الثلاثاء، 25 يوليو 2000

فكري الخولي : السجن عقوبة حبى لضوء الشمس (3-3)


 


من ضمن ما يميز "الشغيلة" والفقراء عن باقي البشر أنهم أبداً لا يعيشون سنوات "المراهقة، الأحلام، التوهان، السرحان، اللعب لوجه اللعب، الشقاوة، العفرتة، وأخيراً الروشنة" إنهم وبحكم ظروفهم يخرجون بسرعة طلقة رصاص من زمن الطفولة إلي مكابدات الرجولة.

وهكذا غادر سريعاً طفلنا العزيز فكري الخولي طفولته ليكتب مبكراً جداً مع رفاقه السطور الأولى في تاريخ الصناعة في مصر الحديثة وليكون شاهداً رأي كل شيء وأودع قلبه كل "الحكاية" من أول كرباج مزق وجه عامل إلى "كلابش" قيد الأحلام والأشواق قبل أن يكبل المعاصم.

والآن يجب أن أعترف أني قرأت كثيراً جداً عن لحظات استقبال الشعوب لمحرريها ولكني أبداً لم أرتجف مثلما ارتجفت وأنا أقرأ ما خطه العم فكري عن لحظات استقبال عمال شركة المحلة لمن ظنوه "المخلص" ماذا كتب العم فكري؟

هيا نقرأ أو نرتجف معاً.

عباس حليم

حصل اجتماع وراه اجتماع بين العمال، وكان الكلام كله يدور حول حضور عباس حليم إلي المحلة لإنقاذ العمال من طغيان الشركة. الكل قال إن عباس حليم رجل ولا كل الرجال، فهو من العيلة المالكة وبعدين هو لا يخاف من أحد. مضت الأيام ومع كل يوم تكبر آمالنا في عباس حليم. وكل العمال كانوا مؤمنين أنه أول ما ينزل المحلة هيروح ماسك كرباجه وينزل بيه على ظهر كل الريسا والمديرين اللي خلوا عيشتنا مرار في مرار. يوم والثاني والمحلة اتملت بصور عباس حليم. كنا بنشتري الصورة بخمسة تعريفة، عن نفسي اشتريت ثلاث صور، شوية والعمال اتشجعوا وراحوا معلقين الصور فوق المكن، طبعاً الريسا غضبوا وقطعوا الصور فالعمال اشتروا صور غيرها، عشنا ننتظر حضور عباس حليم اللي هيخلصنا من الذل والسل والموت اللي بنشوفه كل يوم على إيد الريسا. ثم جاء اليوم الموعود وباتت المحلة ساهرة إذ لم ينم العمال ليلتها. وفي الصباح وأذكر أنه كان يوم أحد خرجنا إلي الشارع. كل العمال كانوا في الشارع وتوجهنا جميعاً إلى الصوان الضخم الذي ضم آلاف العمال.

وإذا بصوت يقول أيها العمال فلنتجه إلى محطة السكة الحديد.

وبالفعل توجهنا إلي محطة القطار، وإذا برجل يطل من شباك القطار رجل أبيض له عينان زرقاوان وجسد ضخم حليق الذقن والشارب ساعة ما شفناه ألقينا بأنفسنا على عربات القطار وتعالت الهتافات عاش المنقذ عاش الزعيم عاش قاهر الظلمة عاشت العمال.

اختطفناه اختطافاً وحملناه فوق الأعناق. ووصل الموكب إلي الصوان في أكثر من ساعتين مع أن المسافة لا تستغرق أكثر من دقائق قليلة. وداخل الصوان وجدنا أولى المفاجآت إذ وجدنا الميكانيكية هم الذين يتصدرون الصوان رغم أنهم هم أنفسهم الذين مزقوا الصور التي كنا نعلقها فوق المكن. بعد طول انتظار تكلم عباس حليم فإذا به يتهته بكلام ليس معروفاً ولا مفهوماً. فراحت العمال تضرب كفاً بكف في استغراق ودهشة، واحد يقول يا عم دا بيتكلم باللاوندي وواحد يقول يا عم دا بيكلم الميكانيكية المتعلمين. وقال آخر ما تسمع يا جدع أنت وهو فرد عليه أحد العمال قائلاً يا عم دا أنت لو دخلت الأزهر عمرك ما تفهم لا أنت ولا اللي خلفوك كلمة من كلامه، فجأة انتهى كلام عباس حليم دون أن نعرف ماذا قال فرحنا نصرخ يا جماعة حد يفهمنا الراجل دا قال إيه؟ واحد من اللي كانوا جنب عباس حليم وقف وقال لنا يا أيها العمال النبيل عباس بيحبكم وبيقول لكم إنه راح يفتح نقابة لكم هنا نقابة يشترك فيها كل العمال.

صورة للنقابة

أربكتنا هذه المفاجأة لقد كنا ننتظره لكي يجلد بكرباجه ظهور الظالمين ولكنه خيب آمالنا وتكلم كلاماً لم نفهم منه شيئاً وها هو يتحدث عن شيء يسمى "النقابة" الحقيقة كانت صدمتنا عظيمة وراح العمال يسخر بعضهم من بعض، انتهي هذا اليوم ورجعنا إلي منازلنا مرهقين وحزانى.
 بعدها بأيام بدأت فكر النقابة تسيطر علينا وبعد طول مناقشات واجتماعات اتفق العمال على أن النقابة مثل العيار الناري الذي لو لم يصب فهو على الأقل قادر على تخويف أعدائنا. سألت أحد زملائي علي النقابة فقال لي النقابة هتحمينا من الظلمة ودا كان كفاية لكي نسارع جميعاً بالانضمام إليها، وبالفعل دفعنا الاشتراك واتصورنا علشان نطلع الكرنيهات كانت أول مرة أتصور فيها في حياتي وبرضه كانت أول مرة معظم العمال يتصوروا فيها فرحنا بالصور جداً وكل واحد قعد يبص علي صورته ويضحك. مضت الأيام زيها زي بعض حتي حدثت الطامة الكبرى عندما سمعنا أن الشركة هتعين بنات في الشغل.
 العمال قالوا حيفصلونا وبالذات كل من اشترك في النقابة هيتفصل ويعينوا البنات مكاننا طبعاً إحنا كنا مستغربين إزاي البنات تشتغل وسط الرجالة وذات يوم ونحن متجهون إلي المصنع وعلي الباب الخارجي كانت الشائعات قد تحققت. مئات من العاملات كن واقفات ملتصقات بجانب السور بتاع المصنع بنات من مختلف الأعمار منهن من لا تتجاوز العاشرة ومنهن من هي في الساعة عشرة معظمهن من الفلاحات ذات الوجوه السمر بملابس شيت ملونة واصلة للأرض مغطيات رؤوسهن بطرح سوداء، وأخريات بملابس حتي الركبة ليست جديدة ولكنها نظيفة وأحذية بكعب عال وعيونهن خضراء من علي بعد وقف العمال وقد أعماهم الحقد على البنات والغضب منهن واتفق العمال على ضرب البنات وطردهن من المصنع ولكن ساعة الجد لم يقدم أحد على ضرب البنات إلا أنا والواد الغريب والواد سيد الصفتي فقد أمسكنا بألواح خشبية وثبتنا فيها مئات المسامير وانتظرنا البنات بين المكن وما إن خرجنا حتي تقدمنا إليهن وغرسنا الألواح ذات المسامير في أجسادهن فعلت الأصوات "يا خرابي" "يا دهوتي" آه ياما" "آه يابا" "يا ولاد الكلب" واندفعت إحداهن نحوي بقوة وأمسكت بجلبابي وشعرت بالمصيبة قائلاً لنفسي رحت في داهية مالم أتخلص منهن ولكن أتخلص إزاي؟ أمسكت باللوحة في يدي واستجمعت قواي قائلاً سيبوني سيبوني يا ولاد الكلب سيبني لفتح بطنكم.
 كن يغرزن أظافرهن بجسدي (اللهي يحرق قلب أمك عليك يا ابن الكلب هو انت إيه عفريت) استجمعت شجاعتي ودفعت باللوحة بكل قوتي في جسد إحداهن وإذا بي أسمع صرخات عالية كانت اللوحة قد أصابت إحدى البنات في مقتل رأيت الدم ينزف من البنت المصابة من أماكن متعددة في جسدها، اقشعر بدني وأنا أرى جسد البنت الأبيض مغطي بالدماء وإذ بي أنا الآخر تتساقط الدموع من عيني دون أن أبكي حزنت جداً لما فعلت قائلاً لنفسي: "هاروح فين من ربنا؟ كان مالي..؟ لو أصابتني دعوة من الدعوات المقززة التي سمعتها أبقي أعمل إيه..؟ أقول إيه لأمي..؟ أعمل إيه لما تروح الواحدة منهن دي الوقت لأمها وتوريها الدم..؟ حيدعوا عليّ.. وحيقولوا يحرق قلب أمه عليه.. أنا خالفت كلام أمي.. أمي كانت موصياني أن أكون في حالي.. كثيراً ما سمعت منها (الخلف الخرا يجيب لأهله النعيلة) وكان مالي.. ما تنحرق الشركة على أصحابها.. هو أنا حاعدل الكون..؟‍‍! الأرزاق بيد الله.. وهي أختي حُسن مش كانت رخره بتشتغل..؟ إيه الفرق بين شغل الفاعل والشغل في المصنع..؟ كانت بتشتغل ليه مش علشان تربيني..؟ ساعدت أمي.. ياما شالت الطين علي دماغها.. ياما طلعت السقالة وراء البنايين واشتغلت بعد موت أبويا.. اشتغلت مع الرجالة.. وأمي كانت عارفة ما حاشتهاش.. وماحاشتهاش ليه؟ من الجوع والاحتياج.. مش أحسن ما كانت تمد إيدها لحد..؟ ما هو أبويا مات وماسبلناش حاجة ناكل منها.. ليه ما يكونوش أبهات دول ماتوا رخرين وجم الشغل علشان يساعدوا أخواتهم.
 أختي كانت بتجيب لي حاجات وهية جاية من طنطا" وبعد ذلك كنا نستخبي وسط العمال علشان البنات لا يتعرفن علينا وفي يوم من الأيام كانت المفاجأة عندما وقفت البنات يتأملن وجهي ويصرخن هوه ده هوه بعينه وكدت أجري ولكني خشيت أن تضحك البنات عليّ فوقفت ناظراً للبنت التي سبق لي أن ضربتها كانت ذات عيون خضراء، ورموش مدببة وحاجباها مكسوان بشعر ثقيل أسود ووجهها أبيض وخدودها حمراء ورقبتها طويلة مثل رقبة الغزلان التي رأيتها في الصور كان اسمها "محاسن" البنات أول ما شافوني واقف ومش خايف قعدوا يندهوا على العمال بلدياتهم اللي من المحلة وفجأة العمال الرجالة جم علشان يضربوني ولكن أنا والواد الغريب والواد الصفتي مسكنا الألواح وهجمنا على العمال فخافوا مننا وجروا من قدامنا فصاح الولد الغريب في البنات جبتوا عجولكم علشان يضربونا طيب أهم جريوا.
العمال لما عرفوا إن إحنا مش خايفين اصطلحوا معانا وقالوا لنا إحنا مش هانخلي البنات تفرق بيننا والبنات لما لقيوا الرجالة اصطلحوا معانا.. بطلوا مناكفة فينا وبعد يومين جاء لي أحد العمال وقال لي تعالى اتفرج على البنات وهن يعملن دخلت معاه، إلى العنبر فوجدتهن مثل العصافير يعملن بكل نشاط وجدية وعدت وقلت لنفسي بنت زي "محاسن" تطلع وتتبهدل ولو كنت من أهلها أديها زي ما هي عاوزة.. وأنا كنت ليه باعمل كده؟

