الأربعاء، 20 يوليو 2022

مؤنس طه حسين.. السقوط في جب النسيان





كيف سيكون شعورك، عندما تفتح عينيك على الحياة فتجد أن والدك هو الدكتور عميد الأدب العربي طه حسين؟ ستقول: سأكون سعيدًا بدون أي شك.

أنت محق في شعورك بالسعادة، ولكن هل لديك فكرة عن مصيرك عندما يكون أبوك هو طه حسين؟

 أرجوك لا تجب الآن، ولتكن إجابتك بعد معرفتك بقصة الدكتور مؤنس طه حسين.

ولد مؤنس في الثامن من سبتمبر من العام 1922. وعند ميلاده كان أبوه رجلًا صاحب سمعة وصيت، فهو كاتب مرموق وأستاذ جامعي قدير، ينشر علمه على تلاميذه وما فاض منه ينشره على قراء الجرائد والمجلات.

في طفولة مؤنس أصبح أبوه يملأ الدنيا ويشغل الناس، فقد أصدر كتابه الصادم «في الشعر الجاهلي» وهو الكتاب الذي وإن جلب له أزمات طاحنة إلا أنه جلب له شهرة ومكانة قلما تمتع بها كاتب.


                                     المأساة

أم مؤنس هي السيدة سوزان، الفرنسية قلبًا ولغة، كان أبوه في شغل دائم على مدار ساعات الليل والنهار، فهو يؤسس لمجده في زمن كان منافسوه فيه أمثال العقاد، باختصار نقول: طه حسين لم يكن رجلًا فردًا، لقد كان في تلك السنوات مؤسسة، يديرها هو بنفسه ولنفسه، فعن أي ساعات فراغ نتحدث.

مؤنس لم تكن له سوى شقيقة واحدة هي السيدة أمينة (لاحظ عروبة طه حسين في اختيار أسماء أولاده).

فمع من سيلهو مؤنس، ومع من سيتحدث، والأهم مَنْ سيعلمه فنون الحياة؟

 ليس أمامه سوى أمه الفرنسية، فتلقى عنها الفرنسية التي هي ليست اللغة فحسب، بل معها التفكير والوجدان.

نام العميد وصحا، فرأى أن يختبر ابنه في العربية التي هو عميد أدبها. لم نعرف وظني أننا لن نعرف طبيعة الاختبار وأسئلته، ولكن سنعرف أن مؤنس تلجلج ولم يجب على شيء من أسئلة أبيه. 

وظني أن العميد قد سمع جرسًا أعجميًا ولكنة مستهجنة، وتعثرًا واضحًا في النطق، واضطرابًا في مخارج الحروف. 

لقد عرف العميد على وجه القطع واليقين أن ابنه فرنسي باسم عربي.

الآن أنا مشفق على العميد وظني أنه زفر زفرة ذهبت بنصف قلبه وهو يقول لنفسه: أنا طه حسين ابن فصاحة القرآن وبلاغته، ربيب أروقة الأزهر، عميد أدب العرب يولد لي هذا الذي يرطن فلا أعرف لكلامه رأسًا من قدمين؟


الصحوة

قرر العميد إنقاذ ما يمكن إنقاذه فجاء بمدرس عربي ينقذ عروبة ابنه، ولكن هيهات، لقد كان قلب مؤنس، قد أُشرب الفرنسية وانتهى الأمر. تحرك مؤنس في دوائر الفرنسيين المقيمين في القاهرة، ونفض العميد يديه من أمر تعليمه العربية، ثم بعد قليل وبقلب الأب وفّر لابنه أرقى تعليم فرنسي، بل أحاطه بمناخ ثقافي عظيم، فضيوف الأب من أمثال توفيق الحكيم وأحمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل كانوا في مقام أعمام مؤنس الذين يبشون في وجهه ويمدون له يد العون متى طلب معونة على أمر من الأمور.

من ناحيته لم يكن مؤنسًا عالة على سمعة والده، لقد كان وهو في سنوات مراهقته من أولئك الفتيان الأذكياء الشجعان الذين يشعرون بحرارة المصيبة، نعم كان مؤنسًا يدرك وضعه، فهو العربي ابن عميد الأدب العربي الذي لا يعرف كيف يقرأ مقالًا لوالده.

