الخميس، 27 يوليو 2023

سعاد حسني.. فراشة أحرقتها الأحزان (1ـ2)

 


عاش الكاتب الصحفي الكبير عبد النور خليل حياته بين الفنانين، مستشارًا أو صديقًا، وفي الحالتين حرص الرجل على تنقية ثوبه من الشوائب فلم يُعرف عنه حب الغيبة أو النميمة، فاستحق عن جدارة لقب مؤرخ الفنانين. وقد ربطته بالسندريلا سعاد حسني رابطة صداقة متينة للغاية تواصلت منذ عرفها في منتصف الخمسينات حتى رحيلها الملغز في العام 2001.

وبعد رحيل سعاد كتب عبد النور كتابه «سعاد حسني.. ضحية اغتالها المثقفون» والذي اعتمد فيه على تاريخ صحبته لسعاد، ثم على معرفته الوثيقة بآل حسني وبعضهم عمل معه في دار الهلال التي كان عبد النور من قياداتها.

 العجيب أن كتاب عبد النور الذي نفدت طبعته الأولى فور ظهورها، لم يقدم أحد على إعادة طبعه مجددا، فأصبح نادرًا لا يعرف به كثيرون رغم التفرد الذي تناول به حياة سعاد.

سأعتمد في تناولي للكتاب على مصادر إضافية وذلك لرسم صورة أكثر وضوحًا لسيدة كانت تملأ الدنيا وتشغل الناس، وظني إنها ما زالت كذلك.

بداية المأساة

هل لا يكون الفنان فنانًا إلا إذا ضربتْ مأساة ما قلبه؟ السيدة آمال العمدة وكانت إعلامية متميزة قدمت للإذاعة برنامجًا شهيرًا تحت عنوان «عقدتي» كان ضيوفها فوق الحصر، وباحوا جميعًا بـ «عقدة» ما فجّرت بداخلهم ينابيع الفن.

أما عقدة سعاد أو مأساتها التي ستكون مأساة آل حسني جميعًا، فكانت هي شخص الوالد محمد حسني البابا. كان الرجل فنان خط عربي لا يُشق له غبار، جاء من سوريا إلى مصر في العام 1912 فتربع على عرش فن الخط العربي، ولم يكن له من منافس سوى الأستاذ محمد إبراهيم كاظم والد الكاتبة الكبيرة صافي ناز كاظم.

 حسني البابا كان مزواجًا مطلاقًا كثير العيال بطريقة مرعبة، وكان من أخلاقه العجيبة عدم الاهتمام بأولاده فهو يهبهم للحياة، ولم يحدث مرة واحدة أن حرص على تعليم أولاده ولو مبادئ القراءة والكتابة، وليس بين أولاده إلا ولد واحد تلقى تعليمًا منتظمًا، أما الباقون فعلموا أنفسهم بأنفسهم في ظروف شاقة جدًا.

أولاد وبنات حسني البابا جميعًا كانوا فنانين بالفطرة، تقول الأستاذة رحاب خالد كاتبة سيرة الفنانة «نجاة» في كتابها «نجاة الصغيرة»: «كانت نجاة شأن الأطفال تغنى دائمًا فى بيت أبيها، وذات مرة أنصت إليها شقيقها عز الدين، فوجدها لا تخرج عن اللحن الذي تترنم به. عز الدين هذا هو الوحيد بين آل حسنى الذي عرف التعليم النظامي فالتحق بمعهد فؤاد الأول للموسيقى العربية وأصبح فيما بعد ملحنًا يشار إليه بالبنان. وإلى جانب عز كان هناك سامي محمد حسنى يجيد العزف على الكمان والرق، ومعه فاروق يعزف على القانون والعود ويجيد الرسم، ومعهما سميرة تجيد العزف على القانون والعود والكمنجة، ومن هؤلاء جميعًا وبقيادة الكبير عز تألف أول تخت للمطربة نجاة الصغيرة".

في بيت الفن الفوضوي هذا ولدت سعاد في يناير من العام 1942، ومثل أخوتها لم تذهب سعاد إلى المدرسة أو حتى إلى الكُتّاب، فالأب لا يؤمن بقيمة التعليم. فقدت سعاد حضن الأب في سن مبكرة جدا، فهو حاضر بجسده فقط، أما روحه واهتمامه فلا وجود لهما.

كان افتقادها لحضور الأب هو بداية دوامات من الحزن الثقيل القاسي الذي لم تجد سعاد منه نجاة، حتى وهي تتصنع الفرح والانطلاق بقدرة تمثيلية عالية جدًا، تجعل من ينظر إليها يظنها منعمة لم تعرف البؤس قط.

حصلت أمها على الطلاق لتتزوج من ناظر مدرسة ابتدائية هو عبد المنعم حافظ، الذي كان محبًا للفن وحريصًا على حضور محاضرات في التذوق الموسيقى كان يلقيها الفنان الكبير عبد الرحمن الخميسي.

 الأم زادت طينة المأساة بلة عندما راحت تلد لزوجها الجديد مولودًا كل عام حتى بلغ عدد أولادها من الزيجتين سبعة عشر ولدًا وبنتًا. هذا التكوين الأسري العجيب هو ما سيجعل من سعاد طفلة لا تنضج أبدًا، فهي دائمًا تبحث عن الاهتمام وعن دفء وحضور الأب.

مكتشفو سعاد

لم تكن سعاد طفلة كغيرها من الأطفال، شيء ما في تكوينها كان يغري الفنانين بأن يلتفتوا إليها، وقد حدث ان ألتقط هذا الشيء الملحن والشاعر أحمد خيرت، الذي كان زوجًا لسميحة أخت سعاد، وكان خيرت يتعاون مع الإذاعي العملاق بابا شارو صاحب أعظم وأشهر برنامج قدمته الإذاعة المصرية للأطفال.

قدم خيرت سعاد الطفلة لبابا شارو فغنت في برنامج كلمات كأنها تخبر عن مستقبل حياتها، تقول كلمات الأغنية: «طولي شبر .. وجهي بدر.. صوتي سحر.. كلي بشر». ثم غنت أغنيتها الشهيرة «أنا سعاد أخت القمر بين العباد حسني أشتهر".

