الخميس، 12 يونيو 2014

اكتبوا قبل أن تفقدوا ذاكرتك

وقفة قبل المنحدر.. رحلة المشى على صراط الاعتراف الأليم




الكتابة الحقيقية مثل المرأة تماماً لها مفاتيحها السرية الغامضة متى عثرت عليها تفتحت لك جنات الخالق الوهاب وإن ضاعت منك عشت تائهًا فى صحراوات العطش والجوع. وما أسعد من عثر على مفاتيح كتابات علاء الديب، قسما سترتوى روحه من ينبوع الفن المصفى حيث لا ذرة من ادعاء أو زيف أو كذب أو سطحية.. أنت مع علاء الديب فى حضرة الفن المحض الذى هو سياحة الصوفى بحثاً عن السر الأقدس.

لن أكون أنانيًا وسأرشدك إلى مفاتيح علاء الديب كما تخيلتها:
1- كن صادقاً.
 2- كن وحيداً.
 3- كن خائفاً.
 أنت الآن فى حبة قلب الفن، فقل تعالى الله الأكرم الذى علم بالقلم، ورتل "الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان".

"وقفه قبل المنحدر" من أوراق مثقف مصرى.. هذا هو اسم الكتاب الذى "نزفه" علاء الديب وهو إن شئت الدقة ليس كتابًا من حروف وكلمات ولكنه دماء قدم مشت على شوك صراط الاعتراف الأليم بحثاً عن إجابات مازالت تقلق الروح.

الكتاب يبحر فى بحر السنوات الثلاثين الواقعة بين عامى 1952 و1982 يبدأ علاء الديب فيصف كتابه بأنه أوراق حقيقية.. دم طازج ينزف من جرح جديد.. كتابتها كانت بديلاً للانتحار.

هذا هو وصف الكاتب لكتابه وأنت إن سألته لماذا تكتبها الآن؟ لسمعته يجيبك قائلاً:هذا هو وصف الكاتب لكتابه، وأنت إن سألته لماذا تكتبها الآن؟ لسمعته يجيبك قائلا: "لأفهم ماذا حدث لنا فى تلك السنوات من "52 إلى 82".. ماذا حدث للناس وللبلد؟
 يقول الناس "كل يوم له شيطان" وشيطان تلك الأيام كان يعمل بجد واجتهاد لكى لا تكتمل الأعمال ولا تتحقق الأحلام يعمل لكى يسود صراع دام بين الناس، وأن تصل إلى نهاية يومك منهكًا مهدوداً وأنت فى الحقيقة لم تحقق شيئًا.

فجأة رأى علاء أنه كاد أن يفقد ذاكرته ففر إلى الكتابة وذلك لأن ذاكرته هى حياته ومن أجلها يحارب آخر معاركه التى لا يقبل فيها الهزيمة. أحس بالرعب وهو "يرى شرخ الزجاج الذى بدأ دقيقاً ثم اتسع الشرخ الذى لا يرتق ولا يجبر رآه وهو يتكون فى نفسه" ولذا لم يعد هناك مفر من المشى مرة للأمام وأخرى للخلف وثالثة لأعلى ورابعة لأسفل وخامسة للغوص داخل دم متخثر يسمونه الذاكرة.. فعلها علاء وعاد طفلاً بريئاً ولامعاً لم تشوه المواجع جلد وجهه ولا اقتربت من غلاف روحه الشفاف.

من البداية يعترف علاء أنه عاش كل التجارب للمثقف البرجوازى الصغير إلا السجن وأنه كان يقول لنفسه أحياناً "السجن أحب إلى مما..." يقول علاء كان على أن أعيش السجن فى بيتى وشارعى وعملى، كان على أن أضاجع كل ليلة جسد الحلم الميت والآمال المحبطة.. قضيتى لم تكن سياسية فقط كنت عضوًا فى شعبة الإخوان المسلمين فى الحى الذى أسكن فيه وكنت رفيقًا فى تنظيم شيوعي قديم وكنت عضوًا فى هيئة التحرير وفى تنظيم عبدالناصر الطليعى كنت فى كل تلك التنظيمات موجودًا.. كرقم اسم فقط لم أشعر أبداً أنى أفعل شيئًا أو أننى أقوم بعمل حقيقى مؤثر".

يقول علاء "رأيت أكثر – بكثير – من أن أكون بريئا، لا لم أعد بريئًا. مذنب ومشارك وضالع فى الإثم.. أرى الأشياء وهى تتفتت تفقد حقيقتها ومعناها أراها وأعيشها وأسلك فى دروبها وآكل فى أطباقها البلاستيك القذرة، تطاردنى دائمًا فكرة القرون الوسطى، حيث المتناقضات متجاورة لم تتصارع بعد لم تتحدد بعد أو تختلف متجاورة فى قسوة وفجاجة، أراها غنية شيقة حبلى بالأمل والطين.

ألقاك فى عصف الذهول المرجع

تجتاز الفجاج السود مخبولا شقيا

ما الذى سدد فى قلبك سكينا

وبعينيك سؤال أخرس الدمعة

وحزنا أبديا

تلك كانت أبيات فاروق شوشة التى افتتح بها علاء حديثه عن وطنه الضائع يوم أبعدوه عن مجلته لسبب لن يعرفه أبداً، تركت تجربة النفى هذه جرحاً لم يندمل يكفى أنه من بعدها لم يعد يشعر بالأمان.. أما يوم مات عبدالناصر فقد كان هناك فى المجر يعيش فى قرية صغيرة على شاطئ الدانوب ويعمل فى ترجمة رواية عنوانها "كن وفياً حتى الموت" فى ذات صباح دق مدير البيت العجوز باب غرفته ودفع فى وجهه جريدة إقليمية وصرخ ناصر كابوت.. كابوت وهى كلمة مجرية تعنى مات أو انتهى.. اندفع العجوز خارجاً وظل علاء بمفرده.. لم يعد يتذكر حرقة دموعه كل ما يتذكره أن حبالاً قوية كانت تربطه بالشاطئ قد قطعت.

وتستمر الرحلة هادئة مرة وصاخبة مرة أخرى ولكنها حقيقة فى كل المرات، إنها رحلة البحث عن الذاكرة ومطاردة خيط الزجاج الذى بدأ ينشرخ.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت فى جريدة الجيل 24 يناير 1999

الخميس، 5 يونيو 2014

رغم أنه عن خالد بن الوليد ورغم أن كاتبه هو العقاد

عبقرية خالد.. كتاب رقيق عن رجل قوى


لماذا كتب العقاد عبقرياته؟؟

أزعم أنه كتبها ليبرهن عن صحة مقولة آمن بها هى "إن الأمة لا تخلق البطل، البطل هو الذى يخلق الأمة". ومهما اختلفنا مع رأى العقاد فإن اختياره لأبطال عبقرياته سيظل دائمًا موضع ترحيب واتفاق.

ومن بين أبطال العقاد يبرز اسم خالد بن الوليد لأنه وببساطة الاختيار الصعب لقدرات العقاد، وذلك لأن العقاد وليس كغيره من الكتاب أنه رجل صاحب كبرياء يصل إلى حد الغطرسة، وكذلك خالد بن الوليد ليس كغيره من الصحابة إنه القوة والبراعة فى أعنف صورها.. فتأمل معى "قويا" مثل العقاد يكتب عن قوى مثل خالد.

الطبيعي أن يكتب العقاد عن خالد كلمات من صخور وبراكين وسيوف ودروع وزلازل.. إنهما العقاد وخالد قوى يكتب عن قوى.. ألم يكن خالد يقول دائمًا "إن ضرب أعناق الأعداء أشهى عنده من معانقة الحسان".

إنه خالد الذى لم يهزم فى معركة قط.. ثم إنه العقاد الذى ظل يبحث عن بطله حتى اهتدى إلى خالد.. إذن "الفخ" محكم وجاهز وما على العقاد من ذنب إن هو تدفق وانهمر "كجملود صخر حطه السيل من عل"، ولكنه ببصيرة نيره نجا من فخ "القوة" واختار أن يكون هادئًا مثل جدول ماء ومتأملاً مثل شيخ بدوى ورقيقاً مثل فراشة، فراح يرسم بإشفاق "نكبة" آل مخزوم أسرة خالد.

فهذه الأسرة التى اجتمع لها مجد الدنيا دفعت ثمنه كاملاً من لحم أولادها وأكبادهم يقول العقاد: "إن هذه الأسرة الكريمة تكثر فيها عوارض الاختلاف عن جملة الناس فى تركيب الأعصاب خاصة ويشاهد فيها فرد وأفراد تتجمع فيهم عللها حتى تسلمهم إلى الاختلال والاضطراب كأنهم ضحايا الأسرة كلها فى سبيل إنجاب العبقرية منها".

ويضيف العقاد إن الوليد بن الوليد شقيق خالد كان يروع فى منامه وأن خالداً نفسه كان مصاباً بذات الداء وأن عمارة بين الوليد كان مولعاً بالنساء فضلاً عن كبريائه الشديد لدرجة أنه لم يعلن إسلامه وهو أسير بين يدى الرسول بعد موقعة بدر وأعلنه وهو محاط بمشركى قريش بعد فك أسره، ولما سئل عن ذلك قال "كرهت أن يقال أنى جزعت من الإسار"!!

ويقال إن خالد فقد أربعين ولداً له فى طاعون أصاب الشام "هل هناك نكبات أشد من ذلك".

ثم يمضي العقاد متأملاً حياة خالد حتى يصل إلى الفصل الأصعب فيها "عزل خالد" وتخيلوا معى خالد بن الوليد الذى ما جاء إلى الدنيا إلا ليكون قائداً وفجأة يصدر أمر من عمر بن الخطاب يحول إلى مجرد "عسكرى"، بعد أن صدر قرار الإقالة توجه خالد إلى المدينة المنورة وعندما قابل عمر قال له كلمة واحدة "لقد شكوتك إلى المسلمين وبالله إنك فى أمرى غير مجمل يا عمر". قال هذه الكلمة وعاد إلى ميدان القتال مجرد جندى يؤتمر فيطيع.

لم يكن هناك أصعب من خالد أما فى هذا الموقف "الكارثة" فلم يكن هناك من هو أسهل منه، وكذا كان العقاد صعباً أما فى عبقرية خالد فليس هناك أحلى وأسهل منه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت فى جريدة الجيل 24 يناير 1999

الاثنين، 2 يونيو 2014

علمه فأحسن تعليمه

مذكرات الفاجومى.. الشارع الذى علم عم نجم وعلمنا




مرة كنت مدعو لأكلة عدس سيكا عند أحمد فؤاد نجم مضى الوقت ولم يأت العدس السيكا ولا النهاوند، ولكى لا أرجع بخفى حنين قلت أجرى حواراً مع أبو النجوم، الحقيقة لم أسأله إلا سؤالاً واحداً وهم "عم أحمد ما هى مصادر ثقافتك"، بعيد عنك أنا سألته السؤال من هنا وكأن ألف عفريت ركبوا دماغه لقيت رجله مدفوسة فى صدرى وهب مسك زمارة رقبتى وهو يصرخ: "مصادر.. وكمان ثقافتك إيه عايزنى أموت قتيل.. مصادر ثقافتك.. أنت حد مسلطك عليا والله العظيم خسارة فى بدنك العدس السيكا اللى كنت هتطفحه خلاص غور من وشى.. وأنا اللى استاهل أنى بعرف واحد يقولى وفى وشى مصادر ثقافتك".

فين وفين لحد ما هدى عم أحمد ورجعت أنا للسؤال مرة ثانية ولكن بصيغة.. يا عم أحمد أنا قصدى مين اللى علمك.. رد على أهو كدا اتعدل وخلى كلامك موزون.. شوف يا سيدى بعد ما توحد الله وتصلى على سيد الخلق نبينا الكريم.. أنا اللى علمنى وربانى وعرفنى رأسى من رجلى هو الشارع.. أول ما سمعت كلمة "الشارع" قلت الراجل رجع للهلوسة تانى يا عم أحمد شارع إيه بس اللى علمك طيب ما أنا طول النهار فى الشارع ومع ذلك ما تعلمتش منه غير الشتيمة.

مرة تانية رجعت العفاريت ترقص فى عينى عم أحمد يا بنى أنت ناوى تقتلنى شوف لآخر مرة هجاوب على سؤالك الشارع هو اللى علمنى هو وبس ومش ذنبى أن فيه حمير زيك الشارع مرضيش يعلمهم لأنهم ما بيسمعوش كلامه.

خرجت من بيت عم نجم صفر اليدين فلا عدساً أكلت ولا إجابة مقنعة سمعت.. ومرت سنوات تشاجرت فيها مع نجم ألف مرة وصالحته ألف مرة ولعنت جدوده ألف مرة وقبلت تراب قصائده ألف مرة وأنا بعد غير مقتنع بإجابته "الشارع بس هو اللى علمنى،" حتى جاء يوم الخميس 17/5/1993 وفيه اشتريت كتاب "مذكرات الشاعر أحمد فؤاد نجم الفاجومى" ساعة واحدة كانت كافية لقراءة الكتاب ومع الورقة الأخيرة منه ابتسمت فى خجل وأنا أهمهم فعلاً أنا حمار وعم نجم كان على حق لما قال لى الشارع بس هو اللى علمنى، ولكى لا أظهر أمام نفسى بمظهر "الحمار قوى" أحكمت وضع النظارة فوق أرنبة أنفى وقلت عموماً الشارع الذى علم نجم ليس هو الشارع الذى أعيش فيه الآن.

الحقيقة أنا لا أعرف سبباً واحداً يقف وراء تسمية نجم لسيرته الذاتية بالمذكرات، وأغلب ظنى أنه فعل ذلك نكاية فى كل الكذبة من أصحاب الذكريات والمذكرات وكأنه يريد أن يقول لهم هكذا تكون المذكرات وإلا فلا – أول صفحة من مذكرات نجم كتب فيها "الفاجومى" تاريخ حياة مواطن شايل فى قلبه وطن" أما الإهداء فهو قصة وقمة بلاغة الشاعر، كتب نجم "إلى بناتى عفاف ونوارة وزينب يمكن ما تلاقوش فى حياة أبوكو شىء تتعاجبوا بيه ولكن أكيد مش هتلاقوا فى حياة أبوكو شىء تخجلوا منه".. الله على الشارع الذى علم نجم فأحسن تعليمه.

بعد الإهداء يحكى نجم كل مشوار حياته فى قصيدة قصيرة قال فيها:

زى النهاردة من زمان من كام سنة

مافيش لزوم للعد أو للحسبة

أصل الحكاية عد عمرك يا جحا

قال يوم فلس وخمس ستة عكننة

فلس فلس يحيا الفلس والجدعنة

زى النهاردة الست "هانم" 

حزقت وقالت بالقليل يا دهوتى

واتجمعوا نسوان حارتنا

يسمعوا صرخة قدومى ويستباركوا بطلعتى

قلة عقول طبعاً وحركات نسونة

لأ والمصيبة إن الجماعة ماشورونيش

ولا حد قال لى إن كنت آجى أو ما أجيش

قال ليه وليه بابا ناغش والدتى

قام شىء حصل بعد المناغشة ما يتحكيش

ولابن العرب فى الشىء دا فن وحرفنة

ليلتها كان الحظ آخر نغنشة

وكلمتين فى ضحكتين بعد العشا

كان القدر جاهز مجهز خبطته

خبط عبط شوفوا العجينة المدهشة

سنين عذاب تمعمها لحظة سلطنة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة الجيل 24 يناير 1999