرة الآن – وأضاف محسن اسمع يا صلاح لا أريد هذه الشعرة فى صفحات الشئون العربية ولا فى الأخبار والتحقيقات ولا فى الثقافة والفن والمنوعات.. فقاطعه صلاح قائلاً: "أنت باختصار عايز طاطش يسارى في صفحة الوفيات طيب ما تدور على كاتب ميت أحسن لك".

سطورى السابقة لم تكن سوى ومضة من نور فصول هذا الكتاب وختامًا أرى أنى مدين لصديقى خالد محمود الذى كتب يوماً "وأنا صغير لم أكن أحلم أنى أطلع مهندس أو دكتور أو ضابط كنت دايماً أحلم أنى أطلع صلاح عيسى".. شكراً يا خالد فهذا بالضبط نفس حلمى.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة الجيل 24 يناير 1999

الاثنين، 19 مايو 2014

فى خطورة "الشوارعجية"





صرخ بعضهم بصوت جهير: لا خوف من تشييد إثيوبيا سد نهضتها، لأن البدائل لدينا كثيرة، وعلى رأس تلك البدائل حفر قناة تربط بين نهر الكونغو ونهر النيل.

صراخ هذا البعض قابله همس مرتجف متردد متقطع من آخرين يقطع باستحالة قيام مثل هذا المشروع.

الذين مثلى وقعوا فى متاهة التخمينات، ولكى أنجو منها هاتفتُ واحدا من العلماء تشهد له دراساته بأنه رجل جاد لا يسخر علمه لدغدغة عواطف المارة.

قال لى الرجل كلاما كثيرا ملخصه أن مشروعا كهذا هو ضرب من الأوهام، التى يجب أن لا نتعلق بها لكى لا ننشغل عن المطالبة بحقنا فى الحياة.

سألته: ولماذا يا سيدى وأنت العالم العارف غير المنحاز إلا لما تراه حقا، لا تخرج على الشعب وتصارحه بحقيقة الموقف.

أجاب الرجل بصوت يقطر خجلا: أخاف على عرضى وشرفى وشيبتى وأسرتى من الشوارعجية.

أفزعنى أن عالما يكتم علمه فى أمر هو ألف باء حياتنا خوفا من أن يتناوله أحد بسوء، لكن سرعان ما شعرت بالعطف عليه، فلسنا جميعا على قدم المساواة فى تحمل أذى هؤلاء الشوارعجية، الذين كانوا قبل سنوات يكتفون بالتلميح والغمز واللمز، ثم رأت دولة مبارك أن تستفيد من بذاءتهم فسمحت لهم بامتلاك صحفا فأصبح تلميحهم تصريحا، كان جميع هؤلاء الشوارعجية تحت عين الدولة ورعايتها، تطلقهم متى شاءت على من شاءت، وتكف أيديهم متى شاءت، ثم فى لحظة فارقة غاب فيها عن الدولة رشدها، سمحت لهم بأن يتملكوا قنوات فضائية، وكانت الدولة المختلة تؤمن أن (الريموت كنترول) سيظل دائما فى قبضتها، وستبقى هى المانح المانع، ثم جرت فى النهر مياه كثيرة جرفت سدود الدولة، فاتسع الخرق على الراتق، فلم يعد فى استطاعة الدولة حتى لو أرادت إسكات هؤلاء أو حتى ترشيد بذاءتهم، كما كانت تفعل فى ما مضى، لأن الأمر صار على المشاع، وأصبحت الشوارعجية منهج حياة، فإن أنت ذهبت تتصدى لها فى الصحف والفضائيات، فماذا ستفعل معها وهى متمركزة فى مواقع التواصل الاجتماعى، التى استطاع الشوارعجية مسخ معناها وتشويه مبناها، حتى إن أحد الأصدقاء قال لى إن الانتحاريين فقط هم الذين يتفاعلون على هذه المواقع.