مشكلة محاسن

بنت زي دي أضربها ؟ همه أهلها ودوها الشغل ليه؟ وماودوهاش إلا للاحتياج، بنت زي دي تتلف في الورق.. وتصعبت في نفسي: "أختي ياما شالت طين فوق دماغها".. ياما طلعت وراء البنايين اشتغلت علشان أمي وعلشاني، هي كانت أكبر مني، وأخويا الكبير إبراهيم سابني ومشي، اتجوز وخد مراته ومشي يمكن تكون دي أبوها مات وأمها مشغلاه زي أختي ما اشتغلت.. خلصنا من مشكلة محاسن وبقيت أنا وهيه أصحاب خصوصاً بعد ما عرفت أنها بتساعد أمها في بيع عيدان القصب وكمان أنا في مرة أدخلت عند الملاحظ ورفعت عنها الخصم اللي كان عليها، بعدها خلصت من مشكلة محاسن بدأت مشكلة النقابة والحكومة والعائلة المالكة ضغطوا على عباس حليم وقالوا له ما لهش دعوة بالعمال، وعلى ذلك تم إغلاق النقابة، وكانت أتعس لحظة في حياتي اللحظة التي رحت فيها النقابة، ولقيت بابها مقفول واليافطة متقطعة ونوره مطفي، وفي يوم من الأيام جاء خطاب من أمي كانت المرة الأولى التي أتسلم فيه خطابها، قالت أمي في خطابها:

ابني الحبيب..

إلى من أحبه وأهواه في الحب دائمًا لن أنساه.

ابني..

منذ فترة ونحن في قلق.. لم تصلنا أخبار مطمئنة. بل وصلنا أخبار أنك تدور على حل شعرك.. وكم يوم يمر ولا نراك وكأنه سنة كاملة خاصة عندما أسمع أصوات من كانوا يلعبون معك في الشارع.. إنني كلما سمعت هذا وكنت وقتها باكل ــ انصدت نفسي عن الأكل ــ صورتك لم تبرح خيالي كلما ذهبت إلى الغيط أو نمت.

الأخبار التي سمعتها أقلقتني وأقلقت أخواتك ولا مجال للكتابة عنها هنا.. أخواتك بخير والحمد لله.. معزة أختك خسكية ولدت أربعة.. أما من جهتي فأنا كل يوم جمعة باطلع م الفجر على الطرب كما كنت أفعل دائماً لزيارة المرحوم والدك وأقعد من الفجر على الطربة "عشان أوريه نفسي وأقرأ عليه الفاتحة نيابة عنك" وباكسر العيش وبافرده على الطربة، وبادي للعيال الصغيرين قراقيش.. رحمة ونور على روحه.. وأنا يا ابني العزيز في انتظارك على شوق.

إنني أخشي أن أموت وأتركك تتبهدل، كل أخواتك اتجوزوا ومابقاش إلا أنت.. إنني لا أستريح إلا إذا تزوجت.. احضر حالاً لتزيح عن قلبي المخاوف والأحزان.

أمك.

بعد أن تلقيت الخطاب سافرت إلى بلدنا وبعد السلامات والتحيات سألت أمي عن سر الخطاب فقالت لي حاقولك حاجة تفرحك.

أنا بعت لك علشان أفرح بيك.. عاوزة واحدة تساعدني بعد ما أخواتك اتجوزوا.. وأختك خسكية هاتدخل في الشهرين الجايين.. وأنا عاوزاك تتجوز معاها.. هاجوزك واحدة كويسة.. بنت على قد حالنا وجزت على شفتيها.. فسألت من جديد:

إنتي ليه عايزة تجوزيني دلوقتي؟.. أنا لسه صغير.. فقال محمد: علشان كده بعتنا لك.. من زمان الفرح ما دخلش لنا بيت، ما عندناش في الحجر غيرك.. وعادت أمي تقول:

واحدة تنفعك.. تعيش مع الزمن وياك.. وانتظرت، وانتظرت بفارغ الصبر تنطق باسمها، وتجسدت أمام عيني صور عديدة.

زاوج فكرى

.. رقية.. محاسن.. امتثال.. وقلت لنفسي "مين دول يا ترى" هاتختار دول تلاتة والتلاتة أحسن من بعض" وترددت بينهن "محاسن.. فقيرة ومن أصل.. ورقية من عيلة الواحد يستند عليهم وقت الضيق" وعادت صورة امتثال تظهر أمام عيني وهي تقول: "يا خاين.. أنا بحبك.. قول لأمك أنا بحبك قول لها عني" ولكن صوت أمي كان مخيباً لك، أمالي.. قالت بصوت حاكم المحكمة وهو يزعق على المتهمين:

ــ زينب إبراهيم غرابة.. وكان ذلك أغرب من الخيال بالنسبة لي.. وأضافت أمي: قوم يا واد يا محمد.. قوم أما نخطبها له.. ما حدش عارف الزمن هايجيب له إيه.. وأذهلتني المفاجأة ودارت بي الدنيا وأنا لا أحس بأمي وهي تتكلم ولم أدر ماذا أقول.

أواجهها بالرفض؟.. إيه؟.. أقول أنا صغير.. أقول لها أنا عايز واحدة من التلاتة.. إنها لم تتعود مني المناقشة.. وزينب دي تبقي مين؟

صحيح دي تبقى بنت خالتي.. إنني لم أرها منذ متي؟ منذ أن دخلت المصنع.. ماذا أقول لامتثال التي في انتظاري.. ماذا أقول لها؟ بعد أن سمعت من أمها: إياك تكون من نصيبك.. وتجسد لي وجهها المشرق وهي تقول لي: مع السلامة تجسدت لي وهو ترفع خصلات شعرها بينما تفسح لي مكاناً فقلت لأمي وأنا مرتجف "مش هاتجوز إلا اللي أنا أعرفها.. أخطبوا لي واحدة من التلاتة.. محاسن أو امتثال أو رقية، انت عارفهم.. لم أكن قد حددت من منهن سأختار وفوجئت أمي وشحب وجهها، ونظرت إلىّ مبهوتة فأعدت لها ما قلت.. وإذا بصفعة تنزل على وجهي.. بتقول إيه؟ كمان بترد.. هو علشان ما رحت المحلة بتعمل كده.. باقول: فكري.. فكري.. فكري.. تعمل كده11 بتحب إيه حبك برص.. فاكر إنك حتدور على حد شعرك؟ وأحسست بالمهانة.

وخشيت صفعة أخرى فاندفعت هارباً من البيت.. وأخذت أجري وأتعثر في الظلام الدامس، وهواء لافح يصفعني.. لا صوت ولا حركة.. والنجوم تملأ السماء، وكلب يعوي من بعيد، وأخيراً لم أجد بدا من الزواج من زينب بنت خالتي ويوم تزوجتها لم أكن أعرف أنني سأحبها كل الحب ولم أكن أعرف أنها ستقف معي في كل أزمات حياتي بعد زواجي منها أدركت أن أمي كانت على حق، فرشت لي أمي غرفتي بفرش لم يدخل بيتنا من قبل.. سرير.. دولاب.. ومرتبتين حاجة آخر عظمة.. بعد الزواج بأسبوع عدت إلي المصنع لأجد الحالة غير الحالة كانت مظالم الرؤساء قد زادت بشكل لا يحتمل وراحت شكاوي العمال تتزايد وفجأة مات الملك فؤاد، فانتهز العمال الفرصة وحولوا جنازة الملك إلي مظاهرة تهتف بحقوق العمال وأمام ضغوط العمال أقرت الحكومة قانون إصابات العمال كان أسعد يوم في حياتنا صرخ العمال من الفرحة قائلين: صبرنا ونلنا اللي هيموت فينا هياخد دية، وبرغم فرحنا بقانون إصابة العمال رحنا نطالب بتقليل ساعات العمل، وبالفعل أصبح العمل تمن ساعات يومياً ولكن ليس لكل العمال، الأمر الذي جعلنا نضرب عن العمل ونشتبك في معارك مع الرؤساء ومدير المصنع في هذه الأيام وأنا أعاني من البطالة ظهر معدن زوجتي زينب الحقيقي أبداً لم تشتك من الفقر ولا من الجوع بل كانت تبيع الحلل من ورائى وتصرف علي المنزل وكنت كلما عاتبتها قالت لي بكره ربنا يفرجها عليك وتشتري أحسن منها.

القبض على الزعماء

قبض البوليس على زعماء الإضراب، وتم تحويلهم إلي المحاكمة وكانت النيابة كالعادة ضد العمال وكذلك المحكمة وحكم بالسجن على زعماء الإضراب وأنا وباقي العمال لن نسكت روحنا نواصل الإضراب ونواصل النضال من أجل تقليل ساعات العمل، كل أملنا في الحياة تركز في نقطة واحدة، وهي أن نري ضوء الشمس لأننا كنا نخرج من بيوتنا والشمس لم تطلع بعد ونعود إليها وقد غربت، مطالبنا البسيطة هذه واجهتها الحكومة بكل عنف، وتم إلقاء القبض علينا ووضع الكلبشات في أيدينا إن أول سجن جربته في حياتي كان بسبب حبي لضوء الشمس.