لكن مرحلة بابا شارو انتهت سريعا لتعود سعاد إلى الظل، لكن دائمًا هناك ضوء في آخر النفق، وقد كان زوج الأم الأستاذ عبد المنعم حافظ هو ذلك الضوء، نعم هو لم يعلم سعاد ولم يلحقها بمدرسة، لكنه كان يمتلك جهاز راديو ستتعلم سعاد من برامجه وأغنياته ومسلسلاته الكثير.

كان عبد المنعم حافظ يعرف الشاعر الكاتب عبد الرحمن الخميسى وحدث أن ألتقي به صدفة ليطرق الحظ باب سعاد. يروى لنا الكاتب أحمد الخميسى تلك الواقعة النادرة فيقول: «كنت أسير ذات يوم مع والدي الشاعر الفنان عبد الرحمن الخميسى، وكان يسكن فى عمارة فى نهاية شارع الجمهورية قرب قصر عابدين، وكنا عائدين من مشوار حين استوقفنا شخص فى الشارع وذكّر والدي باسمه وبأنه كان ممن يستمعون إلى محاضراته عن التذوق الموسيقى فى «جماعة الجرامفون» بكلية الآداب".

يضيف أحمد الخميسي: «تذكره والدي.. هذا كان عبد المنعم حافظ الذي اتضح أنه زوج الست جوهرة والدة سعاد حسنى. دعانا الرجل إلى الغداء فى بيته مع أسرته فى حي الفوالة القريب، دخلنا عمارة متواضعة ثم شقة بسيطة الأثاث. وعرفنا عبد المنعم حافظ بزوجته الست «جوهرة» والدة سعاد. جلسنا وأكلنا ثم ظهرت سعاد ونحن نوشك على الانصراف. دخلت بصينية شاى صغيرة، نحيفة، خجولة.

 ابتسمت ووضعت الصينية وجلست ولم تنطق بحرف. فقط كانت تنظر إلينا. تأملها والدي طويلا لا أعرف لماذا ثم قال: هذه البنت نجمة.

 كنت معتادا على أن والدي مجامل فسألته فى الشارع بعد انصرافنا: أكنت تقصد بالفعل ما قلته من أن هذه البنت نجمة؟ أم هى مجاملة منك؟ توقف وتنهد بعمق قائلا: لا والله يا ابني. إنها نجمة. نجمة كبيرة».

حتى الآن ثلاثة اكتشفوا نجومية سعاد، وهم أحمد خيرت وبابا شارو والخميسى، ثم جاء الرابع وهو المخرج الكبير أحمد بدرخان.

يروى الأستاذ عبد النور خليل تلك الواقعة فيقول: كانت نجاة قد اعتادت أن تصطحب سعاد الى الاستديو إذا كانت تمثل فيلما وذهبت معها سعاد وهى تقوم بدور البطولة فى فيلم يخرجه أحمد بدرخان هو: «غريبة» وكان النجم أحمد مظهر يشارك نجاة بطولة الفيلم المسمى باسم أغنية لحنها عبد الوهاب لنجاة يقول مطلعها «أما غريبة» توقف أحمد بدرخان طويلا أمام وجه الشابة الصغيرة سعاد حسنى وهى فى الاستديو بصحبة بطلته نجاة وعندما عرف أنها أختها قال لنجاة: أريد ان يظهر هذا الوجه الطعم التقاطيع فى الفيلم وصورها فى لقطة واحدة دون أن تنطق حرفا أى «كومبارس» ولم يكن يدرى أنه سينتج ويخرج لها أحد أفلامه وهو فيلم «نادية» عن قصة يوسف السباعي بل لم يكن يدرك ولا يعلم أنها ستنضم إلى أسرته ذات يوم زوجة لابنه وامتداده فى السينما المصرية علي بدرخان".

أما المكتشف الخامس فكان ضابط الجيش الفنان جمال الليثي وعنه يقول عبد النور: «رأى جمال الليثي سعاد تجلس بجوار شقيقها عز الدين حسنى فى سيارته الصغيرة وكان عز الدين يعمل عازفا فى الفرق التي أحيت حفلات الأندلس احتفالا بالثورة، وكان جمال يعمل فى إدارة الشئون العامة للقوات المسلحة تحت قيادة قائد الجناح وجيه أباظة وسأل جمال: مين البنت الحلوة اللى جنبك دى يا عز؟ وأجاب عز الدين: «دى أختى الصغيرة سعاد» وطلب منه جمال الليثي أن يحضرها معه إلى مكتبه ليجري لها اختبارا سينمائيا ولكن هذا الاختبار لم يحدث".

لكن هذه التقلبات التي مرت بها مسيرة سعاد حسني الأولى ستنتهي على يد عبد الرحمن الخميسي الذي كان مؤمنًا بأن سعاد استثنائية منذ شاهدها لأول مرة. يقول عبد النور عن ذلك: «كوّن الخميسي فرقة مسرحية، وقام بتمصير رائعة شكسبير «هاملت» وجعل عنوانها «نجفة بولاق» وأراد الخميسى أن تكون سعاد هى بطلة المسرحية مؤدية دور «أوفيليا»، لكن سعاد بكت لأنها لا تستطيع أن تفهم أو تستوعب دورها، فحرمانها من التعليم النظامي المنتظم جعلها أمية، تستطيع الحفظ فقط".

من حسن حظ سعاد ان فرقة الخميسي أفلست فأغلقت أبوابها، لكن إيمان الخميسي بموهبة سعاد لم يتزحزح، فعهد إلى الفنانين إبراهيم سعفان وإنعام سالوسة بتعليمها القراءة والكتابة وتدريبها على الإلقاء والتمثيل. على يد سعفان وإنعام ستكتسب سعاد المزيد من ثقتها بنفسها، فهي الآن أصبحت تعرف مبادئ القراءة والكتابة مع تمتعها بقدرة خارقة على الحفظ.

ضربة بركات

كان عبد النور قريبًا جدًا من الخميسي ورأى بعينيه كم كان متعلقًا بسعاد ومؤمنًا بموهبتها، فعندما فكّر في تحويل مسلسله الإذاعي «حسن ونعيمة» إلى فيلم سينمائي قرر أن تكون سعاد ابنة السابعة عشرة هى البطلة، وقد وافق هنري بركات المخرج الشهير الخميسي على رأيه.

الوجهان الجديدان سعاد حسني ومحرم فؤاد هما بطلا الفيلم، لكن منتج الفيلم الموسيقار محمد عبد الوهاب تخوّف من فشل الوجهين وتكبده خسائر مالية فادحة، إلا أن إصرار الخميسي وبركات جعل عبد الوهاب يوافق على مضض.