إن واقعة العالم الجليل الذى خاف من الشوارعجية، فلم يتحدث فى أمر حياة أو موت، هو أدرى الناس به، وعندما تشجع وتكلم فى إحدى الفضائيات كان يقدم قدما ويؤخر أخرى، تفتح الباب على مصراعيه لكى نواجه هذه الظاهرة التى لها فعل السوس فى الخشب، وفعل السرطان فى الأجساد، يجب أن ندرك قبل فوات الأوان أن الحضارات ليست منجزا صناعيا، إذ إنها فى أساسها الأول منظومة أخلاقية حاكمة، يخضع لها الجميع، وتسرى قوانينها على الجميع، لكن ترك الحبل على الغارب هكذا كما نرى، لكى يقول من شاء ما شاء دون مراجعة ودون عرض على المنظومة الأخلاقية سيدمر ما بقى لنا من كرامة، وما بقى لنا من معنى الوطن العام، لقد سمعت اثنين من هؤلاء فى يومين متتاليين، وقد تفرغا لسب المرشحين الرئاسيين، أولهما قال إن أبا حمدين صباحى وأمه قد أقاما ضده دعوى نفقة!

وثانيهما قطع بأن السيسى صديق للكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، وهيكل عند هذا الشوارعجى عميل للأمريكان، وصديق العميل عميل.

هل رأيتم خطورة الأمر؟ هل أدركتم الجرم الذى اقترفته دولة مبارك عندما سمنت هؤلاء وأطلقتهم على هذا الشعب المسكين الذى أصبح حسب الفضائيات مخيرا بين عاق وعميل!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير 14 مايو 2014

الخميس، 15 مايو 2014

الكذاب لن يدخل النار






عرفته قبل عشرين عامًا من الآن، كان مثل الماء، لا لون لا طعم لا رائحة، إنجازه الأهم أنه لم يكن يؤذى أحدًا، كان يسعى فى مناكبها يرطن مثل عتاة اليسار فلا تعرف شيئًا من رطانته، ويكتب فى الاقتصاد فلا تذكر له جملة ولا تحليلًا، ثم يجرب الجرى فى مضمار الكتابات السياسية، فيتخبط بين مصطلحات لا يعرف لها رأسًا من قدمين، ثم يلقى علينا ما يظنه طرائف، وإليكم طرفته التى لم يكن يمل من تكرارها: "واحد بيسأل صاحبه، رايح فين؟ فصاحبه قاله: رايح البوسطة، فرد عليه وقاله: وأنا بريد أمشى معاك".

كنا نضحك لطرفته اللفظية السمجة من باب المجاملة، ثم فجأة غاب عن مجلسنا. الحق لم نفتقده إلا عندما قلده أحدنا ملقيًا واحدة من نكاته، ثم فتحتُ عينى ذات صباح فوجدته على شاشة التليفزيون الرسمى مرتديًا معطفًا أنيقًا، وينفث البخار من فمه وأنفه وهو ينقل إلى جماهير المشاهدين إحدى أهم جلسات مجلس العموم البريطانى، كيف له الوصول إلى عاصمة الضباب؟

متى تعلَّم الإنجليزية التى تتيح له متابعة جلسة عاصفة من جلسات البرلمان الأشهر عالميًّا؟

متى اعتمده التليفزيون الرسمى مراسلًا له فى العاصمة الكبرى؟

هل ما كان يشاع عن علاقاته المتينة بالأجهزة الأمنية التى ترفع مَن شاءت حتى عنان السماء، وتخسف بمَن شاءت الأرض، أهى وراء تلك النقلة التى يعيشها صاحبنا؟

تركتُ أسئلتى جانبًا وتفرغتُ لمتابعة ما يقوله فلم أجد شيئًا يذكر، رطانته هى هى، وأخطاؤه اللغوية كما أعرفها، فتأكدت أننى أمام أحد المشاهد العبثية التى اكتظ بها مسرح حياة نظام مبارك، حيث سيناء مثل سونيا وطنطا مثل فرنسا، وصاحبى الذى لا يعرف سوى مفردات بائسة من الإنجليزية أصبح مراسلًا تليفزيونيًّا من بلد بضاعته مسرحيات شكسبير.

ثم كما اختفى عاد إلى الظهور بيننا ثانية، ولكن جد عليه تعلم الرطانة باسم لجنة سياسات جمال مبارك، مبشرًا بأنهار اللبن والعسل التى سيسبح فيها المصريون متى حانت ساعة الحقيقة، وهى عنده تولى السيد جمال مقاليد الحكم، كنا نتركه يعوى بهذا الهراء ضاحكين من الزبد الذى يظهر على حافتى فمه عندما يأخذه الحماس لجمال مبارك، ولكن بين ضحكاتنا لم نكن ننكر عليه أنه لم يكن مؤذيًّا حتى بعد أن اقترب من ضباع نظام مبارك.

ثم جاءت الثورة فلم نسمع منه كلمة ولم نرَ له وجهًا، فقطعنا بأنه متضامن مع مبارك وضباعه، انزلق من فوق سطح ذاكرتنا ورحنا نهتم بما نراه أجدر بالاهتمام، لكن صاحبنا يأبى أن يتركنا وشأننا، لقد مكث صامتًا لا نعرف عنه شيئًا، وظل معتصمًا بصمته على مدار شهور حكم مرسى، ثم لما جاء يومنا الخالد (الثلاثون من يونيو) انتفض مدافعًا عن الشرعية!! وجامعًا لأنفار مكونًا منهم ما يعرف باسم "صحفيون ضد الانقلاب".

ثم قفز قفزته المميتة بأن ترك بلده لكى يدعو إلى تفكيك جيشه من على شاشات الأعداء. لم يكتف بالدعوة، بل راح يكذب بطريقة بشعة، يكذب كأنه مجنون، بل لقد جُن فعلًا، لأنه كان أول مَن قال إن قوات الجيش اعتقلت السيسى، ثم عندما ظهر السيسى، طوّر كذبته فقال إن أحرار مصر قد قتلوا السيسى، فلما ظهر السيسى مرشحًا رئاسيًّا قال إن الجيش يستعين ببديل يمنى يشبه السيسى!!

هل كذاب مثل هذا يستحق أن يدخل النار أم يدخل قبلها مصحة للأمراض النفسية؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير 7 مايو 2014

الاثنين، 12 مايو 2014

المخلص .. خيانة نخبة وأزمة شعب




النظرة المتعجلة ستقود صاحبها إلى أن يجزم بأن المسيحية هى التى اخترعت فكرة المخلص، ولكن بشىء من التمهل وتأمل هذه الظاهرة سنجد أن فكرة المخلص أعرق وأقدم من ظهور الديانة المسيحية، فلم يوجد تجمع بشرى من أيام المجتمعات البدائية وإلى يوم الناس هذا إلا وكان لفكرة المخلص حظها من الظهور والانتشار، ربما كانت الحوادث الخارقة التى أحاطت بميلاد الرسول الكريم عيسى بن مريم، عليه وعلى أمه السلام ـ ثم شملتْ باقى مراحل حياته ـ سببًا رئيسيًا فى ظهور فكرة (المخلص) عند المسيحيين، تلك الفكرة التى تقوم على وجود فرد فذ خارق سيتولى القيام بكل عمل وبصنع كل منهج وبتدبير كل الأحوال، بل سيتحمل هو نيابة عن الأمة بل عن البشرية كل المواجع والآلام، بل سيخلص الجميع من الخطايا والآثام وسيقدم دمه قربًانا لخلاص البشرية من خطاياها.

هذه الفكرة البراقة (المريحة) ستقع الأمم فى مراحل طفولتها العقلية فى غوايتها، وسنجد لها نظيرًا فى الشرق والغرب، ولن يصبح شرط النبوة أو الميلاد الذى هو معجزًا، شرطًا ضروريًا لكى يصبح فلانًا فى نظر أمته أو عشيرته مخلصًا.

لقد أصبح شيوع فكرة المخلص والاعتماد عليها يحتاج وجود عاملين رئيسيين، الأول: أن تكون الأمة أو الجماعة، أى أمة أو جماعة كانت، تعيش فى حالة أزمة كبرى ولا تريد أن تنهض بأعبائها معتمدة على قواها الذاتية، لحظتها تجد فى فكرة المخلص الملجأ والملاذ الذى يقيها عبء مواجهة الأزمة بعمقها وتشابكها وتعقدها.

