الاثنين، 30 يناير 2017

القبلة الأولى






قبل القبلة بسنوات

كنتُ قد نلتُ مئات القبلات، لكنها جميعًا كانت برائحة ملابس متسخة، عافتْ نفسي القبلات، ولكن ظللت أحلم بقبلة نظيفة مشرقة.

عندما لم يتحقق حلمي حتى بعد أن أصبحت رجلًا يضرب الشيب رأسه، رأيت أن أحلامي ليست سوى أوهام وأن كل القبلات المتاحة هي برائحة الملابس المتسخة.

                          ***

 عندما أقف كل صباح أمام مرآتي لأضع اللمسة الأخيرة على زينتي، أصارح نفسي بأنني لا أستطيع الفصل بين نداء الحب وأشواق الجسد.

أشعر بظلم وقسوة ذلك الفصل، فالحب هو الاثنان معًا، فلا يمكنني أن أحب رجلًا ولا أشتهيه، كما لا يمكنني اشتهاء رجلٍ لا أحبه.

أعترف أمام مرآتي أن خيالاتي عن مشاهد لقاء جسدين محبين، تكمل بناء الروح وتؤدب القلب، لم أستطع يومًا التعايش مع الحسية التي لا تقوم على أساس راسخٍ من حبٍ جارف، وهذا يفسر خوفي الذي يشلني كلما تذكرت أنني قد أتزوج برجل لا أحبه، كيف سأسمح له بمضاجعتي؟ بل كيف سأسمح له بأن يقبلني؟
 

قبل القبلة بسنة

كان قلبي قد تصحر ونبتتْ على أطرافه بل وفي مركزه نباتات شوكية سامة، كنت أقاوم التصحر أيامًا ويهزمني اليأس شهورًا، كنت أعرف أن المطر وحده هو الذي يغلب التصحر، كنت أقلب وجهي في السماء منتظرًا سحابة حبلى بالمطر.

في ليلة مقمرة رأيت السحابة تشاكس القمر، تظهره حينًا وتخفيه حينًا.

ناشدتها الله أن تهطل عليّ.

                           ***

أصبحتُ ناضجةً واستويتُ على عرشٍ من خيالاتي الخاصة. من نظرة عينيه عرفتُ أنني سحابة خيرٍ حبلى بالمطر، لكن كيف أهطل عليه؟

                          ***

أدعوها إلى لقاء فتلبي، أراقب كل ما تصنع، حتى الشاي ترشفه بأناقة لا تصنُّع فيها. ألمح في قدميها سوارًا ذهبيًا، أسألها عنه فتنظر إلى الأرض وتهمس: "إنه خلخال".

يفتنني رنين الكلمة (خلخال). أعود إلى زمن الصبايا حاملات الجرار وخلاخيلهن الصاهلة بنداء الحب وأشواق الجسد.

 

                         ***

لا لم أنضج بعد، عندما لمس أصابع يدي اليسرى جف ريقي وعندما أخذ كفيّ بين كفيه وقبلهما معًا، علت دقات قلبي، وعندما تشمم رائحة باطن كفيّ ثم حبس شهيقه في رئتيه ضربتْ دفقة دم عاتية منبت شعري.

لقد أعادني إلى مراهقتي وها هو وجهي يحتقن خجلًا من مجرد استعادة مشهد كنت أظنه سينتهي أثره بانتهاء وقت حدوثه.

أطمئن إلى لمعان خلخالي الذهبي ثم أخترع لحنًا تقول كلماته: "لست ناضجة أنا مراهقة.. يحمّر وجهي عندما ينظر لي حبيبي.. يكاد قلبي يقفز من صدري عندما يلمس كفي.. حبيبي لا أستطيع مراقصتك.. سأكتفي لكي لا أسقط في غيبوبة النشوة بأن أراقص ظلك".

 

قبل القبلة بخمس ساعات

عادة ما أستعد لميعادها، أسرف في كل شيء، أحرم نفسي من الأكل لكي آكل معها بشهية، أحرم نفسي من قهوتي الصباحية لكي أتناولها معها، أغتسل جيدًا، بل جيدًا جدًا، أتمنى لو نبت لي جلد جديد لم يلحقه من تراب الأحزان شيء أطمئن على قلبي، أشكره على أنه لم يخذلني وقاوم التصحر حتى هطلت السحابة.

                         ***

أفتعل الضيق من كشفه لكل أوراقي، يضحك من غضبي ويسرد عليّ أدق تفاصيل مشاعري قبل لقائه بخمس ساعات.

يقول: "تغادرين مكتبك وتذهبين ناحية النافذة، تشاهدين عجوزين يعبران الشارع متساندين، تقولين في نفسك سأعيش في حضن حبيبي حتى يحصي نمشًا سيبقِع ظهر يدي. تعودين إلى المكتب تتناولين هاتفك المحمول، تفتشين ذاكرة رسائله، تقرئين رسالة مني، تتأملين كلماتها القليلة، تقسمين أن حروفها مختلفة".

أقاطعه قبل أن يسترسل: "هذه أوهامك.. أنا لست متلهفة عليك كما تظن".

 

قبل القبلة بأربع ساعات

تحسست ذقني فوجدتها كما أكرهها، ليست حليقة ناعمة ولا طليقة مسترسلة، يذكرني ملمسها بنباتات شوكية سامة كانت تنبت في قلبي قبل أن تهطل عليه السحابة.

أتوتر من دون سبب مفهوم، أرجع توتري إلى اختناقي بالشوق إليها، لا أرغب في شيء سوى رؤيتها الآن، الآن وليس بعد أربع ساعات.

عندما غادرت بيتي، ابتعت جرائد كثيرة أعلم أنني لن أقرأ منها حرفًا.

دخلت إلى المطعم الذي حددناه مكانًا لموعدنا. اخترت مائدة في ركن قصي من أركان حديقة المطعم، جف ريقي فطلبت (رغم برودة الجو) ماءً مثلجًا. ألقى نظرة تائهة إلى عناوين الجرائد ثم نظرة مدققة إلى مدخل المطعم ثم امتص الماء المثلج.

يطول الانتظار، أحس ببوادر وجع في ذراعي اليسرى، أحاول تسكينه بتدليك مفاصل الذراع.