تلك النقمة جعلها مؤنس نعمة، لقد قرر أن يكون فارسًا من فرسان الفرنسية التي رضعها من ثدي أمه. الجينات تلعب دورًا لا شك في هذا، فطه حسين هو أديب عظيم والأم مثقفة تعرف كيف تتذوق الآداب والفنون، ثم قلب مؤنس مترع بتلك الرهافة التي تتيح لصاحبها التأمل والقراءة المختلفة للحياة.

كل تلك العوامل جعلت من المراهق مؤنس شاعرًا فرنسيًا لا يشق له غبار فقد نشر ديوان شعره الأول «شاحباً كان الفجر» وهو في السادسة عشرة من عمره.

مضت السنون ثم تذكر مؤنس أيام طفولته وصباه، فنقلت عنه الكاتبة لوتس عبد الكريم ما قاله عن والده: «ابتسم مؤنس وهو يتذكر أن والده كان يسرح أحيانا ويبدو أنه قد ابتعد بفكره عن أسرته فيسألونه: أين أنت؟


 فيرد بأنه فى سورية خلال القرن الرابع الهجري يسمع أبا العلاء المعرى، أو كان فى الحجاز فى المئة الأولى للإسلام، يستنشق الهواء الذي استنشقه الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتابع مسيرته فى هجرته، أو كان فى تونس مع ابن خلدون وهكذا، وفى كل حالة من هذه الحالات كان يعرفنا بأسلوبٍ بسيطٍ عن المكان والزمان والشخص الذي يقول إنه كان معه.



الازدهار

تلك لعمري لعبة مزدوجة كان العميد يلعبها، لقد أفلت منه ابنه وأصبح فرنسي اللسان، ولكنه بتلك اللعبة جعل فكره عربيًا وذكرياته إسلامية. ساعد العميد ولده على النبوغ فترك له حرية الدراسة، فدرس مؤنس الفرنسية في الجامعة المصرية وحصل على مؤهله الجامعي في العام 1939.

ثم كان لابد من السفر، الابن سينطلق إلى باريس ليحصل على الدكتوراه، ليعيد سيرة الأب، والأب تحجرت دموعه في عينيه، ولكنه ملك من ملوك البيان، فيقدم الجزء الثاني من «أيامه» الشهيرة إلى مؤنس كاتبًا: «ها أنت تهجر وطنك لتطلب العلم فى باريس وحيدًا فدعني أهدى إليك هذا الحديث عن أيام طلب الوالد العلم فى الأزهر، لعلك ترتاح إليه كلما أجهدك درسك بين الحين والحين، هناك ترى لونًا لم تعرفه من ألوان الحياة فى مصر وتذكر شخصًا طالما ارتاح إلى قربك منه، وطالما وجد فى جدك وهزلك لذة لا تعدلها لذة ومتاعًا لا يعدله متاع"

حصل مؤنس على الدكتوراه من باريس، فعن أي شيء كانت رسالته؟ 

ابن العميد هو ابن العميد، لقد جعل رسالته عن تأثير الآداب الإسلامية في الأدب الفرنسي.

لم يكتف العميد بحصول ولده على الدكتوراه فنصحه بمواصلة الدراسة، قال مؤنس للوتس عبد الكريم: «وفيما يخصني فقد اقترح أبي عليَّ ألا أكتفى بالدراسة للحصول على درجة الدكتوراه من فرنسا، بل بالدراسة للحصول على شهادة الأجريجاسيون فى اللغة والآداب الفرنسية وهى من أصعب الدراسات"


وقال غير واحد من الأدباء: «إن مؤنسًا كان أول مصري يحصل على شهادة الاجريجاسيون». وعندما عاد مؤنس إلى مصر بعد رحلته الفرنسية، عاش سنوات ازدهاره.




الثمار

نشر مؤنس في بدايات الستينيات كتابه المهم «ملامح رومانسية» وعنه يقول الكاتب عبد الحميد صبحي ناصف: «لقد صدر كتاب «ملامح رومانسية» لمؤنس عن دار المعارف المصرية بدون تاريخ محدد؛ إلا أنه في أغلب الظن قد نُشر بعد ظهور دراسته المطولة عن «الرومانسية الفرنسية والإسلام» الصادرة عن دار المعارف اللبنانية عام 1962".