العامل الآخر: أن يكون عقل الأمة فى زمن أزمتها غير ناضج بما يكفى لكى تبصر الأمة حقيقة إمكانياتها وقدراتها ومقدراتها لكى تجتاز أزمتها بعيدًا عن التشبث بحلم المخلص الذى سيقوم بمفرده بكل العمل.

وفى مقال لها عن فكرة المخلص عند المسلمين تقول الباحثة شروق إياد خضير: "يؤمن المسلمون بظهور (المخلّص) ولقبه المشهور عندهم هو (المهدى)". 

أما عن ولادة فكرة المهدى والاعتقاد بها عند المسلمين، فقد اختلف الباحثون بصددها وتفرقوا إلى مذاهب شتى، فبعضهم فسرها بدلالة نظرية الأزمة الناجمة عن الظروف السياسية والاجتماعية التي عاشها المسلمون فى الحقب اللاحقة على وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أشار إلى مثل هذه العوامل، مرجيليوث، إذ ذهب إلى أن اندلاع الحروب الأهلية وما تلاها من وضع قلق للإسلام، فى الجيل الذى تلا عهد الرسول هو الذى قاد إلى تبنى فكرة المهدى من المسلمين.

ويذهب العلامة الألمانى جولد تسيهر إلى القول: "إن عقيدة المهدى وما تنطوى عليه من آمال وأمان تظهر فى بيئات التقى والورع عند المسلمين كزفرة من زفرات الأسف والانتظار يصعدونها وهم فى غمرات حالات سياسية واجتماعية لا تنقطع ثورة ضمائرهم حيالها". 

فى حين يرى روتلدسن، أن الفشل الظاهر الذى أصاب المملكة الإسلامية فى توطيد أركان العدل والتساوى زمن دولة الأمويين، كان من الأسباب لظهور فكرة المهدى آخر الزمان، إلى أن جور النظام العباسى وتعسفه لم يكن أقل من النظام الأموى حفزا للنفوس إلى التمسك بعقيدة المهدى.

ثم تمضى الباحثة الجادة فى مقالها متقصية الأثر الذى تركته هذه الفكرة فى عقل الأمة ووجدانها، لقد انقسمت الأمة حول فكرة المخلص إلى فريقين رئيسيين، فتقول: "يعتقد أهل السنة أن ظهور المهدى، هو أحد أشراط الساعة، أما العلامات الأخرى التى تسبقه وتليه، فهى كثيرة، منها: كثرة القتل وقلة العلم وظهور الفتن وكثرة الزلازل وارتفاع الأسعار وانتشار الأوبئة وموت الفجأة والهدنة مع الروم وظهور الدجال ونزول عيسى عليه السلام وخروج يأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة وظهور الدخان فى السماء وحدوث ثلاثة خسوف فى الأرض، ويلى ذلك كله انقلاب الكون وفناؤه ثم موت الجميع، ثم البعث والحساب.

 أما الفريق الآخر وهم الشيعة فأولئك يؤمنون بأن المهدى (المخلص) له وجود الآن، فقد ولد سنة 255هـ أو 256هـ، فى سُرَّ من رأى -سامراء- وهو معلوم النسب، فهو محمد بن الحسن العسكرى بن على الهادى بن محمد الجواد بن على الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن على زين العابدين بن الحسين بن على بن أبى طالب، أى أنه الإمام الثانى عشر فى سلسلة أئمتهم المعصومين".

هل رأيت ما أحدثته الفكرة من فجوة بين أبناء الأمة الواحدة، وهى تلك الفجوة التى لم تلتئم قط، بل كانت سببًا مهمًا فى عداوة لا تزال قائمة.

فمنذ بداية تكوين المجتمعات كانت الأسطورة تلعب دورًا خطيرًا فى تشكيل وجدان تلك المجتمعات، وليس هناك ما هو أشد خطورة على الوجدان من فكرة الشخص الفرد المخلص.