لماذا لا تطل الآن لكي يسكت هذا الوجع؟

 

                          ***

قبل مغادرتي مقر عملي راجعت للمرة العاشرة تاريخ اليوم، لقد تأكدت مجددًا أن الليلة ستكون مقمرة، أحب ذلك الشجن الذي تبثه الليالي المقمرة إلى قلبي.

أشتاق للمسة منه، أتمنى لو صارحته: "كف عن حلاقة ذقنك كأنك أمرد، اترك لي شيئا من خشونتها".
 

قبل القبلة بثلاث ساعات

عندما ستأتي لن أصافحها، سأفتح ذراعيّ على امتدادهما لتسقط ناضجة ومعطرة في حضني، سأكون مباغتًا، لن أتركها تعود خطوة للوراء فتتفادى الحضن المشتاق، سأقبل خديها سريعًا، سترتبك ثم ستلمع عيناها بغضب متدلل وتغمغم: "هكذا.. ما أحكمه من فخ، ما علينا لن نتعاتب الآن".

هكذا كنت أحادث نفسي وهكذا ذهب وجع ذراعي، وهكذا ظللت مصلوبًا على باب انتظارها.

                         

                      ***

تناول قطعة لحم ووضعها في طبقي قائلا: "وددت لو وضعتها في فمك ولكن أخشى غضبك".

أدرتُ عنه وجهي وهمست لنفسي: "لا يعلم أنني ما كنت سأغضب، لا يعلم أنني كنت سأسعد فيما لو جعلني أسقط بين ذراعيه في عناق أشتاقه".

طافت عيناي بوجهه، توقفت عند ذقنه التي لا هي حليقة ولا طليقة.

 زفرت بصوت مسموع، وعندما سألني عن زفيري المفاجئ، قلت:" أحدهم حقق لي اليوم أمنية دون قصد منه".

عندما ألح في طلب المزيد من المعرفة، أجبته بالنبرة التي يحبها: "لن أبوح بأسراري".

 

قبل القبلة بساعة

أعتمت السماء فجأة، خفت أن تقترح الجلوس إلى مائدة مضيئة. أنا أحب نور الله، صباحًا وليلًا، ظهرًا وعصرًا.

 إنها السحابة الحبلى بالمطر تظلل السماء وتتوقف فوق مائدتنا وترسل رذاذها الخفيف.

أهمس للسحابة: "أحبك يا أيتها السحابة ولكن الوقت ليس وقتك، ستخاف حبيبتي الآن من أن يبتل شعرها".

أناشد السحابة: "بالله عليك انصرفي عنا الآن لكي لا تقول حبيبتي بحسمها القاطع: هيا بنا ندخل إلى القاعة الرئيسة".

أتضرع للسحابة: "رذاذك ينعشني ولكنه سيجعلها تغادر بالله عليك اذهبي بعيدًا ".

يوترني رذاذ السحابة، ترى توتري فتتشاغل بتمزيق ورقة إلى قطع صغيرة جدًا.

          

                         ***

ما باله متحفظ هكذا، لقد جئته معطرة فواحة بالشوق، حتى السماء تساعدني وترسل رذاذها، متى يمد يده ويمسح عن شعري قطرات علقت به؟

الليلة مقمرة يا حبيبي، وأنت لا تعرف ما الذي يصنعه بي القمر.

توتره يوترني، كلما مضى الوقت، ضاعت الفرصة، عن أي فرصة أتحدث؟
 

قبل القبلة بنصف ساعة

ذهبتْ السحابة سريعًا وخلفّت جوًا عابقًا برائحة الشبق للحياة. كانت خصلات من شعر حبيبتي قد ابتلت قليلًا: "يا الله اصرف عني حماقة أن أمد يدي لشعرها المبتل".

تستجيب لي السماء وترسل نسمة تضرب جسد الحبيبة ثم ترتد لي حاملة عطرها. أعرف نفسي جيدًا، يثيرني عطرها، بل يهيجني، لكنه الليلة خدرني، لا، ليس هكذا، عطرها الذي يبدو كأنه بخور منابر المساجد هذبني وجعلني شفافًا، عطرها جعلني درويشًا في حلقة ذكرها، جعلني إلى الله أقرب وإلى حقيقة نفسي أقرب معلنًا انتمائي الكامل لحبيبتي.

 

                          ***

لو أعرف فيمَ يفكر؟ ولو أعرف لماذا هو صامت شارد؟ حبيبي كلما مضى الوقت ضاعت الفرصة. عن أي فرصة أتحدث.

 

قبل القبلة بربع ساعة

حانتْ لحظة الوداع وكان عليّ أن أختار بين الخروج من باب الحديقة الجنوبي ومن ثمّ الوصول إلى الشارع العام مباشرة، وبين التوغل في الحديقة مترامية الأطراف والوصول إلى الشارع من بابها الشرقي، لكي أربح وقتًا إضافيًا بحضرتها، دعوتها مفتعلًا التلقائية إلى التوغل في الحديقة.

 

                          ***

لو قادني من المطعم إلى الشارع مباشرة لغضبتٌ منه غضبة العمر، الحديقة متسعة ومنظمة وأشجارها لا تحجب قمري الذي يسكب حليبه فوق رأسي، لا، بل فوق قلبي، يغتسل قلبي بحليب القمر وأهتف للحب أنْ انتصر وطهرني من دنس الحرمان.

 

                           ***

نمشي على مهلٍ، لا نريد لهذا الطريق أن ينتهي، لا نريد لهذا الليل أن ينتهي، لا نريد لهذا القمر البهي أن يغيب.

مرحبًا يا حجر المتوحد المحروم، هكذا هتفت في نفسي، عندما وصلنا إلى الحجر الضخم الأبيض الأملس الذي كثيرًا ما جلست عليه منفردًا أمضغ الصبر والوحشة.

من حق حجري أن يراني بصحبة حبيبتي، سبقتها بخطوة وجلست على حجري أمرجح كطفل قدميّ في الهواء.

 نظرت لي باسمة وجلست بجواري.

 

                         ***

هل يعرف هذا الذي يمرجح قدميه في الهواء أنه هكذا يؤلمني لأنني بعد قليل سأغادره وليس معي غير شوق جامح إليه. قل له يا قمري كلما مضى الوقت ضاعت الفرصة.

