الخميس، 29 ديسمبر 2022

محمود حسن إسماعيل الشاعر المحاصر (2ـ 3)



في الجزء الأول من هذا المقال تعرفنا على طفولة وبواكير شباب شاعرنا الكبير محمود حسن إسماعيل وفي هذه الحلقة نقدم المزيد الكاشف عن جوانب عبقرية الرجل.

في النصف الأول من الخمسينيات، تربع إسماعيل على عرش الشعر العربي في مصر، وتعلم على يديه كل الذين أصبحوا الآن أساتذة. 

من بين هؤلاء الشاعر الراحل محمد عفيفي مطر الذي لم يكن يترك فرصة للإشادة بإسماعيل إلا وفعل، حتى أنه تجرأ مرة ووصف مكانة إسماعيل بالمكانة المقدسة.

 أما الرائد الكبير صلاح عبد الصبور فقال صراحة: "أما فتنتي فكانت بمحمود حسن إسماعيل".

 في حين ذهب أحمد عبد المعطي حجازي إلى ما هو أعمق من الفتنة، فقال عن شاعرنا: "لقد فتنت بشعر محمود حسن إسماعيل منذ أخذت أقرأه في آخر الأربعينيات وأول الخمسينيات، فأدمنت قراءته حتى شكل خياله خيالي، وطبعت لغته لغتي، وبدت قصائدي الأولى وكأنها تنويعات على شعره، وأنا بذلك معتز مغتبط، أتحين فرصة تتيح لي أن ألقاه لأعبر له عن إعجابي وانتمائي لعالمه".

بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة وفاروق شوشة وغيرهم من أكابر الشعراء تحدثوا أكثر من مرة عن تأثير محمود حسن إسماعيل على الساحة الشعرية العربية.

إذن فمكانة الرجل محفوظة ومكانه لا يستباح، وقد أحسن ثوار يوليو 1952 عندما أسندوا إليه مهمة مراجعة نصوص كلمات الأغاني، وكان يساعده في ذلك الشاعر الشهير أحمد رامي والشاعر الشاب وقتئذ فاروق شوشة. إلا أن المغالبة التي هي قدر إسماعيل سبقته إلى مبنى الإذاعة.

كان إسماعيل مدققًا وصاحب ذائقة متفردة، ولأنه كان حريصًا كل الحرص على استقامة المعنى وسمو الأغنية، فقد كان يرفض أكثرية ما يعرض عليه، وهنا تحركت نوازع "لقمة العيش" عند مؤلفي الأغاني فشنوا عليه حملة شعواء قادها أحد فرسان الأغنية العربية المعاصرة، وأعني الأستاذ مرسي جميل عزيز الذي كتب مقالًا شديد الحدة ضد إسماعيل ونشرته مجلة "صباح الخير" عام 1956 تحت عنوان لافت جدًا هو "مطلوب بوليس النجدة لإنقاذ الأغاني من هذا الرجل".

قال مرسي في مقاله: "هناك جنايةٌ فعلا.. هناك السيد محمود حسن إسماعيل وبطانته في لجنة النصوص مهمتها تقطيع أوصال الفن الغنائي وحرق أعصاب المؤلفين المساكين، وقتل ثقتهم بأنفسهم.. لجنة تحيي وتميت، وتعدل وتبدل في الأغاني كما يطيب لها الهوى، وتصدر أحكامًا كأحكام الآلهة لا رجعة فيها ولا تفاهم، النجدة، النجدة، أنقذوا الفن الغنائي من مكارثية محمود حسن إسماعيل ولجانه، أما أنا فأقولها صريحة: إنني أكره هذا الرجل.. أكرهه لأني أحب فن الغناء".

لم تتوقف المعركة بمقال مرسي جميل عزيز  بل زاد لهيبها، فقد نشر كثيرون بيانًا جاء فيه: "نحن إزاء هذا الحق الذى كفله لنا القانون وإزاء التعديل والتحوير بل التشويه الذى يتكرر من الأستاذ محمود حسن إسماعيل، والذى يقع كل يوم على أغانينا لا يسعنا بعد اليوم إلا أن نضم صوتنا إلى صوت زميلنا الأستاذ مرسى جميل عزيز"ز

وكان من بين الموقعين الشعراء فتحي قورة وإمام الصفطاوى، وكمال منصور، وصلاح عبد الصبور الذي كان يكتب الأغاني في ذلك الوقت.


وفي ظني أن محمود حسن إسماعيل لم يكن يتجنى على فرسان الأغنية، القصة أن سقف ذائقته كان عاليًا جدًا، فقد كانت المسطرة في زمنه هي أشعار إبراهيم ناجي وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم، ورامي وأبو الوفا ومطران وجبران وأبو ماضي وغيرهم من فحول الشعراء الذين كانوا يبدعون قصائدهم لتثري الغناء العربي.

الأمر إذن لم يكن أمر صلابة أو (عناد) صعيدي أمام هجوم شرس، بل كان أمر ذائقة تحرص على التجويد والإتقان. وبتلك الذائقة نجا إسماعيل من نيران تلك المعركة، وظل يواصل تقديم منجزه الشعري الذي أحصاه الباحث الكبير الدكتور محمد السيد الدغيم فوجده أربعة عشر ديوانًا (نشر بعضها بعد رحيله):

الديوان الأول: أغاني الكوخ 1935

الديوان الثاني: هكذا أغني 1937

الديوان الثالث: المـــلك 1946

الديوان الرابع: أين المفر 1947

الديوان الخامس: نار وأصفاد 1959

الديوان السادس: قاب قوسين 1964

الديوان السابع: لابــــــــد 1966

الديوان الثامن: التائهون 1967

الديوان التاسع: صلاة ورفض 197

الديوان العاشر: هدير البرزخ 1972

الديوان الحادي عشر: نهر الحقيقة 1972

الديوان الثاني عشر: موسيقى من السر 1978

الديوان الثالث عشر: صوت من الله 1980

الديوان الرابع عشر: رياح المغيب نشرته دار سعاد الصباح لأول مرة عام 1993.



غربة ورحيل

ولأننا في مصر، التي أحيانًا ما تتجاهل أولادها البررة بناة حضارتها وصناع قواها الناعمة، فقد وصل إسماعيل إلى سن المعاش، وما أدراك بما يفعله المعاش مع رجل شريف طاهر اليد والجيب والثوب.

كان سن المعاش بالنسبة لإسماعيل يعني الانقطاع عن الدوام الحكومي، والبحث عن فرصة عمل خارج الديار. ليجد نفسه فجأة في الكويت الشقيقة التي أحسنت التعامل معه، فالكويت تعرف من هو محمود حسن إسماعيل، لكن رغم أي تكريم فالخروج من خضرة الحقول التي تربى عليها إسماعيل إلى صفرة الرمال، هو أقسى شيء على نفس شاعر مثله.

كانت الكويت كأنها المنفى الاختياري، لقد نبغ التلاميذ وأصبح عودهم صلبًا، لم يعد أحد يحتاج إلى توجيهات الأستاذ المعلم، ثم أصبحت الإذاعة مرتعًا لزمن الانفتاح الاقتصادي الذي كان شعاره أغنيات الريس بيرة وأحمد عدوية وكتكوت الأمير، ثم جاء طوفان أشرطة الكاسيت التي أصبحت دولة داخل الدولة.

والحال كما نرى فقد تراجع دور إسماعيل وخفت ذكره وشملته الغربة حتى قال القدر كلمته في الخامس والعشرين من أبريل من العام 1977.

عاد جثمانه ليدفن في بلاده كما أوصى، ثم وهذا عجيب، لقد مات إسماعيل حقًا، مات بالفعل، مات كأنه لم يكن الشاعر الفحل، ولكن كما تقسو مصر حينًا فإنها الأم الخالدة المحبة دائمًا، لقد وهبت لإسماعيل عبد الرحمن الأبنودي وأمل دنقل، وهما من أبر أولاده به، فنفخا في سيرته الحياة، فهب من قبره كأنه لم يغب ولو لساعة.. أما كيف كان ذلك، فموعدنا الأسبوع المقبل بإذن الله.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منشور بموقع أصوات 17 يونيو 2019

الخميس، 22 ديسمبر 2022

محمود حسن إسماعيل .. الشاعر المحاصر (1ـ3)



مع بدايات شهر يوليو  تكون قد مرت مائة وتسع سنوات على ميلاد الشاعر الكبير الأستاذ محمود حسن إسماعيل الذي يعد فحلًا من فحول الشعر والثقافة العربية، والراحل الكريم رغم ما قدمه للمكتبة العربية من كنوز، إلا أن المدقق سيلاحظ حصارًا مريبًا من التجاهل قد ضُرب حول اسمه وإنجازه.

كان الأستاذ محمود بحق هو عصامي الثقافة العربية، وقد تجاوزت عصاميته عصامية الأستاذ العقاد، حتى حق لنا أن نستعير من العميد طه حسين قوله عن صديقه الكبير أحمد أمين: "هذا الرجل أمره كله كان مغالبة"، ونضع هذا القول تاجًا على رأس شاعرنا الكبير، الذي كانت حياته كحياة أحمد أمين سلسلة متصلة من المعارك الملحمية، خاضها منذ ولد في الثاني من يوليو من العام 1910.

في ذكرى مئوية إسماعيل 2010 تبنت جريدة الشروق القاهرية الدعوة إلى إقامة احتفال عظيم يليق بالمناسبة ولكن لم يحتفل أحد، اللهم إلا كلية دار العلوم التي أقامت حفلًا بسيطًا، وقد أحسنت الشروق بنشرها مقتطفات من حديث قديم تحدث فيه الشاعر عن صباه، جاء فيه:

"ولدت في الثاني من يوليو من العام 1910 بقرية النخيلة، بمحافظة أسيوط، وكان للنخيلة من اسمها نصيب إذ يكثر فيها النخيل والبساتين المطلة على حافة نهر النيل من الجانب الغربى، ولم أولد فى بيت علم ولم أواجه فى طفولتى مكتبة تشكل ثقافة مبكرة تعيننى على أى معرفة، وأول ما سمعت من اللغة العربية لغة القرآن، وقد حفظته فى سن التاسعة، وأول ما سمعت من الشعر الأنغام الجنائزية التى كان يتصايح لها المنشدون أمام النعوش".


كيف والحال كما رأينا عرف إسماعيل الطريق إلى القراءة؟

يقول الباحث الكبير الدكتور محمد السيد الدغيم إن الشاعر قد قال: "عشت في قريتنا السنوات الأولى، ولم أكن في معظم الوقت مع أهلي في الكوخ بل كنت أعيش في الغيط على مشارف نهر النيل جنوب (أبوتيج) أشارك في العمل، أعزق الأرض، وأبذر الحب، أتابع البذرة منذ غرستها حتى الحصاد وتعلمت في الخص ودرست فيه وتقدمت إلى امتحان شهادة البكالوريا من الخارج، وحصلت عليها ثم رحلت إلى القاهرة لأدخل دار العلوم، كنت أقرأ في الخص الصحف وخاصة (البلاغ الأسبوعي) وكانت هذه الصحف تأتي إلى الباشا صاحب الضيعة المجاورة لحقلنا، وكان واحد يعمل عند الباشا اسمه فريد يذهب كل يوم إلى مكتب البريد لإحضار بريد الباشا وفيه الجرائد والمجلات، وكان فريد يمر بي فأتصفح بعض ما يحمل، وآخذ منه (البلاغ الأسبوعي) في يوم أو يومين قبل أن يصل الباشا، لم تكن لدي في الخص غير الكتب المدرسية، ولم أقرأ شعرا غير المحفوظات المقررة، ومن هذه المحفوظات بدأ رفضي لكل قول مكرر وتعبير زائف".



