الخميس، 30 أكتوبر 2014

مقتل الأمل





يشطح بى الخيال هروبا من واقع جهنمى بخيل وحارق، فأضع نفسى فى منزلة قاضى القضاة، وهو قاضى قضاة غير هذا الذى نشاهده فى المسلسلات التاريخية، إنه صاحب قدرات كونية خارقة، كأنه خارج لتوه من فيلم من أفلام الخيال العلمى، غاية فى الحسم، له معاونون كأنهم زبانية جهنم.

هذا القاضى، الذى سأكونه، سيترك كل القضايا، ولن يعمل إلا على قضية واحدة سيكون لها اسم قد يضحك البعض من فرط غرابته «مقتل الأمل»، ولن يكون فيها إلا متهم واحد اسمه محمد حسنى مبارك.

سأترك كل مصائب وكوارث مبارك وهزائمه وبلادة عهده وتخاذله وكل الفقر والجهل والمرض والموت الذى نثره فوق أدمغتنا، ولن أحاكمه إلا عن قتله الأمل.

كان مبارك قد رأى بعينيه غضبة الشعب على السادات فى يناير 1977، ولذا فقد «فهم الفولة» بتعبير أبناء البلد ووعى الدرس جيدا، درس أن يسمع وينفذ ويأخذ قرارات صارمة، درس أن يصادر المعارضة ويخنقها، لقد صنع الرجل بعبقرية شريرة مثالا يحتذى فى خلط كل الأوراق، بحيث لا يهتدى أحد إلى ما يحدث فى البلاد من شر أو حتى خير، جميعا كنا ندخل نفق التخمينات المظلم بطبعه أمام كل قرار يتخذه مبارك.

لقد حكمنا مبارك بطريقة رخوة شبهها بعضهم بطريقة كلام الممثل الكوميدى، الذى لم يكن يعطى قولا فصلا فى أى أمر يعرض عليه، مكتفيا بأن يرد على أى كلام يسمعه أو موقف يعايشه بجملة: «وماله يا خويا».

وهى جملة تختصر حكم مبارك كله، وتصلح لأن تكون عنوانا له.

ومن تلك النقطة انطلق الرجل ليحكم ثلاثين عاما عجفاء لم تثمر سوى خراب مدهون بطبقات من شعارات وضيعة عن الاستقرار وزيادة معدلات التنمية، وتشجيع الاستثمار وحفظ الأمن القومى للبلاد.

نقطة الانطلاق ارتكزت على فهم يبدو عميقا بضرورة قتل الأمل ودفنه تحت سابع أرض، وما كان لمبارك ورجالات عهده أن يصوبوا على الأمل إلا من خلال اتباع منهج مرعب فى ترك كل متحدث أو كاتب يتحدث كما شاء له الهوى، ويكتب ما يريده حتى لو كان ضد مبارك شخصيا، فإن جنح المتحدث أو الكاتب عوقب عقابا يعد هينا قياسا على عقوبات التصفية الجسدية، التى يعتمدها حكام عرب آخرون.

ثم يتم قتل الأمل من خلال تجاهل كل حديث وأى كتابة، القتل بالتجاهل أو الصمت، فمن شاء أن يكتب فليكتب، ومن شاء أن يعارض فليعارض، ومن شاء أن يتظاهر فليتظاهر، ثم يقوم النظام البليد بدفن كل ذلك ودهسه تحت أقدام التجاهل التام، وهو الأمر الذى كان يؤدى إلى تيقن الجميع من عبثية النفخ فى قربة مقطوعة، وأن لا أمل فى أن يحدث شىء، أى شىء سوى بقاء مبارك السرمدى، ثم توريث ابنه متى حان موعد رحيل الأب عن الدنيا.

هذه الحالة من فقدان الأمل أوصلتنا جميعا إلى ما نحن فيه الآن، لا أعنى حالة الخراب والتخريب فحسب، بل حالة تكذيب الأمل، معظمنا لم يعد يصدق أن الحياة جميعها ليست سوى حفنة من الآمال. أحد أصدقائى ذهب على نفقته الشخصية إلى موقع حفر القناة الجديدة، وتكبد ما هو فوق العناء لكى يرى بعينيه ما يجرى على الأرض، وعندما عاد سالما، سألته عن مشاهداته فقال مغمغما جملة لافتة: «ربنا يستر».

