الأربعاء، 21 ديسمبر 1994

"مـن يقــوى اليــوم عــلى الحــزن"



عمود فيش وتشبيه


الاسم:جبرا إبراهيم جبرا

العمر: 74 عاماً

محل الميلاد: بيت لحكم / فلسطين

تاريخ الميلاد: 1920

محل الإقامة: بغداد / العراق

المهنة: مبدع

المؤلفات: 57 مؤلفاً منها تسع روايات وثلاث مجموعات شعرية وعشرة كتب في النقد.

التهمة: الإصرار على أن فلسطين اسمها فلسطين

الملامح انظر الصورة

وحده كان .. مثلما العراق وحده يحمل عبء سبعين عاماً وأكثر من القنابل حريره حملت رياح الموت الباردة قهقات الطيارين الأمريكيين. لقد نجحوا في تحويل الليل إلى حرائق أحدهم استطاع وفي طلعة واحدة أن يدمر مدرسة وكنيسة ومسجداً وحديقة بأزهارها ونخيلها . أما الأمهر فيهم قد صرخ.. أنا الأعظم لقد قصفت صواريخي طراوة الفجر وندى الصباح كما تمكنت من إحراق شجرة على جذعها حفر لقلب يخترقه سهم وبداخله حرفان!!

أخذ جبرا يقطع غرفة مكتبه ، الحرب الكم التي يعيش وقائعها؟ عاصر نكبة 1948 وبعدها ذهب إلى بغداد حاملاً معه طفولته التي لم يفارقها لقد سكنته أجراس الكنائس وترانيم الرهبان وآذان الفجر ينطلق قوياً عفياً من مئذنة الأقصى.

كل شىء ينتهي وتبقى الكلمات في بغداد ، كتب نقد، وروايات وأشعار، أطلق كل سهامه ولأنه ولأنها حقيقية فقد أصابت لم يحاول فناً من فنون الكلمة وفشل فيه.

النجاح يقتفى خطواته والوطن يذهب شيئاً فشيئاً !! الليل لا يتحرك سرمدى أزلى هو "هكذا تكون ليالي الحروب" والعم جبرا على طاولة الكتابة ، تسأل ما جدوى الكتابة في زمن الأمريكان؟، يجيب "الكتابة هي أول الثورة" ، والثورة أن تكون لك رؤية جديدة في كل شىء من إقتصاد النفط وحتى أوزان الخليل يجرب الآن كتابة سيرته الذاتية يجب ان تكتب بعقل وأحاسيس كل مرحلة عاشها، فبعد إبداع اكثر من خمسين كتاباً لم يبق غير البوح بما توارى من أوجاع وأفراح لم يعد بالقلب مكان لأية أحزان جديدة.. سبعون عاماً وستة حروب وثلاثة أولاد على الجبهة وأحباب رحلوا وعروش زائفة تتفنن في دعوة الأمريكان للإقامة وإلى الأبد داخل فراشنا.

الليل كما هو .. وجبرا يردد "كيرياليصون" يارب أرحم .. قل يارب للأمريكان أن يكفوا، لقد قصفوا كل شىء حتى الدموع في المآقي والأشواق في القلوب..

من يقوى اليوم على الحزن ؟ من أعماق الذاكرة تخرج كلمات الإيطالي "بيكود يلاميراندولا" .. قال الله للإنسان:"وحدك أنت لا يقيدك رابط الا اذا اتخذته أنت بالإرادة التي وهبناك إياها في مركز الدنيا وضعتك ليسهل عليك أن تتلفت حولك وترى كل شىء لقد صنعتك مخلوقاً لا أرضياً ولا أى شكل تتخذه لنفسك" وها هو الإنسان العراقي مخلوق الرب يصب عليه الجحيم بيد مخلوق آخر !! ومن يقوى اليوم على الحزن.. أوطاننا تسرق وحبيباتنا يهجرننا.

كتبنا تحرق ونخيلنا يدمر. فعلى ماذا سنحزن؟

في هذه الليلة الباردة من شهر يناير عام 1990 مات جبرا إبراهيم جبرا .. وإن كان إعلان وفاته قد تأخر حتى الأسبوع الماضي..