هذا التشبث بحلم المخلص سنجده مكتملًا فى قصص عديدة، بعضها قديم مثل قصة الهلالية بقيادة زعيمهم وقائدهم أبو زيد الهلالى الذى استنفدت فيها الأمة كل أحلامها فى المخلص الفرد الفذ الذى لا يهزم أبدًا كما أنه لم يهزم قط، وقد نسبت إليه الأمة كل معجز من الأمور حتى أن سيرته أصبحت ملحمة هيمنت على العقول والأفئدة لقرون متطاولة، هذا كان صنيع الأمة فى مرحلة من مراحل أزماتها وفى فترة من فترات طفولتها العقلية، فإذا وضعنا قصة الهلالية على طاولة البحث العلمى سيبدو ما فيها من أساطير خلقتها الأمة لكى تعبر عن أشواقها إلى الخلاص من مواجعها.



وليس بعيدًا عنا زمن أدهم الشرقاوى، الذى يعد نموذجًا من نماذج صناعة المخلص، وذلك لأن قصته تحقق فيها الشرطان، شرط الأزمة وشرط طفولة العقل، بنظرة سريعة إلى المتيسر من المراجع والمصادر التاريخية سنجد أنفسنا أمام ركام من الحقائق وأنصافها والأكاذيب وأنصافها.

ولد أدهم الشرقاوي فى قرية زبيدة بمركز إيتاى البارود عام 1898(يعنى بعد كارثة احتلال بريطانيا لمصر بسنوات معدودة) وبعد ميلاده وحصوله على قدر من التعليم، ستبدأ أسطورته التى خلقتها أو بالأصح اختلقتها الأمة، بعض المراجع تقول إن أدهم كان مناضلًا مقاومًا للاحتلال البريطانى، وكان يسرق الأغنياء لينفق على الفقراء، العجيب أن الذين قالوا إنه كان يقاوم الاحتلال البريطانى ويسرق من الأغنياء ليعطى للفقراء، يقولون أيضًا إنه قد أصبح مجرمًا، ولكن بمحض الصدفة، إذ أن عمًا له قد مات قتيلًا وأصر أدهم على أن يثأر له، ومن لحظة الثأر هذه جرفته الجريمة إلى هاويتها التى بلا قرار.

هذا التخبط أو التلفيق فى الروايات لا يقف عند هذا الحد، إذ أننا سنجد رواية آخرى تقول إن أدهم الشرقاوى كانت بينه وبين عمه عداوة، ولكى يستطيع مواجهة عمه هذا الذى يقولون إنه كان عمدة للقرية فقد شكلّ أدهم عصابة من أقرانه، كان هدفها إشاعة الفوضى من خلال سرقة مواشى القرية لكى يثبت للرأى العام ومن ثمّ للحكومة القائمة أن عمه لا يستحق منصب العمودية.



ثم اندلعت أحداث ثورة 1919 وكان عود أدهم الشرقاوى قد أشتد وذاع صيته فى البلاد، فعمل مع جماعته على إيقاف قطار بريطانى كان محملًا بالسلاح والذخيرة، فنهبوا القطار بما فيه، فما كان من الأمة التى تبحث تحت وطأة أزمتها عن مخلص إلا أن قالت أن الشرقاوى نهب القطار لكى يوزع الأسلحة على الفلاحين حتى يتمكنوا من مقارعة ومقاومة الاحتلال البريطانى.

ولو مضيا في تتبع تخبط قصة الشرقاوى والخلط الذى يسود أوراقها ما انتهينا، ولكن يبقى الشاهد من ذكر مثل هذه القصة حاضرًا فى زماننا هذا.

إنه حال الأمة فى زمن أزمتها، عندما تترك عقلها جانبًا وتسعى خالقة -ربما من عدم- شخص مخلصها، العجيب أن يستمر حال الأمة على هذا المنوال رغم ثبات فشل فكرة المخلص، ورغم ما حصلّته الأمة من معارف وعلوم وفنون وخبرات، تتيح لها أن تدرك الفارق الجلى بين شخص يقود شعبًا وبين شخصية تخلص الشعب من عبء مواجهة أزمته الحقيقية.