وينص مؤنس صراحة في مقدمته «ملامح رومانسية»: بأنه لا يرمي بها إلى تقديم عمل أكاديمي صارم مثقل بالوثائق والمراجع. بل أرادها أشبه ما تكون بعرض محرر من القيود لأهم ما عنّ له من تصورات وتأملات حول رواد الحركة الرومانسية الفرنسية في إطار علاقتهم بالمؤثرات الإسلامية بالإضافة إلى ما تأتّى له من خطوات حول بعض الرموز الأخرى لهذه الحركة ولغيرها من التيارات الأدبية الموازية لها خلال القرن التاسع عشر.


وعلى هذا النحو تضم هذه الدراسة تسعة فصول يتناول فيها بالدرس والتحليل السمات الفارقة في الخطاب الرومانسي فى الأدب الفرنسي ويقدم مجموعة من «البورتريهات» لكل من فيكتور هوجو في ديوانه «الشرقيات» ولشاعر «الليالي» الفريدي موسيه ولجورج صاند وتمردها على المجتمع التقليدي ولجرادي نوفال 

في ما يخص تصويره لليالي رمضان في القسطنطينية"

كان من الطبيعي أن يعمل مؤنس بالجامعة فهو يجيد الفرنسية واللاتينية واليونانية القديمة، وعن سنواته في الجامعة يقول الناقد الكبير الدكتور عبد الرشيد الصادق محمودي في كتابه «أدباء ومفكرون": أخبرنا بعض طلابه في قسم اللغة الفرنسية بآداب القاهرة أمثال أمينة رشيد وآمال الروبي. كيف كان مؤنس يفتح لهم أبواب الثقافة الرفيعة ويعلمهم الاهتمام بالموسيقى وتاريخ الفن حتى أنه كان يخرج عروضاً مسرحية يمثل فيها طلابه وكان يحضر تلك العروض كبار المثقفين أمثال: طه حسين وتوفيق الحكيم ومحمد حسين هيكل".


ثم ترجم إلى الفرنسية بالتعاون مع أخته أمينة كتابيّ والده «أُديب» و«شجرة البؤس»، ثم نشر ثلاثة دواوين ومسرحية.

في تلك السنوات كان مؤنس يعد اسمًا مرموقًا بين أساتذة الجامعة وبين الأدباء.


قرار عجيب

في النصف الأول من الستينيات ترك مؤنس الجامعة.. لا أحد يقطع برأي في هذا القرار العجيب، بعضهم يقول: لقد شعر مؤنس بالظلم لأنه لم ينل ترقية كان يرى أنه يستحقها. آخرون يقولون: كانت الدائرة الفرنسية التي يعيش مؤنس في قلبها تتقلص بفعل التمصير الذي شهدته تلك السنوات، فقرر ترك الجامعة والهجرة الأبدية إلى فرنسا.

عن نفسي لم يقنعني أي من الرأيين، هناك أمر لا نعرفه أدى إلى هجرة مؤنس الذي ذهب إلى فرنسا فلم يعمل فى جامعة من جامعاتها، وهذا أمر عجيب يضاف إلى عجائب مؤنس، لقد عمل في هيئة اليونسكو في وظيفة تلتهم وقته وتقلل من ساحات إبداعه، فهو منذ هجرته لم ينشر شيئًا بل لم يكتب شيئًا، وكأنه لم يغادر الوطن فحسب، بل غادر الإبداع كله.

في باريس سيلتقي الدكتور عبد الرشيد الصادق محمودي بمؤنس وسيكتب محمودي عن مؤنس كما لم يكتب أحد.

لقد كشف له مؤنس أسرار حياته، قال له: إنه يكتب يومياته بانتظام وإنه ينوي استكمال رواية كان قد بدأ كتابتها قبل سنوات. ثم كشف له عن عذابه بعد فقدانه لزوجته التي لم يحب أحدًا كما أحبها. كان مؤنس قد تزوج ليلى العلايلي وهي مثقفة مثله وتتقن الفرنسية مثله، إضافة لكونها حفيدة أمير الشعراء أحمد شوقي. رحلت الزوجة الحبيبة وتركت له ابنته الوحيدة التي أطلق عليها اسم أخته الشقيقة أمينة.

بعد رحيل الزوجة نشر مؤنس بعد طول انقطاع عن النشر بل عن الكتابة ذاتها ديوانه الرابع الذي جعله في رثاء زوجته وقد صدر في العام 1995 تحت عنوان «سوف ينحسر البحر".


ولكي تكتمل دائرة مفارقات حياة مؤنس، فإن ابنته الوحيدة قد تزوجت من أستاذ أكاديمي ياباني متخصص فى تدريس اللغات الشرقية، ويعمل فى إحدى جامعات باريس، وأنجبت منه ولدين!


النهاية

مرض مؤنس بمرض جعله يكاد يفقد صوته، فكان يكتب لصديقه المحمودي عوضَا عن الكلام. ولم يكن يقوم بأمره إلا ابنته التي كانت تزوره مع حفيديه، وفي اليوم السابع والعشرين من نوفمبر من العام 2004 لفظ مؤنس أنفاسه الأخيرة.

بعد موته تحدثت ابنته عن يومياته فقالت: إنها من أربعة أجزاء ومكونة من 800 صفحة من القطع الكبير. ثم قال وزير الثقافة المصري الأسبق فاروق حسني: إن وزارته قد حصلت على موافقة أمينة بنت مؤنس على شراء حقوق ترجمة المذكرات، وقد بدأ فريق من الوزارة في ترجمة الجزء الأول. ثم مرت السنوات ولم تظهر المذكرات، ليسقط الأستاذ المرموق والشاعر الكبير وابن عميد الأدب العربي في جب النسيان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشر بموقع أصوات 16 سبتمبر 2019


الأربعاء، 6 يوليو 2022

لا تصلوا من أجل القاتل




 أحدث مقتل الأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير الأنبا مقار بوادي النطرون هزة عنيفة في المجتمع المصري بمسيحييه ومسلميه.


الحادث الذي انتهى باغتيال الأنبا إبيفانيوس، ليس لنا ولا لغيرنا الخوض فيه لأنه منظور الآن أمام جهات التحقيق التي أصدرت بيانًا رسميًا جاء فيه: "تواصل نيابة استئناف الإسكندرية التحقيق في أحداث مقتل الأنبا إبيفانيوس حيث أدلى الراهب المشلوح أشعياء المقارى باعترافات تفصيلية أمام ضباط المباحث ونيابة استئناف الإسكندرية، معترفًا بمسئوليته عن قتل إبيفانيوس بالاشتراك مع الراهب فلتاؤس المقارى الذي يعالج حاليا بمستشفى مايكل أنجلو بالزمالك عقب محاولته الانتحار".

الهزة العنيفة التي أشرت إليها يمكن تسميها بالهزة الثقافية، فبعيدًا عن مجريات التحقيق الذي لم تعلن نتائجه الرسمية بعد، يجب علينا التوقف عند تفاعلات الحادثة غير المسبوقة.

ظهر واضحًا استنكار عوام المجتمع لتلك الحادثة، وهذا الاستنكار يعد من محامد الشخصية المصرية التي لم يلحق التخريب جذرها بعد، بفضل الله ثم بفضل نضالها ومقاومتها لكل عوامل التخريب التي تتكاثر عليها.

فريق ضخم من المسيحيين والمسلمين تعامل مع الحادث بفطرته المستقيمة فقال: هذا حادث اغتيال عن عمد وقصد، فلنترحم على الضحية ثم ننتظر نتائج التحقيق، ثم نوجه دعوة للكنيسة بوصفها مؤسسة مصرية عريقة ومهمة جدًا لإعادة ترتيب بيتها من داخلها، لأن الحادث أكد أن هناك خللًا ما يستوجب العلاج العاجل العادل.

في مواجهة وضوح موقف العوام كان موقف بعض النخبة مرتبكًا جدًا فقد رأينا فريقًا لا يستهان به يدعو للصلاة من أجل القاتل!

تلك الدعوة العجيبة، بل المريبة، هي ما عنيته بالهزة الثقافية، ولا أريد وصفها بالهزة "العقائدية".

 منذ متى يصلي المصريون من أجل رجل اعترف بأنه قتل عن عمد وسبق إصرار؟

أي حديث عن خصوصية الحادثة هو حديث إفك لا أكثر ولا أقل، فالدير أو المسجد أمام القانون مجرد مبنى، والقاتل مواطن وكذا القتيل، وهناك قانون عقوبات تنظر الجرائم وفق نصوصه، وعلى ذلك فالحديث عن الخصوصية هو قنبلة دخان لصرف الأنظار عن كارثة ضربت المجتمع كله.

مَنْ أين جاء دعاة الصلاة بدعوتهم المريبة؟ لقد طالعوا كغيرهم حوارًا قصيرًا جدًا أجراه الصحفي محمود العجمي مع الأنبا يؤانس أسقف أسيوط ونشره موقع اليوم السابع.

 سأله الصحفي: ما تعليقكم على واقعة مقتل الأنبا إبيفانيوس التي تشغل الرأى العام فى مصر؟ 

فقال الأنبا يؤانس: "الأحداث الجارية حاليا نصلي لها من قلوبنا، وندعو ربنا بأن يعطى الحكمة لقداسة البابا تواضروس الثاني، وأنا أقول إنها سحابة صيف ونصلي من أجل هذه المحنة، وهي محنة عابرة سوف تعبر، ويجب علينا أن نصبر شوية لحد ما كل حاجة تتضح للجميع، للأسف الناس مستعجلة علشان تعرف الحقيقة، فأنا أدعوهم للصلاة والصبر إلى أن تصدر الكنيسة بيانا، رسالتي هي الصلاة والصبر".




انتهى كلام الأنبا يؤانس فتلقفه الذين يزعمون لأنفسهم درجة من الإنسانية والرحمة تفوق تلك التي يتمتع بها مجتمعهم، فتعسفوا في تأويل كلام الرجل وفي تحميله فوق ما يحتمل، فليس في إجابته أدنى إشارة لصلاته من أجل القاتل. كلام الرجل واضح جدًا وهو يتحدث عن عموم الحالة وليس عن خصوص الواقعة.

وبعد تعسفهم في تأويل كلام الأنبا يؤانس، نبشوا الأناجيل حتى وقعوا على آية جاءت في إنجيل متى على لسان سيدنا المسيح، نصها يقول: "وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ".

تشبثوا بتلك الآية وفق تفسيرهم لها تشبث الغريق بطوق النجاة وراحوا يطلقون الصفحات على مواقع التواصل الاجتماعي للصلاة العلنية من أجل القاتل.

إذا قلت إن هذا الفريق من المسيحيين والمسلمين قد "تدعشن" هل أكون مخطئًا؟

 داعش وأخواتها من فرق القتل والإرهاب التي تزعم الإسلام لا تفعل أكثر من هذا، تأتي بآية وتنتزعها من سياقها وتفسرها كما شاء لها هواها ثم تتخذها ركيزة وقاعدة فقهية تمارس تحت حمايتها أخس أنواع القتل.

هؤلاء صنعوا صنيع داعش معكوسًا، داعش تقتل وهؤلاء يرحمون. والنتيجة في الحالتين واحدة وهي ضياع حقوق المجتمع والدولة.

إن منطق هؤلاء آية من آيات الالتواء، فهم يبررون موقفهم بأنهم ضد أحكام الإعدام من حيث المبدأ. 

هل ذكر أحد سيرة الإعدام؟ 

ثم هل قال القضاء كلمته النهائية حتى يتكلم المتكلم منهم عن رفضه للإعدام؟

ثم بعد أن يسرفوا في إعلان رفضهم لإعدام لم يتحدث عنه أحد يخرقون في المجتمع خرقًا جديدًا، يقولون: باب التوبة مفتوح. 

هل قال أحد أن باب التوبة قد أغلق؟ 

ثم ما علاقة التوبة بحادث جنائي دفع رجل أعزل حياته ثمنًا له؟

التوبة من أفعال القلوب لا الجوارح والذي يقبلها أو يرمي بها في وجه فاعلها هو الله عز وجل وحده لا شريك له. 

نحن أمام حادثة قتل عمد ولسنا أمام صلاة في محراب، فكل تعاطف مع معترف بالقتل هو من تلبيس إبليس ومن صنع جماعة في قلوبهم مرض.

إضافة للفريقين السابق ذكرهما ظهر فريق ثالث يستهجن علانية قيام الصحفيين المسلمين بتغطية الحادث إخباريًا، بدعوى أن الحادث شأن مسيحيي داخلي.

هل أعلن أحد ـ ولم يصلنا الخبر ـ أن الأديرة المقامة على أرض مصر والتي بناها مصريون ويسكنها مصريون قد تم إعلانها دولة ذات سيادة وعلم؟ 

الأديرة والكنائس مثل المساجد، جميعها مؤسسات مصرية يجب أن تخضع تمام الخضوع لأحكام القانون، أما الكلام خارج هذه الرؤية المركزية فهراء لن يجلب إلا المزيد من تخريب الشخصية.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشرت فى موقع "أصوات أونلاين" 20 أغسطس 2018