في ذلك العام 1958 تقرّبت سعاد من عبد النور الذي أصبح يلازمها لكي يرشدها إلى ما لا تعرف، سعاد الآن عرفت الكثير، فقد بدأت تتذوق الشعر وكثيرًا ما سمعها عبد النور تنشد لصلاح عبد الصبور: «إن أتيت الروض يومًا لا تلمني فأنا أهوى الضياء".

من الأمية الكاملة إلى شعر عبد الصبور رحلة شاقة قطعتها سعاد حسني بعزيمة من حديد. ومع تلك العزيمة على تعويض ما فات، كان للأمر وجه آخر يرويه عبد النور فيقول: «ثلاثة من أبناء محافظة الشرقية كانوا قريبين من بعضهم البعض، وهم عبد الحليم حافظ وصلاح عبد الصبور ومرسي جميل عزيز، والثلاثة كانوا أصدقاء لعبد النور وللخميسي، ومن خلالهما عرفت سعاد الثلاثة وأصبحت متيمة بفنان عصره عبد الحليم الذي كان يشعر تجاهها بمسئولية ما، حتى أنه جاء لها بشقة في حي الزمالك لكي تنجو من زحام بيت أمها، ومن خلال عبد الحليم عرفت سعاد شعر صلاح عبد الصبور وتقربت من الشاعر الذي كان حكيمًا في التعامل مع فتاة فنانة مراهقة، فوضع علاقته بها في إطار الملهمة الساحرة ولا شيء آخر".

نجح فيلم بركات والخميس وسعاد «حسن ونعيمة» نجاحًا ساحقًا، وأخيرًا عرفت سعاد طعم النجاح والشهرة ولكن كان للقدر رأي آخر.

حزن جديد

كانت لسعاد شقيقة هى صباح، التي لها الوجه الجميل والحضور الفاتن، وكثيرون قالوا إن صباح متى عرفت طريق الفن ستنافس سعاد ونجاة، وقد كانت صباح رفيقة سعاد وراعيتها، وكانت كما يروى عبد النور في كتابه: «أطول قامة وأكثر سمرة من سعاد، لكنها كانت تتمتع أيضاً بطعامة الملامح، ودائما وأبدا تحتل عيون صباح نظرة حزن دفين، وكانت قليلة الحديث لا تسترسل فيه، بل تجيب باقتضاب واختصار ثم تنصرف لشأن من شئون البيت، وكنت دائما ألمح نظرة الحزن العميقة فى عينيها وأشاهد على وجهها علامات انكسار كنت أفسره عادة بأنها دائما فى الظل بجوار شقيقة مشهورة تنطلق إلى قمة المجد كالصاروخ، وكم سعدت ذات يوم وهى تخبرني برنة فرح فى صوتها أنها قد خُطبت لشاب جاد ناجح من قطر عربي، على أن هذه الفرحة خُنقت بقسوة وقُضى عليها عندما كانت مسافرة رفقة خطيبها فى سيارته إلى الإسكندرية وتعرضا لحادثة ولقيا مصرعهما».. وبرحيل الشقيقة الصديقة ستدخل سعادة مرحلة جديدة من الأحزان.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منشور في موقع أصوات 16ديسمبر 2019


الجمعة، 21 يوليو 2023

بيرم التونسي .. لم يكسره عدو ولم يحمه حبيب ( 3ـ 3 )


لجأ  بيرم للتلاعب في اسمه ، وتمكن من الحصول على جواز سفر باسمه الجديد ، وصعد بهويته المزورة إلى سطح السفينة المتجهة إلى مصر .

هبط من سفينته في اليوم السابع والعشرين من شهر مارس من العام 1922 .

 خلال العامين الذي قضاهما بيرم في المنفى  كانت مصر قد تغيرت ، لقد أصبحت الثورة التي راهن عليها بيرم تراهن على المفاوضات مع المحتل ،وكان فؤاد عدو بيرم الأول قد أصبح ملكًا ، وكان بيرم قد هجاه قائلًا :

"ولما عدمنا بمصر الملوك

جابوك الانجليز يا فؤاد قعدوك

تمثل على العرش دور الملوك

وفين يلقوا مجرم نظيرك ودون

بذلنا ولسة بنبذل نفوس   

وقلنا عسى الله يزول الكابوس

ما نابنا إلا عرشك يا تيس التيوس

لا مصر استقلت ولا يحزنون ".

مصر العظيمة عرفت بوجود بيرم وكتمت سره ، فراح رغم الخوف من اكتشاف القصر والاحتلال لوجوده يكتب شعره الحاد الساخن الساخر متناولًا كل أوجه الحياة في مصر ، وكان ينشر أشعاره في جريدة الشباب ولكن بدون توقيع ، ولكن الذين لهم بصر بالشعر كانوا يشمون رائحة بيرم الفواحة بالمقاومة  .

عاش بيرم متخفيًا في حضن مصر أربعة عشر شهرًا ، ولكنه لم يفلت من من هؤلاء الذين لا يقاومون ولا يحبون لغيرهم أن يقاوم .

يقول بيرم في مذكراته :" إذا كان أهل السياسة لم يشعروا بوجودى حينئذ، فقد شعر بى الزملاء من أهل الأدب، فقاموا بإبلاغ السلطات عنى وعن أمكنة وجودى وحركاتى وسكناتى، فرحلونى من جديد خارج مصر".

غاد بيرم إلى منفاه في اليوم الخامس والعشرين من مايو من العام 1923.

هبط بيرم ميناء مارسيليا ليعمل حامل حقائب ، ثم يتفجر شعره قائلًا

الأوله: آه .. والثانية آه .. والثالثة آه

الأوله: مصر .. قالوا تونسي ونفوني

والثانية: تونس .. وفيها الأهل جحدوني

والثالثة: باريس .. وفي باريس جهلوني

الأوله: مصر .. قالوا تونسي ونفوني جزاه الخير

والثانية: تونس .. وفيها الأهل جحدوني وحتى الغير

والثالثة: باريس .. وفي باريس جهلوني وأنا موليير

الأوله: مصر .. قالوا تونسي ونفوني جزاه الخير وإحساني

والثانية: تونس .. وفيها الأهل جحدوني وحتى الغير ما صافاني

والثالثة: باريس .. وفي باريس جهلوني وأنا موليير في زماني

الأوله اشتكيها للي أجرى النيل

والثانية دمعي عليها غرق الباستيل

والثالثة لطشت فيها ممتثل وذليل

الأوله آه .. والثانية آه .. والثالثة آه.