 

قبل القبلة بدقيقة واحدة

كنت قد رأيتها في منامي وقد أسلمتني وجهها فاحتضنته بين كفيّ، فبكتْ، فرشفتُ دموعها. ماذا لو أسلمتني في عالم الحقيقة وجهها فاحتضنته بكفيّ فتبكي فأرشف دموعها؟

هل سيختل ميزان الكون لو قبلتُ الآن جبينها المشرق الناعم كأنه حضن أمي؟

 

                          ***

ماله قلبه ينتفض تحت قميصه؟، أكاد أسمع دقاته، إنه يمسك يدي يقبل أصابعي، إنني أغيب الآن، ألمس وجهه كله، أتحسس ذقنه الخشنة النابتة، أمرر أصابعي ببطء ونعومة على شفتيه، إنه يقربني منه، لا، إنه يجذبني، لا، إنني أجذبه، إنه يقبل الآن جبيني، قبلة عميقة شاكرة وممتنة، يا قمري شاهدني جيدًا لكي تقص عليّ حقيقة ما يجري الآن.

 

ثم جاءت القبلة

فجأة وجدتني على بعد شهقة من جبينها، أقسم لم أتعمد شيئًا، لمست خدها الأيمن ليس كما أحب أن تكون اللمسة، ولكنه الخوف من غضبها، ثم كأن جبينها غادر موقعه وأصبح قريبًا مني، هكذا دون وعي أو تفكير أو تردد قبلت الجبين المتسع الناعم كأنه حضن أمي.

تعالت دقات قلبي، كاد يغادر مكانه في صدري ويرمي بنفسه تحت قدميها.

أخذت وجهها نحوي، كانت شفتها السفلى ترتعش، لمحتها وهي ترتعش، كانت حبيبة وقريبة ومطمئنة، وكنت جائعًا ومحرومًا ومتلهفًا، كنت وشفتها في سباق مَنْ منا يتخلص من حرمانه أولًا.

تعالي يا شفة حبيبتي، لقد عشت طويلًا وما أحلى الموت على عتبتك.

كل قبلة قبل هذه كانت موتًا وجحيمًا وكذبًا وخداعًا.

 

                         ***

قل له ياقمري إنني أحب أنفه الذكوري المستقيم، لا أحب الأنوف القصيرة الصغيرة، أشعر كأن أصحابها خبثاء. أحب أن أحك أنفي بأنفه، أحب أن أقبل أنف حبيبي، هذه ليلتي فلمَ لا أفعلها؟، لقد قبلت أنفه، ليس كما أريد وأشتهي ولكنها قبلة تصبرني على حرماني الذي طال سنوات. 

 

                         ***

هذه ليلتي أنا، أعود ثانية إلى شفتيها متمهلًا ومراقبًا، لو تركت نفسي للنشوة فلربما صرخت بكل صوتي.

كنت أقبلها وكانت تقبلني، كنت أحاول ضم شفتها السفلى تلك المتوحشة المكتنزة، وكانت تقبل شفتي العليا، لم تكن خائفة أو مرتبكة، كانت متلهفة ومتجاوبة، لحظتها قلت لها " قدمي لسانك لحبيبك".

                        ***

مسحورة أعطيته طرف لساني فقبض عليه بشفتيه جميعًا، كان يمتصه، وكان الخدر الناعم يشملني، إنني أضيع الآن، احفظ لي يا قمري تفاصيل ما يجري.

 

                         ***

لسانها حار لعوب يريد أن يتملص من شفتيّ، لكنني أقبض عليه بقوة، أمتصه كأنني أتقصى سر عذوبة كلماته.

 

                         ***

يرتاح قليلًا ثم يقبل شفتي لمرة ثالثة، فتكون الأحلى لأنها الأهدأ والأعمق والأطول. لأنني أعرفني جيدًا، فلابد وأن يكون وجهي قد احتقن وعيناي قد أشرقتا بنشوة الحب. أتناول يده اليمنى وأضعها كتعويذة فوق قلبي لكي يهدأ.

 

الاثنين، 16 يناير 2017

الرعب ( 2 ـ 2 )

قصة قصيرة

 
لن أدع الزمان يزيّف مشاعري أو يجملها، ولذا يهمني التأكيد على أن حبي لأمل ليس كهذا الحب الشائع بين الرجال والنساء، إنه شيء مختلف كأنه ضحكتها العصية على التصنيف.

عندما كنت أنا أحقق نجاحًا ـ لا ينكره سوى حاقد ـ في هندسة البناء، كانت أمل تتزوج.

بدأت أمل زيجاتها بعد أول لقاء لنا بسنة، عندما كان لها من العمر خمس وعشرون سنة، وكفت عن الزواج عندما أصبح عمرها خمسًا  وأربعين  سنة.

في تلك العشرين سنة تزوجت أمل ثلاث مرات، وحصدت ثلاثة طلاقات، وولدت خمسة من الأبناء، ثلاثة أولاد وبنتين.

لم يكن أحد يعرف أسباب هذا الفشل المتكرر، حتى أنا لم أجرؤ يومًا على الدخول في تلك المنطقة الشائكة، كنت أظهر لها التعاطف الواجب ثم نعبر وقائع الزواج والطلاق ونوجه دفة حديثنا في اتجاه مغاير.

ظل هذا تعاملنا مع منطقة الزواج والطلاق حتى جاء لقاء قالت لي فيه:

ـ أنت مهندس ناجح، ومغازل منزوع الأنياب، لكنك أرعن، ورعونتك تلك أكسبتك حكمة عميقة، فأنت رجل حكيم.

توقعت أن تعقب على جملتها بواحدة من ضحكاتها، إلا أنها لم تضحك، بل لم تبتسم، وواصلت كلامها قائلة:

ـ آية حكمتك أنك لم تتورط معي على أي شكل كان التورط، أما قلب حكمتك فقد ظهر لي عندما منعت نفسك من الخوض في شأن زواجي وطلاقي، أنت تعلم، بل تؤمن، أن كل مطلقين هما كاذبان بالضرورة، ومن يوم لقائنا الأول، يوم اجتماع البطيخ، وأنا أعلم أنك تنفر من الأكاذيب، وعلى ما سبق لم توجه لي سؤالًا قط عن حياتي الخاصة، مكتفيًا بسماع ما أقوله مظهرًا الحزن والأسى وبعض التعاطف.

