الخميس، 30 يونيو 2022

المخزنجي.. فتوة في السبعين

                                                      



المخزنجي بلغ السبعين لكنه لم يفقد شغف الشباب ولم يهدر طاقته فيما لا يفيد كأنه ثابت لا يتحول وكاتب تربطه بالكلمات علاقة خاصة.

كنت ضيف الكاتب الراحل الأستاذ عبد الله الطوخي، رحمه الله، تعجبت لظهور علامات الحسرة على وجهه، فسألته عن سبب حسرته فقال: جاءتني فكرة ولكن صحتي لا تساعدني على كتابتها.

كنت في مطلع شبابي فلم أفهم كلامه على وجهه الصحيح، أدرك هو عدم تفهمي لحالته فأكمل كلامه قائلًا: في زمن قادم ستعرف أن الكتابة مثل "العتالة" تحتاج إلى بنيان قوي مدرب، وإلى لياقة عالية، لياقة شعورية ونفسية وجسدية، هذا لن تفهمه الآن ولكن عندما تصبح شيخًا ستعرف أن من أهم منجزات الكاتب حفاظه على صحته ولياقته، وعدم إهدار شبابه فيما لا يفيد.

ثم قرأت أن أديب سوريا الكبير، الأستاذ حنا مينا، رحمه الله، كان لا يكف عن ملء الصفحة البيضاء التي أمامه بكتابات ورسومات أو حتى بشخبطة، وعندما سألوه عن السبب، قال: يجب عليّ الحفاظ على لياقة وحساسية أصابعي.

تذكرت تلك النماذج وأنا أقرأ مجموعة "رق الحبيب" التي نشرتها دار الشروق للدكتور محمد المخزنجي.

المخزنجي بلغ السبعين، ولكنه لم يفقد شغف الشباب ولم يهدر طاقته فيما لا يفيد، كأن هذا المحزنجي ثابت لا يتحول، كاتب تربطه بالكلمات علاقة خاصة، فهو يداعبها مرة ويشاكسها مرة، وقد يغضبها مرات، ولكنه دائمًا يتقدم صفوف محبيها فتلين له الكلمات لأنها تعرف مكانتها في قلبه.




كتب المخزنجي مجموعته من منطقة إتقان المحترفين وشغف الهواة، فجاءت طازجة حارة صادقة منضبطة.

أرى أن مفتاح المجموعة، خبأه المخزنجي بين سطور قصة "شهيق عميق.. زفير مرتاح".

راوي القصة هو بطلها، والاثنان هما المخزنجي نفسه، فتوة وضاحك وراقص ومبتهج في السبعين من عمره.

غاب ابن بطل القصة عن أرض الوطن وها هو يعود، وفي صالة المطار تقف أسرته المكونة من الأب والأم والشقيق في استقباله.

الأب متمرد يسأل نفسه: كيف لوباء سخيف يدعى كورونا أن يحول بيني وبين لمس ابني وشمه وتقبيله؟

ما كل هذه الوحشية التي تفرض علينا السلام بالكوع، أين الحضن وأين المشاعر المتدفقة؟

تمرد الأب يدفعه لاختراع لعبة مشاعر تعويضية.

يصيح الأب: "1ـ شهيق عميق 2ـ كتم النفس 3ـ حضن جامد مع كتم النفس 4ـ تباعد سريع 5ـ زفير مرتاح.

كان الأب يصيح بتلك الكلمات رافعًا ذراعيه، كأنه مدرب يعطي، لاعبه المفضل تعليمات مهمة لأداء لعبة، وكأن فرحه برؤية ابنه العائد يجعله غير مكترث بما يمكن أن يقوله الناس من حوله، وقد توقف بعضهم ليرى ما يحدث.

أسرعت الأم نحو زوجها، لتوقفه عن ما يمكن أن يكون فلتة من فلتات تصرفاته المفاجئة الغريبة التي لا تليق بمقامه وسنه.