هكذا سيدي القارئ وصلنا إلى ختام الرحلة بأجزائها الثلاثة المطبوعة، بقي جزء رابع مازال مخطوطاً محفوظاً لدي أسرة المناضل الراحل "فكري الخولي" وأنا وإن كنت أدعو أسرة المناضل الراحل "فكري الخولي" إلى المسارعة بإصدار الجزء الرابع فإنني نيابة عن كل عارفي فضل هذا المناضل الكبير أدعو السيد وزير الإعلام، إلى إخراج هذا العمل إلي النور من خلال تقديمه في مسلسل تليفزيوني.. علي غرار مسلسل "الوسية" كما أدعو السيد الدكتور سمير سرحان رئيس الهيئة العامة للكتاب والمشرف العام على مكتبة الأسرة إلي طبع الرحلة لكي يحظي الجميع بقراءة هذه الوثيقة النادرة والفريدة وإن لم تسمح ظروف هيئة الكتاب بإصدار هذا العمل فإن العبء ملقي على عاتق الناقد الفنان الأستاذ على أبو شادي رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة لكي يُشرف إحدى سلاسل الهيئة بنشر الرحلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة القاهرة ــ 25 يوليو 2000

الثلاثاء، 11 يوليو 2000

"عيّل" اسمه فكري الخولي عمره 11 سنة يؤرخ بالدم لميلاد الصناعة المصرية (1 ـ 3)




لم يسبق في تاريخ الرواية العربية عمل من هذا الطراز فقد ألفنا في عالم الرواية أن نرى الفلاح يعين ابن عمه الذي تعلم في المدينة واحترف الكتابة، وأن نرى العامل بعين "المثقف الثوري" الذي انحاز لقضيته، بعد أن عرف أنه إنسان مثله. لكننا أبدًا لم نقرأ رواية بقلم فلاح أو بقلم عامل، يصور حياته كما يراها بعينيه..
 ويتيح لنا أن نراه كما يرى هو نفسه. وهذا الذي لم نقرأه أبدًا هو أن ما ينفرد به هذا العمل الذي لم يسبق له مثيل في الأدب العربي. فهنا لا يكتب "محمد حسين هيكل باشا" عن زينب الفلاحة الجميلة وقريتها الجاهلة التي تضطهد عواطف العذارى الجميلات، وهنا لا يكتب وكيل النيابة توفيق الحكيم عن لغز "ريم" التي يختلج رمش عينها فينبسط ظله على فدان.
 وهنا لا يصف حياة العمال نجيب محفوظ من مقعد القهوة، ولا يسرد الحكايات في قاع المدينة د. يوسف إدريس مستعينًا بالسماعة وكشف الأشعة قبل أن يتولى كشف الحالة. هنا يتولى الفلاح جميع هذه المهام.
هنا الفلاح يروي قصته بلسانه، والعامل يسجل سيرته بقلمه ولا يستعين "بخبراء أجانب" من أساتذة القلم المتطوعين للكلام باسمه، وفي اعتقادي أنه سيمضي وقت طويل قبل أن يظهر عمل أدبي يشبه عملنا هذا، لأن الأدب عندنا حرفة للخاصة والقلم له أهله، ولا يتصور الناشر العربي أن ينشر "يوميات ساعي بريد" إذا كان كاتبها ساعي بريد بالفعل.

فالسيرة الذاتية للإنسان العادي لا تعتبر مادة صالحة للنشر ولا تضاف إلى رصيد الأدب ما لم يكن صاحبها من أهل القلم المتعمدين. إن هذا العمل هو دعوة إلى كل عربي لكي يسجل تجربته بلا حيرة ولاتردد ولا تكلف.. لا لصالح القارئ وحده، وإنما لصالح الأديب المحترف. فما يرويه هذا العمل " الرحلة " يغطي مرحلة مهمة تماماً في تاريخ مصر المعاصر. وهي المرحلة التي نشأت فيها الصناعة المصرية الحديثة أيام طلعت حرب وشركات المحلة. ففي مختلف بلدان العالم التي سبقتنا إلى الثورة الصناعية، رسم وروى عن الأدب صورة المجتمع الذي عاصر هذه الثورة، وسجل الآلام والآثام والضحايا الذين قامت على أكتافهم الصناعة، أما الآلام والآثام المصرية والضحايا المصرية التي صاحبت عصر النهضة الصناعية المصرية..
 فقد تجاهلها الأدب المصري تمامًا. وكان طبيعيًا أن يتجاهلها، لأن الصناعة في مصر نشأت في صراع مع صناعة الاستعمار الأجنبي. فكان طابعها الوطني يمنع الرأي العام المصري، والعمال المصريين من التشهير بآثامها. والآن وقد زال هذا الاعتبار، فإن تاريخ نشأة الصناعة المصرية الحديثة والآلام التي صاحبتها والضحايا الذين سقطوا في سبيل أن تدور عجلاتها أصبح ممكنًا، وواجبًا أن يعرفه الجميع. وهذا العمل يؤدي هذا الواجب.

السطور السابقة ــ للأسف ليست لي ــ وإنما هي إحدي إبداعات الراحل الكبير صلاح حافظ ــ رحمه الله ــ قدم بها " للسيرة الذاتية لفكرى الخولى " التى كتبها تحت عنوان " الرحلة " .

لقد حرصت على إيراد معظم المقدمة لأنها إحدي المقدمات التي تلخص العمل ــ أي عمل ــ في سطور.

· والآن ماذا عن فكري محمد الخولى صاحب الرحلة وكاتبها؟

في بدايات عام 1916 كان محمد الخولي عامل البناء قد ترك قريته "كفر الحما" مركز طنطا مديرية الغربية وذهب إلى "مصر" باحثًا عن لقمة العيش. وفي أحد الأيام وبينما هو فوق السقالة سمع امرأة تنادي ابنها قائلة: "تعالي يا واد يا فكري" ترك العم محمد ما في يده وراح "يستحلب" حلاوة الاسم "فكري"، إنها المرة الأولى في حياته التي يسمع فيها هذا الاسم، إنها المرة الأولى في حياته التي يعرف فيها أن هناك بين الأسماء اسم فكري، وعندما انتهت ترحيلة محمد الخولي عاد إلى قريته وقال لزوجته: "أنا جبت لكي هدية من مصر.. جبت لكي اسم فكري.. لو جبت ولد سميه فكري.. اسم من مصر".

وفي 26 فبراير من عام 1917 جاء فكري إلى الحياة وفرح به أبواه كثيرًا إلا أن الفرحة كانت قصيرة فبعد شهرين من ميلاد فكري مرض والده ودخل المستشفي، وكان كلما زارته أم فكري يقول لها: "اتوصي بفكري.. علميه عشان يبقى زي الناس اللي في مصر". وبعد ثلاثة أشهر من ميلاد فكري مات والده.

الآن نترك بطلنا فكري الخولي يحكي لنا بلسانه قصة رحلته.

الهروب الكبير

عملت أمي بالوصية فخصتني دون إخوتي بالرعاية والاهتمام ولأنها كانت تحب أبي أحبتني ولم تنزلني من فوق كتفها وكانت كلما تعبت أعطتني لإحدى إخواتي زينب أو حسن أو خسكية فتربيت في أحضانهن جميعًا. وعندما بلغت من العمر ست سنوات حاولت أمي أن تعلمني وكانت دائمًا تقول لي: "أنا عايزاك تبقي زي الناس اللي في مصر.. أنا عايزاك تبقى أحسن من أخواتك وأحسن من أولاد البلد كلهم..
 اللي بيتعلم بيشتغل كاتب وبيتوظف واللي ما بيتعلمش بيشتغل خدام وفواعلي ويشيل علي الحمير حدا العمدة.. أنا عايزاك تبقى سيد نفسك". وعملاً بما قالته أمي ذهبت إلي الكتاب وهناك تعرفت على الولد "الغريب"والولد "السيد الصفطي" ونمت بيننا صداقة عميقة، وكانت أمي مسرورة بي وكلما ذهبت إلي السوق أحضرت لي الحلاوة الطحينية والعيش الخاص والفلافل.
وكنت أيامها أسمع عن سعد وعن المظاهرات وعن الإنجليز، وكنا ونحن في الكتاب نهتف "الله حي سعد جاي، ضرب البمبة في طيز.. العمدة وهو جاي"وكان هذا الهتاف لسعد يضايق العمدة لأنه كان من أنصار "عدلي باشا"وكان العمدة ينتقم من أهل بلدنا بأن يرسل الرجال والشباب إلي البلاد البعيدة أيام الفيضانات للعمل في الجسور بدون أجر، وكانت أمي تصعد إلى سطح الدار وتنكش شعرها وترفع وجهها إلى السماء وتدعو على العمدة الذي آخذ أخي إبراهيم إلى "السخرة" وكانت مدة "السخرة" تتراوح ما بين ثلاثة وستة أشهر، وقد بلغ من طغيان العمدة أنه لم يرسل إلى "السخرة" إلا الرجال والشباب القادرين على الزراعة، مما كان يدفع الزوجات والأمهات إلى العمل في الغيطان، وكنت أذهب مع أمي وأخواتى البنات إلى الغيط لجمع القطن وجمع الفول وتقليع البطاطا، وكثيرًا ما ذهبت مع أمي يوم الخميس والجمعة من كل أسبوع إلى الجبانة لزيارة أبي وكانت أمي تحضن التربة وتقول: "أنا عملت الوصية.. أنا رايحة أعلمه، أنا رايحة أخليه زي الناس اللي في مصر.. اقرأ يا ولد سورة الفاتحة.. سمع أبوك" وتستمر أمي في البكاء إلى أن يأتي أخوتي محمد وإبراهيم وزينب وحسن وخسكية ويبعدونها عن الجبانة. وتقدمت في حفظ القرآن حتي ختمت سورة ياسين.
وفي الأيام الأولى لعام 1928 كنت ذاهبًا إلى الكتاب كعادتي وإذ بمشايخ البلد يطلبون منا الذهاب إلى دوار العمدة وعندما ذهبت إلى هناك وجدت معظم أهالي البلد. وطلب منا العمدة الجلوس وكان يقف معه واحد أفندي وقال لنا: "يا أهل كفر الحما إحنا جينا عشان نتكلم معاكم.. بنك مصر عمل مصنع يغزل القطن.
 كنا زمان نزرع القطن ليأخذه الإنجليز.. إحنا النهاردة بنزرع القطن وحنحوله إلى قماش.. إحنا اللي حانزرع القطن وحنغزله وحننسجه عشان يبقى كل شيء من مصر.. صناعة وطنية. ابعثوا بأبنائكم عشان يتعلموا صنعة ولما حيتعلموا حياخدوا أجر كويس".
 ثم تكلم العمدة هو الآخر في هذا الاتجاه فقال: "البيه رايح ييجي بعد أسبوع ويجيب معاه عربية لوري واخد معاه كل الناس اللي عايزين يروحوا يشتغلوا في المصنع". وفي اليوم الذي حدده العمدة جاءت العربات واتلمت الناس عند الجامع لتوديع المسافرين وكان كل واحد من المسافرين جايب معاه قفة مليانة عيش ومخلل وكل أم تاخد ابنها المسافر في حضنها وتوصيه بأن ياخد باله من نفسه وجلست أنا أبكي لأن الولد الغريب والولد السيد الصفطي سافرا مع الرجالة، وجاءت أمي وهي تقول لي "ما تزعلش بكره يرجعوا أنا عايزاك تتعلم زي ما أبوك قال".
 وعندما ذهبت ثاني يوم إلى الكتاب لم أجد الولد الغريب ولا الولد السيد الصفطي فحزنت جدًا ورحت أفكر في أصدقائي، ولم يطل بي التفكير طويلاً فقد قررت أن أهرب وأروح المحلة. وذات صباح طلبت مني أمي أن أحرس البيت لأنها رايحة السوق مع زوجة أخي محمد وأعطتني خزرانة طويلة لأمنع بها الفراخ من الخروج. وبعد قليل من خروج أمي تركت البيت بكل ما فيه ومشيت أسأل كل من أقابله "فين طنطا" ولما وصلت طنطا سألت عن سكة المحلة فقالوا لي امشي بجانب السكة الحديد وتنك ماشي لحد ما توصل، فضلت ماشي لغاية بلد اسمها "الرجدية" وهي أول بلد بعد طنطا.
وبجانب هذه القرية وجدت مصلية فجلست بجانبها أبكي لأني جوعان ورآني أحد الرجال فأخذني إلى بيته وأمر زوجته أن تحضر لي الأكل، ثم قال لي: انت منين يا واد؟ فقلت: من كفر الحما مركز طنطا، وإيه اللي جابك هنا؟، أنا رايح المحلة الكبرى، ليه؟ أصل الولد الغريب والولد السيد الصفطي راحوا يشتغلوا هناك وسابوني

ـ وأمك عارفة أنك مسافر؟

ـ "لأ" .
ـ يعني أنت هربان من أمك.

وتدخلت زوجة الرجل في الحوار وهي تصيح: الله يلعن العيال ويلعن خلفتهم، زمان أمك دايخة عليك. ثم قالت لزوجها: هات الحمار ووديه لأمه ينوبنا ثواب.

وهنا تذكرت البيت اللي أنا سايبه وخفت جداً من الرجوع إلي أمي، وانتهزت فرصة انشغالهم في حل الحمار وأخذت بعضي ودورت الجري علي بره، وواصلت طريقي نحو المحلة الكبرى. ومن بعيد رأيت المداخن وكلما اقتربت رأيت المباني العالية والدخان يملأ السماء وقلت لنفسي: هنا يكون المصنع، هنا سوف التقي بالواد الغريب والولد السيد الصفطي.

وصلت المصنع وأمام بابه الكبير رأيت ناساً كثيرين كثيرين جداً ترش الملح ما ينزلش، وقفت أدقق في الوجوه باحثاً عن الولد الغريب والولد السيد الصطفي، وأحسست بإرهاق شديد ولما جلست أستريح وجدت أقدامي متورمة من المشي والجوع يمزق أحشائى، أحسست بالغربة عن أمي وأخوتي ورحت أحدث نفسي "حاكل منين"أشحت؟.. أنا عمري ما شحت وأنام فين؟!

وقطع تأملاتي صوت صفارة لم أحتمل سماعها لشدة قوتها، وفتح باب المصنع ودخل كل الناس اللي كانوا واقفين قدامه، ووجدت نفسي تسوقني الجموع إلى داخل العنابر ورأيت عيالاً تزق عربيات مليانة قطن وناس واقفة علي مكن وعيال تزق عربيات مليانة بكر وسط هذا الجو الغريب كنت أبحث عن الغريب والسيد الصفطي وأوشكت الشمس علي المغيب وأنا أبحث عن الولدين بدون جدوى، وجال بخاطري ما كان أخي يردده منأغاني الحنين والغربة

يا عم د أنا غريب والغربة كايداني

والقلب والبين والأيام كايداني

أفكار قاتمة سوداء راحت تطاردني وكدت أيأس فلم أستطع منع الدموع من عيني، وفجأة تبددت الأحزان والمخاوف، عندما وجدت يداً توضع فوق عيني من الخلف ويداً أخرى تحتضني كانت الأيدى هي أيدي من جئت من أجلهما وبقينا لحظات وكل منا ينظر إلى الآخر ودموع الفرح تتساقط من عيوننا وبعد فترة صمت قال الولد الغريب:

- أنت جاي منين؟

من البلد.

- جاي إزاي؟

ماشي

- أمك عارفة؟

أبداً.

فقال الولد الغريب: رحنا في داهية، طيب تعالي نكلم الريس علشان يشغلك معانا، إحنا بنشتغل الأسبوع دا بالليل من الساعة 8 بالليل لغاية الساعة 7 الصبح وبناخد قرش صاغ ف اليوم. أخذني ودخلت معه العنبر وجدته مليئاً بالعيال الصغار لا يزيد عمر الواحد منهم على 11 سنة.
سمح لي الريس بالعمل. دخلت العنبر، خفت من شكل المكن، المكنة الواحدة في حجم بيتنا، والسيور تقترب من السقف وحشد كبير من العمال والعيال الصغار، هذا الجو دفع الرعب إلى قلبي، ثم تشجعت وتقدمت نحو المكنة واستطعت بعد مجهود خرافي أن أركب البكرة في المكنة وهي شغالة، فرحت بنفسي جداً، ولكن لما انتصف الليل كاد النوم يقتلني، تلفت حولي فوجدت العيال قد ناموا في صناديق البكر، وبعد قليل جاء المشرفون ودلقوا علينا جرادل المياه فصحونا مذعورين، وأخيراً انتهت ليلتي الأولى بالمصنع ورحت أعدو أنا والغريب والسيد إلى الشارع.
فجأة سألتهم فين البيت اللي هنبات فيه؟ قالوا لي: مفيش بيت، إحنا بننام في الشارع لأن الشركة ضحكت علينا، في الأول قالوا: السكن على حساب الشركة، ولكن ساعة الجد قالوا كل واحد يدبر أمره بنفسه، فقاموا اللي معاهم فلوس أجروا أوضة بيسكن فيها كل 25 عامل مع بعضهم وأصحاب البيوت بياخدوا من كل عامل قرش صاغ كل شهر. خدنا المشي لغاية ما وصلنا إلي قرب المستشفي الأميري عند البحر وتحت ظل صفصافة قال الولد الغريب: "هذا هو بيتنا المؤقت، أقعد".
كان الإنهاك يهد جسمي فنمت نومًا عميقاً لم أصح منه إلا على صرخات النساء وهن يقلن "يا ولاد الكلب يا شرقاوية من نهار ما جيتوا غليتوا علينا المش". وعندما جاء الليل ذهبنا إلى المصنع وبينما نحن منهمكون في العمل صرخ الرجال والعيال صرخة غطت علي ضجيج الآلات "واحد مات.. واحد مات.. السير خطف واحد.. وعلقه في سقف العنبر.. الدم نازل يشرشب.. الدم نازل علي العنبر" جريت أنا في نفس الاتجاه كانت الجثة محشورة بين السقف والطارة اللي السير مركب عليها. بسرعة أحضر العمال السلم وانتزعوا الجثة المحشورة، ولم يتمكنوا من انتزاعها برفق فسقطت من بين أيديهم علي الأرض وغطي الدم كل المكن. وتوالت أحداث كثيرة من هذا النوع، مرة 5 عمال من عمال الشلل كانوا بيركبوا السير قام السير لفهم وماتوا علي الفور. ومع كثرة هذه الحوادث ازدادت الهمسات بين العمال "المكن لما يخرب ما بيشتغلش إلا لما يظفر بدم بني آدم".
إحنا زمان لما كانت مكنة الطحين تخرب كانوا يسرقوا لها عيل عشان يدبحوه ويظفروا بيه المكنة وعشان العفاريت تتنطط وتنطيط العفاريت هو اللي بيدور المكن" كلام وكلام وكلام وكل يوم كانت العربيات تأتي محملة بالمئات قادمين من القري البعيدة. أخيرا مضت 15 يوماً كاملة وجاء يوم القبض ويا سلام وأنا بتسلم من الصراف 23 قرش صاغ قيمة عمل 15 يوماً كاملاً، لم أصدق نفسي ووقفت أمام الرجل في ذهول ولم أنتبه إلا على صوت الريس وهو بيقول لي "اوعى حد ياخد منك الفلوس طبق إيدك عليهم كويس أوع حد يسرقك" فرحتنا كانت فرحتين، فرحة بـ 23 قرش وفرحة بالعيد والإجازة. أنا والولد والغريب والولد السيد دفع كل منا 15 قرشاً أجرة لصاحب الفرن اللي كنا بنام عنده وتبق مع كل واحد 8 صاغ، وعشان كدا روحنا ماشيين من المحلة لحد طنطا عشان نوفر الفلوس. في طنطا تفرقنا الولد الغريب ذهب إلي أخيه العامل في بلدية طنطا وذهب السيد إلى أبيه الجنايني. وصلت بمفردي إلى مدخل بلدنا كفر الحما.


عودة الغائب

وفجأة شعرت بيد ناعمة تقبض عليّ وهي تقول ضبطناك أنت كنت فين يا واد، الدنيا داخت عليك، كانت هي البت رتيبة صاحبة أختى زينب، دارت بى الأرض عندما تذكرت أنى هربان فرحت جاري منها ورايح علي الغيط، وأنا في طريقي للغيط شافتني أخرى خسكية وكانت تلبس ــ يوم الوقفة ــ ملابس سودة ومعصبة رأسها بعصابة سودة وكانت تنقل السباخ علي الحمار، لما شافتني جرت ورايا وهي تصرخ يا أخويا.. يا واد يا فكرى. لم تستطع الإمساك بي إلا عندما وقعت على وجهي فرمت نفسها فوقي وهي تصيح "أه يا خويا.. آه يا خويا.. قوم لأختك يا وله.. بص في وش أختك.. أنت كنت فين.. بوس أختك يا وله.. آه يا خويا.. كل الناس النهاردة بتعمل كحك وإحنا ماعملناش عشانك.. النهاردة الوقفة وكل الناس بتطبخ وفرحانة إلا إحنا.. أمك بتفحت في الزريبة وبتشيلني سباخ.. كل دا عشانك.. قوم يا واد اركب قدامي.. آه دلوقت بس إحنا حانعيد.. أحسست بمعني العيد عندما وجدت نفسي بين أحصان أمي.
 حكيت لأمي كل ما حدث في فترة غيابي وطلبت منها أن أعود للعمل في المصنع، فقالت لي بغضب "إزاي تبعد عني تاني؟ وأنا ما نمتش طول ما أنت غايب" ألححت عليها، وأمام إلحاحي وتدخل أقاربي وافقت أمي وبدأت تعد لي احتياجات السفر وأعطتني بعض النقود أجرة للحجرة التي سنسكن فيها أنا والولد الغريب والولد السيد.. وفي يوم السفر خرجت أمي مع عدد من أقاربي ومع أختي لتوديعي وطوال الطريق كانت أمي تبكي وتقول: "إيه اللي زانقنا علي الغربة دي.. اللي مكتوب علي الجبين لازم تشوفه العين".

العودة إلي الضجيج

مرت أيام الإجازة وعدنا مرة أخري إلي المصنع طبعاً أول حاجة عملناها إننا استأجرنا غرفة في بيت بعيد عن المصنع علشان ننام فيها ونحسن إن لينا بيت. الشغل في المصنع كان زي ما هو شقا في شقا لدرجة أن العيال اللي كانوا بيناموا أثناء وردية العمل كان الريسا بيجيبوا جردل مليان بصبغة الزهرة ويلغمطوا بيها وش العيل اللي يلاقوه نايم. وبعد شوية الريسا لاحظوا أن العمال بيناموا في دورة الميه فقاموا قفلوا دورة الميه، وعلشان كدا العمال والعيال كانوا بيقضوا حاجتهم بجوار المكن. كل الحاجات دي ما خلتنيش أكره الشغل. بالعكس كنت بحب الشغل يوم بعد يوم وكنت عايز أشرب الصنعة شرب وأفهم أسرار المكن وكل ما في المصنع. ولكن يا ريت المضايقات كانت في المصنع بس، لأ دي كانت كمان في شوارع المحلة. لأن أهل المحلة كانوا كل يوم يمسكوا عمال الشركة وهات يا ضرب فيهم وكانوا ديماً بيشتمونا ويقولوا علينا كلام قاسي جداً، أما الريسا اللي في المصنع فدول حكايتهم مع العمال حكاية لأن أي ريس كان من حقه أنه يضرب أي عامل لحد ما يموته، والضرب كان نازل علينا عمال على بطال.
أما عن نفسي أنا فالحقيقة إني كنت عامل زي اللي راكبه عفريت أي حاجة بتحصل كانت تحببني أكتر في الشغل، وفي يوم رحت المصنع سجلت اسمي في كشوف عمال الغزل ثم ذهبت لأعمل في عنبر النسيج، إيه اللي خلاني أعمل كدا معرفش. المهم رحت عنبر النسيج وقدمت نفسي للريس فنظر إلي وقال لي بكره لما تكبر أبقي أشغلك، فأنا قلت له أصل أبويا ميت وأنا عايز أشتغل في النسيج لأن أجره أحسن، وفعلاً الريس وافق على أني أشتغل وراح واخدنى من إيدى وقال لأحد العمال الكبار خد الولد دا علمه إزاي يدور المكن.
 وذهبت مع العامل والفرحة تملأ قلبي ولما اقتربت من المكن انتابني الفزع والخوف كان كل شىء بالنسبة لي جديداً كل شيء في المكن يتحرك، خيوط ملفوفة على "مطوه" مثل الخيوط الملفوفة على بكرة خيط، ولكن علي شكل أكبر وكل فتلة من تلك الخيوط ملفوفة فى سلك في "نبرة" وبهذا السلك عين مثل عين الإبرة ومركبة على مكن كله من حديد وأشد ما كان يدهشني أن المكنة كل ما فيها يتحرك بمجرد أن يعشق العامل الفرملة ويحول السير من على البطال إلى العمال بتروس تتحرك في لف القماش وذراعان يحدفان المكوك من درج إلى درج وخيوط تهتز كلما تحرك الدرج. ونظرت إلى كل الأشياء التى لم أرها من قبل وانتابني الفزع وابتعدت عن المكن واضعاً طرف جلبابي بين أسناني وتلفت حولي فوجدت بعض العمال ينظرون لي وهم يبتسمون اقترب مني أحدهم وقال لي: "أنت خايف؟ إحنا كنا زيك كده أول ما جينا من البلد وشفنا المكن دورنا الجري على بره وجريوا ورانا علشان يجيبونا.. ما هي حاجات ما شفناهاش إحنا ما شفناش غير الفأس والنورج والمحراث، دي حاجات جديدة علينا طول بالك بكره تتعلم.. أنت منين؟

أنا من كفر الحما مركز طنطا

يعني إحنا بلديات

وأنت منين؟

من الجعفرية مركز طنطا تعال لما أوريك المكنة تدور إزاي امسك الفرملة دي بإيديك الاثنين واستجمع كل قوتك وزقها مرة واحدة ولا تتركهاش إلا لما تعشق.. فعلت كما قال لي وكل ما في جسدي يرتجف ولما نجحت في تعشيق الفرملة بدأت الرهبة تزول لتحل محلها الطمأنينة، ثم علمني كيف أوقف المكنة في حالة قطع فتلة أو أكثر وعلمني كيفية ترجيع القماش وفك التروس وكلما تعلمت شيئاً زاد إيماني بإمكان تعلم الكثير مما لا أعرف..
 كذلك بدأ يعلمني كيفية أخذ الفتلة في النبرة وتركيبها في المشط وكان هذا أصعب شيء بالنسبة لي في بداية العمل في النسيج وبقيت طول اليوم واقفاً على المكنة بجانب العامل الذي كلفه الريس بتعليمي. ولما حضر الكاتب أبلغه العامل أن يضع اسمي في الكشف بناء على تعليمات الريس. وقف الكاتب مندهشاً وهو ينظر إلىّ في ذهول "مش معقول.. دانت قصير ما انتش طايل تجيب الماسورة من على اللوحة.. ورفض أن يضع اسمي في الكشف وتشبثت به كما تشبث به العامل الذي كان يعلمني وقلنا في نفس واحد: "الريس هو اللي قال كده".. فقال "طيب تعال معاي للريس".

ونحن في الطريق للريس كنت في منتهي الخوف من أن الريس قد يسمع كلام الكاتب وعند الريس وقف الكاتب يحدثه عن صغر سني وعن عدم قدرتي على العمل. ووقفت وأنا شابب على ضوافري لازداد طولاً أمامهم وبعد أن فرغ الكاتب من الكلام، شاور لي الريس وقال: "خلي بالك كويس اوعى تتعور على مهلك وأنت بتتعلم أوع المكون ينط في وشك يخزق عنيك أدى إحنا كتبناك في الكشف ومن اليوم محسوب لك اليومية خمسة تعريفة تركتهم وأنا لا أتمالك نفسي من الفرحة وفي الطريق إلي المكنة حدثت نفسي؟: "بكره أمي تعرف أن أجرى زاد.. وعندما وصلت إلى المكنة شد على إيدي العامل وقال كويس أنت عملت إيه.. وقفت علي ضوافري وشبيت.. أنا كنت شايفك وأنا هنا.. دا الكاتب ده أصلي واطئ مالوش شغلة غير قطع أرزاق الناس.. وأمك أصلها داعية لك.. ياللا أنا عايزك تاخد بالك كويس.. انت عرفت المكنة تبقي تيجي كل يوم هنا اوع تتوه.. إحنا بلديات ومن مديرية واحدة وأنا عايزك تتعلم أنا حاعلمك كويس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت فى جريدة القاهرة ــ 11 يوليو 2000

فكري الخولي : عندما قبضت 25 قرشاً شعرت وكأنى امتلكت كنوز سليمان ( 2 ـ 3 )





رغم أن مكتبتي مكدسة بكتب السير الذاتية والتراجم، إلا أن كتابين فقط هما اللذان سيطرا علىّ لدرجة "الهوس" كان الأول هو كتاب "الوسية" للرحل الكبير د. خليل حسن خليل وقد كان لي شرف مصاحبته في سنواته الأخيرة. وكان الكتاب الثاني هو الذي بين أيدينا الآن وكم تمنيت لقاء عمنا فكري الخولي وكم بحثت عنه ولكن لم يشأ الله لنا باللقاء لأن العم فكري رحل منذ أسابيع بعد أن أدى ما عليه تجاه عمله وفكره ووطنه. رحل رحمة الله عليه تاركًا لنا هذه الدرة الفريدة التي نتشرف بعرضها لنسدد بعض الدين الذي طوق به أعناقنا.. وبعد، فقد طالبني أكثر من صديق بأن أتوقف عند كل فقرة من فقرات المذكرات لأعلق عليها، ولكني أري أن أى تدخل في سياق هذه الوثيقة سيفسدها وإن كان على التعليقات فلنا جميعاً عيون ترى وآذان تسمع، وكلنا نعرف ما كان وما هو كائن.

حكاية الأسطى

الأسطى اللي قال لي إنه هيعلمني طلع راحل قد كلامه وفعلاً قام بتعليمي، فى الأول أنا كنت خايف موت من شكل المكن. المكنة كانت أكبر من بيتنا، ولكن شوية شوية الرهبة راحت وابتدأت أحب المكن وأحاول أفهم كل مسمار فيه. الحقيقة أنا معرفش سبب حبى للمكن ولكن صورة أمي وهي بتقول لازم تتعلم زي الناس اللي في مصر ماكانتش بتفارق خيالي.

 أمي دي أعظم ست شفتها فى حياتي أنا فاكر لما كنت صغير قوي وجه عندنا جدي الحاج وقعد مع أمي وفجأة أمي راحت معيطة وأخواتي البنات قعدوا هما كمان يعيطوا أتاري جدي كان عايز يجوز أمي ولكن أمي رفضت وقالت بعلو صوتها تحرم عليّ الرجالة بعد أبو فكري ومن ساعتها وأمي وخدانه في حضنها.
المهم حاولت أفهم سر المكن يعني لما كانوا العيال زمايلي يستخبوا من الرويسا علشان يناموا أنا ماكنتش بعمل زيهم وكنت مقطع نفسي في الشغل علشان أتعلم وأبقى عملت بوصية أمي اتعلمت زي الناس اللي في مصر.
وفي عز انشغالنا بالعمل، الجماعة أهل المحلة ماكانوش سايبنا في حالنا وكل يوم ينزلوا فينا ضرب وبرضه رؤساء العمل كانوا يضربونا ويعذبونا وفي كل يوم كان المكن بتقتل عامل أو عاملين وأحياناً خمس عمال وكان الرؤساء بيدفنوا العمال ولا من شاف ولا من درى، ده بالإضافة إلى انتشار الأمراض والأوبئة بين صفوف العمال لأن كل عشرين عامل كانوا بيسكنوا في أوضة واحدة والمستشفي الأميري كانت مليانة بجثث العمال اللي إيده مقطوعة أو رجله مقطوعة واللي المكوك خزق عينه واللي حالته كويسة كان مريض بالسل.
 الشركة ماكانش تعرف ليها صاحب إحنا بنشتغل زي الحمير 12 ساعة باليوم وبعدين نروح علي النوم وماعمرناش شفنا صاحب الشركة. المهم إن إحنا نقبض الأجرة كل 15 يوم. بعد وقوفي علي المكن لوحدي وبدون مساعدة من حد نزل قرار من الإدارة إني اللي النسيج بتاعه يكون وحش يتخصم منه 5 صاغ، طبعًا العمال زعلوا ولكن مين يقدر يكسر كلام الإدارة. المهم أنا اشتغلت بإديا وأسناني علشان النسيج بتاعي يطلع حلو وأقبض المرتب بتاعي كامل. وفي يوم القبض كانت المصيبة الكبرى لأني لما رحت للصراف أعطاني قرش صاغ واحد وقال لي باقي الأجرة بتاعتك اتخصمت منك لأن التوب اللي انت نسجته طلع معيوب، الصراف قال الكلام ده لناس كتيرة قبلي والعمال اللي اتخصم منهم قعدوا يبكوا ويلطموا على وشهم. أنا طبعا بكيت ولكني كنت مقاوح وقعدت أستعطف الصراف وأقول له حرام والنبي يا عم دا أنا يتيم وأبويا ميت وبجري على رزق أمي وأخواتي.
 الصراف كش فيا وطردني برضه، فقعدت أزعق وأقول حرام عليكم لغاية ما لقيت نفسي بمكتب المدير. العمال الرجالة الكبار لما شافوني وأنا داخل أوضة المدير قعدوا واستعجبوا من جنوني ولكن أنا كنت مستبيع لأنه في الآخر مش هخسر حاجة. المدير أعجب بشجاعتي وأمر بإعطائي التوب اللي نسجته وطلع معيوب وفعلاً أحضروا لي التوب وسط دهشة الجميع. وأنا خارج من المصنع ومعي التوب مسكوني علي البوابة وقالوا لي رايح بالتوب فين يا حرامي انت لازم سرقته وقعدت أحلف ليهم أن المدير ذات نفسه هو اللي أعطاني التوب ولكنهم لم يصدقوني إلا لما جاء واحد من الرؤساء وقال لهم سيبوه التوب فعلاً بتاعه.
الواد الصفتى والواد الغريب ماكانوش مصدقين إني خرجت بالتوب فعلاً. بعدما خرجنا من المصنع رحنا ندور على دكان نبيع له التوب وفعلاً بعته بـ 25 قرشاً وحسيت أني امتلكت كنوز النبي سليمان. خدت الفلوس وجري على بلدتنا ولما أعطيت الفلوس لأمي قعدت تبكي وتدعو لي بالسلامة طبعًا أنا مانسيتش أجيب منديل مشغول لأختي الكبيرة وعيش خاص وفلافل علشان يدوقوا أكل البندر. ولما جاء المغرب امتلأ نسوان وبنات جم علشان يسلموا عليا والبنت أختي جابت الطبلة وقعدت تغني هي وأخواتي ومعها باقي البنات "سالمة يا سلامة راح وجه بالسلامة".
 وفي الليل أمي عملت فطير علشان نتعشي وتاني يوم الصبح فطرنا بلبن حليب وبسرعة انتهت أيام الأجازة ورجعلنا للشغل تاني.

العودة إلى العمل

في أول يوم بعد رجوعنا، فيه ريس ضرب في عامل من العمال لغاية ما العامل بك الدم من بقه وأنا سمعت عامل تاني يستحلف للريس وبيقول أنا هموت الريس واللي يكون يكون، وبالفعل صرخ أحد العمال الحقوا العامل موت الريس. واقشعر جسدي وكنت أفكر.. والعمال تجري وإذا بي أدور الجري إلى هناك وأجد عالم ترش الملح ما ينزلش. وعالم متحوطاه، وأخرين يتزاحمون.. وتدافعت بينهم وهالني ما رأيت.. رأيت رجلاً ممدداً على الأرض والدماء تنزف منه بغزارة وملابسه قد لطخت بالدم.. كان نائماً حافياً.. وحذاؤه بجواره.. فردة هنا وفردة هناك وحاولت أن أتبين ملامح وجهه فلم أستطع.. كنت أريد أن أعرف من هو هذا الرئيس.. أهو الذي ضرب العامل أم غيره من الرؤساء؟.. ولكني لم أتمكن من رؤية وجهه فقد كان كل وجهه مغطي بالدم فلم تظهر من وجهه قطعة بيضاء.. تطلعت بين الوجوه الواقفة فلم أجد على وجوههم أي تأثر أو حزن.. ماعدا القليل منهم وكان على وجوههم الحزن بادياً.. كانوا من الرؤساء والرؤساء فقط.. أما العمال فلم يستطيعوا إخفاء بهجتهم من كثرة ما رأوه..

كانوا يتململون بأرجلهم نحوه وقيل إنهم يعبرون عن رغبتهم أن يدوسوا عليه بأقدامهم.. ومن خلال وقفتي لم أسمع صوتاً يردد اسم العامل الذي خلص العمال منه.. بل كثيراً ما سمعت اسم هذا الرئيس المتعسف ولم يكن يردده سوي الرؤساء كانوا يقولون عنه إنه كان شهماً في إخضاعه للعمال وكنت أسمع من حين لآخر صوتاً يقول: كنا متوقعين أن يحدث هذا.. كثيراً ما نبهناه وحاولنا إرشاده ولكنه رفض أن يسمع نصائحنا بحجة أن هذا الصنف لا يجب أن يعامل إلا هكذا وكثيراً ما ردد في هذه الكلمات.. كانت هذه طبيعته حتي منذ أن كان في المدرسة قبل أن يأخذ الدبلوم، دبلوم المدارس الصناعية، حتي زملائه الطلبة كانوا يكرهونه للتعالي.. كان المتوقع له أن يموت هكذا.. وآخرون كانوا يبكون بحرارة.. وكانوا يرددون اسمه كشهيد.. وكانت الدموع تتساقط من أعينهم وهم يرددون اسمه!! كنت معانا دلوقت يا زغفراني، كنت معانا من دقيقة.. بينما الرؤساء يقولون ذلك.. كانت العمال واقفة على الجانب الآخر تجز على الأسنان وقال أحد الواقفين وهو يلوح بيده نحوهم.. بكره ترقدوا رقدته.. وأحذيتكم تبقى كل فردة منها في ناحية. وقال آخر: يمهل ولا يهمل، فرد آخر أمهلناكم كثيراً وآن الأوان لننتقم. وسألت أحد الواقفين عن العامل اللي قتله.. وكنت الإجابة ما نعرفش.. وسررت لهذا وتمنيت ألا يعرفوه.. وإذا بأحد الواقفين يزعق: الدراع.. الدراع.. اللي انضرب بيه.. أهو ملوث بالدم، كان الدراع من بتوع المكن. دراع من الخشب الزان.. وقال أحد العمال الواقفين: هاتوه.. هاتوه هذا نخفيه ولم تمر لحظة إلا ودخل العنبر عدد من الخفراء بأيديهم العصى.. ودوروا الضرب في العمال ولم يبقى سوى الرؤساء بجواره.. وتجمع العمال على الماكينات وهم يقولوا ربنا خلصنا من واحد.. كانوا يرددونها شامتين، ووقفوا على الماكينات يختلسون النظرات من بعيد.. وقال أحدهم: شايفين الريس ميت والمكن ما وقفش.. كله عند العرب صابون.. مافيش فرق بين موت العامل وبين موت الرئيس.. كنت فاكر أن هناك فرق.

 فرد آخر: عاوز تقول مافيش فرق.. أيوه مفيش فرق.. العامل لما تموته المكنة.. ما وقفش المصنع، والريس أهوه مات ومتلقح والمكان داير.. يبقى فين الفرق.. حد جه وقال إنه كان بيضرب العمال ياللا وقف المكن علشانه.. ولو دقيقة.. ولما وقع ما حدش سأل عنه.. كلوه لحم ورموه عضم.. كانوا يتكلمون وعيونهم في الاتجاه نحوه.. وقال آخر: خلصنا من واحد.. وبينما العمال تتحدث كان المكن "داير" والسيور تهتز اهتزازاً بطيئاً، خيل إلىّ أنها تسير دون خوف.. وقلت في نفسي: حتى المكن والسيور فرحانة.. وسألت نفسي: هم بيقولوا إن العامل لا يعمل إلا وهو خائف، سمعت هذا من الضابط المتقاعد يوم أن أعطى أمرًا للخفراء بالضرب.
 سمعته يقول: إنهم عبارة عن لمامة.. لازم يمشوا خايفين ورأسهم مطأطأة.. لازم تخوف العامل من دول يمشي ويبص وراه.. لازم يخضعوا.. وما يخضعوش إلا بالضرب. وسمعت هذا من الرؤساء.. إذن فهذه سياسة ينفذونها جميعاً.. حتى المدير.. وإذن نشتكي لمين.. هذه كانت الأسئلة. وسألت نفسي من جديد: هل صحيح العامل ما يشتغلش إلا بالضرب، إلا وهو خايف.. مش معقول طيب لما كانت أم الواحد تشتمه كان الواحد بيفضل طول النهار محروق دمه، وما بيعرفش يعمل حاجة.. قلت في نفسي: وهم دول ما همشي زينا.. مش أولاد آدم ما يمشوش إلا بالعافية.. ما يمشوش إلا بالضرب.. ما يعرفوش إن الضرب بيغضب.. ما غضبوش من أهاليهم.. ما سمعوش من أهاليهم "إن ضربت القطة خربشتك" وعدت وقلت: يمكن مافيش حد ضربهم ولا حد شتمهم وعلشان كده بيضربونا.. لو حد ضربهم مرة أو شتمهم ما كانوش عملوا كده.. وهم دول حد بيضرهم ليه.. دول طول عمرهم عايشين بعيد عنا.. عايشين في السرايات.. دول ولاد عمد.. لا حد شتمهم، ولا حد ضربهم دول طول عمرهم عايشين على ضرب الناس.. شافوا أباءهم وهم بياخدوا الفلاحين في الدوار يضربوهم ويشغلوهم في أرضهم ببلاش دول أصلهم راحوا المدارس واتعلموا، فلازم يبانوا قدامنا إنهم أحسن، وأصلهم فاكرين إن العمال دول زي الغنم بيسوقوهم زي ما بيسوق الراعي الغنم.. وبينما أنا غارق
جاءت النيابة في تساؤلي إذ بعالم يدخل من الباب.. عالم كثيرة.. كلهم أفندية لابسين على رؤوسهم طرابيش.. واتجهوا نحو الجثة.. نحو الريّس الميت الغارق في دمه، واتهت الأنظار نحوهم.. والقصير اللي ما يقدرش يشوف شب على صوابعه وإذا بالولد الغريب يأتي مسرعاً ومال على أذني ــ النيابة ــ: النيابة جت.

 جاية تحقق، الناس قدام بيقولوا وقلت في نفسي: طبعاً النيابة لازم تيجي.. تيجي دلوقت.. لما واحد يموّت واحد.. لكن المكن لما يموت واحد النيابة ماتجيش.. ليه.. ما نعرفش؟ قال الولد الغريب: النيابة جت تعالى واتفرج. وتركته واقفاً على المكن.. ودورت الجري نحو عبدالعظيم قائلاً: النيابة.. ياللا نقول: نقول لها كل حاجة، نقول لرؤساء بتضربنا والمكن بيموت كل يوم عمال. نقول لها إن الرؤساء يمنعونا من الذهاب إلى الدورة.. نقول لهم إنهم بيرغمونا على المشي في العمل حافيين، فرد قائلاً: حتقول لها إزاى.. المدير واقف.
ما يهمش نروح ونوشوشهم في ودانهم.
يفصلونا
وحيفصلونا ليه.. اشمعنا همه اشتكوا.
همه حاجة وإحنا حاجة تانية
أمال حنعمل إيه
نستنى
وحانستنى لإمتى
لما يطلونا
وهمه حايطلبونا؟
تعالى نقف جنبهم.. مانخليش حد يشوفنا.. قلت هذا وتركته لأن المكن قد وقف.. وقلت للعمال المحاورين لى: النيابة تحت.. تعالوا نشوفها.. فوقفوا ساهمين دون أن يتكلموا. وجاءني عبدالعظيم يجري لأنه رآنى أتكلم مع العمال وهمس في أذني ــ هو أنت جايب الكلمتين دول من البلد جاي تقولهم على طول.. اسكت ما تتكلمش لحسن لو حد سمعك حايشيلوك من إيدك ومن رجلك ويرموك على بره. قلت: أمال هنعمل إيه.
نستني لما نكتب زي ما أنت قلت.. نستنى لما نجتمع نكتب شكاوي خلسة.
 في بلدنا راح يعملوا.. وإحنا كنا نعمل.. وإذا كانت النيابة جت نقول على كل حاجة، ولم تعجبه كلماتي، تركني وذهب. وإذا بي أجد العمال يتسربون واحد ورا واحد وهم يقولون ياللا.. ياللا نشوفه.. ياللا نشوفه.. نشوف الظالم وهو ميت.. نشوفه في رقدته الأخيرة.. واتجه الجميع نحوه ووقفوا في أحد الأركان يتأملون في الوجوه التي حضرت ليلاً ووجوه الأفندية اللي قيل إنها نيابة.