السؤال الآن أين يذهب شعر بيرم الذي كان يؤرخ به لحياة مصر ؟.

قلتُ من البداية أن الأحباب لم يحموا بيرم، فقد قامت جهة يفترض أنها محبة لبيرم وهى الهيئة العامة للكتاب بإصدار الأعمال الكاملة لبيرم ، وقد جمعت أنا منها اثنى عشر جزءًا ثم تركت جمعها غير أسف ، وذلك لأن الموجود بالأعمال هو صمغ وعجين وليس شعر بيرم ، فما أكثر القصائد الغائبة ، ثم القصائد المنشورة لا ترتيب لها يوضح سياقها ومناسبتها ، ثم ترتيب أبيات القصائد نفسه مختل ، وكثيرًا ما تتداخل الأبيات فلا يعرف القارئ أي شعر هذا ؟.

سيكتب بيرم كثيرًا عن مارسيليا ونسائها ، إنه رجل محب للحياة شأن كل مقاوم ، لا يصرفه عن تأمل الجمال شيء.

من النفي سيراسل بيرم الصحف المصرية ويرسل إليها بأشعاره وتنشرها الصحف بدون توقيع ولا تدفع إليه أدنى مقابل مادي ، مع أن أشعاره كانت تجعل الصحف رائجة ، وبعضها حقق من وراء أشعار بيرم ثروات طائلة.

الانقاذ اسمه عزيز

في تلك المتاهة يلتقي بيرم بالمخرج والممثل المسرحي الشهير عزيز عيد ، الذي طلب منه تأليف مسرحية يعرضها في مصر على أن تكون مقتبسة من أصل أجنبي ، فورًا يستجيب بيرم ويقدم لعزيز مسرحية " ليلة من ألف ليلة " فيقدم له عزيز عشرين جنيهًا مقدمة للاتفاق بينهما .

كانت تلك العشرون جنيهًا هى أعظم مبلغ لمسته يد بيرم ، وقد أرسل جزءًا منها لأولاده في مصر !

عرضت المسرحية وحققت نجاحًا كبيرًا أغرى عزيز بأن يطلب من بيرم التفرغ لكتابة المسرحيات على أن يقدم له دفعات تحت الحساب .

كان عزيز قد وعد بأن يبذل قصارى جهده لإعادة بيرم إلى مصر ، وهو الأمر ذاته الذي وعد به الموسيقار زكريا أحمد عندما زار فرنسا وقابله بيرم ، وزاد زكريا بأن تعهد بإرسال نقود لبيرم لكي يعيش عليها .

هذان حبيبان حميا بيرم قبل أن يسطع نجم حبيب ثالث ، سنعرض له في قادم السطور .

جرح جديد

مر مصطفى باشا النحاس بباريس في طريقه إلى لندن لتوقيع اتفاقية 1936 ، وعرف بيرم بوجود النحاس ، فذهب إليه وشرح له قضيته كاملة فوعده النحاس باشا خيرًا ، وطلب منه الحضور إلى مقر السفارة المصرية لكي يسهل له الباشا العودة إلى مصر .

فرح بيرم الفرح كله ، وعندما توجه إلى مقر السفارة وجد الأمن الفرنسي في انتظاره !

يقول بيرم في مذكراته :" قام الأمن بتفتيشي بحثًا عن سلاح معي ، وأخبرني أن هناك بلاغًا من النحاس برغبتي في اغتياله ".

لماذا تخلى النحاس عن بيرم وهو يعرفه حق المعرفة ؟.

سبق لزغلول باشا أن فعلها ، ولكن النحاس أوغل في عداوة بيرم ، ثم النحاس باشا ذاته هو الذي حمى أحمد ماهر والنقراشي وقد كان الاحتلال يتهمهما بقتل قواد إنجليز، فلماذا تخلى عن بيرم بل وشى به في فعل هو خارج سياق النحاس باشا ؟.

كان النحاس يغازل الملك فاروق من خلال التنكيل ببيرم عدو أسرته ، ثم شاء ربك أن يقوم فاروق بإقالة وزارة النحاس ، ليصبح النحاس باشا كالمنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى !

ظل الأمن الفرنسي يضيق على بيرم حتى جاءت الضربة من أعلى ، لقد كانت فرنسا تستعد للحرب العالمية الثانية فرأت التخفف من عبء الأجانب فصدر قرار يطالب الأجانب بالعودة إلى مواطنهم في أسرع وقت ، وهكذا وجد بيرم نفسه في تونس مرة ثانية !

في تونس أنشأ بيرم جريدة الزمان ، فراجت رواجًا شديدًا في كل بلاد المغرب العربي  ، فتأكد الاحتلال الفرنسي الذي كان يحكم تونس أن رجلًا مثل بيرم لم يخلق للصمت ، فقرر الفرنسيون طرده من تونس !

كان الاحتلال الفرنسي رحيمًا هذه المرة ببيرم فقد خيره بين البلاد فوقع اختيار بيرم على سوريا ، فاشترط عليه الاحتلال عدم المشاركة في أي نشاط سياسي !

وافق بيرم على شرط هو خلق أصلًا ضده ، فكل شعر بيرم لا يمكن فصله عن السياسة بمفهومها العام .

   ضاق الفرنسيون الذين كانوا يحتلون سوريا ببيرم فقرروا نفيه إلى بلد من بلدان وسط إفريقيا حيث لا عرب ولا عربية !

صعد بيرم إلى السفينة التي ستنقله إلى وسط أفريقيا ولكن قلبه كان قد قرر قرارًا لا رجعة فيه .

ثمن العودة

صباح يوم الثامن من أبريل من العام 1938 توقفت السفينة في ميناء بور سعيد فقرر بيرم الهبوط منها وكأنه ليس مطاردًا ولا منفيًا .

عاد بيرم بعد رحلة المنافي التي أخذت من عمره ثمانية عشرة سنة كاملة ، وبعد السكرة جاءت الفكرة ، لقد قرر بيرم عدم العودة للمنفى ثانية ، فكتب خطابًا يحمل قصيدة إلى صديقه الشاعر الكبير كامل الشناوي الذي قدم الخطاب والقصيدة لرئيس تحرير الأهرام أنطوان الجميل .

