الخميس، 21 أكتوبر 2021

محمد عبده رائد التجديد المفترى عليه

 


ـ هل نحن نحتاج إلى تجديد خطابنا الديني؟

ـ نعم، نحتاج كل تجديد على كل صعيد، فيجب علينا تجديد خطابنا الديني والثقافي والسياسي والاجتماعي.

ـ ألم يغلقوا باب التجديد؟

ـ مَنْ هؤلاء الذين أغلقوا باب التجديد؟ التجديد هو نوع من رحمات الله "مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رحمة فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُۥ مِنۢ بَعْدِهِۦ ۚ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ".

سيظل التجديد هدفًا نبيلًا يجب أن نسعى جميعًا لتحقيقه، وعندنا آليات ورجال التجديد، ولكن من الواضح أن على قلوب أقفالها.

عندنا رجل مثل الشيخ الإمام محمد عبده الذي ولد في العام 1849 ورحل عن دنيانا في العام 1905 وهو في السادسة والخمسين من عمره الذي هو بحساب السنوات كان قصيرًا ولكن بحساب الأعمال والإنجاز كان طويلًا وعميقًا ومثمرًا، وهذا الرجل المجدد الإصلاحي الذي دفع ثمن دعواه للتجديد وللإصلاح كاملًا غير منقوص، نترك تراثه للمتلاعبين الذين إن علموا كتموا وإن نشروا زوروا وزيفوا. فلو كانت هناك قراءة منصفة وجادة لتراث الرجل وميراثه الذي تركه لنا لحققنا قفزة عظيمة في مجال التجديد الفقي والديني بصفة عامة.

وقد جرى نقاش في الفترة الأخيرة حول الإمام وتفسيره للقرآن وقال بعضهم إن الإمام قد أنكر حقيقة القصص القرآني.

هذه جملة خطيرة غاية الخطورة وهي تهيل التراب على ميراث الشيخ وعلمه وتصرف عنه الراغبين في التجديد والإصلاح، فمن ذا الذي سيعتمد على منكر لقصص القرآن؟

ولتحرير هذه المسألة سنجيب عن أسئلة مركزية في النقاش، وأول الأسئلة هو: هل للشيخ الإمام تفسير؟


إنصات المسيحيين

يتوهم بعضنا أن الإمام قد عكف على المصحف الشريف وفسر سوره من الفاتحة إلى سورة الناس، وهذا وهم من الأوهام، فكل ما قام الإمام به في مجال التفسير هو قيامه بتفسير جزء عم.

وعن هذا التفسير قال الإمام: "يسر الله لي السفر إلى البلاد المغربية سنة إحدى وعشرين وثلاثمئة وألف من الهجرة".وقد تم طبع التفسير في العام 1341 من الهجرة، وهذا معناه مرور أكثر من مئة سنة على وجود هذا التفسير الثمين بين أيدينا ثم نهجره إلى غيره من المقولات العجيبة التي ما أزل الله بها من سلطان.




ثم حدث ذلك اللقاء التاريخي بين الشيخ وتلميذه الشيخ الأستاذ محمد رشيد رضا الذي ترك بلاده لبنان وأقام في مصرنا لكي يتلقى العلم على يد الإمام محمد عبده.

بدأ الشيخ رشيد في حث الإمام على تفسير القرآن الكريم، وكان الإمام يتعلل بعامل السن، ويقول: لم يعد في العمر كفاية لإنجاز تفسير كامل وشامل، ولكن الشيخ رشيد لم يستسلم، يقول الباحث الأستاذ نجم الدين خلف: "وما فتئ أن كرَّرَ عليه رضا الاقتراحَ، يوم الجمعة 4 فبراير 1898، فمانعَ ثانيةً بحُجَّة اللامبالاة العامة التي تشيع بين المسلمين في مصر. وتذكَّر بمرارةٍ أنه ألقى درسًا، حضرَه طلبةٌ مسلمون فلم يُدونوا منه شيئًا، فيما سجَّل طالبان قِبطيان كلّ ما ذكر. وأكّد أنه يتكلّم بمقدار ما لدى السامع من الانتباه والطّلب. وهما، حَسَبَه".

وعلى ذكر تفاعل المسيحيين مع دروس الشيخ الإمام ومحاضراته، فقد قرأت، أنه عندما كان يحاضر في مسجد جامع ببيروت، كان المسيحيون يقفون أمام باب المسجد لكي يستمعوا للشيخ، ثم شكوا من أن جلبة الشارع تجعل صوت الشيخ لا يصل إليهم واضحًا، وطلبوا أن يسمح لهم بدخول المسجد لكي يتابعوا كلامه، فسمح لهم بذلك.


فانظر كيف كنا وكيف أصبحنا؟


يكمل خلف القصة فيقول: "وما زال رشيد رضا يُلحُّ عليه حتى وافقه على البدء في تفسير شفويّ، في شكل دُروس تُلقى في أروقة الأزهر بالاعتماد على كتاب "الجَلالَيْن"، لجلال الدين المَحَلّي (1389-1460) وجلال الدين السيوطي (1445-1505)، يرجع إليه لشَرح غرائب اللغة ثم يستطرد في استنباط معاني الآيات بما يُصلح شأنَ المسلمين في الدين والدنيا ويبعدهم عن أسباب الانحطاط. وكان رضا يكتب ما يقوله الأستاذ ويَعرضه عليه في اليوم الموالي، فيوافقه أو يعمّقه بتدوين إضافاتٍ جديدة. واستمرَّ الحال حتى طبعَ الجزء الأول وبدأ في الثاني، وهكذا حتى وفاة الشيخ عبده سنة 1905 الذي توقّف عند الآية 125 من سورة النساء.


على ما سبق فإن تفسير المنار الذي بين أيدينا، أوله من الفاتحة حتى الآية 125 من سورة النساء هو للإمام محمد عبده، مع إضافات من رشيد رضا الذي كان يميز بين كلامه وكلام الإمام فيقول: قال الشيخ كذا. وقلت: كذا.


ثم هناك تفسير الشيخ الإمام لسورة العصر، وسورة العصر من أقصر سور القرآن، وعدد آياتها ثلاث آيات، ولكن الشيخ فسرها في أسبوع، كان يتحدث في اليوم ساعة ونصف أو ساعتين يفسر الآيات الثلاث، ونعوذ بالله أن تظن أن في الأمر ثرثرة أو كلام مرسل، إنه تدفق عالم مجدد لم يكتم من علمه شيئًا.


ثم هناك تفسيرات له لآيات بعينها من الذكر الحكيم مثل تفسيره لآية سورة الأحزاب التي تتحدث عن زواج سيدنا الرسول بأم المؤمنين زينب بنت جحش، وقد أبطل في تفسيره كل الشبهات السخيفة التي يروجها أهل الباطل عن تلك القصة.




المغضوب عليهم

من آيات تجديد الشيخ الإمام، تفسيره لسورة الفاتحة، خاصة قوله تعالى "غير المغضوب عليهم ولا الضآلين"، وقد وجدت بحثًا ممتازًا كتبه الأستاذ معتز نادي عن تفسير الشيخ لتلك الآية الكريمة التي يتحدث عنها من يعلم ومن لا يعلم.

يقول الأستاذ معتز: تحدث الشيخ محمد عبده عن قوله تعالى: «غير المغضوب عليهم»، قائلًا: «المغضوب عليهم، هم الذين خرجوا عن الحق بعد علمهم به، والذين بلغهم شرع الله ودينه فرفضوه ولم يتقبلوه».

كما شرح أن المغضوب عليهم «ضالون أيضًا لأنهم بنبذهم الحق وراء ظهورهم قد استدبروا للغاية واستقبلوا غير وجهتها فلا يصلون إلى مطلوب، ولا يهتدون إلى مرغوب»، مقسمًا الضالين إلى أقسام.

القسم الأول من الضالين هم «من لم تبلغهم الدعوة إلى الرسالة أو بلغتهم على وجه لا يسوق إلى النظر، فهؤلاء لم يتوفر لهم من أنواع الهداية سوى ما يحصل بالحس والعقل، وحرموا رشد الدين».


أما القسم الثاني فهو «من بلغته الدعوة على وجه يبعث على النظر، فساق همته إليه واستفرغ جهده فيه، ولكن لم يوفق إلى الاعتقاد بما دعي إليه، وانقضى عمره وهو في الطلب، وهذا القسم لا يكون إلا أفرادًا متفرقة في الأمم، ولا يعم حاله شعبًا من الشعوب، فلا يظهر له أثر في أحوالها العامة، وما يكون لها من سعادة وشقاء في حياتهم الدنيا».