شقيق الابن العائد يمنع أمه من إيقاف الأب لأنه يقرأ خريطة أباه الداخلية جيدًا، إنه الأب نفسه الذي كان يخترع لهم الأحضان الجديدة في كل مناسبة، تحلق جمهور المنتظرين حول الأب وولده العائد، وسمع كلمات الأب المدرب ورأى كيف تم تنفيذ اللعبة التي تفرج عن الأشواق المحبوسة، بعد قليل أصبحت اللعبة كأنها الكرنفال، الكل يلعبها ويشارك فيها، لقد أصبح هناك أكثر من مدرب ضاحك ينظم خطوات الأحضان.

تلك القصة تكشف عن الأعمدة الثلاثة التي أقام عليها المخزنجي بنيان مجموعته.

العمود الأول: هو حضور صوت أم كلثوم وما يحمله من موسيقى. 

العمود الثاني: هو الاحتيال، كل أبطال قصص المجموعة هم جماعة فقدوا أثمن ما لديهم، ولكي لا يقتلهم قهر الفقد وحسرته لجأوا إلى الاحتيال، ليس احتيال اللصوص الأخساء ولكن احتيال المنذورين للحياة الحريصين على تدفق نهرها، رغم أنف آلاف الصخور الجبارة التي تعيق تيار النهر.

 العمود الثالث: هو المقاومة، كل الأبطال يقاومون بطرق استثنائية حتى أن العاديين قد يظنون أن هؤلاء الأبطال قد ذهب عقلهم، إن أبطال المجموعة أثناء احتيالهم يقاومون، وأثناء مقاومتهم يحتالون، فلا نعرف متى تبدأ المقاومة ومتى يبدأ الاحتيال.

لقد رأينا الأعمدة الثلاثة راسخة في قصة" شهيق عميق" هناك موسيقى هتاف الأب الذي احتال بعد أن فقد حرارة حضن ولده العائد من الغربة، ثم قاوم الوباء بتلك اللعبة المبهجة لكي يكتب له في النهاية النصر المبين.




ثم سنرى الأعمدة برسوخها وشموخها في القصص العشر التي تضمها المجموعة، ففي قصة "من بعد ما طال السفر" نحن أمام مغترب مصري، ترك دفء الوطن لكي يَدرس ويُدرس أمراض العقول في بلد تهوي فيه درجة الحرارة إلى عشرين درجة تحت الصفر.

البطل فقد الدفء والحب معًا، فثمة حبيبة كانت قد وعدت بأنها في يوم ستعرف طريقها إليه عابرة البحار وقافزة فوق ألف مانع، يومًا ما سيدخل غرفته فيجدها تنتظره.

هذا هو الفقد الذي سيأتي بعده الاحتيال، يغادر البطل مقر عمله ودراسته يحاول التماسك لكي لا ينزلق فوق تلال الجليد التي تحتل نهر الشارع، وهو على تلك الحال يرى نافذة غرفته مضيئة ويصله واضحًا صوت أم كلثوم يغني: "فاكر لما كنت جنبي/ والنسيم/ لاعب غصون الشجر/ والغصن مال/ ع الغصن قال / ما أحلى الوصال / للي انتظر".

وهل هناك من انتظر أكثر من مغترب يعيش فقدان الدفء والوطن والحبيبة؟

يطير، حقًا لا مجازًا بطل القصة لكي ينعم بدفء حضور الحبيبة، نحن القراء نصدقه ونظن أن الحبيبة قد حضرت حقًا وصدقًا، ألم تعد بالحضور وإن طال السفر؟

ما الذي يمنع الحياة من تقديم مكافآت استثنائية؟

غرق البطل فأغرقنا في الاحتيال، حتى ظننا أن الأوهام حقائق، نعم النافذة مضيئة، وهذا لأن البطل نسى إغلاقها، نعم صوت أم كلثوم يذيب كل هذا الجليد، وذلك لأن البطل ليلة أمس كان يبحث عن إذاعة عربية تبث غناءً يستعين به على توحش الغربة، ثم نسى إغلاق المذياع.

انهار عمود الاحتيال وبقى عمودا المقاومة وصوت أم كلثوم وموسيقاه.