قال الجميل للشناوي : إن محمد محمود رئيس الوزراء ومحمود فهمي النقراشي وزير الداخلية ، وأحمد حسنين باشا الأمين الأول في القصر، من أشد المعجبين ببيرم، وسأتصل بهم وأستأذنهم في نشر زجله .

حصل الجميل على الموافقات اللازمة لنشر قصيدة بيرم وفي الصفحة الأولى من الأهرام ، وكانت تلك سابقة !

بعد نشر القصيدة بساعات جاء الأمر من وزير الداخلية بتجاهل عودة بيرم ،  الحق أن بيرم كان قد قبل بدفع ثمن عودته ، كانت قصيدة عن شوقه وغربته ثم ختمها بكلمتين عن الملك الحالي فاروق الأول .

لا أدافع عن بيرم عندما أقول إن الملك الشاب كان أيامها محبوبًا من المصريين الذين كانوا يراهنون عليه لكي يخلصهم من تركة والده المثقلة بالجراح .

قال بيرم في قصيدته :

" غُلُبْتِ أقْطعْ تذاكرْ

وِشْبِعْتِ يا ربِّ غربةْ

بين الشطوط والبواخرْ

ومنْ بلادنا لأوروبا

وأقول لكمْ بالصراحةْ

إللي فْ زَمَنّا قليلةْ

ما شفت يا قلبي راحةْ

في دي السنين الطويلةْ

إلا لما شفت الطوافي واللبدة والجلابية

يا مصر يا نور الوسامة

ساطع وباين شروقك

لحن السلام والسلامة

الدنيا سامعاه في بوقِك

والجو فوقه ابتسامة

زي ابتسامة فاروقك ".

ورود كلمة فاروق في قصيدة لبيرم في سياق المدح كان هو الثمن الذي دفعه الشاعر الفذ لكي يعود إلى أحضان أمه .

ثم كان هناك ثمن هامشي وقع موقع الرضا من قلب بيرم ، لقد طلبت منه دوائر القصر أن يتكلم في حق النحاس باشا ، لكي يواصلوا غض البصر عن عودته .

وجدتها بيرم فرصة ليشفى صدره من النحاس فهجاه ، أو داعبه حسب وصف بيرم ، ثم سكت عنه عندما أخذ بثأره منه .

حد السيف

ثم كفاك الله شر معيشة الخائف المترقب الذي يحسب كل صيحة عليه ، وكفاك الله شر العيش على حافة الهاوية ، وكفاك الله شر المشي على حد السيف .

كل ما سبق تجرعه بيرم قطرة قطرة ، فهو لم يعد منفيًا ولكنه لم يصبح مواطنًا ينعم بالأمان ، فاروق لم يصدر عفوًا عن بيرم ، فقط غض بصره عن عودته ، هل جربت أن تكون حياتك معلقة بكلمة ينطق بها حاكم في أي ساعة من ساعاته ؟.

بيرم تجرع هذه الحالة حتى الثمالة ، ومع ذلك تدفق شعره ليطوف به كل أرجاء الوطن العربي ، فهو مع المقاومة أينما كانت وهو مع الشعوب المقهورة التي تقاتل من أجل غد أفضل ، وهو مع المرأة بدون قيد أو شرط ، ومناصرته للمرأة ستكون بوابة عبوره إلى الهرم الكلثومي ، كانت أم كلثوم عند بيرم رمزًا للمرأة المتحدية صاحبة الفهم والكبرياء ، فتعرف عليها وقدم لها عصارة فنه بداية من العام 1940 وحتى قبل شهر من رحيله ، نجاحه المدوي مع أم كلثوم جر عليه حربًا كادت تقتلعه .

لقمة العيش

قبل عودة بيرم كان كبار المطربين يعتمدون اعتمادًا شبه كلي على كلمات رامي وفتحي قورة وأبو بثينة وحسين السيد وقصائد شوقي وحافظ ، وبعودة بيرم حصل بمفرده على نصف الكعكة ، وهنا جاءت مواجع لقمة العيش ، فقد شن عليه أبو بثينة وفتحي قورة حربًا صليبية لا تهدف إلا إلى الاستئصال ، نحن أو بيرم !

أصبح الوسط الثقافي والفني موزعًا بين الطرفين فهناك من يدافع عن بيرم مثل زكريا أحمد ، بينما الأغلبية تعاديه وتكاد تقول بنفيه مرة أخرى .

لم تكن المعركة شريفة بأي حال من الأحوال، فقد كتب الشاعر الكبير المهم فتحي قورة مقالًا يتهم فيه بيرم بأنه كتب أغنية " جنسية " لأم كلثوم يعني رائعة بيرم " أنا في انتظارك " هل يمكن لمتذوق الشعر ان يوافق على ما كتبه قورة ؟.

سكت بيرم ولم يرد لأنه يعرف ثمن كلامه ، فقد يعود للمنفى ثالثة ، ولكن شيطانه الشعري لم يصبر ، فعندما منح مهرجان للزجل العربي اقيم في لبنان أبا بثينة إمارة الزجل العربي قال بيرم :

" خراب ما يحتاج لمعاينة

وفن باير وأهى باينة

 أميرى جوز أم بثينة

 وأنا الرعية أنا وعيالها".

هذان البيتان كانا المدفعية الثقيلة التي انهت المعركة فقد عرفوا أن بيرم عندما يهجو فإنه يوجع .

الحبيب الحامي

ثم جاء أبو خالد ، عبد الناصر الذي رفع كل السيوف عن رقبة بيرم ، ومنحه في فجر الثورة الجنسية المصرية ، وفتح أمامه أبواب صحيفة الثورة الجمهورية ، ثم منحه جائزة الدولة التقديرية ، وكانت أرفع الجوائز المصرية ، ثم عندما كتب بيرم ملحمة " الظاهر بيبرس " وكانت الإذاعة تبث حلقاتها ، ثم توقفت بزعم أن الملحمة لا تمثل الحقيقة التاريخية ، تدخل عبد الناصر وأمر باستئناف إذاعة الحلقات .

غني عن الذكر أن بيرم كان من أوائل المؤيدين لثورة يوليو ، وراهن عليها كما راهن على ثورة 1919 ، ولكن الفارق أن عبد الناصر لم يخذله كما فعل زغلول والنحاس ، غفر الله لهما .