انظر يا صديقي يا حمودة، أنا لست كاذبة، أنا فقط مختلفة، ولذا فإن الوقائع التي أدت إلى فشلي في حياتي الخاصة لن يتفهمها أحد، هل أكشف لك عن سر؟

أشرت برأسي بعلامة الموافقة فراحت تقول:

ـ بعد طلاقي الثالث بدأت أرى أولادي رؤية جديدة، إنني أحيانًا أنظر إليهم كأني لا أعرفهم، وأبذل مجهودًا جبارًا لكي لا أسألهم: من أنتم ؟

لقد بدأت أتأمل أولادي باحثة عن جامع يجمع بينهم، أو يجمعهم بي، فلم أظفر بشيء، البنت الكبرى هي من الأول، والذكور الثلاثة هم من الثاني، والبنت الصغرى هي من الثالث، ما هذه المتاهة يا صديقي؟

أقول لنفسي: لا يجمعهم سوى شهوة فرجي وألم رحمي، إنهم نتاج حليب فحولة ثلاثة رجال، هل تعرف أن بعض النساء يذقن مَنيّ أزواجهن؟

ليتني فعلتها، كنت على الأقل سأعرف شيئًا عن أصل خلقة أولادي الذين أمنع نفسي من أن أصيح في وجوههم: من أنتم؟

***

بعد ذلك اللقاء بأسراره الثقيلة تباعدت مقابلاتنا حتى كان العام يمر بكامله ولا نلتقي خلاله مرة واحدة، فكنا إذا التقينا قالت:

ـ هيا نكذب مثل الأصدقاء القدامى ويعاتب أحدنا صاحبه ويتهمه بالتقصير.

تقول جملتها وتطلق ضحكتها التي تضيق لها عيناها، فيتفجر منهما دلال فاتن، ثم نتحدث كأننا نستأنف حديثًا كنا قد قطعناه قبل دقيقة لا قبل عام بأكمله.

في لقاءاتنا الأخيرة لاحظت أن تغيرًا عظيمًا قد طرأ عليها، تغيرًا شملها من رأسها حتى قدميها، ضحكاتها قلّتْ حتى كادت تنعدم، وقد يمضي اللقاء ولا تضحك ضحكة واحدة، ضرب شيب سخيف شعرها فأصبح لونه رماديًا باهتًا مقبضًا، الضيق من ملابسها اتسع، والقصير طال، بالجملة أصبحت لها هيئة أرملة تقف ذليلة في صف الأرامل منتظرة دورها في قبض معاش ضئيل يكفي بالكاد لأن يبقيها على قيد الحياة.

ومع هذا التغير الشامل جد عليها ثلاثة أمور، الأول هو التدخين، لم تكن في زمانها الأول مدخنة، الآن أصبحت مدخنة شرهة لكل أنواع السجائر، ومع التدخين تلفت حبالها الصوتية فكنت أنكر صوتها عندما يصلني بعدما ذهب عنه رنينه القديم.

الأمر الثاني، هو اقتناؤها لعدد مهول من المسابح، مسابح من كل لون وحجم، كانت تطمئن على وجودها في حقيبة يدها بين كل لحظة وأخرى، ولأني كنت أعرف نفورها من الرجال والنساء الذين يصطحبون معهم مسابحهم أينما ذهبوا فقد تجرأت وسألتها عن هذا التعلق الجديد على شخصيتها.

فلمعت عيناها بالحزن الذي حدثتني عنه قديمًا وما كنت أصدقه ثم قالت:

ـ لقد ضاع عمري وأنا لا أعرف شيئًا عن الاستغفار والتسبيح والتكبير والتهليل، هل ستصدقني لو قلت لك إن أغلب قراءاتي الآن عن فوائد الاستغفار؟ مسابحي تقربني من تحطيم الرقم القياسي، فقد قرأت أن أحدهم كان يستغفر الله في اليوم اثني عشر ألف مرة، قريبًا سأزف إليك خبر تحطيمي لذلك الرقم.

الأمر الثالث هو الرائحة، لم تكن في زمانها الأول من اللواتي يحببن أن يعلن عطرهن عن حضورهن.

كانت تقول لي:

ـ أكتفي برائحة جلدي، وعلى المتضرر اللجوء إلى سد أنفه.

تقولها وتضحك ضحكتها الفاتنة.

تقولها وأعتصم بصمتي لكي لا أرد عليها قائلًا:

ـ وأنا تنعشني رائحة جلدك المغسول بالماء الساخن والصابون، لك رائحة البهجة والسكينة والرضا.

الآن أصبحت لها رائحة خشنة نفاذّة، لن أستطيع وصفها إلا إذا استطعت العثور على وصف مناسب لرائحة القلق.

***

عندما نلتقي أجد نفسي مع امرأة يضربها ألم غامض، وتشي ملامحها بأسئلة جارحة لا تقوى على التخلص منها.

تقابلنا فقعدت مبعثرة، مخاصمة قعودها الذي كان أنيقًا محكمًا في زمانها الأول، ثم بدأت في التدخين، تشعل السيجارة من سابقتها، وتسعل سعالًا خشنًا يكاد يجرح حلقي أنا.

ضقت بتدخينها المتواصل وبالتزامها الصمت فقلت لها مشاكسًا:

ـ هل جئتِ لكي تحتفلي معي باليوم العالمي للصمت وتدخين السجائر الرديئة؟

غمغمت قائلة:

ـ جئتُ لكي أبوح لك بسر، سر له رمحان مغروسان في صدري.

خفت أن ينالني من سرها أذى فسكت ولم أدفعها للكلام، بل لم أرحب بأن تتكلم، ولأنها في غاية الذكاء فقد وصلتها رسالة سكوتي، فسعلت حتى دمعت عيناها ثم قالت:

ـ كن مطمئنًا، أنا لن أتجاوز حدودي التي رسمتها أنت لي، ما علينا، سري يا حمودة، سر مركّب من حالتين، الأولى هي أنني أصبحت أشعر بنشوة ما عندما تقع مصيبة ما، لا أقصد مصيبة شخصية أو حتى عامة، أعني المصائب التي يقولون إنها كونية أو طبيعية.

قاطعتها سائلًا:

ـ أرجو المزيد من الإيضاح لأنني لا أفهم ما تشيرين إليه.

أشعلت سيجارة جديدة وقالت:

ـ يعني عندما تمطر السماء، أجدني أتمنى ألا يمر المطر كما مر سابقه، أتمناه مطرًا كأنه طوفان نوح، أتمناه مطرًا نفر منه إلى أعالي الجبال فيحبسنا هناك في ثلج القمم الشاهقة وعزلتها وقسوتها، وأرانا وقد بدأنا حياة جديدة ليس بها من أحزاننا القديمة شيء.

هناك في قمم الثلج والقسوة والعزلة، سيعود الرجل رجلًا، وتعود المرأة امرأة، ويعود الطفل طفلًا، وتسري في عروقنا المتيبسة نفخة الله، فنولد ثانية أبرياء رحماء.

إنني أكون منتشية بذلك الأمل كلما تدفق المطر، ثم أصاب بالضمور حتى أكاد أتلاشى عندما تكف السماء ويمر المطر كغيره، مخلفًا بركًا من الماء الآسن والمزيد من أوحال الشوارع المتعفنة.

وقس على ذلك حالي كلما سمعت بحريق، أو علو موج البحر، أو حتى حادث قطار.

سمعتها وواصلت اعتصامي بصمتي لأن أي تعليق لي كان سيخرجها من حالة البوح، وأنا أريدها أن تتخلص من كوابيسها الخاصة بالبدء من جديد.

نظرت لي مبتسمة وقالت:

ـ أراك سكت، أراك خائفًا من صديقة قديمة غنت لاسم تدليلك في أول لقاء جمعها بك، ما علينا، الحالة الثانية لسري المركّب، هي أنني أتخيل موتك وموت أولادي وموت كل أحد أو شيء تعلقت به، حالة شاملة من حالات الفناء الخاص، فناء يخصني أنا فقط، يضغط خيالي على قلبي حتى يصبح كالحقيقة، فأبكي وحدتي ووحشتي وموتكم، وأظل أبكي حتى يستولي صداع قاتل على رأسي، فأدفن نفسي في الغطاء وأسقط في نوم عميق.

***

جاءت تزورني في مكتبي الخاص، لقد نجحت حتى أصبحت أمتلك مكتبًا له صيت الشركات الكبرى، كثيرًا ما دعوتها لزيارتي في مكتبي ولكنها كانت ترفض بحجج شتى، يومها جاءت من غير دعوة، جاءت من تلقاء نفسها، جاءت كما كانت تأتي في زماننا الأول.

جاءت لامعة مهندمة تفوح منها رائحتها القديمة، رائحة جلدها والماء الساخن والصابون المعطر، فرحت بعودتها لهيئتها القديمة، فسارعت بالوقوف بنزق فتحت معه ذراعي باتساعهما لكي أحتضنها لأول مرة في تاريخ علاقتنا.

استكانت في حضني وهي تغمغم:

ـ ربع قرن، وحضن واحد، ما علينا.

أفلتها برقة من بين ذراعي وقلت بفرح صادق:

ـ حمدًا لله على سلامتك، كأنك كنتِ مريضة.

ضحكت ضحكتها الغالية وقالت:

ـ وكففت عن التدخين، وحطمت الرقم القياسي في الاستغفار، يوم أمس استغفرت ثلاثة عشر ألفًا وسبعمائة وثلاثًا وثلاثين مرة، أشعر بأنني ممتلئة حتى حافتي بعظمة ما.

قلت وكأنني عثرت على كنز:

ـ هذه مناسبة عظيمة لا يليق بها سوى حفل عظيم، هيا نهندس حفلًا يليق بهذه المناسبة.

أشارت بيدها بعلامة السكوت ثم قالت:

ـ قبل التفكير في هندسة احتفالك، كيف ترى مصطفى محمود؟

أدهشني سؤالها، خاصة وأنا لا أعرف مَنْ مصطفى محمود الذي تسألني عنه، فأجبتها قائلًا:

ـ عن أي مصطفى تسألين؟

ظهر الضيق على وجها وقالت:

ـ مصطفى محمود الكاتب، صاحب المسجد الشهير وبرنامج العلم والإيمان.

ابتسمت قبل أن أجيبها:

ـ لم أعرف لك اهتمامًا به من قبل!

وكأنني بجملتي العابرة قد تعمدت وضع الملح على جرحها النازف فقد صاحت في غضب حاد:

ـ لا أكره منك شيئًا قدر كرهي لإجابتك عن السؤال بسؤال، كف عن هذه الطريقة السخيفة ولو هذه الساعة فقط، أرجوك، أعصابي لم تعد تحتمل مثل هذا العبث.

انكمشت في نفسي معتذرًا عن عبثي الذي لم أقصده ثم قلت:

ـ مصطفى محمود عندي هو نوع من أنيس منصور، هذا إن كنتِ تعرفين أنيس منصور.

ردت بنفاد صبر:

ـ أعرفه وقد قرأت له شيئًا من كتاباته، ولكن لا أعرف ماذا تقصد بجملة "نوع من أنيس منصور"!

أجبتها:

ـ أعني كأن أنيس منصور جنس قائم بذاته، وتحته تندرج أنواع من الكُتّاب، نوع منهم اسمه مصطفى محمود، ويجمع بين الجنس وأنواعه، جوامع كثيرة، منها الشهرة الواسعة، النفوذ الضخم، المبيعات المليونية، غزارة الإنتاج، التأثير الكبير، ثم في المحصلة النهائية لن تحصدي من ذلك الجنس سوى الخواء التام والكامل.

زفرت زفرة الساخط وسألتني:

ـ هل قرأت رواية مصطفى محمود "المسيخ الدجال"؟

أجبتها:

ـ طالعتها منذ زمن بعيد، ولم أعد أتذكر منها سوى ركاكتها وسعيها الفاشل في تقليد رسالة الغفران والكوميديا الإلهية.

تقلص وجهها بعلامة خيبة الأمل ثم قالت:

ـ أعطني سيجارة.

رددت بضيق:

ـ قبل قليل قلتِ إنك أقلعتِ عن التدخين.

ردت بحدة:

ـ قررت العودة إليه.

قدمت إليها السيجارة وبحثتْ هي بعينيها عن ولاعة فوق المكتب فوجدتها وأشعلت سيجارتها ونفثت دخانها في وجهي، ثم قالت بنبرة صوتها القديم:

ـ مصطفى محمود الذي لا يعجبك كتب رواية حياتي، كتبها لي أنا على وجه التحديد.