وعندما تعجبت من جملته التى لا علاقة لها بسؤالى، قال: «هل من المعقول أن نحفر نحن قناة كهذه التى رأيت آلات الحفر تعمل بها؟».

صديقى رأى وكذّب عينيه، وتلكم مصيبة من مصائب مبارك، التى لم نشف منها حتى اللحظة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير في20 أغسطس 2014

الاثنين، 27 أكتوبر 2014

السيسي ومشروعه






لم أصوِّت لصالح السيسى وأعلنت مبكرًا جدًّا وقوفى مع منافسه حمدين صباحى، وأحسبنى أقف عن يسار السيسى، لا عن يمينه، ولكننى شأن كل أولاد البلد تركت كل شىء يشغلنى ووقفت (أعنى وقفت تمامًا) أمام شاشة التليفزيون لكى أتابع بأصفى نقطة فى دمى تدشين مشروع قناة السويس الجديدة، هذا التليفزيون الذى لا أحبه صباحًا، كان لامعًا ومتألقًا، قدماى اللتان تؤلماننى عندما أقف طويلًا لم تشعرا بأدنى درجة من الألم، عاد حماسى متدفقًا، والرجل يقسم بأنه جاد وبأن حلم المصريين فى قناة عملاقة عصرية سيتحقق، من نعمه تعالى علىّ أن منحنى أنفًا تشم الكذب والكذابين، الرجل لم يكن يكذب ولا يداهن ولا يتملق مشاعر شعب متعب مرهق، لم يعد له من زاد سوى الحلم والأمل، وجه الرجل كان مريحًا ونبرات صوته كانت واثقة تؤكد صدقه وعزمه الأكيد على المضى قدمًا فى إتمام مشروعه، رغم أنوف وأنوف، عندما أقسم السيسى إن المشروع سيتم بعون الله وفضله كان يعلم، بل كان يرد على أكاذيب عصابة حسن البنا، التى ملأت بها سماء فضائيات عدوَّة، قالت العصابة: إن المشروع هو مشروع فاشلهم مرسى.


لقد أدمنوا الكذب والتخريب، فلا جديد لديهم يقدمونه سوى مجموعات منتقاة من الأكاذيب القديمة التى يلبسونها فى كل مرة ثوبًا جديدًا حتى تبدو للمتعجل كأنها بنت لحظتها.

كان السيسى يرد بقسمه على هؤلاء المراهقين الذين زعموا أن آلات الحفر العملاقة ما هى إلا ديكور من ديكورات السينما، وما إن ينصرف حضور الحفل حتى تعود الديكورات إلى مخازنها.

عصابة البنا لن ننتظر منها خيرًا، أى خير، ولكن العتب جائز ومشروع فى حق هؤلاء الذين لا يرون أبعد من أطراف أنوفهم، والذين وقعوا صرعى لخصومة أو منافسة سياسية حتى سولت لهم أنفسهم أن كل خير سيأتى على يدى السيسى ما هو إلا شر مقنّع، ولقد أحسن حمدين صباحى عندما قطع الطريق عليهم وأصدر بيانًا يشع وطنية وشهامة بارك فيه المشروع ودعا فيه كل المصريين إلى المساهمة فى إنجاحه.


بيان حمدين وغيره من بيانات القوى الوطنية المخلصة لم تجد التجاوب اللازم من كل وسائل الإعلام، التى يحق للسيسى أن يشكو منها، وذلك لأن الإعلام الآن تتحكم فيه أيادٍ معدودة، يد لا ترى سوى مصلحتها الضيقة جدًّا والخاصة جدًّا ولا تتحرك بالمساندة والترويج إلا إذا كانت ضامنة أن الثمرة ساقطة فى جيبها هى على وجه الحصر، ويد سقطت بحكم الظروف المحيطة أو بحكم هشاشة مقاومتها فى جُب الكآبة والإحباط والرؤية من خلال نظارات سوداء، تطبع سوادها وقتامتها على كل تفاصيل المشهد، وهؤلاء يجب عليهم أن يساندوا أنفسهم أولا قبل أن نطالبهم بأن يساندوا مشروعا عملاقا مثل مشروع قناة السويس، واليد الأخيرة التى تتحكم فى ما يبثه الإعلام، هى يد مداهنة منافقة تساند كل عصر وتروج لكل مشروع ما دام مرتبطا باسم الرئيس، أى رئيس، وهؤلاء مساندتهم هى فى حد ذاتها عبء على مشروع وطنى كهذا الذى نتحدث عنه.

السيسى لا يحتاج الآن إلا لأصحاب المشروع الحقيقيين، وهم جموع الشعب المصرى، الذى برهن سابقًا ويبرهن دائمًا على أنه متى رأى صدق قائده اندفع بكل قواه الحية لكى يسانده ويدعمه ويحميه من كل شر، دائمًا الكرة بين قدمى السيسى ولا ننتظر منه سوى الانحياز الكامل للشعب، بعيدًا عن جماعات المنتفعين المغرضين.

اليأس ليس عارًا فحسب، بل هو خيانة كاملة تامة غير منقوصة، سينجز المصريون، بفضل الله، مشروعهم وسينعم الشعب ببركة ثورته التى ستسجل انتصارها الحاسم، شاء من شاء، وأبى من أبى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحريرفي 13 أغسطس 2014

الخميس، 16 أكتوبر 2014

خالد السرجانى




فى مطلع التسعينيات عرفت قدماى الطريق إلى مقهى «الندوة الثقافية» بوسط البلد، أتوجه إليه عصر كل يوم، أيامها كنت أشعر بسعادة غامرة لو توفر كوب شاى ورواية جيدة. على مقربة منى كان يجلس شاب يميل إلى الشقرة، يمضغ علكة، ويتحدث عن الجزائر، كنت أتركه يتحدث، وأتفرغ لالتهام الرواية التى تقع بين يدى، عصر أحد الأيام مر بنا بائع كتب قديمة، كان يحمل نسخة فريدة من كتاب «البداية والنهاية» للإمام ابن كثير، حاولت شراء الكتاب منه، لكنه غالَى كثيرا فى ثمنه، جلست متحسرا على فرصة ضاعت، وعدت لإكمال قراءة الرواية، عصر اليوم الثانى جاءنى الجرسون بشنطة بلاستيكية، وقال إن الأستاذ خالد السرجانى تركها لى، فتحت الشنطة فوجدت أربعة مجلدات هى النص الكامل لكتاب «البداية والنهاية»، سألت الجرسون: «من يكون خالد السرجانى؟».


راح الجرسون يصفه لى حتى تأكدت أنه نفس الشاب الأميل إلى الشقرة، الذى لا يتحدث سوى عن الجزائر.

تعجبت من الهدية وصاحبها، الذى يهدى كتابا نفيسا لواحد لا يعرف اسمه.


ظللت أنتظر مجىء خالد، وعندما جاء شكرته، فضحك قائلا: «إنك لم ترَ علامات الحسرة على وجهك بعد أن غالَى البائع فى ثمن الكتاب».

تواصل بيننا الحديث الذى سيستمر ويتواصل على مدار أكثر من عشرين سنة، وستكون الكتب هى العلامة الأكيدة على تقاربنا ومتانة علاقتنا.


رغم دلالة العطاء فى ما سبق، فإن علاقتنا ظلت محصورة فى تبادل الكتب والكلام العام، الذى لا يكشف خبايا الشخصية، حتى جاء يوم ألقى فيه شويعر على أسماعنا قصيدة غاية فى الركاكة والبذاءة معا فى هجاء الإمام الحسين بن على، يومها كنا جماعة من الذين يعرفون الشويعر جيدا، ويحبذون الاشتباك به بالأيدى تجنبا لضياع الوقت فى مناقشته، بسرعة قرأ خالد السرجانى -وكان يجلس معنا- ما يجول فى خاطرنا، فوبخ الشويعر بأقسى لفظ ممكن، وقام بطرده من المجلس، مما حال بيننا وبين الاشتباك معه، وعندما هدأنا أظهر بعضنا اندهاشه من سلوك خالد، الذى ظننا أن الأمر لا يعنيه، يومها قال خالد كلاما سيكشف به عن أعماق شخصيته، وذلك عندما تحدث طويلا عن كون الإسلام وتفرعاته من أحداث أو شخصيات ليس دين غالبية الأمة فحسب، بل هو فى جوهره يمثل ثقافة الأمة، وعلى كل أفراد الأمة أيا كانت توجهاتهم الاشتباك مع ثقافتهم، لكن من خندق وموقع الاحترام، وليس السب والشتم والتطاول دون مبرر.


لحظتها عدت أرى خالد بعين جديدة، وتأكدت أن رطانة ومراهقة اليساريين لم تصب قلبه بأى اعوجاج أو عمى بصيرة، وقد تصادف أن العالم الجليل الراحل عبد العظيم أنيس، وهو من هو بين اليساريين، قد خصص بضعة مقالات مطولة لشرح وترويج المعنى ذاته، الذى قصده خالد فى شأن احترام ثقافة الأمة ومفرداتها.

هاتان الخصلتان، أعنى القدرة على العطاء، واحترام الآخر أيا كان معتقده ستجعلان من خالد السرجانى شخصية فريدة بين جموع الصحفيين والكتاب، تلك الفرادة التى ستتواصل معه، وتكون عنوانا عليه حتى مفارقة رحيله المفاجئ بعد ساعات من زفافه، إن تلك المفارقة قد دعتنى إلى أن أتأمل حكمة الرحيل فى هذا التوقيت على وجه التحديد.



لعلنى لا أتجاوز حدودى، عندما أقول إن رحيل السرجانى بالطريقة التى رحل بها رققت قلوب حتى الذين لا يعرفونه شخصيا، والذين جعلوا من مواقع التواصل الاجتماعى مساحة للدعاء له بالرحمة والمغفرة، وهو الأمر الذى يثبت أن النظفاء والودعاء وأصحاب العطاء سيجدون دائما من يحفظ لهم قدرهم فى حياتهم أو بعد مماتهم.
ـــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحريرفي 10 سبتمبر 2014
لينك المقال:

الخميس، 9 أكتوبر 2014

نشاز البيانو وبلادة الحياة




قالوا إن مبشرا أوروبيا قد ترك مدينته الأوروبية الراقية فى بدايات القرن الماضى، وتوجه إلى قلب إفريقيا، حيث الغابات البكر والأحراش المتوحشة، وحيث لا شىء يذكره بمدينته المتحضرة، ذهب الرجل إلى الأفارقة بعزم من حديد وبهمة عالية وبمحبة دافقة للمسيحية قد ملكت عليه كل قلبه ومشاعره، الرجل يريد الدعوة لدين المسيح بين قوم لم يسمعوا أصلا بكلمة دين، أو لهم دينهم الخاص الذى يتناقض كلية مع معتقدات المبشر الأوروبى، ورغم تلك القطيعة العقدية والفجوة الحضارية، فقد أحسن الأفارقة استقباله لعل وعسى يكون معه ما يفيدهم فى دنياهم، أقاموا له مأدبة استقبال إفريقية، أسكرته بتفردها وتميز مذاقها، ثم بعد أن هدأت حرارة الاستقبال طالبوه بأن يجعل على عينيه عصابة، فوقع فى قلب المبشر أنهم لا شك قد سمنوه لكى يأكلوه، فرفض أن يضع عصابة على عينيه، فقام كبير القوم ووضع العصابة على عينىّ الأوروبى غصبا، ومرت دقائق نزف خلالها الأوروبى حياته جميعا، وهو ينتظر طحن عظامه تحت أضراس الأفارقة المتوحشين، بعد قليل رفعوا العصابة عن عينيه ليجد أمامه ستارة سوداء، طالبوه بأن يزيحها، فأزاحها بيد مرتعشة ليجد نفسه أمام مشهد حياته، لقد جلب له الأفارقة آلة بيانو، لكى يبددوا وحشته.


عجز لسانه عن شكرهم، لكنه شكرهم بقلبه، واستغفر ربه على سوء ظنه بهم، ثم جلس إلى البيانو، لكى يعزف لهم لحن شكره وتقديره، وما إن لمس مفاتيح البيانو، حتى انبعث منه نغمة نشاز يكاد نشازها يصم الآذان، تأفف الرجل من نشاز البيانو، وأرجعه إلى تلف المفاتيح والأوتار بحكم عدم الاهتمام الإفريقى بآلة لها خصائصها المتميزة. ثم مرت أيام تلتها أسابيع، والرجل عاكف على التبشير والعزف، حتى ارتاحت أذنه إلى نغمات البيانو ورضيت ذائقته بجودة العزف، ولم يعد يشتكى من التلف الذى أصاب الآلة، ثم مرت شهور، وجاءت أسرته من مدينته الأوروبية لكى تزوره وتطمئن عليه، وتمكث لديه عدة أيام. قام الرجل بتجهيز استقبال إفريقى لأسرته أسكرهم ثم باغتهم بوجود بيانو فى قلب الغابة، طالبته الأسرة بأن يعزف لهم شيئا من محفوظاته الموسيقية، فلبى الطلب سعيدا متفاخرا بالبيانو الحبيب الذى طالما بدد وحشته، وما إن جلس إليه وعزف مقدمة لحن، حتى صاحت الأسرة متأففة: «ما كل هذا النشاز؟».


يقول رواة القصة إن الأسرة الأوروبية ظلت لساعات تصف نغمات البيانو بالنشاز، لكن بمرور الأيام وبإصرار رب الأسرة على مواصلة العزف ارتاحت آذانهم للعزف، وأصبحوا مثل رجلهم مفتونين بالبيانو الحبيب، الذى يبدد وحشتهم وأضاء ظلمة الغابة.


الذى يرزقه الله نعمة التأمل سيجد حالنا مطابقا لحال تلك الأسرة الأوروبية، فقد بدأنا كارهين الحرب أى حرب وخائفين من إراقة الدماء، أى دماء، هل تذكر كيف كنا نرتعش غضبا من طواغيت مثل بن على ومبارك وعلى صالح وبشار الأسد ومعمر القذافى وهم يريقون دماء شعوبهم؟


هل تذكر مظاهراتنا الغاضبة التى كنا نحاصر بها سفارات هؤلاء الطغاة لكى يرسل لهم رسالة رفضنا لجنون حكمهم وتوحش سياساتهم؟


هل تذكر كم فرحنا وكيف حلقنا فى سماوات الأمل عندما استطعنا بلحمنا العارى إزاحة بعضهم من فوق عرش الحكم؟


حتى بشار الأسد بواقع بلاده الملتبس والمختلف لم نهادنه يوما، ولم نعلن يوما معارضتنا لثورة شعبه عندما كانت سلمية عافية ممتلئة بالغضب النبيل واعية لغد أجمل وأفضل، لكن جرت فى النهر مياه كثيرة، فأصبح القتل على المشاع، ولم يعد مقتول يدرى مَنْ قاتله ولمَ قتله، فلم تعد تعصف بنا مشاهد القتل التى تحاصرنا أينما ولينا وجوهنا، بالجملة لم نعد نشعر بنشاز البيانو ولا ببلادة الحياة.
ـــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير في 8 يونيو 2014
لينك المقال:

الخميس، 2 أكتوبر 2014

الأذى بالقرآن





لى جار تلقى تعليمًا جيدًا مكنه من الترقى فى سلم وظيفته المرموقة، جارى هذا رجل مهذب وسيم الملامح خفيض الصوت، نظيف الملبس، لم أعهده صاخبًا أو بذيئًا أو عدوانيًّا، شاء الله أن يبتلى طفله الصغير بمتاعب صحية تجعله يبكى دون سبب مفهوم ليل نهار، كل ما سبق من مواصفات وصفات جارى تجعله يقينًا يهرع إلى أكابر الأطباء لكى يتلقى ابنه علاجًا شافيًا، ولكن خاب ظنى أو دلالات المواصفات والصفات، وذلك عندما انغمس جارى فى بئر بلا قرار اسمها الذهاب إلى الشيخ فلان والشيخ علان والشيخ ترتان.

كمية خرافية من المشايخ أو بالأحرى من مدعى المشيخة، أنفق عليهم الرجل المسكين المهذب الرقيق معظم ماله.

ونظرًا لأن لكل شيخ طريقة فقد تعقدت حالة الطفل وساءت جدًّا، حتى أصبح الصغير الذى كنت أراه عودًا أخضر يبشر بالخير شيئًا أقرب إلى أشباح سينما الرعب.

رأيت أن واجب الجيرة يحتم علىّ تقديم نصيحة ربما يكون فيها الشفاء للطفل الصغير.

بألطف تعبير وبأرق جملة خاطبت جارى فى حتمية الذهاب إلى طبيب، وعرضت عليه قائمة أطباء كبار وتعهدت بضمان رعاية فائقة للصغير العزيز.

بأدبه المعهود استمع لى جارى حتى فرغت من كلامى، ثم نظر إلى نظرة مرعبة، كانت نظرته تقذفنى بالكفر الصريح الذى لا يأتيه الإيمان من بين يديه ولا من خلفه.

استبشعت نظرته فسألته عن معناها (كأن معناها خاف علىّ) بصوته ذى النبرة الخفيضة قال كلامًا كثيرًا يمكن تلخيصه فى أن قراءتى لبعض الكتب (قالها غامزًا) ثم معرفتى ومصاحبتى لفلان وفلان (ذكرهم بالاسم) قد طبعت على قلبى بصمات الاستهانة ببركة القرآن الكريم كتاب الله المقدس.

أدركت فى لحظة تعقل (نادرًا ما أتحلى بها) أن أى دفاع عن نفسى لن تكون عواقبه حميدة، فتركت له نهر الكلام يعكره كما شاء له هواه وعقله أو قلبه وشيطانه.

واصل الرجل المسكين كلامه فقال إن بالقرآن كنوزا تخفى على أمثالى الذين ضربت العلمانية الغربية معاقل إيمانهم فى مقتل، فعاشوا يرطنون بكلام لا معنى له ولا يسمن ولا يغنى من جوع، ولن يستقيم حالهم (يقصدنى طبعًا) إلا إذا أعلنوا بكل قلوبهم بأن القرآن هو أبو العلاج وأمه، وأنه يستطيع علاج كل داء، وأن الطب الذى نتشدق بفوائده ما هو إلا دجل دجالين وتمتمة سحرة.

قطع دخول زوجته بمشروب الضيافة تدفق حديثه، فرأى أن دخولها مناسب لكى يستشهد بها على صدق كلامه، وسألها عن خالتها التى كادت تكون قعيدة حتى رزقها الله بالشيخ فلان الذى رتل على ركبتيها أواخر سورة «الرعد»، فقامت من بين يديه تجرى كما لو كانت شابة فى العشرين من عمرها.

ضاق صدرى وانقبض قلبى بما أسمع من شهادات هى إلى الخرافات أقرب، ضقت بشهادات تنزل القرآن العظيم، كتاب الهدى والقداسة والنورانية منزلة دون منزلته، فعرضت على جارى لكى يرتاح ضميرى أن نجرب ولو مرة واحدة الجلوس مع طبيب، فإن أفلح فهذا ما نبغى وإن فشل نذهب إلى غيره أو نزاوج بين الطريقتين، طريقة مشايخه وطريقة أطبائى.

هنا احتد صوته للمرة الأولى وقال: كيف أخلط سمًّا بعسل؟ ابنى سيشفيه رب الشفاء على أيدى ناس أؤمن بكرامتهم.

غادرت بيته غير مصدق لما سمعت، وقد تملكتنى الحيرة من أمره فلو كان من هؤلاء الذين يعميهم التطرف لكان الأمر مفهومًا، إنه مواطن عادى مثلى ومثلك يعمل ويجتهد فى عمله، لكنه ساعة الجد يركل عقله ويؤذى نفسه وطفله من حيث يريد الشفاء.

من الواضح أن شوط الوصول إلى بر الإيمان الحق بعيد جدًا وملىء بالمصاعب.
ــــــــــــــــــــــــــــ
نشر بجريدة التحرير في 30 يوليو 2014