الوداع

منذ بدايته وبيرم يعرف نهايته لقد قال في زمن شبابه  :

" قال: إيه مراد ابن آدم؟

قلت له: طقه

قال: إيه يكفي منامه؟

قلت له: شقّه

قال: إيه يعجّل بموته؟

قلت له: زقه

قال: حـد فيها مخلّد؟.

قلت له : لأه ".

نظر والد الشعراء فؤاد حداد حوله ثم قال :

" فين بيرم التونسي اللي علمنا

نلف ونقلوظ عمايمنا  ".

بكى صلاح جاهين على بيرم ثم قال :

" النعـش عـايم في الدموع في عينيا

فـايت فـى قـلب القـاهرة ومـعدى

هـو عـارفها وهـى مـش عـارفاه

عـلى كـل حـاره وكل عطفة يهدى

كـأنـه راجـع لـسـه مـن منـفاه

بيــبوس بعـيـنه اللِـبْـدَة والجلابيه "

وقفت أم كلثوم على مسرحها الشامخ في الليلة الخامسة من شهر يناير من العام 1961لتغنى رائعة بيرم " هو صحيح الهوى غلاب " ولكنها قبل الغناء نظرت للجماهير وقالت :" شاعر الشعب محمود بيرم التونسي مات قبل قليل ".

مصر العظيمة قبلت جبين ابنها بيرم الفرد الفذ الذي لم يخنها قط .

ــــــــــــــــــــــــــــ

منشور بموقع أصوات ، الاثنين 22 يوليو 2019

  

بيرم التونسي .. لم يكسره عدو ولم يحمه حبيب ( 2ـ 3 )

 


كان بيرم التونسي يدرك بفطرته السوية أن المصريين هم شعب من الجِمّال ، يصبرون على الجوع والظمأ وعلى الأذى وعلى برد الصحراء وقيظها ، صبرًا يجعل الذين لا يعرفون نفسية الشعب  يظنه كومة من الجماد الذي لا يحركه شيء ، ثم فجأة يرد عليهم الشعب منتفضًا ومحطمًا كل سد يحول بينه وبين تحقيق أحلامه .

تفهم بيرم لطبيعة الشعب المصري ، جعله يوقد شرارة ثورة 1919 قبل أن تصبح الشرارة نارًا تحرق الاحتلال ، كل ما كتبه بيرم قبل الثورة كان تمهيدًا وحشدًا لها ، فهو يسخر من الاحتلال وأعوانه ويقلل من شأنهم ويحرض الشعب على الوقوف في وجوههم .

اشتعلت الثورة في كل الوادي من أسوان إلى دمياط ، فكان بيرم أول المساندين ولم يكتف بالقصائد والأزجال ، فقد أصدر جريدته " المسلة " ولكي يهرب من قهر الرقابة كتب في ترويستها :" المسلة لا جريدة ولا مجلة " وقد كتب بمفرده كل موادها ، وإمعانًا في تحدي الاحتلال وعبيده وضع صورته على غلاف الجريدة ، وطبع من عددها الأول خمسة آلاف نسخة ،وقام بتوزيعها بنفسه ، قاصدًا رواد المقاهى وموظفي الحكومة ، وقد أحسن السكندريون استقبال الجريدة فنفد عددها الأول ، وأصبح اسم بيرم وجريدته على كل لسان .

رأي بيرم أن مغادرته للإسكندرية وإقامته في القاهرة سيخدم آمال الثورة ، فسكن القاهرة وفيها ألتقي لأول مرة بالموسيقار سيد درويش ، الذى كان معجبًا ببيرم وبشعره ، متمنيًا أن يساعده بيرم في تطوير فن الغناء العربي .

كان الوقت وقت ثورة ، وكانت الأحلام عظيمة ، كان الموسيقار يحلم بإنشاء أوبريت مصري من الألف للياء ، فطلب من بيرم كتابته وقال له نصًا :" حجة الإنجليز الدائمة لتبرير استعبادنا أننا شعب ضعيف لا يستطيع حكم  نفسه ، عشان كده أنا شايف إن الأوبريت من أوله لآخره يكون تمجيدا للإنسان المصري ".

كتب بيرم الأوبريت تحت عنوان " شهو زاد " في إشارة إلى شهوات أسرة محمد على التي تحكم مصر بتحالفها مع المحتل ، ولكن الرقابة رفضت العنوان ، فجعله بيرم " شهر زاد " ، وعرض الأوبريت وحقق نجاحًا ساحقًا ، وبعد مرور مئة عام على عرضه ، ما نزال نحفظ ونردد بعض أبياته " أنا المصرى كريم العنصرين / بنيت المجد بين الأهرمين /  جدودى أنشأوا العلم العجيب / ومجرى النيل فى الوادى الخصيب ".

وقعت الواقعة

مشكلة بيرم والذين مثلهم أنهم يذهبون إلى رأس الدمل مباشرة ، لا يعرفون التحايل ولا يهاجمون الذيل ويخافون الرأس ، في القاهرة أصدر بيرم العدد الثاني من " المسلة " وفي القاهرة ستقع الواقعة .

المؤرخ المصري العظيم " ابن إياس " قال :" أهل مصر لا يطاقون إذا أطلقوا لسانهم في حق  الناس ".

وقد أطلق المصريون لسانهم في الأميرة " فوقية ابنة الملك فؤاد من زوجته الأولى شويكار ، وملخص القصة الشائكة يقول : إن علاقة خاصة قد ربطت بين  الأميرة  ابنة السلطان فؤاد (الملك فؤاد فيما بعد) وحسين باشا فخرى الذي كان محافظًا للقاهرة .

قالت الشائعات : إن فخري قد رفض طلب السلطان بالزواج من الأميرة ، وعرض أن يتزوجها شقيقه "محمود باشا فخرى" وكان سفيرًا لمصر فى فرنسا.

وبالفعل تم الزواج !.

بيرم الذي راهن على قدرة الثورة على تخليص البلاد من حكم فؤاد تلقف الشائعة وكتب عنها قصيدة الشهيرة " القرع السلطاني " والقرع هو " الكوسة " مع ما تحمله الكلمة من إيحاءات معروفة .