ويرى الشيخ محمد عبده أن «القسم الثالث من بلغتهم الرسالة وصدقوا بها بدون نظر في أدلتها، ولا وقوف على أصولها فاتبعوا أهواءهم في فهم ما جاءت به فى أصول العقائد، وهؤلاء هم المبتدعة في كل الدين، ومنهم المبتدعون فى دين الإسلام، وهم المنحرفون في اعتقادهم عما تدل عليه جملة القرآن».

ويستكمل شرحه بالإشارة إلى أن «القسم الرابع ضلال في الأعمال وتحريف للأحكام عما وضعت له، كالخطأ في فهم معنى الصلاة والصيام وجميع العبادات، والخطأ في فهم الأحكام التي جاءت في المعاملات».

ويختم الأستاذ معتز بحثه: بأن الشيخ الشعراوي ظهر متأثرًا في تفسيره للفاتحة بمنهج الشيخ الإمام محمد عبده.



منابع الفتنة

إذا بحثت عن اسم الشيخ الإمام ستجد العجب العجاب، فبعضهم يخرجه من الملة، وهناك من يرميه بالعمالة للمحتل الإنجليزي، وهناك من ينسبه للماسونية، وهناك من يرميه بتهمة إنكار القصص القرآني كله.

وقد أحسن الباحث الأستاذ صالح سهيل حمودة عندما كتب: "لعلي لا أبالغ إذا قلت إنه لا يوجد عالم مسلمٌ رُمي بالإفك والبهتان والكذب مثل الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده رحمه الله، فقد استطال في عرضه الكثيرون ممَّن انتحلوا العلم والإمامة والغيرة على الدين، وسوّدوا في ذلك الصحائف، ولو بحثت في الشبكة العنكبوتية فإنك واجدٌ العشرات من المقالات الطاعنة في الإمام، بل المكفرة له، والمخرجة له من ملة الإسلام، ولن تجد في الذبّ عنه إلا النزر".


وأنا أرى أن أسخف وأخطر ما يرمى به الشيخ هو إنكاره للقصص القرآني، مر بك جهود الشيخ في التفسير، وكل ما قاله منشور مطبوع منذ ما يزيد على المئة سنة، فأين إنكاره؟

نقرأ معًا جزء عمّ فلا نجد سوى ثلاث قصص، الأولى جاءت في سورة النازعات، أعني تلك القصة التي حدثت بين كليم الله ورسوله سيدنا موسى وبين فرعون:" اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى فَكَذَّبَ وَعَصَى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى".

تقرأ تفسير الشيخ فلا تجده أنكر شيئًا من تلك القصة، فقد تحدث عن وجود مادي لفرعون ولموسى وعن محاولة موسى هداية فرعون الذي كان جبارًا لا يسمع لنصيحة، ثم العذاب الذي صبه الله عليه صبًا، فأين الإنكار؟

القصة الثانية مذكورة في سورة عبس وهي عن الأمر الذي حدث بين رسولنا وبين الصحابي الجليل ابن أم مكتوم، والشيخ لا ينكر شيئًا من الحادثة ولا يقول إنها من الأمثال أو الأساطير أو الحكايات، هو يتحدث عنها بوصفها حادثة حدثت وواقعة وقعت ولا مجال لتخيل أو لضرب أمثلة.

القصة الثالثة مذكورة في سورة البروج، وهي التي تتحدث عن أصحاب الأخدود، فيقول الشيخ بحقيقة وجود المؤمنين قبل رسالة رسولنا الكريم، وهؤلاء تعرضوا لأشد الأذى، حتى أن طواغيت زمانهم قاموا بألقائهم في النار وهم أحياء.

ولم يقل الشيخ كلمة واحدة عن الأساطير أو ضرب الأمثال أو رواية الروايات، هو تحدث عن الوجود المادي لهؤلاء القوم القدامى الذي أمنوا بالله وبرسوله سيدنا المسيح عيسى ابن مريم.

وفي كل القصص الذي جاء في سور البقرة وآل عمران والنساء لم ينكر الشيخ منه شيئًا، فمن أين جاءت تلك الفتنة؟

يقول الباحث الأستاذ صالح سهيل حمودة: إن فرية إنكار القصص القرآني من أشنع القبائح التي نُسبت إلى الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وهو بريء منها براءة الذئب من دم يوسف.

والذي تولى كبْر هذه الفرية الشيخ أمين الخولي وتلميذه محمد أحمد خلف الله، إذ لما كتب الأخير رسالته الباطلة للدكتوراه والمسماة (الفن القصصي في القرآن)، والتي صرّح فيها بوجود أساطير في القرآن الكريم، قامت الدنيا على التلميذ والمشرف عليه معاً، بل صرّح كثير من العلماء بارتدادهما عن الملة، والعياذ بالله.

وهنا، لم يجد التلميذ والمشرف عليه سوى التمسّح بالشيخ محمد عبده ومدرسته، والزعم أن ما جاءا به من زور وبهتان كان يدرّسه الشيخ في أروقة الأزهر قبل أربعين عاما!".

لقد تخلص الأستاذ الشيخ الخولي من المشكلة فرمى بها ذكرى الشيخ، ومن يومها يمضغها الماضغون، ولم يقدم واحد منهم دليلًا ماديًا على صدق مزاعمه.

غفر الله للأستاذ الخولي كلمته، ورحم الله شيخنا الإمام محمد عبده ونفعنا بعلمه وبتجديده وإصلاحه.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر يوم السبت، 15 مايو 2021 صوت الأمة 


الجمعة، 23 أبريل 2021

ملحمة الزلاقة

 


بلغ من تعظيم المسلمين لشهر رمضان المعظم أن بعضهم وضع في الشهر ما ليس فيه، وهو يظن أنه بفعله هذا يزيد الشهر تكريمًا وتعظيمًا!

بعضنا يسكت على مضض عندما تأتي سيرة الانتصارات العسكرية المدوية التي حققناها في أيام الشهر المعظم وذلك لظنه أن رمضان من الأشهر الحرم التي حرم الله فيها القتال.

هو لا يعرف أن الأشهر الحرم هي أربعة فقط، ذو القعدة، ذو الحجة، المحرم، رجب.

وقد روى الإمامان البخاري ومسلم عن أبي بكرة رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ خطب الناس يوم النحر في حجة الوداع، فكان مما قال: (إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبٌ، شَهْرُ مُضَرَ، الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ).

وقد أجمع علماء الأمة على أنه يجوز للمسلمين أن يقاتلوا عدوهم في الأشهر الحرم إن بدأ العدو القتال.

 

وعلى ما سبق فليس من حق أحد أن يزايد على شهرنا المعظم فهو بالأساس شهر عمل وأمل وعبادة وجهاد وقرآن، وقد عرف هذا الذين سبقونا فجاهدوا في رمضان وحققوا أعظم الانتصارات.

وفي هذا المسلسل الذي ننشره تحية لشهرنا المعظم سنقرأ معًا صفحات من سجلات الانتصارات الخالدة.


التأسيس والانطلاق

في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان، عليه الرضوان، بدأ المسلمون يحلمون بفتح بلاد الأندلس، وقد حاولوا كثيرًا تحقيق حلمهم لكن الظروف لم تكن مناسبة، ولكنهم لم يهجروا حلمهم حتى جاء العام 92 هجرية وفيه كانت الدولة الإسلامية تحت قيادة الوليد بن عبد الملك فتحقق الحلم وتم فتح الأندلس.

كان الخليفة قويَا وكذلك كانت الخلافة فكانت الأندلس مجرد إمارة من إمارات الدولة المترامية الأطراف، وكان الخليفة الجالس في دمشق عاصمة الخلافة هو الذي يقوم بتعيين حاكم الأندلس، ثم سقطت الدولة الأموية وكان العباسيون يتعقبون امراء بني أمية ويقتلونهم، وقد نجح أمير أموي هو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان (نعرفه باسم عبد الرحمن الداخل) في الفرار من مطاردة العباسيين وذهب إلى الأندلس ليؤسس خلافة أموية جديدة، وقد لقب بالداخل لأنه أول من دخل الأندلس من بني أميه حاكمًا.

وكان عبد الرحمن قائدًا عظيمًا شجاعًا حتى أن عدوه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور لقبه بصقر قريش، فقد حلق الصقر عاليًا ناجيًا من المهالك وذهب ليقيم دولة في أقصى الغرب المتاخم لدول أوروبا القوية!




حكم عبد الرحمن الأندلس بداية من العام 138 هجرية، ثم حكم بعده قادة عظماء صعدوا بالبلاد إلى قمم المجد، ثم وقع ما يقع دائمًا، لقد تجاهل قادة ذلك الزمان الحكمة الخالدة التي تقول: "إن في الاتحاد قوة"، فتفرق أمرهم ودبت بينهم الصراعات التي أدت إلى سقوط الدولة الأموية في العام 422 هجرية، وهذا يعني أنها حكمت قرابة الثلاثة قرون، وبنهاية الخلافة الأموية بدأت كارثة ملوك الطوائف، فكل مدينة أصبح لها أمير، وكل أمير يطمع في ملك غيره من الأمراء، وهم جميعًا يتحالفون مع الأمراء الإسبان ضد الأمراء المسلمين.

بعض المؤرخين يقطع بأن الدولة التي كانت واحدة متوحدة متحدة قد أصبحت مقسمة إلى اثنتين وعشرين دويلة، من أبرزها غرناطة وأشبيلية، والمرية وبلنسية، وطليطلة وسرقسطة، والبرازين والبداجوز، ودانية والبليار ومورو، وغير ذلك الكثير من الدويلات المتناحرة التي تتحالف مع عدوها من أمراء الإسبان والأوربيين.


معارك الجزية

تلك الدويلات لم يكن يشغلها سوى جباية الضرائب من شعوبها والتمتع بلذائذ الحياة والتحالف مع العدو والإغارة على بعضها البعض الآخر، وقد بلغ ضعفها العسكري مبلغ الهوان والمذلة، حتى أن ثمانين فردًا من الإسبان هزموا أربعمئة من المسلمين هزيمة منكرة، وفي معظم التحركات العسكرية كانت الهزيمة تلحق بالمسلمين لأنهم فرطوا في اتحادهم ودبت بينهم الصراعات القائمة على تحقيق مصالح شخصية ضيقة.

كان كل حكام الدويلات يدفعون الجزيرة للإسبان، وكانت الجزية من الذهب الخالص، والذي يتأخر في دفع الجزية يقوم الإسبان بالإغارة على دويلته ويخلعونه من على عرشه ويستولون على بلاده.

كان من بين الذين يدفعون الجزية المعتمد بن عباد حاكم أشبيلية، وكان المعتمد شاعرًا وشجاعًا ولكنه كعادة كل حكام الدويلات تراجع أمام الفونسو السادس ملك قشتالة الإسبانية ودفع له الجزية لكي يأمن شره، ولكن ألفونسو كان عازمًا على الاستيلاء على أشبيلية وإن طال الزمن.

بدأ ألفونسو التضييق على المعتمد والاستهانة به وقد روى المؤرخون واقعة يقول ملخصها: بعث ألفونسو رسولًا إلى المعتمد طلب منه، أن يسمح لزوجة ألفونسو الحامل أن تضع مولودها في أكبر مساجد المسلمين؛ لأنه تم التنبؤ لها أنها إذا ولدت هناك سيَدِينُ المسلمون بالولاء لولدها، فغضب المعتمد، ولم يسمح بذلك.

موقف المعتمد أغضب ألفونسو، وقدم إليه مبررًا لغزو اشبيلية فأرسل رسولًا ليأخذ الجزية من المعتمد الذي قدم الجزية، لكن الرسول رفض أخذها بزعم أنها من الدنانير المخلوطة وليست من الذهب الصافي، فجرى نقاش حاد بين المعتمد والرسول فقتله المعتمد، فقرر ألفونس أن يبدأ مسيرته للاستيلاء أشبيلية وقرطبة فطلب من المعتمد تسليم اشبيلية وإخلاء حصونها وقراها، فقال المعتمد: «إن الموت أحب إلى من تسليمها».

فتقدم ألفونسو بجنوده يدمر كل شيء يعترض طريقه، حتى وصل إلى جزيرة طريف، في أقصى جنوب الأندلس، على مضيق جبل طارق، وأدخل قوائم فرسه في البحر قائلا: "هذا آخر بلاد المسلمين قد وطئته"

يقول المؤرخون: حاصر ألفونسو أشبيلية وبعث إلى المعتمد بن عباد يخبره أنه سيمكث هنا، ولا يوجد ما يضايقه سوى الذباب، ويأمره أن يبعث له بمروحة ليروح بها الذباب، فلما وصلت هذه الرسالة إلى المعتمد قلبها، وكتب على ظهرها: "والله؛ لئن لم ترجع لأروحنَّ لك بمروحة من المرابطين" فخاف ألفونسو، وجمع جيشه وانصرف.




ظهور المرابطين

تعد دولة المرابطين من كبريات دول الإسلام وعن تاريخهم تقول الباحثة الأستاذة ليلى العجايب: تشيرُ كلمةُ المرابطون إلى المقيمين في الحاميات الملازمة لتخوم الأعداء، والمرابطون هم اتّحاد من قبائلِ لمتونة، وجدالة، وصنهاجة، وهم من أمازيغ شمال إفريقيا، استطاعوا تكوين دولة إسلامية في شمالِ غربِ إفريقيا، وشبه الجزيرة الأيبيرية في القرنين الحادي عشر، والثاني عشر الميلاديين، وتحت قيادة يوسف بن تاشفين اتخذوا من مرّاكشَ عاصمةً لهم في عام ألف واثنين وستين، وحكموا المنطقة تحت راية الدولة العباسية، وأمتد ملكهم من تونس، والجزائر شرقاً، وحتى المحيط الأطلنطي غرباً، ومن المغرب شمالاً حتى مالي، وغانا جنوباً.

من الواضح أن المرابطين دولة فتية قوة لكنها ذات طموح، وهنا وقع المعتمد بين خيارين أحلاهما مر، الاستسلام لألفونسو أو طلب النجدة من يوسف بن تاشفين حاكم المرابطين وملكهم.

طلب المعتمد سماع رأي بقية ملوك الطوائف في مسألة الاستعانة بالمرابطين، فعارض بعض ملوك الطوائف بشدة الاستعانة بالمرابطين خشية أن يستولوا على ملكهم، وكان حاكم مالقة عبد الله بن سكوت يرى أن المرابطين أشد خطرا من الفرنجة!

يومها تفرق المسلمون بين على فريقين، فريق يقوده علماء قرطبة وزعماؤها الذين يرون ضرورة الاستعانة بيوسف بن تاشفين، ومال المعتمد إلى هذا الرأي، ورأى فيه نفاذ بصيرة وحكمة وسدادا، فبدأ فورا بتقوية جيشه، وترميم الحصون والقلاع.

الفريق الثاني يقوده جماعة من أشبيلية نفسها، فقد أشاروا على المعتمد بمهادنة ألفونس والرضوخ لشروطه، وعدم الاستعانة بابن تاشفين وقالوا:" السيفان لا يجتمعان في غمد واحد". وهذا قريب من كلامنا:" المركب أم ريسين تغرق!".

ثم جلس المعتمد مع وجهاء القوم وكان ابنه من بينهم فقال لهم:" يا قوم إني من أمري على حالتين: حالة يقين وحالة شك ولا بد لي من إحداهما، أما حالة الشك: فإني إن استندت إلى ابن تاشفين أو إلى الأذفونش فيمكن أن يفي لي ويبقى على وفائه، ويمكن ألا يفعل، فهذه حالة شك، وأما حالة اليقين: فإني إن استندت إلى ابن تاشفين فأنا أرضي الله، وإن استندت إلى الأذفونش أسخطت الله تعالى، فإذا كانت حالة الشك فيها عارضة فلأي شيء أدع ما يرضي الله وآتي ما يسخطه؟!".

فقال ابن المعتمد لأبيه: "يا أبت أتُدخِل علينا في أندلسنا من يسلبنا ملكنا، ويبدّد شملنا".

فرد عليه المعتمد قائلًا: أي بني والله لا يسمع عني أبدًا أني أعدت الأندلس دار كفر فتقوم اللعنة عليّ في الإسلام مثلما قامت على غيري، والله إن رعي الجمال عند ابن تاشفين لهو خير من رعي الخنازير عند ألفونسو".



بدء التحالف

الاستعانة بقوات من الخارج ليس أمرًا سهلًا لأنه يحتاج إلى تمهيد وعقود تضمن الحقوق وتفرض الواجبات، وعن ذلك قال المؤرخون: أخذت تجمعات شعبية من الشيوخ والعلماء تكتب إلى يوسف بن تاشفين تحثه على إنقاذ الأندلس ومسلميها، وأرسل إليه المعتمد وفدا من قاضى قرطبة وقاضى غرناطة، ووزير المعتمد أبى بكر بن زيدون ليحثوه على نصرة بنى دينه.

وأسند المعتمد إلى القضاة وعْظَ يوسف بن تاشفين وترغيبه في الجهاد، وأسند إلى أبى بكر بن زيدون، وزيره، إبرام العقود والاتفاقات مع يوسف بن تاشفين، وحمّلهم المعتمد رسالة مكتوبة إلى يوسف بن تاشفين يرجونه فيها عبور المرابطين إلى الأندلس لمجاهدة الفرنجة ونصرة الإسلام ودين محمد عليه الصلاة والسلام.

بعد مفاوضات شاقة وافق ابن تاشفين ورد على رسائل المعتمد برسالة وجدت نصها في كتاب " أيام رمضان " طمئن فيها المعتمد وأخبره بنيته القدومَ إلى الأندلس. وطلب منه أن يسلمه منطقة الجزيرة الخضراء لكي تكون مستقرا لجيوشه، وختم خطابه بقوله: «فإن رأيت ذلك فأشهد على نفسك به، وابعث إلينا بعقودها ونحن في إثر خطابك إن شاء الله".

من الواضح أن الجزيرة الخضراء كانت موقعًا في غاية الأهمية، وهذا يبرر إصرار ابن تاشفين على كتابة عقد يضمن به إنشاء معسكر بالجزيرة

استجاب المعتمد فكتب له عقدَ هبةٍ بالجزيرة الخضراء، وأشهد عليه قضاته، وأرسله إليه، وتجهز ابن تاشفين بنفسه لقيادة جيش المرابطين، وكتب أمانا عاما لأهل الأندلس في بلادهم وكتب إلى المعتمد «أنا أول منْتَدَب لنصرة هذا الدين، لا يتولى هذا الأمر أحد إلا أنا بنفسي".

بدء الملحمة

لدينا الآن قوتان، قوة مسلحة أندلسية بقيادة المعتمد وتضم ملوك الطوائف الذين ناصروه وهم ملوك غرناطة ومالقة وبطليموس، وقوات المرابطين بقيادة يوسف بن تاشفين الذي كان قد بلغ التاسعة والسبعين من عمره ولكنه كان رجلًا حديدي العزيمة، إذا قرر أمرًا مضى إلى تنفيذه غير ملتفت لسن ولا حالة صحية.

القوات المسلمة انطلقت من الجزيرة الخضراء وقد بلغ عددها كما قدر معظم المؤرخين ثمانية وأربعين ألف مجاهد، وبعض المؤرخين يقول: إن عدد القوات كان اثنان وعشرون ألفًا فقط.

على الجانب الآخر كان ألفونسو يعرف قدرات ابن تاشفين وقد سمع به وبغزواته الباهرة، فلجأ إلى طلب المدد الأوربي فجاءته قوات غفيرة من فرنسا وإيطاليا ومن بقية الإمارات الأوربية المجاورة لإسبانيا.

قدّر المؤرخون عدد قوات ألفونسو بمئة ألف مقاتل.

مر بك أن العدد ليس هو الحاسم، فقد هزم ثمانون إسبانيًا أربعمئة مسلم، وذلك لأن القصة هي قصة استعداد وتجهيز وتضحية، والذي يمتلك ناصية تلك الأمور سيكون الفوز من نصيبه.

ظهر واضحًا أن ألفونسو قد خاف من وجود ابن تاشفين وقواته، فعمد إلى حيلة إن لم يربح بها الحرب فسيقلل بها الخسائر.

 

أرسل ألفونسو إلى قواد المسلمين رسالة جاء فيها: إن غدًا يوم الجمعة وهو عندكم كالعيد، ويليه السبت وهو عيد اليهود وفى بلادنا منهم عدد كبير، ويليه الأحد وهو عيدنا، وليس يحسن القتال في أيام هذه الأعياد، فليكن الموعد يوم الاثنين.

تلك الخدعة لم تنطل على المسلمين لأنه عرفوا أنه يريد أن يميلوا إلى هذه الفكرة، فيباغتهم ألفونسو ويهزمهم هزيمة مفاجئة.

في يوم الجمعة وكان من أيام العشر الأولى من رمضان المعظم من العام 479 بدأت المعركة التي كانت أقرب إلى الملحمة، وذلك لأن المسلمين أدركوا أنهم إن خسروا تلك الموقعة فلا بقاء لهم في الأندلس كله، وعلى الجانب الآخر كان ألفونسو يريد انتصارًا يثبت به ملكه ويضم إليه خيرة ممالك المسلمين ويخضع الجميع لأمره وحكمه.

كانت نتيجة المواجهات الأولى غير حاسمة، فمرة يتقدم المسلمون ومرة يتقدم الإسبان، ثم حانت لحظة الحقيقة فتقدم المعتمد بنفسه كما تقدم ابن تاشفين وأظهرا من الشجاعة ما يفوق الوصف، حتى أن ثلاثة أحصنة قد هلكت تحت المعتمد، واقتربت ساعة النصر عندما أصيب ألفونسو إصابات بالغة اضطرته للانسحاب، ففرت قواته باتجاه معسكرهم ولكن جماعة من المسلمين كانت قد سبقتهم إلى المعسكر وقامت بإحراقه وتدميره تدميرًا تامً ففر الجنود وهرب معهم ألفونسو باتجاه طليطلة، ولم يبق معه من كل جيشه سوى مئة محارب تبقوا من خمسمئة ، لقى أربعمئة منهم مصرعهم متأثرين بجروحهم.

بعد انتهاء المعركة بانتصار حاسم للمسلمين تنازل ابن تاشفين عن نصيبه من الغنائم وجعلها كلها للأندلسيين الذي تعاملوا مع يوم الزلاقة كما تعامل المسلمون الأوائل مع فتح القادسية.

لقد مكنهم نصر يوم الزلاقة من البقاء في الأندلس لأربعة قرون إضافية حتى سقطت غرناطة في العام 897، فسلام على الذين تجهزوا واستعدوا وضحوا ليكتب لهم النصر.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر بجريدة "صوت الأمة" 18 أبريل 2021

 


كتاب الديوان.. جوهر وذهب وتراب وخزف (2ـ 2)



توقفنا في الجزء الأول من مقالنا عند تلك اللحظة التي أصبح فيها الكاتب الكبير إبراهيم عبد القادر المازني عدوًا لمن كان صديقه، أعني الشاعر الكبير عبد الرحمن شكري.

الذين تناولوا العلاقة بين الرجلين وكيف دمر المازني صديقه لم يذكروا أسبابًا واضحة محددة، فليس بين أيدينا سوى أن نعمل قلوبنا وعقولنا لنحصل على تفسير لذلك الانقلاب الذي سيدفع الأدب العربي ثمنه.

مر بك أن شكري كان المُنظّر الأول لمدرسة الديوان، فكيف قاد هو بقلمه الانقلاب الأول على ضلع المدرسة الثاني، نعنى المازني؟


الكشف عن السرقات

هل كان شكري بريئًا يصدق مبادئ المدرسة وشعاراتها، فرأى أن صديقيه المازني والعقاد يستتران بشعارات المدرسة لكي ينفذا خطة تخصهما هما فقط بعيدًا عن خدمة الأدب وإعلاء شأن المدرسة؟

هل كان شكري قد شعر بسحب البساط من تحت قدميه فرأي هدم المعبد على رؤوس ساكنيه؟

هل وقع بين المازني وشكري شيء خاص جدًا، سكتا عنه ولم يخوضا فيه كان هو السبب الحقيقي الذي فجّر العداوة بين الرجلين؟

لقد صحت القاهرة في يوم من أيام العام 1917 لتقرأ اتهام شكري للمازني بالسرقة.

هز الاتهام أركان دولة الأدب العربي في مشرق الأمة ومغربها، فالجميع يعلم ما بين الرجلين من محبة واحترام، والجميع يعلم أنهما يتمتعان بثقافة عريضة عميقة لا تسمح لهما بأن يسرقا شيئًا من أي أحد، فكيف تجرأ شكري على رمي صديقه الصدوق باقتراف هذه الجريمة البشعة؟




قال شكري في مقدمة ديوانه الخامس:" لقد لفتني أديب إلى قصيدة المازني التي عنوانها "الشاعر المحتضر" البائية التي نشرت في عكاظ واتضح لنا أنها مأخوذة من قصيدة "أودني" للشاعر شيلي، كما لفتني أديب آخر إلى قصيدة المازني التي عنوانها "قبر الشعر" وهي منقولة عن هيني الشاعر الألماني، ولفتني آخر إلى قصيدة المازني "فتى في سباق الموت" وهي للشاعر هود الإنجليزي، ولفتني أيضا أديب إلى قصيدة المازني التي عنوانها "الوردة الرسول" وهي للشاعر ولز الإنجليزي وأشياء أخرى ليس هذا مكان إظهارها، وقرأت له في مجلة البيان مقالة تناسخ الأرواح وهي من أولها إلى آخرها من مجلة السبكتانور لادسون الكاتب الإنجليزي، ومن مقالاته في ابن الرومي التي نشرت في البيان قطع طويلة عن العظماء وهي مأخوذة من كتاب شكسبير والعظماء تأليف فيكتور هيجو ومن مقالات كارليل الأدبية، ولو كنت أعلم أن المازني تعمد أخذها، لقلت: إنه خان أصحاب هذه الأعمال، ولكني لا أصدق أنه تعمد أخذها، ولا أظن أن أحدًا يجهل مدحي المازني وإيثاري إياه وإهدائي الجزء الثالث من ديواني إليه وصداقتي له ولكن كل هذا لا يمنع من إظهار ما أظهرت، ومعاتبته في عمله لأن الشاعر مأخوذ إلى الأبد بكل ما صنع في ماضيه حتى يداوي ما فعل ويرد كل شيء إلى أصله،  وليس الاطلاع قاصراً على رجل دون رجل حتى يأمن المرء ظهور هذه الأشياء، ولسنا في قرية من النمل حتى تختفي".


انتهى كلام شكري، وهو ليس اتهامًا كغيره، إنه قاصمة الظهر وقد جاءت من صديق قديم عريق.


لماذا فعلها شكري؟

لقد حاولت الإجابة فيما سبق، ولعلني أكون قد هُديت إلى الصواب، وإلا فالمجال مفتوح لكل من لديه رأي أو قول.

كان شكري محتالًا عندما نسب اكتشاف سرقات المازني إلى نفر من الأدباء، الحق أن المكتشف كان هو شكري بنفسه مستعينًا بثقافته الإنجليزية العريضة، فالرجل مكث يتعلم لسنوات في بريطانيا عندما كانت عظمى، وكان كما وصفه بعض الباحثين نافذة العرب الأولى على آداب الإنجليز.

الناقد جهاد فاضل قرأ كتاب أنور الجندي "صفحات مجهولة من الأدب العربي المعاصر". ونقل عنه تفاصيل القضية فقال:"واصل شكري اتهاماته للمازني فكتب في مجلة «المقتطف» في يناير 1917:" لو كانت المسألة التي تعرضت لها تافهة لما تعرضت ولكنها تشمل قصائد ومقالات كثيرة تسيء ظن الناس بأهل العلم والابتداع وتبعث على الفوضى في العلوم والآداب. وقد شاعت حتى لم يعد يمكن كتمانها. على أن كل أديب حارس من حراس الأدب ومن واجبه الا يغفل عن حراسته على أن هناك دافعاً آخر دفعني إلى الكتابة واظهار هذه المأساة، وهو الرغبة من الخلاص من مظان الريب. فقد اعتاد بعض الناس ان يقرن اسمي إلى اسم المازني والعقاد للمودة التي بيننا. ولكنها مودة لا تحمّل كل واحد منا عيوب أخيه. فحسب المرء منا أن يحمل عيوب نفسه ولكن الجمهور لا يستخدم المنطق في كل رأي يراه"




هل دافع المازني عن نفسه؟

ليته لم يدافع، لقد كتب: "لم يثقل على نفسي اتهامه لي بالسرقة لأني أعرف من نفسي أني لم أتعمد سطواً ولم أغر على شاعر وإنما علقت المعاني بخاطري في أثناء المطالعة وجرى بها القلم وأنا غافل لأني ضعيف الذاكرة سريع النسيان".

ما هذا يا أستاذ مازني؟ شكري ضبطك متلبسًا بسرقة قصائد من المطولات ولأفكار بنيت عليه بعض كتبك ومقالاتك وأنت تتحدث عن معاني علقت بخاطرك.

ثم ضبط آخرون المازني في جريمة سرقة جديدة (هل هم آخرون أم أنه شكري وقد تخفى خلف هؤلاء الآخرين؟ )

يقول الأستاذ جهاد فاضل نقلا عن الجندي:" ذكر أحد الضابطين أن قصة «إبراهيم الكاتب» للمازني مترجمة بتصرف من رواية «ابن الطبيعة» لميشيل ارتيز بياشيف. وذكر كاتب آخر أن قصة «غريزة المرأة» للمازني مستمدة من قصة «الشاردة» لجالسورزي".


ورد المازني فقال:" إن من اتهموه بالسرقة وجدوا هناك عشرين سطراً متشابهة في روايته والرواية الأجنبية كأن الذي يكتب 96 صفحة يعجز عن كتابة صفحة واحدة ويحتاج أن يترجمها أو ينقلها. فماذا تخسر أية رواية في الدنيا إذا حذف منها عشرون سطراً؟"

وعن اتهامه بسرقة رواية «ابن الطبيعة» رد المازني قائلاً: "إن أربع أو خمس صفحات علقت بذاكرتي من هذه الرواية دون أن أدري وذلك لعمق الأثر الذي تركته في نفسي فجرى بها القلم وأنا أحسبها لي. حدث ذلك على الرغم من السرعة التي قرأت بها الرواية الأجنبية والسرعة العظيمة التي ترجمتها بها أيضاً ومن شاء أن يصدق فليصدق ومن شاء أن يحسبني مجنوناً فإن له ذلك. ولست أروي هذه الحادثة لأدافع عن نفسي. فما يعنيني هذا وإنما أرويها على أنها مثال لما يمكن ان تؤدي إليه معابثة الذاكرة للإنسان وليست الذاكرة خزانة مرتبة مبوبة، وإنما هي بحر هائج يرسب ما فيه ويطفو بلا ضابط تعرفه ومن غير ان يكون لنا على هذا سلطان. فالمرء يذكر وينسى ويغيب عنه الشيء ويحضر".


الانتقام الرهيب

دفاع المازني لم يقنع أحد، لأنه دفاع متهافت لا يقوم على أساس من منطق أو علم، ولكن الوسط الثقافي يبدو أنه قد غفرها للمازني الذي إن كان قد أساء مرة فقد أحسن مرات، ولكن المازني لم يغفرها لشكري، فشكري هو الذي فتح الباب وعبّد الطريق.

أظن أن جلسات قد جمعت العقاد والمازني للاتفاق على الأسماء التي سيتناولانها في كتابهما " الديوان في النقد والأدب".

وأظن أن المازني عندما جاء ذكر شكري قد صاح في وجه العقاد: دعه لي فهو فريستي.

كفاك الله شر صديق أصبح عدوًا، المازني كان صديقًا لشكري لسنوات طالت وكان يعرف عنه ما لا يعرفه غيره، وكان يعرف منابع شعره وهواجس نفسه، وآه من تلك الهواجس فقد تلاعب بها المازني وهو الفصيح صاحب البيان فطعن بها قلب صاحبة طعنة نجلاء لم يبرأ منها حتى لقي ربه.

كان المازني قد نوى الانتقام من شكري فكتب فصلين من فصول الكتاب ضد صاحبه وتحت نفس العنوان " صنم الألاعيب".

قال في مقدمة الفصل الأول:" شكري صنم ولا كالأصنام، ألقت به يد القدر العابثة في ركن خرب على ساحل اليم؛ صنم تتمثل فيه سخرية الله المُرة وتهكم «أرستفانيز السماء» مبدع الكائنات المضحكة ورازقها القدرة على جعل مصابها فكاهة الناس وسلوانهم.

ولمَ لا يخلق الله المضحكات وقد آتى النفوس الإحساس بها وأشعرها الحاجة إليها، ولم يلتزم في الإنسان ما لا يتوخى في سواه من وزن واحد وقافية مطردة؟

شكري لا أسلوب له؛ إذ كان يقلد كل شاعر ويقتاس بكل كاتب وينسج على كل منوال، وحسب المرء أن يجيل نظره في كلامه ليدرك ذلك إذا كان على شيء من الاطلاع، فإذا لم يكن فهو لا يعيبه أن يرى أنه يستعمل اللغة جزافًا ويكيل «توافيق وتباديل» — كما يقول الرياضيون — من الكلام غير واضحة ولا مؤدية معنًى بعينه، ويسطر على الطِّرْس أصداء متقطعة لأصوات مألوفة لا رموزًا منتقاة لتمثيل المعنى وإحضاره".

بربك أين النقد في هذا الكلام؟




إنها شهوة الانتقام يا صاحبي وقد تمكنت من قلب المازني فجعلته ينسى أنه هو بنفسه الذي قال: إن بيتًا واحدًا من شعر شكري يفضل كل ما قاله حافظ إبراهيم وأمثاله.

كان الأستاذ عبد الرحمن شكري قد نشر كتابه الشهير" الاعتراف" وكان المازني قد قرأ الكتاب حرفًا حرفًا، فجعل الفصل الثاني الذي تناول فيه شكري قائمًا على اتهامه لشكري بالجنون!


شكري كتب عن هواجس نفسه وتقلب مزاجه وعن عاداته ومجمل أفكاره، فجاء المازني وعجن كل ذلك ليصنع فطيرة من جنون رمى شكري به!


يقول المازني عن شكري:"مسكين هذا الصنم! لا يعرف لبكمه ماذا يقول، ويتطوع المشفقون عليه للدفاع عنه، فيجيء دفاعهم أقتل له من نقدنا، وينقمون منا أنا جعلناه صنم الألاعيب، وهم يسخرون منه ويتضاحكون به، وماذا يجدي ذودهم عنه؟".

ثم يقول المازني:" ولقد قلنا إن شكري بدأ يجرب ما يسمونه هذيان الحواس، وأوردنا شاهدًا على ذلك، وفي النبذة التي اقتطفناها من «الاعترافات» شاهد آخر؛ فإنه فيها يقول بأصرح لفظ: «ومن العجيب أن هذه الشياطين لا تخفي قبحها، بل تظهر قبحها في «حركات وجهها وجسمها».

 وليس هذا من المجاز في شيء؛ فإن صاحبنا شكري لم يدع سبيلًا إلى هذا الفرض والتأويل، فقد سد بابه بإعلان دهشته والجهر بعجبه واستغرابه حدوث ذلك.


وهو القائل أيضًا في اعترافاته ص١٠:

"ويسمع المحب أنغامًا وألحانًا (غريبة) لا يسمعها غيره وليس لها وجود، ويرى أشكالًا هندسية بديعة لا تسمع عنها في كتب الهندسة، ويرى أزهارًا خيالية لا يعرفها الباحثون في علم النبات".

فهو يسمع ويرى ما يعلم أن لا وجود له، وفي هذا تأييد لقوله في وصف جنونه ولا أعني جنون من لا يحس جنونه، بل أعني جنون من يحس جنونه ويفكر فيه ويعرف أسبابه ونتائجه.

وشكري قديم العهد بالشياطين والعفاريت وليس ذلك في صغره فقط، بل هو الآن بعد أن كبر وبلغ أشده كما كان في حداثته.


الاعتزال

كان شكري رقيقًا حالمًا لا أظافر ولا أنياب له، فوقع عليه كلام المازني وقوع الصاعقة، ففر من كل شيء معتزلًا الناس وأنشطة الأدب حتى لقي ربه في العام 1958!




ماذا كان موقف العقاد من تلك المعركة؟

لقد ناصر صاحبه المازني متخليًا عن صاحبه القديم شكري، إلا أن المازني الذي يمثل بحق حالة متفردة في الأدب العربي، كان قد رأى أنه رد الصاع صاعين فلا بأس أن يعود إلى الصواب.


القصة من البداية لم تكن قصة نقد أو مدرسة جديدة لقد كانت قصة صراع وسعي نحو شهرة ولو على أشلاء الصداقة والصحبة.


هل تصدق أن المازني قد قدم أحر اعتذار لشكري؟


نعم فعلها! أنقل عن الاستاذ رجائي عطية: كتب المازني يقول في مقال نشره بجريدة السياسة في الخامس من أبريل سنة 1930: «وقل من يذكر الآن شكري حين يذكر الأدب ويعد الأدباء، ولكنه على هذا رجل لا تخالجني ذرة من الشك، في أن الزمن لابد منصفه، وإن كان عصر قد أخمله. ولقد تغير زمن كان فيه شكري هو محور النزاع بين القديم والجديد. ذلك أنه كان في طليعة المجددين إذا لم يكن هو الطليعة والسابق إلى هذا الفضل؛ فقد ظهر الجزء الأول من ديوانه سنة 1907 إذا كانت الذاكرة لم تخنى (والصحيح أنه نشر عام 1909)، وكنا يومئذ طالبين في مدرسة المعلمين العليا، ولكنى لم أكن يومئذ إلاَّ مبتدئًا، على حين كان هو قد انتهى إلى مذهب معين في الأدب، ورأىٍ حاسمٍ فيما ينبغي أن يكون عليه. ومن اللؤم الذي أتجافى بنفسي عنه أن أنكر أنه أول من أخذ بيدي وسدَّد خطاي، ودلني على المحجة الواضحة، وأنى لولا عونه المستمر لكان الأرجح أن أظل أتخبط أعوامًا أخرى ولكان من المحتمل جدًّا أن أضل طريق الهدى".

ولم يكتف المازني بإبداء ذلك الندم والإقرار لشكري بالريادة والفضل عليه، فعاد يكتب بجريدة السياسة ذاتها بعدد 12 أبريل سنة 1930، إقرارًا ثانياً بالغ الوضوح. قال فيه: «وقد احتمل شكري وحده في أول الأمر وعكة المعركة بين القديم والجديد، (يقصد معركة الديوان ذاتها)، ثم استأنف يقول: «وشكري رجل حساس رقيق الشعور سريع التأثر، وهو بطبعه أمْيل إلى اليأس، فشق عليه أن يظل يدأب وليس من يعنى به، وأن يقضى خير عمره ويرفع صوته بأعمق ما تضطرب به النفس الملهمة الحساسة، وليس من يستمع إليه أو يعيره لفتة".

هل لم يكن الأستاذ المازني يعلم سجايا ومناقب صاحبه عندما وصفه بالصنم ووصمه بالجنون؟


كان يعلم يقينًا ولكن ماذا تفعل مع هوى النفوس وشهوة الانتقام التي تجعل الحق باطلًا والنور ظلامًا والعدل ظلمًا؟

لقد أفلح المازني في جعل نار شكري رمادًا فلا بأس بقليل من الإنصاف، وهذا من عجيب طبع البعض.

أما الاستاذ العقاد فقد سكت حتى مات شكري ثم كتب عنه مقالة نشرها بمجلة الهلال -فبراير 1959 -: «عرفت عبد الرحمن شكري قبل خمس وأربعين سنة، فلم أعرف قبله ولا بعده أحدًا من شعرائنا وكتابنا أوسع منه اطلاعًا على أدب اللغة العربية وأدب اللغة الإنجليزية، وما يترجم إليها من اللغات الأخرى، ولا أذكر أنني حدثته عن كتاب قرأته إلا وجدت منه علمًا به وإحاطة بخير ما فيه. وكان يحدثنا أحيانًا عن كتب لم نقرأها ولم نلتفت إليها ولا سيما كتب القصة والتاريخ. وقد كان مع سعة اطلاعه صادق الملاحظة نافذ الفطنة حسن التخيل سريع التمييز بين ألوان الكلام. فلا جرم أن تهيأت له ملكة النقد على أوفاها؛ لأنه يطلع على الكثير ويميز منه ما يستحسنه وما يأباه، فلا يكلفه نقد الأدب غير نظرة في الصفحة والصفحات يلقى بعدها الكتاب وقد وزنه وزنًا لا يتأتى لغيره في الجلسات الطوال".

ثم طوى الموت سجلات الجميع فمات شكري في العام 1958ولحق به المازني في العام 1949 ثم لحق بهما العقاد في العام 1964 وبرحيلهم سكتت مدافع مدرسة الديوان بعد أن نفدت ذخيرتها.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر بموقع "أصوات" 25 يناير 2021

الأربعاء، 14 أبريل 2021

كتاب الديوان.. جوهر وذهب وتراب وخزف ( 1ـ2)

 


في شهرنا هذا (يناير 2021) تحل الذكرى المئوية الأولى لصدور كتاب ” الديوان في الأدب والنقد ” لمؤلفيه الأستاذين عباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني

صدر الجزء الأول منه في قرابة الستين صفحة في يناير من العام1921  وصدر الجزء الثاني، وكان قريبًا من حجم الجزء الأول، في فبراير من العام نفسه، وقد أحدث الكتاب ضجة عظيمة لم تقترب منها سوى الضجة التي أحدثها كتاب الدكتور طه حسين ” في الشعر الجاهلي ” الذي صدر بعد الديوان بقرابة الست سنوات

نفدت الطبعة الأولى بعد مرور شهر على ظهورها فصدرت طبعته الثانية في مارس من العام 1921، وإلى يوم الناس هذا تتوالى الطبعات، وسأعتمد في مقالي على طبعة صدرت عن مشروع القراءة للجميع بمقدمة طيبة جدًا كتبها الناقد الأستاذ الدكتور ماهر فريد شفيق

الكتاب يعد التطبيق العملي لنظرة مدرسة الديوان للأدب العربي

المدرسة ضمت في بدء أمرها الثلاثي الشهير، الشاعر عبد الرحمن شكري ومعه صديقيه إبراهيم عبد القادر المازني وعباس محمود العقاد.

كثرة من الباحثين قطعت بأن شكري كان هو رأس حربة المدرسة ومُنظّرها الأول وصاحب المبادئ الاساسية للمدرسة، وكان شكري في الأصل صديقًا صدوقًا للمازني فقد تزاملا في الدراسة، وتشاركا الأفكار نفسها، وعندما سافر شكري إلى لندن لاستكمال الدراسة، لم تنقطع علاقته بصديقة المازني، وعندما عاد إلى أرض الوطن لم تفرق بينه وبين صديقه مشاغل الحياة، فقام المازني بتقديم شكري إلى العقاد ومن هنا بدأت ملامح مدرسة الديوان في الظهور

الذين بحثوا أمر المدرسة وبيانها العملي أعني كتاب ” الديوان في الأدب والنقد انقسموا إلى أربع فرق

الأولى: سيئة الرأي في المدرسة وروادها، تلقي بكل ما صدر عنها وعنهم إلى الجحيم، ويقف على رأس هذه الفرقة الكاتب إدوار الخراط الذي قال عن كاتب المدرسة الأول عباس محمود العقاد:” العقاد فشل في الرواية، وقدم شعرًا متوسطًا، لأنه ليس مفكرًا حقيقيًا، وكان يردد نظريات النقاد الإنجليز المعروفين على أيامه، وهو ناقد سيء ومفكر ضعيف"

وقد كفنا الدكتور ماهر فريد شفيق عناء الرد على الخراط عندما عقب على كلام الخراط قائلًا:” وهذا كله هراء من جانب عميد الحداثيين، أهون، في ميزان النقد الصحيح والقسطاس المستقيم، من أن يستحق حتى عناء الرد عليه".

الفرقة الثانية: تصعد بالكتاب وبمدرسة الديوان وبروادها إلى أعلى عليين، ولا رأس يقود تلك الفرقة لأن المنتسبين إليها كثرة فوق الحصر

الفرقة الثالثة: تعاملت مع الكتاب بعيدًا عن فخاخ التهويل أو التهوين، هو عندها كتاب رائد ألقى حجرًا ضخمًا في بحيرة الأدب، فتحركت مياهه التي كانت ذاهبة إلى الركود، وخير ممثل لتلك الفرقة هو الدكتور ماهر فريد شفيق الذي قال:” الكتاب لا يخلو من تطرف وإجحاف وتحامل، ولكنه لا يخلو أيضًا من نظرات صادقة وملاحظات نقدية رهيفة، وبصيرة سبقت عصرها، كان العقاد والمازني رجلين فيهما ما في سائر الرجال من قوة وضعف وحيدة وهوى وصواب وخطأ"

أما الفرقة الرابعة والأخيرة: فهى ترى أن الكتاب لم يكن أكثر من قنبلة صوتية، والقنابل الصوتية تنجح في إحداث ضجيج يصم الأذان، وأنت متى قذفت بها إنسان فأنك تفقده تركيزه فلا يعرف ماذا يقال على وجه الحقيقة لأنه مأخوذ بالدوي الهائل الذي نتج عن القنبلة، وككل قنابل الصوت نجح الكتاب في تحطيم زجاج النوافذ ولكنه لم يربح أرضًا

وتلك الفرقة عندما تحسن الظن بالكتاب تقول عنه ما قاله الأصمعي عن شعر أبي العتاهية:” إنه كساحة الملوك يقع فيها الجوهر والذهب، والتراب والخزف"

ماكس .. كلمة السر

ونحن إذ نحتفل بمئوية الكتاب الأولى لن نتعرض لقيمته وجدواه، فما أكثر الذين تناولوه بالنقد، يهمنا الآن أن نبحث عن إجابة على سؤالين متعلقين بأصل الكتاب ونسبه

السؤال الأول: من أي نبع تدفقت صفحات الكتاب بلغته التي كانت في بعض الأحيان غاية في العنف؟

أما السؤال الثاني فهو: لماذا غاب عبد الرحمن شكري المٌنظّر الأول لمدرسة الديوان عن كتابها الأول؟ بل كيف سجل حضورًا سلبيًا لأنه أحد الذين تناولهم الكتاب بنقد بلغ الغاية من القسوة والعنف

يخطئ الذي يتعامل مع الكتاب وفي ذهنه صورة الشيخين الجليلين العقاد والمازني، فهما عندما كتبا الذي كتباه كانا في أول شبابهما، فقد ولدا في العام 1889 وظهرت الطبعة الأولى من الكتاب في مطلع العام 1921 وهذا يعني أن المؤلفين كانا في الثانية والثلاثين

فكيف لشابين أن يشنا حملة نقد كاسحة تنال من شوقي (ولد في العام 1870) والرافعي (ولد في العام 1870) والمنفلوطي (ولدا في العام 1880)؟

هل لو قلت إن نقدهما كان يستهدف هذه الأسماء أولًا وقبل أي شيء أكون مخطئًا؟

في المقدمة الوجيزة التي كتبها العقاد للكتاب قال: إنه سيظهر في عشرة أجزاء

ثم لم يظهر سوى الجزء الأول والثاني، وعدد صفحاتهما معًا لا يزيد على المئة صفحة إلا بقليل، فأين ذهب الوعد؟

هل من حقنا أن نقول إن الكتاب الصغير كان قد حقق لمؤلفيه ما كانا يريدانه فكفا أيديهما عن كتابة الأجزاء التي وعدا بها؟

هناك كلمة سر في القصة كلها، وبين أيدينا شهادة مهمة صاحبها هو العلامة الدكتور الطاهر أحمد مكي، أدلى بها أثناء كتابته لمقدمة طبعة مكتبة الآداب لكتاب الرافعي الشهير ” على السفود"

كان الطاهر مكي يتحدث عن الخصومات الأدبية التي شهدها القرن الماضي، وكيف كانت غير مسبوقة في التاريخ الأدبي العربي كله فقال:” وأحسب أن أسبابها ودوافعها توجد فيما وفد إلينا من أفكار أجنبية، كأشياء أخرى كثيرة فرضت نفسها على الواقع الثقافي، بفعل الاستعمار أو الرغبة في التجديد، أو لمجرد الإعجاب بكل ما هو أجنبي. ومن قراءتي لتراث العقاد نفسه وقعت على هذا النموذج الذي احتذوه، كان كاتبًا يهوديًا صهيونيًا يدعى ماكس نورداو

العقاد أول من قدمه للقارئ العربي، وأورد العقاد أفكار ماركس نورداو معجبًا ـ لكنه ـ كعادته ـ لم يتردد في مناقشتها، ورد عليه ما رآه منها باطلًا، ولم يكن وحده في هذا الإعجاب، وإنما شاركه فيه صديقه ورفيق دربه، إبراهيم عبد القادر المازني"

ثم يصيب الطاهر هدفه فيقول: ما الذي كان يدعو إليه ماكس نورداو؟

إجمالًا: شن حملة شعواء على النابهين من أدباء عصره وغيرهم ممن وقع في طريقه ، وقضى عليهم جميعًا بالمسخ والخداع وانتكاس الذوق والعقل وأضرم نارًا من النقد الجائر كنيران محاكم التفتيش، جعل يُلقي فيها ما بقى من كتبهم ودواوينهم ، وكان من نصائح ماكس نورداو لتلميذه: ” إن سواد الناس بلداء الإحساس ثقال السمع فليكن ظهورك بينهم بجلبة يسمعها الأصم ويبصرها الأعمى ، هم لا يفهمون التورية، والمزاح ، ولا يتأولون الحروف والألفاظ ، فكن لهم واضحًا في مخاطبتك ، سهلًا في عبارتك، عدّد لهم بلهجة ظاهرة يفهمونها ولا يرتابون فيها، كل ما هو شين في أعدائك وكل ما هو حسن فيك، وإن سواد الناس ضعاف الذاكرة فاهتبل هذه الغرة فيهم ، ولا تحجم عن طريق تؤديك إلى غرضك ، فإنك متى أدركته لم يذكر أحد كيف وصلت إليه"

ثم يقول الدكتور الطاهر تعليقًا على الفقرة السابقة:” أحسب أن اليهودي ماكس نورداو كان بأفكاره وراء الكثير من خصومات تلك الفترة، فهو الذي هدى ذلك الجيل إلى أن الأديب المغمور بوسعه أن يختلق معركة وأن يتعلق بأذيال أديب كبير يهجوه، ويصير حوله الزوابع والأعاصير، بالحق أو بالباطل ليس مهمًا، لأن هذا يفتح أمامه أبواب الشهرة واسعة، ويشد إليه انتباه القراء والنقاد، أفليس هذا ما صنع العقاد مع شوقي والمازني مع حافظ وطه حسين مع المنفلوطي، مع تفاوت في العنف واللغة يلائم مزاج كل مهم وثقافته ودوافعه؟

وهي صراعات وإن عنفت لغة استمر بعضها وتوقف البعض الآخر".

هل بهذه الشهادة التي نقلتها عن الطاهر مكي أكون قد كشفت عن النبع الذي تدفقت منه صفحات كتاب الديوان؟

أقول: نعم


أين ذهب شكري؟

يضم كتاب الديوان، سبع عشرة مقالة، وكل مقالة تحتها توقيع كاتبها، تولى العقاد الكتابة عن شوقي فخصه بتسع مقالات نارية، ما بها من التجني فوق ما بها من الإنصاف بكثير، وكتب مقالة واحدة عن عدوه التاريخي مصطفى صادق الرافعي يكفي أن تقرأ هذا المقطع لتعرف رأي العقاد في الرافعي:” إيه يا خفافيش الأدب: أغثيتم نفوسنا، أغثي الله نفوسكم، لا هوادة بعد اليوم، السوط في أيدينا، وظهوركم لم تخلق إلا لهذا السوط، وسنفرغ لكم أيها الثقلان".

وكتب المازني ضد المنفلوطي خمسة مقالات

كان الثلاثة، شوقي والمنفلوطي والرافعي من الذين يتربعون على قمة الادب العربي في ذاك الزمان، وكان التعرض لهم بالنقد سيحقق للكتاب ما يريده مؤلفاه، فلماذا أضاف إليهم المازني صديقه القديم عبد الرحمن شكري؟

تناول المازني عبد الرحمن شكري في مقالتين نشرهما تحت نفس العنوان” صنم الألاعيب".

يكفي العنوان لتعرف ماذا قال المازني

كان يجب أن يكون شكري مشاركًا في الكتاب، ولكنه غاب عنه وعندما حضر كان هدفًا لسهام المازني، فكيف كان ذلك؟

يأخذنا الكاتب الأستاذ محمد ولد محمد سالم إلى بداية أمر الرجلين فيقول:” نسجت بين الشاعرين عبد الرحمن شكري (1886-1958) وإبراهيم عبدالقادر المازني (1889-1949) صداقة عميقة تأسست على رؤى ثقافية وأدبية ووطنية مشتركة، كانا التقيا حولها أثناء صحبتهما في مدرسة المعلمين في القاهرة، فتوثقت صلتهما، وقد اكتشفا طريقاً جديدة في الأدب وقرض الشعر، واشتركا في مشاعر الوطنية التي كانت متقدة في تلك الفترة، وعلى بساط هذه الصداقة، انهمكا في القراءة والبحث عن الجديد، وتأليف الشعر الذي يغاير الطريقة السائدة، ما أرهص بحركة أدبية جديدة سيكون لها فيما بعد صدى كبير، وأثر واضح في تطور الشعر العربي.

تعلم عبد الرحمن شكري في الكتاتيب ثم التحق بالمدرسة النظامية في مدينة بورسعيد، وحصل على شهادة البكالوريا عام 1904 والتحق بمدرسة الحقوق في القاهرة، ولكنه فصل منها لاشتراكه في المظاهرات التي نظمها الحزب الوطني غضباً من حادثة دنشواي التي قتل فيها مصريون، ثم التحق بمدرسة المعلمين العليا، التي سيلتقي فيها بصديقه إبراهيم المازني، وأثناء ذلك كان شكري قد تمكّن من اللغة الإنجليزية، وأخذ يقرأ بها الأدب، ففتحت له قراءاته تلك عالما كان غائبا عنه، ومجالات من الرؤى والتخيل لم يكن شعراء العربية قد ارتادوها، وكان يطلع صديقه المازني ذلك الفتى المتقد الذهن المولع بالجديد على تلك الأفكار، فيطرب لها، وتستهويه بشدة، ويأخذان في تطبيق تلك الرؤى في شعرهما، وهما على وعي بما يقدمان عليه من تجديد، ونقد الشعر المصري السائد في تلك الفترة على أساسها، وتكون حصيلة تلك الفترة ديوان عبد الرحمن شكري «عند الفجر» الذي أصدره وهو طالب عام 1909، وهو الديوان الذي حمل بذور حركة التجديد في الشعر العربي، وجعل من شكري الرائد الأول لها، حمل شكري لواء المدرسة الرومانسية وأعانه عليها صديقاه العقاد والمازني، وفي نفس السنة التي صدر فيها الديوان يتخرج الصديقان من مدرسة المعلمين، فيحصل عبد الرحمن شكري على منحة دراسية لمدة ثلاث سنوات إلى جامعة شيفلد بإنجلترا، حيث سيدرس الاقتصاد والاجتماع والتاريخ والفلسفة إلى جانب اللغة الإنجليزية، أما المازني فيذهب للتدريس.

عاد عبد الرحمن شكري من بعثته الدراسية، وعاد الصديقان إلى علاقتهما، وعرّف المازني شكري على العقاد الذي انضم إليهما في أفكارهما النقدية ورؤاهما الشعرية التي بدأت تنضج، وقد اتخذت من أطروحات المدرسة الرومانسية الغربية أسسها، وظهر أن شكري القادم من إنجلترا يحمل في جعبته الكثير من المعارف الأدبية والثقافية الإنجليزية التي سيعرّف صديقيه عليها، لتكون المبادئ الأولى لأفكار كتاب «الديوان في الأدب والنقد» الذي سيصدره المازني والعقاد لاحقا”.

انتهى كلام الأستاذ ولد سالم عن بدايات علاقة شكري والمازني، وفي تلك الفترة الوردية من العلاقة، نشر المازني كتابه ” شعر حافظ” وكان ذلك في العام 1915 أي قبل نشر الديوان بست سنوات فقط ( التواريخ مهمة فكن على بينة) يقول ناشر الطبعة الإلكترونية من  كتاب المازني :” تناول الكاتب قضية الشاعرية عند حافظ بالنقد والتحليل، وتناول الأغراض التي تناولها في أشعاره، وتعرَّض لعددٍ من سرقاته الشعرية، والمآخذ اللغوية والأسلوبية التي أُخِذَتْ عليه، كما خصَّ بالذكر قضيةً مهمةً؛ وهي قضية المذهب القديم والمذهب الجديد، ورأى أنَّ السبيل الأمثل لتأصيلِ هذه القضية يتجسد في عرض موازنة بين شاعرٍ مطبوعٍ مثل شكري، وشاعرٍ مصنوع مثل حافظ"

لقد خشي ناشر الطبعة الإليكترونية من أن يقول” إن هدف الكتاب هو نسف حافظ لصالح شكري"

وتلك كانت الحقيقة، فالمازني بقلمه كتب:” لا نجد في إظهار فضل شكري وبيان ما للمذهب الجديد على القديم من المزية والحسن من الموازنة بين شاعر مطبوع مثل شكري وآخر ممن ينظمون بالصنعة مثل حافظ بك

وبعدُ فإن حافظا إذا قيس إلى شكري لكالبركة الآجنة إلى جانب البحر العميق، شكري أسمح خاطرا، وأخصب ذهنا، وأوسع خيالا

ويقول المازني: ” هاتوا قصيدة لحافظ حقيقية بهذا الاسم، نأتكم ببيت واحد من شكري يفضل كل ما قاله حافظ وأضرابه"

الكلام واضح صريح، بيت واحد من شكري ـ عند المازني ـ هو خير من كل شعر حافظ وأمثال حافظ

الحق أن الكتاب كله هو مقارنة بين شاعر يكتب بالصنعة هو حافظ وبين شاعر يكتب بالموهبة الجبارة هو شكر.

على ما سبق فأنت ترى عظيم تقدير ومحبة المازني لشكري، فما الذي وقع بين الرجلين ليصبح الاحترام إهانة ويرحل الحب ويأتي البغض وتلتهم نيران الكراهية أعظم مشاعر الصداقة؟

نجيب في الجزء الثاني بإذن الله.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منشور بموقع "أصوات" 9 يناير 2021