بعد أن يئس من رؤية بيت لحم ثانية.. لقد تشهى كثيراً أن يأكل سمكاً من بحيرة طبريا.. كم تمنى أن يرى العلم الفلسطيني فوق كل فلسطين.. وعندما جاءت "غزة.. أريحا" كان كل شىء قد انتهى ولم يعد باقياً غير قطعة قماش يلف فيها جسد الشيخ العجوز وحفنتين من تراب وزهور وما تيسر من دموع نذرفها نحن المفجوعين برحيل رجل كان أمة من المبدعين.

أخذ البصمات
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة الأحرار: الاربعاء 21 ديسمبر 1994

الأربعاء، 9 نوفمبر 1994

الشيخ أحمد ياسين " لاشــــــىء يكســـــــــرنا "





الإسم: أحمد ياسين

العمر:56 عاماً

محل الميلاد: قرية الجورة جنوبي غزة

المهنة: زعيم حركة حماس

محل الإقامة: سجن كفر يونا بالأرض المحتلة

التهمة:الدعوة لإزالة الكيان الصهيوني

الملامح : انظر الصورة

كيف تخرج من أسر جسدك وتتحرر من أسر عبودية أوجاعك وتنعتق من كهف ذاتك وتنتمي للشجر والطير والبحار تنتمي للإنسان؟

الإجابة نجدها في كتاب حياة الشيخ أحمد ياسين، ولد قبل نكبة 1948 بعشر سنوات، وتجرع الهزيمة قطرة قطرة، كان أبوه يعلم أهمية التعليم لشعب يعيش في الخيام، فأصر على أن يكمل ولده تعليمه، بعد التخرج عمل بالتدريس ليلقن تلاميذه ما تيسر من كتاب محبة فلسطين، كان لابد له من الإنتماء إلى تيار سياسي حتى يشعر بدفء الجماعة فالتحق بصفوف الإخوان المسلمين فهم الأقرب إليه وجدانياً وسياسياً، وأخذ يطوف بالمساجد داعياً ومحرضاً على إزالة الكيان الصهيوني، يوماً بعد يوم عرف الصهاينة خطورة الرجل.. وضعوه تحت المراقبة ولكنه واصل طريقه دون خوف أو تراجع.

وعندما حطمت النكسة قلوب العرب لم ينكسر قلب الشيخ وإنما واصل رسالته ليجمع قلوب الشباب حوله، فجأة أصيب بالشلل أثناء اشتراكه في معسكر تدريبي ولم يقعده المرض عن مواصلة الطريق يكفي أن روحه صحيحة وسواعد المؤمنين بتحرير كامل التراب الفلسطيني فيها الكفاية وفي عام 1983 اعتقل للمرة الأولى بتهمة حيازة أسلحة والتحريض على إزالة الكيان الصهيوني، مكث في سجنه حتى 1985 وتم الإفراج عنه في عملية تبادل الآسرى بين الصهاينة والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، رغم اتجاهات الجبهة اليسارية إلا أنها كانت تقدر الشيخ لدوره النشط في النضال من أجل فلسطين، تجربة الإعتقال جعلته يفكر في تكوين تنظيم يواصل الكفاح ويحشد الشعب من أجل الخلاص، وفي مايو 1986 وجهت له السلطات الصهيونية "15" تهمة واستمرت محاكمته عامين كاملين ثم صدر ضده حكم بالسجن المؤبد مازال ينفذه ورفض مقايضته بجثة ضابط صهيوني وعندما جاء العام 1989 كان قد أكمل إقامة حركة حماس.

ورغم جميع الضغوط الجسدية والنفسية التي تعرض لها الشيخ إلا أنه لم يتراجع قيد أنملة ومازال ومن زنزانته يصدر الأوامر بقتال الصهاينة وعلى الفور يتقدم شبان صادقون لا يجدون سلاحاً إلا أجسادهم فيلف الواحد منهم نفسه بالقنابل لينفجر في وجه الأعداء، وحتماً لن يكفوا حتى يأتي يوم الخلاص.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشرت بجريدة الأحرار: الاربعاء 9 نوفمبر 1994

الأربعاء، 26 أكتوبر 1994

مـن دمــي ســتنبت شقائــق النعـــــمـان



البطل عصام الجوهري



الإسم – عصام فهمي الجوهري

السن – 24 عاماً

الحالة الإجتماعية – أعزب

المؤهل – دبلوم فني صناعي

المهنة – مبيض محارة

التهمة – قتل وإصابة 15 صهيونياً

" وسوى الروم خلف ظهرك روم فعلى أى جانبيك تميل".حتماً كانت صرخة المتنبي التساؤلية تطرح نفسها على عقل وقلب عصام الجوهري – لقد قرر أن يقاتل ولكن ضد من يوجه رصاصه؟

ضد أنظمة برعت في قهرنا ومسخ أمانينا وسرقة أعمارنا ؟ هذا اختيار سهل أم يدفع فوهة رشاشه نحو رؤوس مثقفين – كالقردة – يقفزون بمهارة بين أشجار تفاح اليمين وغابات نخيل اليسار هذا هو الإختيار الأسهل.

وهو لايريد السهل أو الأسهل أنه يريد الذهاب إلى هناك إلى أبعد عمق لأوجاعنا، وعيه الفطري قاده إلى قرار لا رجعة فيه الرصاص يجب أن يوجه نحو "دود" الأرض "الصهاينة" إنهم الباب الملكي لعبور الكوارث إلينا وابتعاد رصاصنا عنهم ليس له معنى سوى مزيد من الذل لأعناقنا إن كان قد بقى منه شىء لم نجربه ، وبدون أن يطلع أحداً على سره خبأ مصر في شرايينه وأفرد قلبه سجلاً لصور وذكريات أشيائه الخصوصية، دمعة أمه، حنان أبيه، ضحكات أشقائه، ليالي رمضان في الحسين، آذان الفجر، حرقة الفقر، نشوة النصر، التشوق لحياة أكثر رحمة وعدل.

لم يطالع التاريخ في الكتب بل حفظه منقوشاً على أوجه الفقراء، كانت حياته القصيرة أقسى من أن تتيح له رفاهية القراءة فقيرا ولد لأب يعمل في هيئة النقل العام وأم ماتت بعد مولده بقليل وعندما أنهى تعليمه لم يجد عملاً سوى "مبيض محارة" ثم التغرب في صحراوات الخليج حيث الرمال والتعب وحفنة من نقود لاتكفي لدفع غول الفقر المتوحش.

انه الأن في فلسطين جولة سريعة في دفاتر أزمنة مضت جعلته يرى الفاروق عمر وهو يتسلم مفاتيح القدس ويرى اللحظة التي خان فيها يهوذا المسيح على بقعة من هذه الأرض نمت كلمات سميح القاسم، "يموت منا الطفل والشيخ ولا نستسلم".

قبل ثلاث خطوات من ملاقاة العدو عاد السؤال الذي القاه المتنبي يفرض نفسه من جديد، من الأولى بالقتل؟ الصهاينة أم الراكعون أمامهم، حفنة الخدم الذين يظنون أنفسهم ملوكاً غالبين ؟

ومرة آخرى ينقذه وعيه الفطري مادمت تمتلك رصاصة تكفي لقتل فيل فلماذا تصوبها نحو نملة، إن الصهاينة هم الأفيال التي تدهس أجنة أحلامنا.

كان قد أصبح وجهاً لوجه مع العدو ذابح الحمام وحارق الزيتون.

فوق رأسه رفرفت كلمات محمود درويش :" حاصر حصارك لا مفر ، اضرب عدوك لا مفر فأنت الآن حر وحر وحر" . تسارعت دقات قلبه، عرق ساخن غطى جبهته. يده على الزناد ، القدس تخلع أثواب الحداد، بعد قليل سينتشر دمه لتنمو شقائق النعمان ، لحظة وتصعد روحه لتسكن حواصل طيور خضر تطوف بجنان لم تخطر على قلب بشر، تزايدت دقات قلبه ومن بعيد يأتي صوت يرتل" واقتلوهم حيث ثقفتموهم" وعلى الفور استجاب لتعلن زغاريد رصاصته أن مصر هي أم الرجال كانت وستبقى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة الاحرار: الأربعاء 26 أكتوبر 1994