 نشر بيرم قصيدته في جريدته المسلة وكان أبرز أبياتها يقول صراحة :" الوزة من قبل الفرح مدبوحة / والعطفة من قبل النظام مفتوحة "

جن جنون فؤاد عندما وصلته القصيدة التي انتشرت كالنار في الهشيم ، ولكن ماذا يفعل فؤاد مع بيرم ؟.

بيرم تونسي حسب الأوراق الرسمية ، وهو بهذه الصفة من رعايا فرنسا التي كانت تحتل تونس ، وفؤاد لا يستطيع طرد رعية فرنسية من مصر !

هل سكت بيرم وقد مرت القصيدة بغضب مكتوم من فؤاد ؟.

المصريون لم يسكتوا ، فعندما رزق السلطان بابنه فاروق ، قال المصريون : إن نازلي أم فاروق قد حملت به قبل الزفاف بأشهر !

فكتب بيرم قصيدته " البامية الملوكي  " والبامية تعني القرون ، ودلالة القرون معروفة لدي المصريين .

قال بيرم مخاطبًا فؤاد :" ربك يبارك لك في عمر الغلام

يا خسارة بس الشهر كان مش تمام ".

ولم يسكت بيرم فقد كتب قصيدة ثانية قال فيها :

"سلطان بلدنا حرمته جابت

ولد و قال سموه فاروق

يا فاروق فارقنا بلا نيله

دي مصر مش عايزة لها رذيلة " .

تأكد فؤاد من أن بيرم لن يسكت ، وكيف كان سيسكت وهو شاعر الشعب ، والشعب كان يتهم فؤاد بأنه قد أجهض ثورتهم؟ .

واصل بيرم إصدار المسلة ، وفي كل عدد قصيدة تنال من فؤاد وابنه الطفل وعائلته جميعًا ، قرر فؤاد إغلاق المسلة ، فأصدر بيرم جريدة جديدة أطلق عليها اسم " الخازوق " مواصلًا الاشتباك الحاد مع العائلة المالكة .

بيان تكفير

هدأت الثورة قليلًا ، وكان وجهها الأبرز سعد باشا زغلول يستعد مع الوفد المصري للسفر إلى باريس لحضور مؤتمر الصلح لعرض قضية استقلال مصر عليه .

الشيخ محمد بخيت وكان مفتيًا للديار المصرية ، كان من رافضي سفر الوفد المصري ، وشاع أن الشيخ من المتحالفين مع فؤاد والاحتلال ، فهجم عليه بيرم هجمة شنيعة جاء فيها

" أول ما نبدى نصلى على النبي

نبي وطني يلعن أبوك يا بخيت

ثاني كلامي وفد مصر بلادنا

ولع شموعه والتقى الكبريت ".

لم يكن الشيخ بخيت مغلول اليد مثل فؤاد فقد رد على هجاء بيرم بإصدار بيان أتهم  فيه بيرم بالكفر والإلحاد!

هنا كان يجب أن يخاف بيرم ، ولكنه لم يخف وواصل طريقه في الهجوم على رؤوس الاحتلال والمتحالفين معه .

بداية العذاب

سعى فؤاد بكل قوة لطرد بيرم ، وأخيرًا نجح في إبعاده إلى تونس .

عاد بيرم إلى أرض أجداده يوم 25 أغسطس عام 1920، ومن المفارقات أن اليوم كان يوم عيد الأضحى ، فكأن فؤاد كان يذبح بيرم بنفيه عن مصر .

بعد نفي بيرم إلى تونس بقليل وضعت زوجته ابنته الثانية ، ثم تأكدت الزوجة أن بيرم لن يعد فطلبت الطلاق وحصلت عليه .

في تونس دفع بيرم  ثمن جذور جدته التركية.

يقول بيرم في مذكراته :" اقتصرت علاقتي بعائلتي على المجاملات البسيطة ، لأن العائلة كانت قد أصبحت إقطاعية ذات مناصب ، منطوية على نفسها ، وكانت الدعاية التي تحوطني في تونس ، أنني كنت أحد الثائرين في مصر ضد بريطانيا لصالح تركيا !

فكان مدير الفندق الذي أقيم فيه يقول للخدم :" أعطوا التركي مفتاح غرفته علشان يرقد "!.

الآن بيرم بمفرده تمامًا ، فلا عائلة ولا مال ولا جماهير تحمي وتساند .

لم ينكسر بيرم ، فحاول العمل ، ولكن كل الأبواب أغلقت في وجهه ، حاول مشاركة بعض الكتاب التونسيين لكي يصدروا جريدة ، ولكن السلطات الفرنسية كانت له بالمرصاد .

لقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت ، فغادر تونس بعد أربعة أشهر فقط إلى فرنسا .

في معمعة برد الشتاء الفتاك وصل بيرم إلى ميناء مارسيليا ، ولكن البرد والغربة وعدم إجادته للفرنسية ، جعلته يغادر مارسيليا بعد ثلاثة أيام فقط ، متجهًا إلى باريس .

في باريس لم يجد سوى البطالة والفقر والغربة والبرد ، لكنه لم يخاصم الشعر الذي جلب له كل هذا العذاب

لقد رأى بيرم بعين الإنصاف إقبال الفرنسيين على العمل فكتب:

"الفجر نايم وأهلك يا باريس صاحيين

معمرين الطريق داخلين على خارجين

ومنورين الظلام راكبين على ماشيين

بنات بتجري وياما للبنات أشغال

وعيال تروح المدارس في الحقيقة رجال

ورجال ولكن على كل الرجال أبطال

ولسه حامد وعيشة وإسماعيل نايمين ".

فشل بيرم في أن يجد عملًا في باريس ، فنصحه العرب المغتربين بالسفر إلى مدينة ليون .

قبل أن أنقل من المذكرات ما عناه بيرم في ليون وغيرها من مدن فرنسا تجدر الإشارة إلى أن أوربا الآن غير أوربا عام 1920 ، في تلك الأيام لم تكن هناك حقوق للعمال ولا للغرباء ، بل ولا للمواطنين الفقراء ، كان بيرم وغيره من المغتربين يعملون في مستنقعات هى الموطن الأصلي للبعوض القاتل وللذباب ، إن الحديث عن التأمين الصحي كان من المحرمات وكذا كان من المحرمات الحديث عن تحديد ساعات العمل وأجره .