لعلنا نلاحظ جميعًا الظهور المتجدد لفكرة المخلص فى أعقاب الثورة المصرية 25 يناير 2011، وذلك لأن الثورة تبدو وكأنها قد باغتت الثوار أنفسهم، الذين انخرطوا فى أعمال وفعاليات الثورة بفعل تراكم الغضب لا بفعل تنظيم دقيق يضع الخطط ويهندس الخطوات، فما إن تم الإعلان عن تنحى مبارك عن الحكم حتى ظنتْ أكثرية الشعب إن تلك بشارة الانتصار النهائى والحاسم للثورة، ولكن مع تتابع الأحداث تبين للكافة أن خروج مبارك من قصر الحكم لا يمثل سوى انهيار قمة جبل الجليد، أما قاعدة الجبل الراسخة فلم ينالها  سوى تغيير طفيف يكاد لا يرى، هنا ظهر دور النخبة أو الطليعة المصرية فى تذكير الشعب بفكرة المخلص.

كان الواجب يحتم على النخبة أن تبصّر الأمة بحقيقة الأزمة وأن تطرح لها من الحلول ما يتوافق مع الإمكانيات الحقيقة المتاحة، ولكن هذا الواجب لم تقم به النخبة، التى استسهلت قذف الشعب بفكرة (المخلص) التى تتمحور حول شخص يتمتع بكل ما هو خارق للعادة واستثنائى، وكونه خارقًا يجعل من المحرم طرحه للنقاش وطرح قدراته الحقيقية للبحث، النخبة هنا تخون دورها فى التنوير، وتميل إلى دغدغة مشاعر الشعب ولو على حساب الحقيقة، ولأن الشعب فى لحظة أزمة يبدو فيها مثل الغريق الذي يتعلق أمله فى بلوغ البر بقشة، فإنه يسعى من ناحيته إلى حقن أسطورة أو خرافة المخلص بحرارة روحه ودم قلبه، فإذا بالأسطورة وقد كساها الشعب من لحمه وجلده وعظمه قائمة كالحقيقة المطلقة التى لا يجوز معها نقاش ولا يجوز معها إقامة حوار.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بمجلة الثقافة الجديدة  مايو 2014



الاثنين، 5 مايو 2014

فريق التدليس





لأن الدولة المصرية (على مدى تاريخها) لا تصدق شعبها ولا تثق به ولا تراهن عليه سوى فى الأغنيات فقط، فقد وقعت يوم الثالث من يوليو الماضى فى حيص بيص، الدولة لم تشاهد عشرات الملايين الذين تدفقوا إلى الشوارع لكى يخلعوا مرسى وعصابته من فوق كرسى الحكم، لم تسمع هذا الهتاف المزلزل (ارحل) لم تشعر بحرارة وصدق الموقف الشعبى الرافض لأى مساومة مع عصابة البنا، ولأن الدولة لم تشعر بكل هذه المفردات، فقد جمعت يوم الثالث من يوليو، وفى جلسة واحدة بين الثورى الذى واجه نظام مبارك (الممتد والمتمدد لزمن مرسى) وبين الذين يكفرون الثورة ويعتبرونها خروجًا على الحاكم الشرعى.

 كانت الدولة يوم الثالث من يوليو تقول للخارج هل تريد امرأة؟ معنا سكينة فؤاد. هل تريد شيخاً؟ معى شيخ الأزهر. هل تريد راهبًا؟ معى بابا الكنيسة. هل تريد شابًا؟ معى قادة حركة تمرد. هل تريد ليبراليًا؟ معى البرادعى. هل تريد ملتحيًا يرطن بكلام الإخوان؟ معى يونس مخيون.

هذه كانت صورة التحالف فى الثالث من يوليو، وهو تحالف هش، سرعان ما ستحكم بانهياره عندما تتأمل السبل التى أختارها كل فريق من مكوناته، ولكن بقى فريق واحد ذهب بعيدًا فى التمسك بمكتسباته، لمجرد أنه ظهر فى الصورة التذكارية، ذلكم هو الفريق المسمى بالسلفى، تنظر إلى هؤلاء من اليمين إلى اليسار ومن أعلى إلى أسفل فلا تجد غير رطانة عصابة حسن البنا وقد توارت خلف ابتسامة لزجة، ماذا قدم هؤلاء حتى يتم لصالحهم ولحسابهم اختراق الدستور حتى من قبل كتابته، نعم لصالحهم لم يتم حظر الأحزاب الطائفية العنصرية التى تقوم على أساس دينى، وهكذا بقى حزب النور، يعاند ويعرقل ويفرق، ويطلق كل يوم قنبلة دخان، تكثف الضباب وتعمى العيون عن رؤية الواقع، يخترعون فى كل يوم معركة، وتحت ستار أو زعم مشاركتهم فى الثلاثين من يونيو، يحتلون منابر المساجد ويقصفون من فوقها العقول والقلوب، يطلقون الفتاوى الشاذة التى لا تنير بصيرة ولا تخاطب قلبًا ولا تؤثر فى عقل ، كل شغلهم الشاغل هو الإستيلاء على أكبر قدر ممكن من الوجود الإعلامى والسياسى، ثم احتلال المساجد، ولكن من الإنصاف ألا نحملهم بمفردهم المسئولية، لأن الدولة شريك فاعل فى هذا التحالف الهش بل السام، وحسبنا هنا أن نشير إلى تصريحات الصادرة عن قيادات بوزارة الأوقاف، والقاطعة بأن ثمة اتفاق أو بروتوكول قد تم توقيعه من السلفيين، ولكن السلفيون هم الذين لم يحترموا ما تم الاتفاق عليه!!!

هذه التصريحات هى كارثة من كوارث الدولة الرخوة، التى لا تؤمن بشعبها ولا تثق به، ولذا فهى تبحث عن حلفاء حتى لو كانوا سيدمرون عاجلًا أو أجلًا كل ركائزها.

هل سألت الدولة يومًا نفسها عن حقيقة إيمان السلفيين بمعنى الوطن؟ 

هل سألت الدولة يومًا نفسها عن حقيقة المعتقد السلفى؟

ألم تتعلم الدولة أن هؤلاء وإن تواروا الآن خلف ابتساماتهم المصنوعة فإن لهم ثأرًا لدى الدولة العصرية؟

واحد من أكابرهم فضحهم الأسبوع الماضى عندما صرح علانية بأن تسعين بالمائة من ضحايا تجمهر رابعة الإرهابى كانوا من السلفيين.

ماذا كان يصنع السلفيون فى رابعة والنهضة، سوى صب المزيد من الزيت على نيران الفتنة المشتعلة.

متى ستتعلم الدولة الدرس، وهو أن السلفيين كالإخوان تمامًا، دعوة أممية، الوطن عندهم مجرد ولاية من الولايات أو إمارة من الإمارات، ولا يشغلهم بحال من الأحوال كلام من الذى نقوله عن استقلال القرار الوطنى أو بسط السيادة الوطنية فوق كامل التراب الوطنى، كل هذه الأمور هى بالنسبة لهم من أراجيف الغرب الكافر الذى ابتلانا بالديمقراطية الكافرة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير


الخميس، 1 مايو 2014

كشاف يا ريس




السيد الرئيس القادم، سأنتهز فرصة أننى لا أعلم يقينًا اسم فخامتكم، وأجعل البساط أحمديًا فيما بينى وبينكم.

فخامة الرئيس، هل تعرفون شارع التحرير؟ ستكون كارثة إن لم تكن تعرفه، عمومًا هو شارع استراتيجى، كثيرًا ما تسبب ارتباك مروره فى إصابه العاصمة بالشلل، فى بداية هذا الشارع من ناحية تقاطعه مع شارع السودان، أقام الزمان سويقة، نعم أقامها الزمان، سويقة فيها كل ما تريد، من بذاءة الميكروباص إلى غيبوبة البانجو والترامادول وصولًا إلى كافة أنواع السلع المهربة التى لا تخضع لأى قانون كان.

 من أبرز معالم هذه السويقة أهرامات من كشافات الكهرباء، الواردة من دول النمور الأسيوية، أصارح فخامتكم أننى ساهمت فى انتعاش الاقتصاد الأسود بشرائى كشافين، لقد وقفت يا فخامة الرئيس أمام أحد الباعة لخمس دقائق لا تزيد، قام خلالها ببيع عشرة كشافات متنوعة الأحجام والأثمان، تبدأ من 35 جنيهًا وتصل إلى مئة جنيه، طبعًا لا حديث عن جمارك أو استحقاقات ضرائب ولا كل هذا الكلام المثقف الذى لا يجد له صدى لدى شعب يعانى من الظلام معظم ساعات الليل.

هنا يا صاحب الفخامة تذكرتُ الفنان فريد شوقى، ملك الترسو أو وحش الشاشة، التوصيف متروك لفخامتكم، حسب طبيعة مشاعركم تجاه الفنان الراحل.

كان فريد شوقى رحمه الله حلانجيًا وفهلويًا شأنه شأن أولاد البلد، لعلكم تذكرون له من بين أدواره دور المطرب حسن أبو الروس فى فيلم بداية ونهاية، حسن الذى كان له صوت وابور زلط ومع ذلك كان يرتزق من الغناء، الأستاذ فريد يا فخامة الرئيس، عاش فترة اشتعال حمى معارك الحرب العالمية الثانية، وما صاحبها من أزمات شملت جميع مناحى الحياة، بداية من الأخلاق ونهاية بـ (الشاليمو) ملك الترسو يا صاحب الفخامة لم يكن مرفهًا حتى يفتقد الشاليمو، ولكنه بطريقة أولاد البلد قال فى قرارة نفسه: "يا بخت من نفع واستنفع".

ملك الترسو يا فخامة الرئيس قال لبرنامج إذاعى قديم إنه فكر بطريقة مصرية فى تقديم علاج ناجح لأزمة اختفاء الشاليمو المصنوع من البلاستيك، لقد قام بشراء فدان من أولاد القمح، ثم دعا صبيان وصبايا المنطقة التى كان يسكنها، وأعطى لكل واحد منهم مقصًا صغيرًا وطلب منه أن يقص كل عود إلى أطوال تناسب طول عود الشاليمو، تصدق بالله يا صاحب الفخامة أن كل عود قمح قدم خمسة شاليموهات، ملك الترسو المصرى الحلانجى الفهلوى عرض على محلات العصائر، الشاليمو المصرى المصنوع من أعواد القمح، المحلات تلقفت شاكرة هذا المنتج الذى حل لها أزمة قاسية، بل وطلبت من فريد مضاعفة الكميات، بعد هذا النجاح السريع والمدوى لفكرته حسب ملك الترسو حسباته فعلم أنه سيربح من شراء كل فدان من أعواد القمح بعد خصم كافة المصاريف أربعمائة جنيه، أربعمائة جنيه بحساب الأربعينيات، يعنى شىء يشهق منه الخيال حسب تعبير نزار قبانى.

فخامة الرئيس، ما القصد من كل هذا الكلام، صنع كشاف مصرى يا صاحب الفخامة، مادام قد كُتب علينا الظلام، ومن الواضح أن الموضوع سيطول، فمن الواجب أن نفكر فى صنع كشاف، مجرد كشاف، سنحقق من مبيعاته المليارات، حتى يقضى الله أمرًا كان مفعولًا بخصوص فيلم الكهرباء السخيف.

طبعًا فخامتكم لن تصنعوا الكشاف فلستم من طائفة الكهربائية، وليس هناك عاقل أو حتى مجنون يطالبكم بذلك، ولكنكم مطالبون بأن تستغلوا طاقة المصريين على الفهلوة، هذا كشاف وليس أكثر، والمصرى الذى هدم خط بارليف بخراطيم المياه وتسلق قمته بأحبال الليف يستطيع صنع كشاف من مخلفات بلاستيك علب العصائر، صدقنى يا صاحب الفخامة، المصرى لا يبحث إلا عن الكثير من الكرامة وبعض الخبز وبعض الهدوء، ثم انتظر منه الأعاجيب، فلو وفرت له المناخ المناسب لكافة أشكال الابتكار فلن يخيب أملك بل سيأتى بالمدهشات.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير