الأحد، 1 مارس 2009

تميم البرغوثي ... "مقام عراق"







صرخ بها تميم البرغوثي عندما رأى سقوط بغداد : 

كفوا لِسَانَ المراثي إنها ترَفُ 

عن سائر الموتِ هذا الموتُ يختلفُ 

ليلة أن «تحرر» ميدان التحرير في مارس 2003 وأعلن الكفر بالصنم الأمريكي وسادنه العربي، كان تميم مريد البرغوثي أحد المشاركين ليلتها في «تحرير» التحرير، وما جاء الصباح إلا وشاعرنا منفي إلي «عمّان» فالسلطات التي تري «نملة» الحرية وتعمي عن «فيل» الاحتلال رأت أن تميماً يكدر الأمن العام وحجة نفيه جاهزة، فوالده شاعر العرب الكبير مريد البرغوثي ليس مصرياً، وأمه الروائية الناقدة أستاذة الأدب العربي بالجامعة رضوي عاشور معارضة، ولا كرامة لمعارض في زمن التأييد العام والعمومي. 

في أولي أيامه بعمّان، رأي تميم أن مصر التي ولد وعاش بها تسحب من تحت قدميه فصنع ما أسماه صورة فوتوغرافية، حملت عنوان «قالوا لي بتحب مصر قلت مش عارف». 

الحقيقة أن القصيدة كانت أكبر وأعمق من صورة فوتوغرافية، ولكن هذا وصف الشاعر لقصيدته.. 

ثم وقعت الواقعة 

ضحي التاسع من أبريل 2003 كان تميم في عمّان ورأي مراهقي تكساس المخمورين يدنسون أرض العراق، تملكته رغبة عارمة في البكاء هو يقول واصفاً اللحظة «لم أبك، ولم أفهم لماذا لم أبك» لسانه الذي أثقلته الفجيعة تحرك متلعثما بالبيت المفتاح 

كفو لسان المراثي إنها ترف 

عن سائر الموت هذا الموت يختلف 

ثم انطلق في كتابه «مقام عراق» حاشداً كل مشاعره كاشفاً ما كان وما هو كائن مرتجفاً لما سيكون.. 

حبل الفجيعة 

أمام حدث هو بلاشك أهون من احتلال بغداد، قال نزار قباني: 

حبل الفجيعة ملتف علي عنقي 

من ذا يعاتب مشنوقاً إذا اضطربا 

أقول ربما مر هذا المعني بذهن تميم وهو يكتب قصيدته «كفوا لسان المراثي» فهو إن أسلم نفسه لمشاعره، ضربت الفوضي قلب القصيدة وتكدس الهذيان في طرقاتها، لقد حاول وأؤكد أنه نجح في بناء محكمة كأنها شريط سينمائي يتعدد الأبطال وتتنالي المشاهد وتتقاطع المصائر ولكن تظل هناك يد «المونتير» التي لها رهافة الموسيقي وحسم الجراح، يجمع المونتير ما تبعثر ويبتر الزوائد المعطلة ويسيطر علي الإيقاع، لكي يخرج الفيلم متماسكاً وكأنه صنع في لحظة واحدة. 

وتميم مثل أي سينمائي متمرس استخدم كل حيل السينما في بناء قصيدته من لقطات عامة إلي أخري مكبرة إلي ثالثة متوسطة، حتي «الفلاش باك» استخدمه ببراعة لم تعطل تدفق النص إلي الأمام. 

أنا عربي إذن أنا عراقي 

يقول الشاعر في مقام شرحه لمعني العراق، إن كل ناطق بالعربية هو عراقي بدرجة من الدرجات، كل من رفع فاعلاً ونصب مفعولاً فللبصرة والكوفة وبغداد فيه نصيب، إن عالماً كاملاً وثقافة بأسرها احتلت يوم احتل العراق. 

هذه العروبة التي تسري في جسد الشاعر مسري الدم في العروق ستجعله ينظر إلي ثمين وشريف الكلام ويضمّنه قصيدته. 

وهو بهذا التضمين أو الاقتباس يقدم ـ لوجه الله ـ درساً إلي الذين حبطت أعمالهم، تري الواحد منهم يكتب الفاحش البذيء من الكلام ثم يخطف خطفة من كلام الله أو كلام الرسول فيزخرف به فحشه، لكي تظن أن وراء الأكمة ما وراءها، وما وراءها إلا قبح وخيال مريض ووجدان سقيم. 

تميم الشاعر ابن الشاعر ابن الروائية، عرف تراث أجداده حق المعرفة فإن نظر إلي شعرهم وضعه في حق موضعه أتوقف عند ثلاث من حالات الاقتباس التي قام بها شاعرنا لكي تري عمق فهمه لتراث أجداده. 

يقول تميم مخاطباً «الهلال» 

يا هلال/ أيها القارب المتأرجح ذات اليمين/ وذات الشمال/ شمالك معتلة واليمين أيها القارب المتأرجح تمحو وتكتب كيف تميل مصائرنا/ في الحروب المقيمة أو في السلام السجال. 

هل رأيت صورة «الهلال القارب»؟ لقد نظر شاعرنا إلي قول ابن المعتز واصفاً الهلال:

«فكأنما هو زورق من فضة قد أثقلته حمولة من عنبر» 

هل رأيت كيف ينظر الشرفاء إلي تراث أجدادهم؟ 

يأخذون الكلام بحقه ولا يضعونه إلا في المعاني الشريفة، أما الذين أضل الله أعمالهم فلا يعرفون عن الأمر شيئاً. 

ثم يقول شاعرنا للهلال «ودون جميع الذين أحبوك من أمم الأرض أهديت نفسك للمسلمين». 

الأمر هنا يتجاوز الاقتباس أو النظر، إنه كما يقول عالمنا الدكتور عبدالحكيم راضي في المقدمة التي كتبها لكتاب «الاقتباس من القرآن» للثعالبي استنباط يقوم به العالم الذي ينظر إلي نص أو أكثر فيستنبط ما به من أحكام وإرشادات. 

والمثل الفذ لهذا الاستنباط هو ما قدمه فيلسوف الإسلام وفارسه سيدنا الإمام علي بن أبي طالب عليه وعلي السادة آل البيت السلام قال الإمام «من كان ذا داء قديم، فليستوهب امرأته درهماً من مهرها وليشتر به عسلاً وليشربه بماء السماء، ليكون قد اجتمع له الهنيء المريء والشفاء المبارك». 

الإمام استنبط كلامه من ثلاث آيات قرآنية «فإنْ طِبنَ لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً» سورة النساء وقوله تعالي «يخرج من بطونها شرابٌ مختلفٌ ألوانه فيه شفاءٌ للناس» سورة النحل، وقوله عز وجل «ونزّلنا من السماءِ ماءً مباركاً» سورة ق. 

وهذا الاستنباط قام به تميم فقوله «أهديت نفسك للمسلمين» مأخوذ من قوله تعالي: «يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج» سورة البقرة. 

لعلك معي في أن اقتباسات الشرفاء شريفة مثلهم. 

وعندما يتعرض شاعرنا إلي بشار بن برد أحد أبطال قصيدته يقول: 
«أنا من أبصر ما في السيف من ليل تهاوت من أعاليه الكواكب». 

وهذا البيت نظر فيه شاعرنا إلي بيت بشار الذي قال فيه: «كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسيافنا ليل تهاوي كواكبه». 

إضافة لهذه الحالات هناك في القصيدة الكثير منها مما يدل علي أن شاعرنا يخطو علي أرض يعرفها جيداً، وهو والحمد لله ليس من الذين يزخرفون فحشهم ببديع الكلام. 

ماذا قال أبوالطيب المتنبي 

قلت في صدر كلمتي إن قصيدة تميم هي ديوانه وأن ديوانه هو قصيدته فلسنا أمام ديوان مقسم علي قصائد ولكل قصيدة غرض، إننا أمام «شريط سينمائي» يخرج منه علينا أبوالطيب أحمد بن الحسين المعروف بالمتنبي، وبشار بن برد، وزينب بنت علي وفاطمة والحسين بن علي، ونخل العراق ومراهقو تكساس، وعنزة جاعت فأكلت وثيقة من وثائق المتحف الوطني، و«نبو» إله الحكمة في بابل الذي عشق عنزة وأراد الزواج منها فرفضته. 

عندما يظهر أبوالطيب المتنبي علي «شريط» القصيدة يستقبله تميم قائلاً له: 

«يا أبا الطيب لقد كنا أخذنا عليك عهداً أن لا يجوز الشعر بعدك كان الشعر سراً وأذعته، قمراً أنزلته وفرقته علي التلاميذ». 

ثم ينام أبو الطيب ليل الأربعاء علي الخميس، لسبع عشرة ليلة خلون من المحرم عام أربعة وعشرين وأربعمائة وألف نام المتنبي علي قصف الطائرات الأمريكية لبغداد ثم قام علي أصوات المؤذنين يقيمون صلاة الفجر فأنشد مخاطباً بغداد: 

حي المآذن تحت القصف تبتهل .. الشعر أنت وباقي الشعر منتحلُ 

أنت رسول خلت من قبله الرسل .. لكن أهلك صمواعنك أو جهلوا 

فلا يرون الضحي والشمس تنتصف 

حي المآذن تحت القصف تنتصب .. حتي الطيور التي حولها عربُ 

تطمئن الأهل والأحياء تلتهب .. أنا بخير فلا خوف ولا رهب 

مازلت أقصف لكن لست أنقصف 

كفوا لسان المراثي إنها ترف 

ثم يظهر بشار بن برد الأعمي الذي يقود المبصرين ففي تاريخه أن رجلاً مبصراً استدله علي بيت في بغداد فراح بشار يدل البصير بالوصف، فعجز البصير عن فهم الوصف فقام بشار آخذاً بيد البصير ويقول له: 



أعمي يقود بصيراً لا أبا لكمو .. قد ضل من كانت العميان تهديه 

عرف بشار أن بغداده الحبيبة التي يحفظ في كفيه جدرانها أنها تتعرض الآن للقصف فهب منشداً.. 

الله أكبر تحت القصف تندفع.. وكلما ضاق عنها الأفق يتسع 

إن القنابل تهوي وهي ترتفع.. نبوءة أسمعتكم لو لكم سمع 

لا جن يحضر إلا سوف ينصرف 

عني خذوها وقولوا قال بشار.. لا تدعوا العجز ما في العجز أعذار 

تعمد المرءُ للنسيان تذكار.. وبعض من حزنوا في حزنهم عار 

والعار في الناس بالإخفاء ينكشف 

هل رأيتم مقدرة شاعرنا ابن شاعرنا علي الغناء بأصوات أبطال قصيدته بشارعرف أن بغداده الحبيبة تقصف، ولكنه لايثق في رواية المبصرين فيذهب إلي نخل العراق يسأله عن الحقيقة والنخل خير شاهد ومتحدث يقول بشار للنخل: 

نخل العراق أنا أعمي ولم أر ما 

أصاب قومي وإني لا أصدقهم 

نخل العراق أسرد التاريخ مكتملاً 

كما شهدت عليه لا كما وردا 

وما كان للنخل أن يكتم الشهادة يقول النخل 

من يشهد ما شهدنا 

تكن مريبة سلامته 

وأنا لم أكن وحدي


لقد كنتم شهوداً معي 

موتكم حماكم 

وأعفاكم من عبء الرواية.. 

وتضيف النخل إنها عاتبة علي الذين هاجروا وتركوا أرضهم ونخلهم رواية النخل لما حدث تجعل تميماً يستأذن عمته النخلة في النوح قليلاً، فينوح شعراًَ صافياً.. 

روحي فداً لسقاة النخل من مضر.. لا يقبلون عزاءً في دم هدر 

مضوا فكدت أنا أمضي علي الأثر.. لا أفهم الفرق بين النخل والبشر 

كلا الفريقين فيه التمر والحشف 

تقول نخل العراق، الحق ذو غرر.. نعم البكاء إذا لم يُود بالنظر 

ولم يؤخرك عن تاراتك الأخر.. متي مشي القوم من قومي علي حذر 

حل لهم من دموع العين ما ذرفوا 

كفوا لسان المراثي إنها ترف.. 

«عنزة المتحف الوطني» 

حتي العنزة لم يتجاهلها تميم، اليوم يوم يُتم وفوضي وخراب والأهل بين هارب أو قتيل فمن يهتم بأمر العنزة، إنه تميمها المعطاء، رأي العنزة وحيدة جائعة فقال: 

عنزة تتعثر بين الخرائب 

وتبحث في ما تبقي من المتحف الوطني ببغداد 

عن عشبة أو وثيقة 

ولا فرق إن جاعت العنز بينهما 

ولا فرق بينهما في الحقيقة 

وهنا وبقانون التداعي، يتذكر تميم قصة إله الحكمة البابلي «نبو» مع حبيبته العنزة، فقد وقع حبها في قلبه فأرادها زوجة، وهي لم ترده زوجاً، ومنطقها واضح بسيط «كيف لإله الحكمة أن يمنحها عنزاً صغاراً ويناطح عنها الكباش» 


جنون نبو وارتبك مجمع الآلهة، ودار نقاش ساخن بين الإلهين «أنو» و «إنليل» عن هذا العشق الفضائحي.. 

إنليل يقول إن «نبو» قد فضح الآلهة بركضه وراء العنز في الزرائب أين شرعه وشرعيته.. 

يرد أنو: إن حدث الشرع والشرعية لا يهم أحداً، المشكلة هي في «عجز الآلهة» عن أن يكونوا شيئاَ غير خيال تسلط علي رقاب العباد. 

يقول أنو»نحن لا شيء والعنزة شيء نحن لا شيء سوي اللغة، أتنطح اللغة هل تري إذا جعلت اللغة في حقل من الشعير والبرسيم أينقص البرسيم شيئاً؟». 

يرد إنليل مكابراً: «أنا قادر علي أن أكون إلهاً» 

يسخر أنو قائلاً: «ليس عن هذا سألتك هل أنت قادر أن تكون عنزة أتقدر أن تكون أسداً، بقرةً، حماراً، بكرةً علي بئر، قفلاً، مفتاحاً، حذاء؟» 

إنليل لا يرد ولا جاء رد من مجمع الآلهة فهم أعجز من أن يكونوا شيئاً سوي خيال، وتلك لعمري حيلة من حيل تميم، فلا عنزة هناك ولا إله إنه يقصد الشعوب والحكام.. 

حكام يظنون أنهم آلة لا يستطيعون شيئاً حتي أن الواحد منهم لا يستطيع أن يكون حذاء ومع ذلك يسلك سلوك الآلهة وشعوب مثل تلك العنزة تتخبط بين الخرائب باحثة عن عشبة أو وثيقة.. 


«جاء المحرم وزينب معه» 


يسجل تميم أن الشهر الحرام «المحرم» قد اختفي عندما دخلت قوات الاحتلال العراق، فقام المحتل بتوزيع مناشير فيها صور مفترضة له في زي شيخ عربي، طالب جامعي أو امرأة منقبة.. 

ذكر المحرم يجلب ذكر زينب عقيلة بني هاشم التي رأت في محرم قديم كيف خاض غلمان بني أمية في دم أخيها وأسرتها النبوية، ثم رأت زينب ما فعله الأمريكان بالعراق وكأن يوم كربلاء يمتد من ساعة مقتل أخيها الإمام الحسين إلي يوم الناس هذا.. 

يقول تميم: 

هل أنكر الناس أمر الموت أم ألفوا.. أم الرجال لهم من حزنهم حرف 

رأيت زينب في أصفادها تقف.. تصيح يا من علينا دمعهم نزفوا 

كفوا لسان المراثي إنها ترف 

أم الرزايا عن الأحزان تنهاكم.. فلتسمعوا فهي بالأحزان أولاكم 

يا أمتي لا تخافوا من مراياكم.. والله ما قتل المقتول لولا كم 

فالآن أقبح ما تأتونه الأسف 

تصحيح زينب يامولاي يا سندي.. يا والدي وابن أمي ثم يا ولدي 

إن الحسين عراق حل في جسد.. إن العراق حسين آخر الأبد 

ودهره أموي ماله شرف 

والآن هل نكف لسان المراثي وننطلق إلي نصرة العراق بما نستطيع فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، أم نلجأ إلي البكاء الذي لم يحرر يوماً بلداً قط! 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق