الأحد، 22 ديسمبر 2002

وصية مريد البرغوثي


افتح عينيك جيدًا وحدق في أي خريطة لواقعنا العربي سواء كانت سياسية أو ثقافية أو اجتماعية أو اقتصادية أو جغرافية أو حتى "مستقبلية" وحاذر أن تقع في "عسل" التهوين أو تعلق رجلك في فخاخ "التهويل" ماذا سترى؟
الواقع المعاش يؤكد أنك لن ترى سوى مشهد قاتم قابض يفوق أفظع الكوابيس فزعًا.
ولهذا المشهد تجليات لو تأملتها لوليت منها فرارًا ولملئت منها رعبًا.
1ــ وزير خارجية قطر يوقع اتفاقية "عسكرية" مع رامسفيلد وزير "الحرب" الأمريكي مدة الاتفاقية عشرون عامًا!!
2ــ رئيس لجنة التفتيش عن سلاح العراق يلزم قيادة بغداد إرسال كشف يحتوى على أسماء كل العلماء العاملين في حقل التسليح العراقي للأمم المتحدة وذلك تمهيدا لاستجواب هؤلاء العلماء في مكان آمن خارج العراق.
3ــ في مؤتمر "المعارضة" العراقية الذي بدأت فعالياته في لندن السبت 14/12/2002 أعلن الشريف علي بن الحسين أن هذا المؤتمر هو جهاد في سبيل الله.
4ــ طهران تحتضن مؤتمرًا للمصالحة بين معارضين عراقيين وتناقش معهم "عراق ما بعد صدام".
5ــ وزير خارجية "الحكومة الإسلامية في تركيا" يعلن استعداد بلاده لفتح قواعدها لاستقبال طائرات الأمريكان متى حانت ساعة تدمير العراق.
6ــ الكويت ترفض الاعتذار العراقي والجامعة العربية تتحفظ عليه.
7ــ مناورات أمريكية في الكويت وقطر ورفع جهوزية قواعد الأمريكان في السعودية والإمارات والبحرين وعمان.
8ــ أكثر من 60 ألف جندي أمريكي تساندهم أكثر من مائتي طائرة يتمركزون في الخليج العربي في انتظار إشارة البدء لتدمير العراق.
أليس هذا هو المشهد الذي ينغص علينا حياتنا صباح مساء؟
إنه هو ودع عنك تفصيلة هنا أو هناك.
والآن ونحن أمام هذه الهجمة التي لن تبقى ولن تذر ماذا نحن فاعلون؟
هل نملك إجبار حكامنا على تحريك الجيوش والتصدي للأمريكان؟
هل بأيدينا نحن الشعب أسلحة نتصدى بها لطائراتهم ودباباتهم وصواريخهم ومدمراتهم؟
هل نتحول جميعًا إلى أمة من الاستشهاديين وننفجر جميعًا في وجه قواتهم البرية، ولو فعلنا كيف سنوقف طائراتهم وصواريخهم؟ هل باستطاعتنا إقناع أي قوة دولية بأن تتحالف معنا ونكون معًا جبهة لمواجهة الأمريكان؟
أعتذر بداية عن صراحتي إذ قلت إن الإجابة عن كل هذه الأسئلة وما يشبهها هو النفي القاطع المانع الجامع الشامل.
لن أعتذر عن وقاحتي إذ قلت إننا نحن الشعوب "الآن تحديدًا" لسنا أكثر من خراف تساق للذبح ولا تملك من أمرها إلا مأمأة هنا أو "برطعة" هناك ولأن المشهد بالقتامة التي نراها فلم يعد بأيدينا سوى الوصية التي قدمها لأمته الشاعر العربي الفلسطيني مريد البرغوثي.
فقبل عشرة أعوام من يومنا هذا وتحديدًا في اليوم العاشر من شهر أكتوبر عام 1992 استخار مريد ربه وكتب وصيته لأمته في قصيدة راجيًا منها أن تستمع لمخلص ولو مرة.
يقول مريد في وصيته التي اختار "الملجأ" عنوانًا لها:
"خذ الطائر الأزرق الريش
خذ كل أعيادنا القافزات إلى زركشات القرى
خذ متاحف أسلافك الغامضين
خذ العش والقش "خذ قلبي الهش
خذ رعشة الارتباك إذا ما التقى عاشقان"
إذن هذه سبعة أشياء يوصى مريد أمته بأن تأخذها، تبدأ بالطائر الأزرق الريش وتنتهي بتلك الرعشة التي تظلل لقاءات العشاق.
وهي كلها أشياء "مادية" بالإمكان إمساكها باليد حتى تلك اللقطات التي تبدو لأول وهلة معنوية تستعصى علي المادية بإمعان النظر إليها سنلمح تجلياتها المادية واضحة أتم الوضوح وأعنى تلك الخاصة برعشة الارتباك إذا ما التقى عاشقان أهناك ملموس محسوس أكثرمن تلك الرعشة.

ثم يكمل مريد وصيته فيقول:
"خذ الصبية القافزين إلى بركة النضج
خذ خجل البنت من إصبعيها
يفكان أول زر أمام العريس الفضولي
خذ زهرة الجلنار
خذ المرأة المستعدة للقفز
في ماء شهواتها الهائجات
وخذ ثنية الركبتين
إذا حاولت مهرة أن تطير
وخذ حلوة جننتنا بذيل الحصان"
وكأن مريدا في هذا المقطع من وصيته يصرخ في أمته: لن أكلفكم من أمركم عسرا، فليس هناك ما هو أيسر وأسهل وأحلى من الاحتفاظ بهذه الأشياء الستة وهل ينسى أحدنا منظر حلوة صنعت من شعرها ذيل حصان تتعلق به القلوب؟
ثم يكمل مريد
"خذ الجامعات بأولادها والبنات
وأشجارها الضاحكات
خذ المكتبات التي
رتبت حيرة الروح في حبرنا البشرى اللحوح
خذ الفلسفات التي
هذبت كوكب الأرض
خذ لهفة الطفل إذا تفتح الأم
سجن القميص
وتفرج عن جنة الثدي والرضعة المشتهاة
وخذ دهشة الكهل من علم أحفاده
خذ غبار الطباشير والدرس واللوح
والولد الأسود الحاجبين
وحيرته بين صرخة فخذيه والامتحان"
مازال مريد مصرًا على مادية الصور وذلك لكي لا يقول قائل إن الموصى يوصي بأشياء لا نعرفها.. ثم يختم الناصح الموصي الأمين وصيته بقوله خذ الشعر والرسم.
خذ كل ما سوف تخشى عليه من الموت
"خذ بذرة القمح خذ نطفة النخل
والعلم الشاهق اللون
خذ بهجة العدل والعقل"
ماذا سنصنع بكل هذا الذي أوصانا الشاعر بأخذه؟
يجيب مريد
"خذها جميعاً إلى مخبأ
ثم حصن حراستها جيداً
وأحمها قدر ما تستطيع من الوقت
عامًا فعاملين، جيلاً فجيلين، دهرًا فدهرين"
لما كل هذه الحراسات؟
يجيب مريد
"حتى يمر "مشاة التجار"
ويجتازنا موكب الأمريكان"
انتهت الوصية ولم يبق لأحد حجة، الأمريكان قادمون لتدمير كل شيء ونحن كما نرى من الضعف والهوان ولكن بإمكاننا إن أردنا ألا نموت الموت النهائي، أن نمهد لحياة قادمة بأن نأخذ كل ما هو حميم وحقيقي ودال علينا إلى مخبأ يقيمه كل منا داخل أعمق أعماق روحه لكي ينجو من قصف طائرات الأمريكان.
اللهم إن مريد البرغوثي قد نصح أمته وبلغ اللهم فاشهد.
___________________________
نشرت بجريدة العربي ــ 22 ديسمبر 2002