سكت ولم أعلق، فانتهزت فرصة سكوتي وتناولت حقيبة يدها وأخرجت مسابحها الكثيرة ومعها كتاب متهرئ الغلاف وقدمته لي قائلًا:

أقرأ بداية من الصفحة التاسعة.

تناولت الكتاب متأففًا، كان رواية المسيخ الدجال، رأيت في أولى صفحاتها سطورًا مكتوبة بقلم رصاص تقول: "للذكرى .. مستشفى حميات إمبابة / حجرة 8 الدور الثاني / الممرضة جميلة واسمها رانيا".

طفت ابتسامة على وجهي فصاحت أمل:

ـ قلت لك اقرأ، يعني اقرأ لي بصوت أسمعه، بداية من الصفحة التاسعة، تفضل اقرأ!

وضعت على عيني نظارة القراءة وبدأت أقرأ: "مضت على الرجل عشرون سنة وهو يتعبد الله في صومعة عند رأس الجبل، حتى اشتهر في القرية بأنه الرجل المبارك، وكان أهل القرية البسطاء يصعدون له بالطعام ويقبلون يده، ويأخذون منه العهد ويحملون له المرضى ليشفيهم والأطفال ليدعو لهم.

ولكن الله كان يعلم أن هذا الرجل فاسق برغم صلاته وصومه وعبادته، وأنه يحب الدنيا حب العبادة برغم عزوفه الظاهر عنها، فما صعدت إليه امرأة بطعام إلا تطلع إلى ساقيها، وخالس النظر على تكوير ثديها وتدوير ردفها وبياض نحرها واحمرار ثغرها ودموية خدها، وما سجد بعد ذلك إلا وتراءت له المرأة في القِبلة، وما رقد لينام إلا احتلم بها وضاجعها حتى قضى منها الوطر وشفى الغليل".

فجأة وبسرعة البرق، مدت أمل يدها وانتزعت مني الرواية، ووقفت وهي تسلط عينيها على عينيّ وقالت:

ـ هذا المقطع هو رعبي، هذا المقطع يفضحني أنا، أنا المسيخة الدجالة، هناك رجل أرعن وديع لم يورط نفسه معي، يقطع عليّ ذكري وتسبيحي، أركع فيجثو على ركبتيه ويتلقف نهديّ بين يديه، أسجد فيأتيني من خلفي، أهب واقفة فيطرحني أرضًا ويعلوني.

كان وجهها كتخيلي لوجه أمنا الغولة، كان صوتها يتعذب وهي تتكلم، كانت أنفاسها تتقطع، وكان الزبد يتطاير من فمها ويسقط قريبًا من وجهي، سكتت فجأة، ثم قذفت مرآة خلف ظهري بالرواية.

عندما استفقت كانت قد غادرت الغرفة، حاولت اللحاق بها، ولكن كأن الأرض قد انشقت وابتلعتها.


الخميس، 12 يناير 2017

الرعب ( 1 ـ 2 )

قصة قصيرة

                                                                                    
                                                 
تصادقنا وكلانا في ريعان شبابه، كانت بشرتها ناصعة البياض، وكانت عيناها عسليتين، لم تكن تشغل نفسها باختيار مساحيق الزينة، فكل ملامحها متناسقة، قد زينها الله بفتنة كامنة، لم تكن تنفلت من حشمة فرضتها على نفسها إلا عندما تضحك، كانت ضحكاتها عنوانًا لمهرجان من البهجة اللعوب يتمتع به جليسها.

اختصارًا لم تكن تهتم سوى بأمرين، أمر شعرها الناعم الجامع بين اللونين الأسود والبني، كانت تقصه قصة الغلمان، تقصّره من جانبيه ومن مؤخرته، ثم تطيل مقدمته بعض الإطالة، وتجمع المقدمة كلها وتجعلها تاجًا يعلو جانب رأسها الأيمن.
وكانت تهتم جدًا بملابسها، فهي دائمًا نظيفة لامعة تبرز علامات أنوثتها في غير ابتذال أو عري فاضح، وكانت إذا أثنيت على اختيارها لملابسها تطلق واحدة من مفاتن ضحكاتها ثم تقول:

ـ ملابسي هي التي تختارني.

لم أكن أصدق إجابتها، وكنت أحسبها نوعًا من مبالغات النساء اللطيفة، والآن أقول: ليتني صدقتها!

الحقيقة لم تكن هناك جوامع كثيرة تجمعني بها، ولكني كنت دائمًا أستمتع بقضاء بعض الوقت معها.
                           ***

عندما صادقتها كانت فتاة بكرًا، جمع بيننا العمل، فكلانا يعمل مهندسًا في شركة هندسية حكومية كبرى، أعمل أنا في المقر المركزي الذي يطل مبناه على النيل، وتعمل هي في فرع متاخم لصحراء ضاحية مدينة نصر.

كانت كثيرًا ما تقول:

ـ عملك بالقرب من النيل أكسبك رعونة ما، وعملي بالقرب من الصحراء أكسبني حزنًا ما.

الحقيقة لم تكن تفسر كلامها، والحقيقة لم أكن أهتم بتحليلها الطائر لشخصيتي وشخصيتها، وكنت أنسبه إلى مبالغات النساء اللاتي يدعين العمق أو المعرفة، أو يرغبن في الظهور بمظهر الحزينات، لعلمهن بأن الحزن أو ادعاءه يجعل المرأة مثيرة على نحو من الأنحاء.

أذكر أن علاقتنا بدأت منذ يوم البطيخ، وهو اجتماع شهير جدًا في تاريخ شركتنا الكبرى، وأصل قصته أن السيد رئيس مجلس الإدارة، ومعه السادة أعضاء مجلس الإدارة، قد دعوا لاجتماع يضم نخبة من مهندسي الشركة، كنت أنا وهي من تلك النخبة المنتخبة.

السيد رئيس المجلس والسادة أعضاء المجلس هم جماعة من اللصوص الذين لا يشق لهم غبار، وعلى أيديهم وبفضل سرقاتهم، منيت الشركة بخسائر تقصم ظهر جبل، وعندما فاحت رائحة الخسائر، دعا مجلس الإدارة إلى اجتماع نخبويّ حمل عنوان: "سنعبر الواقع نحو آفاق المستقبل السعيد".

عندما تسلمت بطاقة الدعوة ضحكتُ وذهبتُ، هي ستقول لي فيما بعد:

ـ كدت أرفض الحضور وليكن ما يكون، ولكني وجدتها فرصة للنظر في عيون اللصوص.

جلسة الاجتماع كانت في قاعة فندق فخم، تحلقنا حول مائدة بيضاوية، جاءت جلستي في مواجهة التي سأعرف بعد قليل أن اسمها أمل، وستصبح بعد الاجتماع صديقتي غريبة الأطوار.

تحدثوا جميعًا في كل شيء وعن كل شيء، دون أن يقترب أحدهم من منبع الكارثة، كان واضحًا أنهم جميعًا يريدون غسل أيديهم من دماء الشركة بعد أن أزهقوا روحها بسرقاتهم وبلادتهم في إدارتها، عندما كانت أصواتهم تجلجل في القاعة الفخمة مكيفة الهواء معطرة النسمات، هجم النوم عليّ، نوم ثقيل يصعد من بقعة ما من قلبي ويتمركز في عينيّ فأفتح فمي باتساعه متثائبًا، ومع التثاؤب أغلق عينيّ فيسقط وعيي في ظلام دامس، غائبًا عن الاجتماع والمجتمعين.

لا أدري كم مرة هاجمني التثاؤب، ولكن في مرة من المرات، فتحت عينيّ لأرى أمل تتثاءب هي أيضًا، التقت عينانا وابتسم كل منا لصاحبه، ثم رحنا نتثاءب في اللحظة ذاتها، كان الأمر عجيبًا حقًا، فلو كنا قد اتفقنا على التثاؤب المشترك، وتدربنا عليه، ما كان ليحدث بذلك التزامن الدقيق للغاية، ومع انتهاء كل نوبة تثاؤب كان عيوننا تلتقي وشفاهنا تبتسم.

قد يكون سيادة رئيس مجلس الإدارة قد لاحظ مباراة التثاؤب القائمة بيني وبين أمل، وقد يكون أحدهم قد لفت نظره إليها، لأنه فجأة قطع حديث متحدث وصاح:

ـ المهندسة أمل يحيى، هل تتكرمين علينا وتذكرين ملخصًا لما قاله السيد المهندس العضو المنتدب!

أرسلت لي أمل نظرة وهي تقف متمهلة، أجبت نظرتها بنظرة تعني (الله معك).

ابتسمت أمل للجميع ثم طفقت تتحدث حديثًا شنيعًا، لفت نظري فيه حرصها على استخدام الفصحى، إضافة إلى سلامة مخارج حروفها.

قالت أمل كلامًا كثيرًا، فصيحًا نعم، ومرتبًا نعم، لكنه لا يعني شيئًا البتة.

أوقفها السيد رئيس مجلس الإدارة بنظرة نارية وبضربة يد على مائدة الاجتماع، ثم قال:

ـ شكرًا سيدتي على كل هذا البطيخ، أنت ـ ثم أشار إليّ ـ وزميلك، اذهبا إلى أقرب مكان يقدم المشروبات المنبهة.

كنا نتجه نحو باب الخروج بدون أن تعلق بنا ولو ذرة واحدة من تراب الخزي أو العار، نحن لسنا مطرودين من اجتماع مهم، نحن ذاهبان لتناول مشروب منبه.

قبل أن نصل للباب بخطوة جاءنا صوت السيد الرئيس لينًا كأنه أب يودع أولاده:

ـ قبل مغادرتكما مرا على السكرتيرة، تجدانها في الممر الذي على يسار المصعد.

ما إن أغلقتُ الباب خلف ظهرينا حتى سألتني:

ـ فيم كان تثاؤبك؟ ولا تقل لي إنه قلة نوم.

أجبتها:

ـ يصيبني التثاؤب عندما أفقد التواصل.

هزت رأسها معجبة بصياغتي ثم قالت:

ـ قبل أن تسألني سأجيبك، أتثاءب عندما يحاصرني الكذب، هذا الاجتماع كاذب، وعنوانه كاذب، وكل المتحدثين كذبة، إنهم يعرفون أننا نعرف أنهم لصوص، ومع ذلك يصرون على ترويج أوهام وتسويق أكاذيب، فكيف لا أتثاءب؟!

كنا قد وصلنا إلى حيث تقف لامعة كاذبة سكرتيرة السيد رئيس مجلس الإدارة، التي قادتنا إلى غرفة فخمة للغاية، ملحقة بقاعة الاجتماع، وفتحت درج مكتب، وتناولت ظرفين مغلقين، قدمت لكل واحد منا ظرفًا، ثم جعلتنا نوقع على إيصالي استلام.

غادرنا السكرتيرة اللامعة الكاذبة، فقالت أمل:

ـ أراهن أنك لم تقرأ الرقم الذي وقعت على استلامه.

قلت:

ـ لقد ربحتِ الرهان، أنا حقًا لا أعرف ما بالظرف.

قالت:

ـ الملاحظات الصغيرة شأن نسائي، بالظرف مائة وخمسة وسبعون جنيهًا مصريًا فقط لا غير.

فتحت فمي مندهشًا من ضخامة المبلغ وقلت ضاحكًا:

ـ هذا أثمن تثاؤب مر في حياتي.

عندما أصبحنا خارج الفندق، تحيرت في الخطوة التالية، هل أدعوها لشراب منبه كما أوصى سيادة رئيس مجلس الإدارة، أم يذهب كل منا لشأنه؟

قطعتْ عليّ حيرتي قائلة:

ـ المبلغ ضخم، لا شك في ضخامته، إنه يكاد يقترب من ربع راتبي، أظن أنه مال حرام، هل تشاركني الظن؟

ابتسمت ثم قلت:

ـ هو حرام بكل تأكيد؛ لأن الإدارة تغطي على سرقاتها باجتماعات وندوات، وتقدم للحضور مالًا مقابل التصفيق، الحمد لله أننا لم نصفق، كنا نتثاءب فقط.

قالت:

ـ هذا جيد، ولكن كيف سننفق مالًا نعتقد أنه حرام؟

قلت:

ـ سأشتري به مخزونًا من السجائر يكفيني لشهر أو شهرين.

قالت وهي تبتسم:

ـ أنا سأشتري بمالي قمصان نوم تذهل العابد عن عبادته.

قالت جملتها ببساطة متناهية، ثم أطلقت أولى ضحكاتها في تاريخ علاقتنا.