قرر البطل أن يسهر الليلة أيضًا مع غناء يستدرجه من جديد إلى أحلام منام، يستعيد بها ما يحب ويفتقد، يهفو لو يسمع أم كلثوم لتطيب له هذا الوجود من جديد .. بهذه الأغنية التي يدندن منها بتكرار وجذل، بينما يمضي في طرقة الطابق، المدفأة إلى غرفته، الأكثر دفئًا: "والموجة بتجري ورا الموجة: عايزة تطولها / تضمها وتشتكي حالها/ من بعد ما طال السفر".

وبعدُ فإن إخلاص المحزنجي لفن القصة القصيرة يقدم لنا دروسًا عظيمة، فلعلنا نتعلم.

الخميس، 2 يونيو 2022

عن حسام فخر ووردته الغائبة

 


لا ينشر القاص الكبير الأستاذ حسام فخر، إلا إذا فاضت كأسه، ولم يعد بها متسع لقطرة إضافية، وظني أنه يدرك - وإن لم يصرح أو حتى يلمح - أن كتاباته مثل عصا موسى، عندما تنزل إلى ساحة التحدي ستلقف مَا يَأْفِكُونَ.

حسام ليس مشغولًا بتهليل ناقد، أو بالسعي المحموم خلف جائزة، هو مشغول دائمًا بالقبض على جملة واحدة صادقة، ومنها ينطلق ليحكي ويقص نبأ الأحياء والراحلين.

حسام مؤمن جدا بتلك النصيحة الخالدة «اكتب عما تعرف»، وهو يعرف الكثير، ولذا لا ترى عرقه وهو يحفر الصخر بأظافره بحثًا عن فكرة.

لكلٍ وجهة هو موليها، ووجهة «حسام» هي الصرامة، هو يحدد -بدقة-  زمان ومكان قصته، ويشحن هواء القصة بعبق معانيها العميقة البعيدة، ثم لا ينسى الظل والنور، ولا يغفل عن الربى والقيعان، تقرأ القصة من قصصه فتقبض - بيديك الاثنتين-  على معنى الكتابة الخالصة لوجه الفن، وتعرف الفارق بينها وبين الشعوذة التي يحتال بها بعضهم على جماهير القراء تساندهم فى شعوذتهم طائفة من النقاد الذين لا يرقبون فى قارئ إِلّا وَلَا ذِمَّة.

فى مجموعته الجديدة «بالصدفة والمواعيد» الصادرة عن دار العين، يؤكد حسام خلود بيت المتنبي" لِكُلِّ اِمرِئٍ مِن دَهرِهِ ما تَعَوَّدا".

 فعادات حسام لم تتبدل ولم تتحول، إنه يكتب عما يعرف، ولذا فهو يكتب عن عالمه الخاص، ولكنه بقدرة الفن الحقيقي يورط قارئه في دهاليز هذا العالم، فلا يتأفف القارئ من كاتب يكتب عن عالمه الخاص، بل يجد لذة المشاركة في الوجع الإنساني، وفى حرقة الفقد ومرارة الهجران، فنصبح كلنا حسام فخر، أو كأنه صوتنا الصارخ فى البرية.

منذ ضربة البداية، يعلن الكاتب الكبير هوية مجموعته، مستعينًا بكلمة للكاتب الأمريكي بول أوستر "القصص لا تحدث إلا لمن يعرف كيف يحكيها".

هل الأمر كما قال السيد أوستر؟

كلنا تحدث لنا القصص، وكلنا تقع القصص على قلوبنا، ولكن لسنا فى الحكاية سواء، فليت السيد أوستر قال: "الذين يعرفون كيف يحكون هم فقط الذين تحدث لهم القصص".

قصص حسام مرت علينا جميعا، فلماذا لم نكتبها؟

لأننا ببساطة لا نعرف كيف نحكى الحكاية.




حسام يعرف كيف يحكى الحكاية، ولذا يجعل من حادثة عابرة قصة تهز أعماقك وتنبهك إلى حقيقة الحياة التي هى  «الوعد والمكتوب» و«المقدر والنصيب»، أو «بالصدفة والمواعيد»، ففي قصة» عربية التين الشوكي»، مفتاح سحري نلج - بفضله - إلى أعماق المجموعة ومعناها البعيد.

فى قصة التين الشوكي، نعيش لحظات مع أسرة، من أب وأم وولدين، لا يشترون الخبز الفينو، إلا من مخبز بعينه، يقع فى ضاحية مصر الجديدة، هنا تبز موهبة حسام فى تقديم تفاصيل جد صغيرة، لكنها مؤثرة، فلا يفوته وصف رائحة الفينو الخارج توا من نيران الفرن، وكيف كان بطل القصة وشقيقه يسارعان بالتهام أكبر عدد ممكن من أصابع الفينو، وذات ليلة، لم يذهب إلى المخبز سوى بطل القصة ووالده، فرح بطل القصة لأنه سيلتهم بمفرده نصيبه ونصيب شقيقه من أرغفة الفينو، فجأة وقعت عين الأب على بائع تين شوكي يقف مع طفله ليبيعا ثمار التين للعابرين، أوقف الأب سيارته وتوجه نحو بائع التين، وعندما عاد كانت أنفاسه متهدجة وصوته مختنقا، ثم بنبرة أسى قال لولده: الليلة لن نذهب إلى المخبز.

كانت مفاجأة تعيسة للصبى، وعندما سأل أباه عن السبب، قال الأب: لقد قدمت لبائع التين كل ما معي من نقود، زكاة عن الصدفة وضربة الحظ.

كان من الوارد أن أكون أنا مكان البائع وتكون أنت مكان ولده، ولكنها الصدفة.

من باب الصدفة يمكننا الدخول إلى المجموعة ومعايشة كل قصصها، فتلك الصدفة وتلك المواعيد هى الخيط الذى يربط حبات المجموعة، ويلملم أجزاءها فتصبح كيانا واحدا وإن تعددت وجوهه.

الصدفة نفسها ستلعب دورا محوريا فى قصة "مع الضوء المشع"

كان بطل القصة - الذى هو الكاتب نفسه - مع والده والأسرة يعيشون فى الاتحاد السوفيتي، ولأن الوالد هو اللواء أحمد فخر، أسطورة سلاح المدفعية المصري، والأم هى شقيقة شاعر الشعب صلاح جاهين، فقد تعامل السوفييت مع الأسرة تعاملا متميزا.

زار الأسرة شاعر روسيا الأكبر ،يفجينى يوفتيشنكو، أنشد الشاعر - تلبية لطلب الأب - شيئا من شعره، وكان بطل القصة يعامل الضيف الكبير معاملة رسمية، إلا أن الشاعر طلب منه أن يناديه بـ«دياديا يفجينى»، أي  عمى يفجينى.

ثم مرت السنون، ومات الأب والأم، وتفرقت الأسرة، ومات شاعر السوفييت فى مستشفى أمريكي!

وعرف البطل بموت الشاعر من جريدة أمريكية، فتذكر ما كان بينه وبين الشاعر، فقرر إرسال ورد، تعبيرا عن مواساته، ولكنه اصطدم بتقليد روسي راسخ، يقضى بأن يكون عدد الأزهار المقدمة فى المناسبات السعيدة فرديا وعدد أزهار الحزن زوجيا.

قال البطل: «اخترت أن أبعث بأربع وردات حمراء قضيت وقتا طويلا ومُضنيا أملى على عاملة تلقّى الطلبات رسالة مطولة تكتب على البطاقة المرفقة دياديا يفجيني، إليك فى رحلتك الأخيرة أربع وردات.

 واحدة لذكرى لقائنا الوحيد.

 وواحدة لتربيتك الحنون على كتفي.

 وواحدة للنور الساطع المٌشع منم وجهك الوسيم.

 والأخيرة للشعر الجميل الذى كان يمكنك أن تكتب".

وللحق فقد خان «حسام» منهجه فى تلك القصة، فقد كان يجب عليه كسر التقليد الروسي بأن يرسل خمس أزهار، ولتكون الخامسة هدية زكاة عن الصدفة والمواعيد التي جمعته بشاعر كبير، كما فعلها أبوه من قبل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جريدة صوت الأمة / السبت 28 مايو 2022