أي طفولة خشنة عاش شاعرنا تحت ظلالها ؟

الواقع الذي فرض نفسه على شاعرنا في طفولته وصباه وبدايات شبابه لم يكن يؤهله إلا لأن يكون كاتب أنفار في عزبة من عزب الإقطاعيين، ولكن بعضهم يولد وبين جوانحه قلب أسد وعزم من حديد وطموح للرقي والتقدم، من أولئك البعض كان شاعرنا، الذي رأيناه في الفقرة السابقة يواصل تعليمه من "منازلهم" حتى يحصد البكالوريا، وهى الاسم القديم للثانوية العامة، وتلكم كانت في ذاك الزمان شهادة دونها الرقاب.

هبط شاعرنا القاهرة في بدايات الثلاثينات، وكانت قاهرة زمانه عاصمة من عواصم الدنيا تموج بكل غريب وحديث، ويجثم احتلال بغيض فوق صدرها، تجاوز إسماعيل بطموحه كل العقبات والتحق بدار العلوم، وفيها سيقابل حظه الحسن، لقد التقى بأستاذه العلامة الدكتور مهدي علام.

سجل لنا الأديب عباس خضر هذا اللقاء الاستثنائي فقال: "التقى إسماعيل بالدكتور مهدى علام، الذى أنقذه من الضياع، واكتشف فيه موهبة غير عادية، وطاقة شعرية استثنائية، فشجعه، وقدمه إلى رفاقه فى الكلية، وهذه كانت بداية محمود حسن إسماعيل الأولى، عندما كتب رسالة فى 20 مارس 1934 إلى أستاذه، وتركها على مكتبه.

 ماذا تقول الرسالة؟

"أستاذى المحترم مهدى علام، هذه وريقات تحمل قصيدة من أدب دار العلوم المطمور الذى يشق طريقه إلى العقول فى صمت عميق أخشى أن يفنيه الضجيج من دعاة الشعر والأدب فى هذا البلد، أبعثها لكم لعلها تظفر فى عضدكم الأدبى المشهود به ظفر الزهرة الصديانة فى لهب الضحى بنسيم رفاء، فامنحوها إذا رضيتم عطفكم خمس دقائق فى زمن المدرج".

 ويوقع الشاعر: محمود حسن إسماعيل ثانية فصل 4 بدار العلوم العليا.

هل رأينا العربية الفصحى العذبة العالية التي يكتب بها طالب إلى أستاذه؟

ظني ولعلني لا أكون مبالغًا أن لغة إسماعيل هى أعلى من لغة حامل دكتوراه في الأدب في أيامنا هذه .

يكمل خضر قصة اللقاء فيقول: "يتلقف الأستاذ الرسالة، ويقرأ القصيدة (الفردوس المهجور)، ويعجب بها أشد الاعجاب، ويرى أن القصيدة لا تستحق مجرد خمس دقائق من زمن المدرج، بل تستأهل وقتا خاصا بها، وكان له أن انشدها عقب المحاضرة.. 

يقول مطلع القصيدة:

تفجر فى صفحتيه الجمال

ورف على جانبيه الخلود

وطوق رحيانه فى الجنان

وفى كل منضورة بالوجود

يفتش عن روضة برَّة

يضىء الظلال الرطيب الرغيد



وبهذه الخطوة أصبح محمود حسن إسماعيل اسما معروفا، بل ومرموقا، فعند صدور الديوان (أغاني الكوخ) بعد ذلك بشهور، جاء الأستاذ الدكتور مهدى علام، وحرك الأقلام الصديقة لإجراء دراسات تطبيقية على الديوان، وأقام حلقة دراسية سماها "حفل تكريم"، وتحدث فى هذا الحفل، مهدى علام، ثم زكى مبارك، وحافظ محمود، ومحمود البشبيشى، وسيد قطب، ومحمد برهام، ومحمود رمزى نظيم، إذن كتبت للديوان وللشاعر سطور تدفعه للأمام، وتضعه فى صدارة المشهد، وهذا أعطى للشاعر ثقة كبيرة".


ما كل هذه الاسماء اللامعة التي مدحت الشاعر الصغير؟

يكفي اسم زكي  مبارك الذي كان معروفًا باسم الدكاترة زكي مبارك وذلك لحصوله على أكثر من شهادة دكتوراه، ويكفي اسم سيد قطب الذي كان من الطبقة الأولى من نقاد ذلك الزمان.

ما أعظم أن تكون موهوبًا ثم ترعى موهبتك قامة سامقة كقامة الدكتور مهدي علام. 

بعد هذا النجاح المدوي، أصبح إسماعيل عضوًا مؤثرًا في جماعة "أبوللو" الشعرية التي شكلها الشاعر الرائد أحمد زكي أبو شادي .

ومن العضوية الفعالة ترقى إسماعيل ليصبح من منظري الجماعة وليخوض معاركها مع اسم ترتجف من ذكره القلوب، لقد ناطح العقاد شخصيًا !

كان العقاد قد  كتب فى جريدة الجهاد مقالا هاجم فيه ديوان الشاعر إبراهيم ناجى، وكان الديوان هو (وراء الغمام) وتحامل عليه، وأنكر جوانبه الفنية، بل إن العقاد اتهم ناجى بأنه انتحل معانى بعض القصائد من الشاعر محمود سامى البارودى، فكتب محمود حسن إسماعيل مقالا فى عدد ديسمبر 1934 من مجلة أبوللو، وبعد تفنيده لاتهامات العقاد أنهى مقاله بفقرة قوية يقول فيها: "شاء العقاد أن يغض من شاعرية ناجى، فركز نفسه وشعره وسجل على الأدب عار الفساد فى نقده، وعلى الجمهور عار التغرير به".

 ولقد سقط مستوى النقد الأدبى فى مصر سقوطا فاحشا، هذا مثل واضح منه، فمن أراد أن يقف على شاعرية شاعر فلينحرف عن تلك الحملات المغرضة إلى حيث يسلم النقد من الدخل والفساد.

بعد انتهاء مرحلة التعليم الجامعي، عمل إسماعيل في مكتب العميد طه حسين، وظل اسمه محاطًا بآيات التكريم والتبجيل حتى وقعت الواقعة.

كانت الواقعة هى صدور ديوانه الذي يحمل عنوان (الملك) في العام 1946 وضم الديوان قصائد في مديح الملك فاروق الأول.

كان الأمر في بدايته عاديًا أو قل طبيعيًا، وذلك لأسباب، منها أن فاروق في تلك الفترة كان لا يزال محبوبًا من قطاعات واسعة من الشعب، ثم كان هناك شعراء سبقوا إسماعيل في مديح فاروق، ثم إسماعيل نفسه كان شاعرًا عربيًا يؤمن أن المديح غرض أصيل من أعراض الشعر فلا غبار عليه إن هو ضرب فيه بسهم.

خطورة الديوان ظهرت بعد ثورة يوليو، فقد شن جماعة من المنافقين حملة مغرضة ضد إسماعيل بوصفه شاعر العهد البائد، فنالوا كثيرًا من مكانته العالية، ولكن بحمد الله كان ثوار يوليو بقيادة الخالد عبد الناصر أعقل من منافقيهم فلم يجرموا شعر إسماعيل ولم يضيقوا عليه، بل منحوه وظيفة ستكون هى الأعلى بين وظائفه، لقد أسندوا إليه رئاسة لجنة اختيار الأغنيات في الإذاعة وتلك كانت مهمة جليلة جدًا، ثم عندما قام عبد الناصر ومعه القائد السوفياتي الشهير خروتشوف بحضور حفل تحويل مجرى النيل أثناء بناء السد العالي، كان إسماعيل هو شاعر الحفل.

العامة سيعرفون شعر إسماعيل من خلال قصائده التي غناها أكابر المطربين.

غنت له أم كلثوم قصيدة " بغداد يا قلعة الأسود" 

وغنى له عبد الوهاب قصيدته ذائعة الصيت "النهر الخالد"  ويكفي مطلعها القائل:

مسافر زاده الخيال      والسحر والعطر والظلال

ظمآن والكأس في يديه      والحب والفن والجمال

شابت على أرضه الليالي      وضيعت عمرها الجبال

كما غنى له قصيدة "سماء الشرق".

وغنت له نجاح سلام وسعاد محمد وفايدة  كامل ونازك.

طموح إسماعيل وأصالته جعلته يلازم العلامة الجليل الأستاذ محمود شاكر، ومن العجيب أن الرجلين على عظيم ما قدماه للأمة قد وقعا تحت الحصار المريب، فمن الآن يذكر محمود شاكر؟

كانت الكاتبة الكبيرة عايدة الشريف تعد كتابها "قصة قلم" عن حياة شاكر وأدبه فسألت عنه إسماعيل فقال لها: "لا أستطيع تحديد أبعاد ما حزته من صداقتي لمحمود، لقد زج بي إلى الشعر الجاهلي، وأمالني مع الشعر الأموي، وطوح بي مع الشعر العباسي، فأحاطني بلحمة الشعر العربي وسداه جميعا، وأستطيع القول أن شعري قبل معرفتي بمحمود كان نبعا هادئا فجعله بحرا متلاطما".

لم يكن بين شاكر وإسماعيل سوى سنة واحدة فقط، فقد ولد شاكر في العام 1909 ومع هذا التقارب كان إسماعيل ينظر إلى شاكر نظرة التلميذ للأستاذ، وكان شاكر يقول دائمًا: "لقد تركت الشعر لإسماعيل".

فماذا صنع محمود حسن إسماعيل بتلك القمة التي تربع على عرشها؟

الأسبوع القادم نجيب بإذن الله.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منشور بموقع أصوات / الاثنين 10 يونيو 2019

الخميس، 15 ديسمبر 2022

ابن سينا .. في مرآة يوسف زيدان




كان من حسن حظنا أن شخصية الشيخ الرئيس ابن سينا، قد لفتت أنظار الروائيين فتناولها ثلاثة منهم في فترة وجيزة، كتب عنها الروائي الفرنسي جلبيرت سينويه، روايته المترجمة إلى العربية "ابن سينا والطريق إلى أصفهان".

وكتب عنها الروائي العربي المصري محمد العدوي روايته "الرئيس".

وأخيرًا كتب عنها الروائي المصري يوسف زيدان روايته "فردقان.. اعتقال الشيخ الرئيس"، التي نشرتها دار الشروق.

والروايات الثلاث، لاسيما، رواية زيدان تطرح سؤالًا مهمًا عن حدود المسرح الذي سيعرض عليه الروائي، كاتب الرواية التاريخية فنون إبداعه.

قارئ الروايات الثلاث التي تناولت شخصية ابن سينا سيخرج بنتيجة تكاد تكون نهائية، وهى أن التاريخ تاريخ والرواية رواية.

وفي تفصيل هذه النتيجة كتب الأستاذ الدكتور قاسم عبده قاسم بحثًا طيبًا بعنوان "الرواية التاريخية.. زمن الازدهار"، جاء فيه: "التداخل بين الأدب والتاريخ على صفحات الرواية التاريخية يستوجب المصالحة بين الصدق الفني والصدق التاريخي، وكلما نجحت هذه المصالحة زاد نجاح الرواية التاريخية.

 وهذا هو الفضل المشكور للرواية التاريخية، كما جسدته الروايات التاريخية الحقيقية، وكما تجسده ظاهرة ازدهار الرواية التاريخية العربية الآن. 

فالرواية التاريخية تقدم التاريخ من خلال صورة فنية كلية تبث روحًا في الجسد الذي يصوره التاريخ جامدًا باردًا بفضل العناصر الفنية المتنوعة التي يستخدمها الروائي، ومن خلال السرد والحوار وغيرها من الأدوات الروائية، وهو ما يختلف عن الصرامة التي تتسم بها الدراسة التاريخية الأكاديمية.

 وإذا كانت وظيفة المؤرخ قد تحولت من "رواية ما حدث" إلى محاولة فهم السبب وراء ما حدث، ومحاولة الإجابة عن السؤال الذي يقول لماذا حدث ما حدث؟ فإن الروائي لم يكن مضطرًا إلى التفسير أو الإجابة عن أي أسئلة".

انتهى كلام الدكتور قاسم ، فهل حقًا أن الروائي ليس مضطرًا لتقديم تفسير أو إجابة عن أسئلة؟.




نبوغ مبكر

ضربة البداية التي نفذها الروائي يوسف زيدان كانت موفقة، فهو اختار ذروة من ذرى الدراما لينطلق منها إلى تفصيل روايته عن ابن سينا.

فتح زيدان الستار على ابن سينا الذي كان في تمام فتوته وشبابه وعلو مقامه ومكانته وهو يسير في ركب فقير ذاهبًا إلى قلعة فردقان ليبقى بها معتقلًا لزمن قادم لا يعرفه !

"جاء راكبًا بغلةً هرمةً، تنوء بحمله هو والمخلاة التي خلفه.. جاء مفكوك العمامة، مكشوفَ الرأس، كسيرَ النفس، كسيفَ النظرات، خجلًا من هيئته، ومن السلسلة الصدئة المقيدة لقدميه وكفيه".

بداية مؤلمة ما في ذلك شك، ولكنها جهزت مسرح العمليات لزيدان لكي يقدم ويؤخر كما شاء له فنه الروائي، فهو يتنقل برشاقة بين الأزمنة والأمكنة التي تقلب بينها ابن سينا.

التزم زيدان بوقائع التاريخ كما حدثت، فلم يخالف المروي عن ابن سينا الذي هو أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا، ولد في قرية أفشنة (الواقعة في أوزبكستان حالياً) في العام خمس وسبعين وثلاثمائة من الهجرة، وكانت وفاته سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، ولم يزد عمره عن ثلاث وخمسين سنة، كتب خلالها ما يزيد على الأربعمائة كتاب!

أشار زيدان إلى النبوغ المبكر لابن سينا الذي كان والده من دعاة التشيع وكذا كان شقيقه، ولكن ابن سينا لم يربط نفسه بمذهب بل كان يخاف المذهبية لأنها تثير التعصب وتجعل الأمة الواحدة فرقًا متناحرة.

تابع زيدان بصبر رحلة التعلم التي قطعها ابن سينا الذي حفظ القرآن الكريم كاملًا وهو ابن عشر سنوات، ثم تبحر في علوم عصره حتى أصبح من شباب العلماء المعدودين وهو ابن ست عشرة سنة.

شهرة ابن سينا المبكرة في علوم الطب والفلسفة والفلك والمنطق والعربية والرياضيات لفتت إليه أنظار حكام عصره، فقد كان طبيبًا خاصًا لأكثر من ملك وحاكم، وعمل بالسياسة حتى تولى منصب الوزارة الذي هو بلغة عصرنا منصب رئيس الوزراء ومن هنا جاء لقب الرئيس ليلتصق به مدى حياته وبعد مماته.



عالم النساء

عندما كان ابن سينا معتقلًا لغضب حاكم عصره عليه، وجدها زيدان فرصة سانحة لكي يخوض بنا في خفايا حياة بطل روايته، وذلك الخوض يعيدنا إلى المربع الأول عن الفرق بين الرواية وبين التاريخ.

في التاريخ روى أبو عبيد عبد الواحد الجوزجاني التلميذ الوفي لابن سينا، الذي عاش تحت ظله خمسًا وعشرين سنة، ويكاد يكون صاحب الترجمة الأولى لابن سينا، قال أبو عبيد عن أستاذه ابن سينا: "وكان الشيخ قويَّ القوى كلها، وكانت قوة المُجامعة من قواه الشهوانية أقوى وأغلب، وكان كثيرًا ما يشتغل به، فأثَّر في مزاجه".

هذه الجملة معدودة الكلمات سيأخذها زيدان ليقيم عليها معمار روايته!

فهناك جيش من النساء كان يحيط ابن سينا نفسه به.

وقد توقف الناقد الأستاذ عبد اللطيف مجدوب عند هذا المحور من محاور الرواية فقال: "لقد أسهب يوسف زيدان في ذكر أسماء نسوة أذقن ابن سينا جرعة الحب والهوى، فهام بهن، وهن: ماهتاب، روان، سندس، عدا الجواري اللائي كن هدايا من الحكام والأمراء والوزراء الذين تم شفاؤهم من عللهم على يديه.

ونلاحظ أن الروائي زيدان أغرق في وصف سحنات العشيقات وهن يتوددن إليه إلى أن يأخذهن ابن سينا بين أحضانه، حتى إن إحداهن ولعلها روان حزن لفراقها على إثر غارة ليلية استهدفت منزله فعاثوا فيه فسادا، واقتادوا عشيقته جارية لعرضها للبيع بسوق النخاسة، ومن ثم انقطعت أخبارها، أما مهتاب فكانت في نزاع مع ضياء الشمس لإشراقة وجهها وفتون جمالها الخارق، كانت ذات إلمام بعلوم الفلسفة والطب فأخذت تغترف منه المزيد وتعينه في التمريض، لكن خلال الساعات المتأخرة من الليل كان يهفو إليها وتأخذ الهمسات والآهات تدب بين أوصالهما بدلا من مفردات التعليم والتعلم.

أما الثالثة فكانت سندس "المرأة الثرية الشهية الجامحة المتوهجة"، أرملة جليل الخنوفي والتي باحت له بأنها سقطت صريعة لعشقه والهيام به، فتوسلت له أن يعالج شغفها وقلبها العليل"، بيد أن قصتها مع ابن سينا، وهو ابن الخامسة عشرة من عمره، انتهت بطريقة درامية.. حملته فيما بعد على أن يعاف النساء ومضاجعتهن وحتى الكلف بهن حينما أرسلت إليه كتابا "بألا يتأخر عن زيارتها ليلا"، إلا أن أم ابن سينا دعته ألا يثق بها وبغوايتها الشيطانية.. فتأخر عن الذهاب إليها لتبعث له بكتاب آخر دعته أن يفتح النافذة المقابلة لنافذة غرفتها مساء.. "فلما فعل ذهل ابن سينا وأصابه دوار ومغص عندما شاهد سندس وقد أمسك بها عبدان لها وهي عارية.. أحدهما من خلفها والآخر من أمامها".

النساء الثلاث هن من مخترعات زيدان وليس لهن وجود حقيقي، ولو تمهل زيدان وهو يسرف في ذكر تفاصيل علاقة ابن سينا بهن، لسأل نفسه: هل ابن سينا كان جريئًا على الفاحشة كل هذه الجرأة ؟

فاثنتان من الثلاث نساء كانت علاقة ابن سينا بهما خارج الشرع.

ثم ورط زيدان ابن سينا في العكوف على شرب النبيذ، لقد شرب منه بحرًا على مدار صفحات الرواية، وعندما ناقشته مهتاب حول حرمة السكر، رد عليها بكلام لا يصدر عن فيلسوف وطبيب، وذلك لأن حجته كانت ضعيفة وتحمل قدرًا من الإساءة لعلمه الغزير.

ثم توقف زيدان عند مسألة شائكة تحوم حولها الشكوك، وهى مسألة انكار ابن سينا للبعث الجسماني.

زيدان قطع بإنكار ابن سينا للبعث الجسماني، قطع وهو يعلم يقينًا بأن تلك المسألة محل أخذ ورد بين دارسي ابن سينا العارفين بتراثه، فطائفة منهم نفت وقوع ابن سينا في هذه المسألة، وطائفة ثانية قالت: إنه قالها ثم تراجع عنها، وطائفة ثالثة قالت: كان لابن سينا منطقان، واحد للعامة وآخر للخاصة، فربما تكلم للخاصة في هذه المسألة، ولكن في دروسه العامة لم يقل بغير الشائع بين جمهور المسلمين حول البعث الجسماني.

كما أغرق زيدان قارئه في تفاصيل فلسفة وأفكار الشيخ الرئيس بحيث جار على الشاعر الفذ الذي يسكن جوانح ابن سينا، فليته ألقى نظرة واسعة تشمل الشاعر الذي قال عن نفسه: 

 لما عظمت فليس مصر واسعي

لما غلا ثمني عدمت المشتري 

وبعدُ فقد حققت الرواية النجاح الجماهيري الذي يليق بكاتبها وبالمكتوب عنه، حتى أن دار الشروق ناشرتها قامت بطباعتها غير مرة في فترة وجيزة جدًا، ولكن الرواية تستحق ما هو أكبر وأهم من النجاح الجماهيري وأعني ذلك الاشتباك الجاد مع ما طرحته من أفكار ورؤى في غاية الثراء، حتى لو اختلفنا مع بعضها .

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منشور بموقع "أصوات" مايو 2020

الخميس، 8 ديسمبر 2022

الإمام البخاري ليس رسولًا معصومًا






كتب الشيخ الإمام محمد بن إسماعيل البخاري، رحمه الله، كتابه "الجامع الصحيح المسند المختصر من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه"، الذي نعرفه باسم "صحيح البخاري" قبل ألف ومائتي سنة، ومن يوم شيوع الصحيح بين الناس وإلى يومنا هذا والكلام عنه لم يتوقف ولن يتوقف.

وذلك راجع لخطورة وأهمية ما جاء في الكتاب، لأن الكتاب كما هو ظاهر من عنوانه يختص بأحوال رسولنا الكريم من كلام أو فعل أو تقرير أو حتى صمت أو وصف خُلقي أو خِلقي، فكل تلك الأحوال هي ما نعرفه باسم "الحديث النبوي".

ومن هنا جاءت خطورة هذا العلم الشريف، وذلك لأن الرسول هو المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن، وفي حالات يكون الرسول هو المصدر الأول والوحيد، وذلك عندما يُجمّل القرآن الحكم في أمر ما فيأتي الرسول ويقوم بتفصيله، ومثال ذلك الصلاة التي هي أهم أركان الإسلام بعد الشهادة، القرآن لم يذكر تفصيلًا كيفية أداء الصلاة، فصلى الرسول وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي"، ومن الرسول عرفنا الكيفية وعدد ركعات كل صلاة، وكذا كان الأمر في قضايا كثيرة  لا يتسع المجال لذكرها .

ولكل ما سبق يظل "علم الحديث" علمًا خطيرًا شائكًا، لا يهجم عليه إلا أحد رجلين، عالم ثبت امتلاكه الأدوات ولديه الموهبة وفائض من الصبر والجلد والهمة، وجاهل يغره جهله فيخبط خبط الناقة العشواء في الليل البهيم فيأتي بالمضحكات المبكيات.

فمن فروع علم الحديث هناك علم قائم بذاته وله رجاله اسمه "علم الجرح والتعديل"، وهو يبحث في الرواة الذين وصلنا الحديث عن طريقهم، وتخيل معي الجهد الذي يبذله الباحث ليتقصى أحوال رجال ماتوا قبل ألف سنة، ليعرف مَنْ منهم كان صادقًا ومَنْ منهم كان غير ذلك، وحتى الصدق بمفرده لا ينفع، فلابد من الصدق والعدل والفهم والحفظ والإتقان وشروط أخرى كثيرة يفرضونها على الراوي لكي يتقبلوا حديثه.

هذه الاحتياطات ألقت بظلال من القداسة على عمل بشري قام به الإمام الجليل البخاري، والقضية هي أبعد ما تكون عن القداسة، فنعم البخاري أوقف عمره على تتبع الحديث الشريف، ولكن البخاري يظل رجلًا من رجال الأمة، وهو لم يقل قط إنه قد أُوحي إليه وإنه من المعصمين، وفي كتابه الجليل ما يؤكد ذلك، فبداية هو قد اختار (7563) حديثًا فقط من بين ستمائة ألف حديث وصلت إليه!

وهذا يعني أن لديه كلام عن الأحاديث التي تركها أو على الأقل لم يجد بها شروطه التي اشترطها على نفسه لكي يقبل الحديث، ولم يعب أحد عليه ذلك، ولم يتنطع عليه متنطع ويقول له: لماذا أخذت حديث فلان ولم تأخذ حديث علان.



ثم بعد شيوع الكتاب وقد تلقته الأمة في مجملها بالرضا والقبول قامت جماعات من العلماء بنقده، ولم يحدث أن كَفّرتْ الأمة عالمًا لأنه نقد البخاري، بل كانت الأمة تسمع للرأيين وتختار منهما ما يُصلح شأنها، وتنتهي القصة.

نقد كتاب الإمام البخاري قديم جدًا وسأذكر في عجالة أهم أبرز الأسماء التي تناولت الكتاب بالنقد.

أولًا: الحافظ ابن حجر العسقلاني الذي أحصى الأحاديث التي نقدها العلماء فوجدها مئة وعشرة أحاديث، ثم قال الحافظ جملة واضحة تمامًا وهي: "بعضها يُسَلَّمُ لهم فيها، وبعضهم لا يُسَلَّم"، وهي تعني أن بعض رواة البخاري من حق العلماء ـ من وجهة نظر الحافظ ـ نقدهم، وبعضهم كلام العلماء عنهم غير صحيح.

ثانيًا: حكم الألباني - وهو من هو - بضعف حديث واحد فقط في صحيح البخاري وهو حديث: "نكاح الرسول عليه الصلاة والسلام لميمونة بنت الحارث"، وقد ذكر ذلك تلميذ الألباني أبو اليسر، في تسجيل صوتي منشور على شبكة الإنترنت.

ثالثَا " ابن حزم الذي تكلم عن بعض الأحاديث الواردة في صحيحيّ البخاري ومسلم.

رابعًا: الإمام الدار قطني، وله كتاب مشهور جداً طُبع وحُقق أكثر من مرة اسمه "الإلزمات والتتبع"، انتقد فيه 199 حديثاً جاءت في الصحيحين.

إذن القصة قديمة ولم يحدث أن عاقبت الأمة ناقدًا للبخاري ومسلم ولم يحدث أن كفرت عالمًا بعلمه حتى لو قال كلامًا يخالف به الشائع المشهور، الأمر كله متروك للعلماء الذين يعرفون كيف يستنبطون الأحكام ويصبرون على متاعب العلم ولا يخشون في الله لومة لائم، هؤلاء من حقهم بل الواجب عليهم القيام بحق العلم، وذلك بتمحيص كل نص وصل إلينا، دون خوف ولا وجل من هجوم العامة، فليس للعوام الذي يصدقون خرافات مثل خرافة "عوج بن عنق" شأن بنقد الأحاديث، كما لا يصح أن يقوم متعالم مغتر بجماهيريته بالتطاول على جهود علماء أصلاء لأنه يريد الشهرة أو يريد المناكفة، ثم أن أي قانون لن يوقف الناس عن تناول كتب تضم خلاصة شريعتهم ، نطالب فقط بالصبر على المتكلم حتى يشرح كامل وجهة نظره ثم يقوم فريق من العلماء بنقاشه، بغير ذلك سنظل ندور في الحلقة المفرغة التي اسمها "قانون ازدراء الأديان" التي إن لعبت اليوم لصالحك أو لصالح فريقك فستلعب غدًا ضدك وضد فريقك، ويومها لن تجد مَنْ يساندك ويدافع عنك.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منشور بصوت الأمة 2018

الخميس، 1 ديسمبر 2022

شطحة نزارية




لا يحتاج الشاعر الكبير الراحل نزار قباني (21 مارس 1923 ـ 30 أبريل 1998) إلى تعريف، فهو نزار الذي كتب ستًا وثلاثين مجموعة شعرية واثنى عشر كتابًا نثريًا، وغنت شعره أجمل وأعظم الأصوات العربية.

من بين كتب نزار النثرية نجد كتاب "الشعر قنديل أخضر"

الذي نشره لأول مرة في العام 1963 ثم توالت طبعاته، وبين يدي الطبعة السادسة عشرة التي صدرت في العام 2000.

عندما خرج نزارـ رحمه الله ـ على الناس بكتابه هذا، كان قد بلغ أشده وبلغ الأربعين من عمره ونشر ست مجموعات، وهي "قالت لي السمراء"، "طفولة نهد"، "سامبا"، "أنت لي" "قصائد"، و"حبيبتي " التي نشرها في العام 1961.

بدأ نزار كتابه النثري بكلام كتبه في سطور شعرية عن نهد يختصر قارة وعيون سوداء تُمطر كحلًا، إلى آخر المعجم النزاري المحفوظ.

ثم كتب فصلًا تحت عنوان: "معركة اليمين واليسار في شعرنا العربي"، وقد يكون هذا الفصل من الكتابات المؤسسة لفوضى قصيدة النثر التي جعلت الأمرد والمشعر يمتلكان جرأة كتابة ما يسمونه شعرًا!


ثم يأتي الفصل الذي هو مربط الفرس أو بيت القصيد، أعني به الفصل الذي كتبه تحت عنوان: "الله والشعر".

 في ذلك الفصل يكتب نزار كلامًا ثمينًا عن ارتباط الإنسان بالشعر ارتباطًا عضويًا، فمن منا لا يحب الكلام الرقيق النبيل الذي يختصر المسافات ويشعل العواطف؟.

ثم يقرر نزار أن الإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي يعرف الفرق بين "الجميل" و"النافع"، وقد يفضّل في بعض مناسباته الجميل على النافع، فالرجل يهدي لحبيبته وردة (رمز الجمال) وسيكون غليظًا فظًا متى أهداها دجاجة مشوية!

ليت الشاعر واصل تنظيره هذا، لكنه فجأة استجاب لخاطر عجيب جعله يكتب:"حين أراد الله أن يتصل بالإنسان لجأ الى الشعر، إلى النغم المسكوب، والحرف الجميل، والفاصلة الأنيقة. كان بوسعه أن يستعمل سلطته كرب فيقول للإنسان: "كن مؤمناً بي.. فيكون" ولكنه لم يفعل، اختار الطريق الأجمل، اختار الأسلوب الأنبل اختار الشعر".

بداية، يقف الفعل "لجأ" الذي نسبه نزار إلى الله مثل شوكة في حلقي، الله عز وجل لا يلجأ ولا يستعين، إنه عز وجل يأمر أو يخلق. ثم نواصل مع نزار الذي يدلل على صحة رأيه العجيب بمثال من القرآن الكريم، يأتي بآيات بينات من سورة مريم ويكتبها هكذا:

"وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ

مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا

فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا

رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا

قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا

قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ

غُلَامًا زَكِيًّا

قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي

بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا

قَالَ كَذَٰلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ".

ظل نزار يأتي بالآيات وقد كتبها كما يكتب الشعراء القصائد، ولم يتوقف إلا عند وصوله إلى آية "والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا".




ترى لماذا فعلها نزار؟

نزار واضح صريح فلا يترك قارئه يسقط في فخ التخمين، إنه يعترف كاتبًا بيمينه:"هذه واحدة من قصائد الله، هل أدلكم على قصائد أخرى؟

إذن فافتحوا الأناجيل اقرأوا المزامير لتروا كيف تسيل حنجرة الله بالشعر.. لتروا كيف تشف الكلمة حتى تكاد أن تطير.. لتروا كيف يجلس الله على مسند حرف".

كنتُ قد سجلت اعتراضي على نسبة الفعل "لجأ" إلى الله، وهنا أسجل رفضي لكلمات "هذه واحدة من قصائد الله" و"تسيل حنجرة الله بالشعر" و"يجلس الله على مسند حرف".

كلام نزار لا يمس عقيدتي الدينية أدني مس، فالأمر محسوم بداخلي صارخًا بكل صوته: الكلام كله نوعان لا ثالث لهما: شعر ونثر، أما القرآن فهو ليس شعرًا كما أنه ليس نثرًا، هو ليس نوعًا من أنواع الكلام، إنه جنس قائم بذاته.

كلام نزار ترده آيات كثيرة أشهر من أن نذكرها، وترده أيضًا فطرة العربي العارف بلغته.

 كلام نزار يهين عقيدتي الفنية، بل يهين عقيدته هو الفنية، فنزار الشاعر العارف بتراثه الشعري والنثري، القارئ للقرآن لم يخدم الشعر بكلمته هذه، لأنه رفض صوت فطرته.

العربي القديم في زمن جاهليته الرافضة لكلمة التوحيد، كان يخجل من الكذب ومن طمس الحقائق، كان ذلك العربي عندما يترك العناد والمكابرة يقول عن القرآن ما قاله أعدى أعدائه، أعني الوليد بن المغيرة.

أخرج الحاكم في المستدرك والبيهقي في دلائل النبوة أن أبا جهل طلب من عمه الوليد أن يقول في القرآن قولًا يجعل قريشًا تنفر منه، فقال الوليد:"ماذا أقول؟ فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني، لا برجزه ولا بقصيده، ولا بأشعار الجنّ. والله ما يشبه هذا الذي يقول ـ محمد ـ شيئا من هذا، والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليحطم ما تحته، وإنه ليعلو وما يعلى عليه"

لو أنصت نزار لذائقته العربية ما كان قد ورط نفسه وورط الشعر في تلك القضية الخاسرة.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منشور بموقع أصوات 13 أغسطس 2018