كأني العابد الذي أذهلته فتنة قمصان نومها، وقفت بلا حراك، مأخوذًا بهذه الجنيّة التي لا أعرف عنها سوى اسمها واسم أبيها.

كأنها لاحظت شرودي خلف جملتها المفاجئة، فباغتتني مادة يمينها وهي تقول:

ـ أقدم لك نفسي، أمل يحيي الغريب، مهندسة معمارية وزميلة لحضرتك في فرع منسي يقع على تخوم صحراء مدينة نصر، آنسة وأفكر في الزواج، ملفوفة القوام كما ترى، أجيد الطبخ وأقدس الحياة الأسرية، لا أهوى جمع الطوابع ولا المراسلة ولا تربية الحيوانات الأليفة أو المتوحشة، أحب القراءة الحرة وسماع التواشيح، ها، كدت أنسى الإشارة إلى أنني من مواليد برج الجوزاء، وهو برج ابن شياطين، أبعد الله عنك شروره.

التقت يدانا في مصافحة حارة، ولقد لاحظتُ أن قبضتها قوية لا تزعم النعومة شأن الآنسات.

وهي تصافحني أو بالأحرى تقبض على يمني، أطلقت ضحكتها الثانية في تاريخ علاقتنا وقالت:

ـ اعترف! لقد أربكتك قوة قبضتي.

ثم أطلقت الضحكة الثالثة.

ضحكة أمل لا تُسمع إنها تذاق، وقد يمر بك مذاق ضحكتها مرة في حياتك فلا تنساه أبدًا، وقد لا تذوقه فتظل جاهلًا بنعمة كبرى من نعم الحياة.

لوحت بيمينها أمام وجهي وهي تصيح في فرح:

ـ ها، أين ذهبت؟ قدّم لي نفسك، فأنا لا أعرف حتى اسمك.

قلت:

ـ أنا محمود طه رجب، مهندس معماري وزميل حضرتك، وأعمل في المقر الرئيسي الذي على النيل، أحب البناء والقراءة والغناء ثم لا شيء آخر، لا أفكر في الزواج، ولا أقدس شيئًا سوى الله.

انتبهتُ إلى أننا نسير متجاورين بألفة الصداقات العريقة، كنا قد ابتعدنا عن الفندق ونسير في شارع نظيف بدون هدف.

قالت:

ـ اسمك جيد وله صيغ تدليل كثيرة، اسمي أنا ممل، أبي يدللني ويطلق عليّ لقب "النص"؛ فهو يراني قصيرة مقارنة بأمي، للحقيقة أمي سيدة عملاقة، هل أنا قصيرة حقًا؟

ضحكتُ لأغطي دهشتي من جرأتها وتدافع كلامها وقلت:

ـ أنت سيدة كاملة ولست نصفًا بحال من الأحوال.

أطلقت الضحكة الرابعة في تاريخ علاقتنا ثم قالت:

ـ أنت مغازل طيب، أعني مغازل وديع منزوع الأنياب، ولذا سأقدم لك مكافأة تعوضك عن أنيابك المنزوعة، سأدللك من الآن فصاعدًا باسم حمودة، نحن سنلتقي كثيرًا، لقد أصبحنا صديقين، قل لي ما هو برجك؟

ابتسمت وقلت:

ـ أنا لا أهتم بهذه المسألة، أعرف تاريخ ميلادي طبعًا، لكن لا أعرف برجي.

بدهشة صادقة قالت:

ـ عجيب، ما هو يوم ميلادك؟

أجبت:

ـ أواخر شهر يناير.

بأسى حقيقي تنهدت ثم قالت:

ـ الدلو ! ليس أسوأ من الجوزاء سوى الدلو!

تعجبت من أساها الحقيقي وقلت:

ـ هذا كلام فارغ، لا يعني شيئًا.

توقفت عن السير غاضبة وقالت:

ـ أرجوك، لا تسفّه شيئًا لأنك لا تعرف أسراره، رأيك أغضبني ولذا سأحرمك من مكافأة إضافية كنت سأقدمها لك.

بدون وعي وبعفوية الصداقات العريقة لمست كتفها في حنان قائلًا:

ـ أعتذر يا نص، أرجوكِ لا تحرميني من المكافأة.

أطلقت الضحكة الخامسة في تاريخ علاقتنا ثم سكتتْ لحظة وبعدها سألتني:

ـ هل تحب الغناء حقًا؟ تجيد تذوقه يعني؟

قلت ببساطة:

ـ أزعم ذلك.

هزت رأسها معجبة وقالت:

ـ يعجبني هؤلاء الذين لا يدعون امتلاك اليقين، الغناء إحدى مشاكلي الخاصة، أنا أغني لكي أثبت لنفسي أنني على قيد الحياة، استمعت للجميع، وأحببتهم جميعًا، بداية من سي عبده الحامولي وصولًا لسي عمرو دياب، هذا الولد ستكون له بصمته، هناك بنت اسمها أنغام لعلك استمعت إليها، صوتها عربي أصيل وأزعم أنها تحس ما تغنيه، ينقصها فقط زيادة وزنها كيلو جرامات وعملية تقويم لأسنانها، تكوينها الطفولي يفقدها كثيرًا من المصداقية، عندما تصبح أنثى ناضجة ستحقق شعبية خرافية.

قاطعتها ضاحكًا:

ـ نحن نسير في الشارع ولسنا في محاضرة موسيقي يا نص، أم تنوين أكل مكافأتي؟

اكتسى وجهها بجدية مفاجئة كأنها مقدمة على فعل خطير، ثم قالت:

ـ هناك مغنية تونسية قديمة اسمها عليا، لها أغنية تذكر فيها اسم تدليلك الذي اخترته لك.

افتعلتْ سعالًا كالذي يفتعله قراء القرآن قبل التلاوة، وبجدية تامة بدأت تغني بصوت له مذاق ضحكتها:

"جاري يا حمودة.. حمودة، دبر عليا يا أمه

الناس رقودة.. رقودة، وأنا نومي حرام عليا يا أمه

جاري يا حمودة.. حمودة.. إنت اللي مشعلل ناري يا أمه

تمنيتك بـداري.. بداري.. مثل الشمعة ضوي عليا يا أمه ".

عندما انتهت من الغناء كنت قد سقطت في هوة حبها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ينشر الجزء الثاني والأخير من القصة يوم الاثنين القادم بإذن الله