أنقل من مذكرات بيرم :"  سعيت بنفسي إلى ليون مدينة صناعة الصلب في فرنسا، تلك المدينة التي لأهلها قلوب مثل الصلب لا تعرف الرحمة أو الشفقة، وهي أيضًا مدينة مشهورة عند الفرنسيين أنفسهم بأنها مدينة معتمة.. وصلت لهذه المدينة في عز الشتاء ولأن جيوبي كانت شبه خاوية فقد أخذت المسألة من أقصر طرقها، وذهبت إلى أفقر أحيائها، واستأجرت فوق سطوح أحد المنازل شيئاً يسمونه حجرة، كانت من الخشب الذي حولته مياه الأمطار إلى مكان له رائحة من نوع خاص، إنها رائحة قريبة من العفن، وداخل تلك الثلاجة كنت أنام الليالي القاسية البرودة، وفي النهار كنت أسعى مع الفجر في البحث عن عمل قبل أن يتبخر آخر مليم في جيبي".    

والتحق بيرم بأحد مصانع الحديد والصلب، ولكنه تركه بعد أن سقطت على فخذه قطعة من الحديد كبيرة!

عاد بيرم للبطالة والغربة والفقر والبرد مضافًا إليهم الجوع ، لقد جاع مرة لثلاثة أيام متصلة ، جاع في مدينة تصل الحرارة فيها إلى ما تحت الصفر ، ولقد وصف جوعه في مذكراته وصفًا مذهلًا ، فقال:"  كنت أثناء الجوع أمر بمراحل لا يشعر بها غيري من الشبعانين، كنت في البداية أتصور الأشياء واستعرضها في ذاكرتي، هذا طبق فول مدمس، وهذه منجاية مستوية..وهذه يا ربي رائحة بفتيك تنبعث من عند الجيران، ثم أصل بعد ذلك إلى مرحلة التشهي، أثناءها تتلوى أمعائي، ويبدأ المغص، ويطوف الظلام حول عيني، وأتمنى من الله أن ينقلني إلى الآخرة فهي أفضل من هذا العذاب الأليم..وأخيرًا تبدأ مرحلة الذهول وخفة العقل، فأطيل النظر إلى اللحاف الذي يغطيني، وتحدثني نفسي أن أكل قطنه أو أبحث عن بذرة للغذاء تحتوي على زيوت ".

في نوبة من نوبات الجوع خسر الأدب العربي بل العالمي كنزًا لم يعوضه كنز ، جاع بيرم حتى وصل لمرحلة الهذيان ، فتش غرفته للمرة الألف ، فوجد بصلة ، فراح يستحلب ريقه وهى يتخيلها مشوية ، بحث عن كبريت ليشعل النار ويشوي البصلة فلم يجد الكبريت ، بعد طول تردد طرق باب جاره الذي قدم له متأففًا عودًا واحدًا ، حاول بيرم إشعال العود ففشل ، طرق باب جاره ثانية ولكن الجار رفض إعطائه عودًا جديدًا !.

ظل بيرم واقفًا أمام باب غرفته يرتجف من البرد والجوع ، حتى صعد جار قدم لبيرم علبة كبريت كاملة !

بعد حل مشكلة الكبريت ، تذكر بيرم أنه لا يمتلك أي نوع من المواد الصالحة لأن تكون وقودًا يشوى به البصلة !

بعد طول تفكير جاء بيرم بقواميس اللغة والخطابات التي أرسلها إليه عباس العقاد وسيد درويش ، ومع الخطابات وضع ديوان أبي العتاهية ، وأشعل النار منتظرًا الشواء الجميل ، سرعان ما احترقت الخطابات الغالية وسقطت البصلة بين رمادها ، فخسرنا كنزًا من الخطابات المتبادلة بين العمالقة ولم يربح بيرم بصلة مشوية .

جرح غائر

تنقل بيرم بين شتى المهن ، فعمل في مصنع للكيماويات ، كان سببًا في إصابته بمرض الربو الذي مات به .

هنا نتوقف لنسأل : هل كان شاعرنا هو العربي الوحيد في طول فرنسا وعرضها حتى يجوع كل هذا الجوع ويشقى كل هذا الشقاء؟

الحق أن مدن فرنسا في ذلك الوقت كادت تكون مدنًا عربية من كثرة العرب الموجودين بها ، وكان غالبية العرب يعرفون بيرم جيدًا ، وكان منهم الأثرياء الذين يستطيع الواحد منهم الإنفاق على عشرات مثل بيرم ، القصة كانت قصة نفس بيرم ، إنها نفس عالية شريفة لا تتكسب بشعرها ولا تتنازل عن مبادئها ، تجوع ولا تأكل بثدييها ، لم يكن بيرم يقبل دعوة عربي له على شطيرة ما لم يشاهد الإصرار في عينيه ، الدعوات العابرة لم يكن يتوقف عندها إلا بالشكر ثم يغادر إلى برد غرفته وجوع أمعائه .

 الذي كان يؤلم بيرم الألم كله لم يكن العمل في مهن لا تليق بشاعر مثله ، الذي كان يؤلمه حقًا كان الجحود وعدم حماية أحبابه له ، من هؤلاء الأحباب الذين تخلوا عن بيرم كان سعد باشا زغلول وجه الثورة المصرية الأبرز والذي من أجله عادى بيرم الشيخ بخيت وكل شيخ وقف في وجه سعد .

عرف بيرم أن سعدًا في باريس ، فتوجه لمقابلته لكي يتوسط في إعادته إلى مصر ، فماذا كان موقف سعد ؟.

يقول بيرم «أخذ سعد يرفعني ويخفضني ببصره، ثم أشار الى الباب دون أن يرد على كلامي بنعم أو لا».

لماذا تنكر سعد باشا لبيرم ؟.

بيرم نفسه لا يقدم جوابًا ، هل تنكر الباشا شراءً لخاطر فؤاد؟

أم تراه تنكر لمعرفته بأن بيرم ابن قصيدته  وليس ابنًا لحزب أو لجماعة؟ .

هل تنكر لأن بيرم خاض في أعراض الملوك وهؤلاء كانوا أولياء نعمة حماه مصطفى باشا فهمي والد زوجته صفية زغلول ؟.

لا إجابة يقينية ، ولكن موقف الباشا من بيرم دفعه لأن يقرر العودة إلى مصر وليكون ما يكون ، وقد عاد فعلًا وكان ما سنعرفه في الأسبوع المقبل بإذن الله .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منشور بموقع أصوات ، الاثنين 15 يوليو 2019