وآخرون يسيرون في تباطؤ ناظرين خلفهم خائفين واتجهت أنا الآخر سائرًا على مهل.. وأخذت مكاني بين العمال ووقفت أنظر إلى الأفندية وهي تذهب وتأتي، ويعدون المسافات بالخطوة وأخيراً وقفوا يطلون في الورق وأخيراً وقفوا ينظرون إلى الوجوه الواقعة بعيون حادة النظرات وإذا بي أسمع كثيرين يقولون ياللا.. ياللا نقول للنيابة وكان عبدالعظيم واقفاً بينهم، وهللت عندما رأيته واقفاً وأيقنت أنه هو الذي تكلم مع الواقفين أخذاً بكلامي.. واتجهت نحوه قائلاً: ياللا نقول.. وإذا بي أجد أحد الأفندية يهم واقفاً من على المقعد الجالس عليه وفي يده جانب من الورق يأتي بخطوات مسرعة نحوي، وقلت للواقفين عندما رأيته: دا جاي نحيتنا، أهو جاي وتطلعت إلى وجهه الأبيض المشبع بالاحمرار، وعينيه الخضراوين وشعره الأصفر الناعم.. وقلت في نفسي إنه أت مسرعاً ظناً منه أننا سندلي باعترافات.. ولهذا فهو آت والبسمة تعلو شفتيه، إنه رآنا نتكلم ونتكلم، وعندما اقترب منا هجمنا عليه في نفس واحد مرددين.. الرؤساء بتضربنا.. والمكن بيموت العمال وما بيخلوش العمال يروحوا الدورة.. والعامل لما بيموت ما بنعرفش بيندفن فيه. كانت الكلمات تخرج سريعة كلمات سريعة متتالية تخرج من الأفواه وتشجع آخرون وهجموا علينا وتكلموا في هذا الاتجاه.. وسمع لكل العمال وأشار بيده قائلاً: بس اسكت انته وهوه.. وأنا حسأل وانتم تجاوبوا.. مين موت الريّس؟ وأجبنا في نفس واحد – مانعرفش.. شوفنا الريّس ده بيضرب العمال في أول الليل.. كان بارك على عامل.
مين موت الريّس؟
قلنا ما نعرفش.
كنا بنتكلم.. وهو يكتب.. وبعد الانتهاء من الأسئلة عاد إلي مكانه وطلب آخرين وسأل واحداً وراء الآخر. وكانت إجابة من دخلوا.. ما نعرفش.. وأخذت النيابة الورق وخرجت بعد أن رفعت الجثة. وقالت العمال وهي تنظر له: شايفين.. داخل على رجليه.. وطالع النهاردة على ضهره.. على أيدى الرؤساء من شاكلته وقال أحد العمال:
مش قلنا إن الصبر على جار السو يا يرحل يا تيجي له داهية.. وأهو راح.. راح من نصيبه. وقال آخر: راح للأبد. وقال ثالث: عقبال الباقي.
وسار العمال خلف المكن وإيديهم تمتد بالسلامات.
وأشرق الصباح
وانتهي الليل، وأشرق الصباح مع تهاليل العمال وفرحتهم.. وخرجنا من العنبر في الاتجاه إلى البيت وانتشر الخبر كالرعد بين العنابر لا حديث للعمال إلا هذا الحادث.. حديث الشارع في الطرقات وفي العطف.. كل الناس تتكلم .. الظلم قد مات.. وأمام باب المصنع وجدنا عدداً من العمال بملابسهم المخططة واقفين جنب البوابة في انتظار عبدالعظيم، أمام باب المصنع كانت النسوة الأخريات واقفات، والفرحة بادية عليهن لأنهن سمعن خبر الرئيس اللي مات "الرئيس الظالم"!
صحوت مبكراً، ولبست جلبابي، وتمشيت في الحجرة.. تمشيت طويلاً، وأيقظت الولد الغريب والولد السيد الصفطي وكان الصباح هادئاً.. لم يكتمل إشراقه، والجو مغبراً ينذر بالمطر، ولم تكن أبواب المنزل قد فتحت والمحلات كانت مغلقة.. ولكن طلائع العمال قد ظهرت في الطريق.. وفي عجلة أخرج كل منا رغيفاً من قفته، وبدأنا نأكل في نهم وخرجنا من المنزل مسرعين.. وفي ميدان المحطة وجدنا عبدالعظيم واقفاً ومعه آخرون، وأمام باب المحكمة وجدنا نسوة كثيرات وأطفالاً صغاراً يمسكون بجلابيبهن وأخريات يقبضن على أطراف ملايات اللف بأسنانهن، ويتطلعن ذات اليمين وذات اليسار متأملات كل من يسير في الطريق وخيل إلي أنهن يبحثن عمن يعرفونهن، ووقفت أتطلع في تلك الوجوه، وقلت في نفسي: أين أم العامل.. أين هي؟ وإذا بعبدالعظيم يقول تعالى لما نخش علشان نلحق لنا مكان.. قلت:
أمال فين أم العامل؟
دلوقت تشوفها.. تشوفها لما تيجي.
ونحن نسير وسط ضجيج الباعة.. وإذا بثلاث نسوة بملابس ريفية سوداء يجلسن القرفصاء بجوار سور المحكمة وبجانبهن طفل في التاسعة من العمر بجلباب من الزفير المخطط يحمل عصا في يده وعلى رأسه طاقية من الصوف الأحمر وعلي القرب منهن ثلاثة رجال بملابس جبردين، بها خطوط بيضاء.. وقفت عندهن متأملاً وهم يتحدثون مع أحد الأفندية وكان يحمل تحت إبطه ظرفاً مليئاً بالورق وجذبني عبدالعظيم من يدي، واتجهنا للداخل، ولم تمر لحظة وإذا بالنسوة يدخلن خلفنا.. وفي أحد الأركان جلست النسوة، ويدا كل منهن على خديها.. وأخذت مكاني في الصف الأخير من القاعة وبين الحين والحين كنت أنظر للنسوة محاولاً معرفة أم العامل.. وهمست في أذن عبدالعظيم أسأله:
كل النسوان دون جايين علشانه؟
وإذا به يقول: لأ.. هيه حتكون فيهم.. دون جايين علشان ناس تانية.
قلت: أمال فين العامل؟
دلوقتي ييجي.. هييجي من السجن.
وبعد فترة كانت القاعة قد امتلأت بالناس وإذا بصراخ وضجة تعلو من الخارج كان صراخ النسوة هو الغالب.. ازيك يا محمد.. ازيك يا محمود.. ازيك يا علي.. أسماء وأسماء!! وصراخ وعويل وناس تجري من هنا وناس تجري من هناك وإذا بعبدالعظيم يقول: أهم جم.. جم من السجن دلوقت.
وتطلعت الأنظار، وشحبت الوجوه، وازداد البكاء.. بكاء النسوة الواقفات ودخل المساجين.. دخلوا القاعة مقيدين بسلاسل من حديد.. وعلي أجسادهن ملابس بيضاء، غطتها الوساخة، ورؤوسهم لم يكن بها شعرة واحدة حلقت بالموس، وحفاة الأقدام، وبجانبهم الكثير من العساكر حاملين البنادق.. وقلت وسط الضجة:
دول حالقين جلط! حالقين لهم رؤوسهم ليه؟
صراخات النساء
 وتأملت الوجوه المشوهة باحثاً عن العامل بين الجنود ولم أستطع معرفته إلا بعد أن أمعنت النظر، ولم أعرفه إلا وهو يلوح للعمال بيديه المكبلتين. وإذا بامرأة طويلة تميل إلى السمرة مشدودة الرأس بطرحة سوداء بجانبها طفل يمسك بجلبابها تقف بالقرب منا هي وأخريات، يصرخن صرخات عالية، متوالية بعد أن دفع الجند المساجين في القفص، واستمررن في الصراخ: ابني. ضناي.. ثم بدأن يجففن دموعهن بملابسهن.. وارتجفت رجفة خفيفة عندما سمعت منهن تلك الكلمات المحزنة.. والتفت النسوة حول تلك المرأة الطويلة يهدئن من روعها، وأخرجت منديلها وكورته في يدها بانفعال.. خيل إلىّ أنها تضغطه وخيم السكون على القاعة، وأطبقت كالقبر. وقالت في صوت يشبه الصمت همه عاملين فيهم كده ليه؟ ورد أحد الجالسين:
السجن كده.. مكتوب علي بابه تأديب وتهذيب وإصلاح.. بياكلوا عيش أسود تقرف الكلاب من أكله وسكتت القاعة، ووضع كل منا يديه على قلبه في انتظار ما نسمعه، وخرج صوت الأم من جديد من وراء المنديل المبلل بدموعها، كأنه الأنين، وآخرون يسكتونها: استكتي يا وليه، وهي تردد: ابني.. ابني.. وارتفع صوت من الأمام هز المحكمة.. ودخل ثلاثة معلقين أشرطة خضراء على أتافهم، وجلسوا في الأماكن المخصصة لهم، وشخصت الأنظار وشعرت بالرهبة والرعشة ملكت كل جسدي وخيم الصمت على القاعة، وشعرت بنبضات قلبي ترتفع ولم أستقر في مكاني، فكثيراً ما تمللت عند نداء الحاجب على الأسماء.. وكانت قضية العامل.. وعلى يمين القضاء وقف أحد الأفندية، علق على كتفه شريطاً أحمر، زين بالهلال ممسكاً فى يديه ورقة وبدأ القول:
حضرات المستشارين، قضية اليوم هي من القضايا المهمة المتصلة بأمن الناس وأرواحهم، وقلت في نفسي هيه.. حلوة.. أمن الناس وأرواحهم.. وهمست في أذن عبدالعظيم.. ده معانا.. بيتكلم عن أمن الناس وأرواحهم.. وإذا بعبدالعظيم يقول: دي نيابة.
ما هي معانا.. مش قلت لك إحنا كنا عايزين نكتب لها. واسترسل وكيل النيابة في القول: قدمت علي عجل لأهميتها.. ولوح بيده نحو القفص هذا القاتل الخالي من كل إحساس ملأت قلبه الأحقاد والغيرة.. قتل رئيسه.. قتله أثناء العمل علي مسمع من الجميع.. قتل رئيسه المتفاني في خدمة المجتمع.
جميع إيه.. هو إيه ده.. انت معانا ولا معاهم ما تقول الحق.. مش إحنا قلنا لك إنه كان بيضرب العمال.. قول إنه كان لا يحترم خلقة ربنا وبيضرب الناس علي وجوههم، ويمنعهم من الذهاب للدورة.. قول.. قول الحق.. مش مكتوب في الورق.. خايف ليه.. وإيه العدل؟ أمال نيابة إيه؟ أنا طول عمري أقول نكتب للنيابة.. هيه النيابة تبقي كده؟ هوا أنت كمان حتبقي على العامل.. واسترسل وكيل النيابة في القول:
ولأهمية القضية قدمت على عجل، مصنع لأول مرة في مصر.. مصر المستقلة فهمس أحد الحاضرين.. مستقلة إيه.. أمال الإنجليز اللي مالية البلد دي.. واسترسل وكيل النيابة في القول:
مصنع يضم بين جدرانه الآلاف من العمال بينهم صفوة من خيرة المثقفين بذلك أمهاتهم العرق في سبيل العم ونهضة الصناعة، فقام أحد الجهلاء من الذين أعمت قلوبهم الأحقاد وقتل رئيسه.. ولوح بيده من جديد نحوه.. واسترسل قائلاً: وهنا تبرز أهمية القضية، وسبب التعجل في تقديمها.. قدمت على عجل لأخذ القصاص منه ليكون عبرة لكل من تسول له نفسه الاعتداد ولحماية الصفوة المتعلمة.. وقال عبدالعظيم في همس:
بس الصفوة.. أما العمال اللي كل يوم بيموت مالهمش حد علشان كده مستعجلين.. له رب.. وقالت واحدة من النسوة:
حرام عليك.. ده بيربي يتامى.
وختم وكيل النيابة كلامه قائلاً: إنني أطلب الإعدام لهذا العامل ليكون عبرة لاستقرار النظام ولتعود الطمأنينة للقلوب. وهدأت القاعة وتململ الجميع والتقت الأنظار متسائلة: أين العدل؟ وقال آخر: عدل إيه؟
وإذا بصوت يجلجل من بعيد.. وكان صوت المحامي الذي وقف أمام القضاء.. يقول: "موكلي ليس هو القاتل ولكن القتلة هم الذين يختفون من وراء المكاتب ويصدرون الأوامر.. ثم يسمونهم الصفوة المختارة.. صفوة المثقفين الذين رباهم الأهل بالعرق.. وإن المظالم بلغت حد الإهانة بالقيم إن المظالم التي يعانيها العمال بالشركة دفعت غير موكلي إلى الإقدام على العمل.. فإذا أردتم الاستقرار ابحثوا عن السبب.. سبب المتاعب التي يعانيها آلاف الفلاحين الذين نزحوا للعمل في سبيل لقمة العيش، إن على أكتافهم تقام الصناعة.. هيئوا لهم حياة أفضل من تلك الحياة التعسة التي يحيونها.. إن هذا العامل ضحية من يختفون وراء الستار، وإذا أردتم معرفة الحقيقة.. تفضلوا واذهبوا معي إلي المستشفي الأميري لتروا بأعينكم ما تفعله الشركة بالعمال، أما ما يقال إنه القاتل، فهذا غير صحيح، لأنه لم يثبت عليه، ولم يعترف به أحد من العمال، لم يعترف رغم ما قاساه من تعذيب أثناء التحقيق، كان يتكلم والقضاة تنصت، وقاضي اليسار يهتم كلما سمع كلمة مظالم وكان يتململ في مكانه دائماً، وكثيراً ما كان يسند بيده رأسه، وتارة أخرى يعبث بالورق، ويميل بأذنه على قاضي الوسط، والآخر يتململ كلما سمع.. فكان لا يتحرك.. والامل واقف في القفص يهز رأسه إعجاباً بالدفاع، وأم العالم ترفع يديها إلى السماء، تدعو في صمت علشان اليتامي، وهمي عبدالعظيم: قول.. اتكلم عن الدورة.. النيابة.. النيابة ما قالتش.. قول عن المكن اللي بيقتل كل يوم عامل.. قول الله يحميك.. وختم المحامي دفاعه قائلاً:
إن هذا العامل يجب أن يخرج من القفص، ويوضع مكانه من يختفون وراء الكواليس، ووراء الماكينات.. إن موكلي بريء، من واقع الأوراق، وأطلب البراءة. وكادت القاعة تضع بالتصفيق لولا أن القضاة دقوا بأقلامهم على المنضدة ثم نهضوا ودخلوا إلي غرفة جانبية.. وعاد القضاة، وأعلن قاضي الوسط الحكم، ثماني سنوات مع دفع دية تقدرها المحكمة فيما بعد. ورنت القاعة بالتصفيق. وقالت النسوة "إيش تاخد الريح من البلاط؟" قالوها والدموع تتساقط.. وهلل العامل في القفص بعد أن قيدت يداه بالحدي وهتف قائلاً راح الظلم إلى الأبد، وخرج من القفص وأركبوه عربة سوداء وسارت بطيئة وسط شارع مزدحم بالعمال، والنسوة يقفن والعمال يلوحون بأيديهم، والعامل يخرج يده المكبلة ويلوح بها طويلاً إلي أن اختفى عن الأنظار. ونحن نسير في الطريق كانت دقات قلبي ترتفع وسألت من كانوا يسيرون بجانبي: أنتم ليه صفقتم عندما سمعتم الحكم؟ فقال أحدهم "كنا نتوقع الحكم بإعدامه.. وكان الجميع يتوقعونه.. ولهذا كان هو أول المصفقين.. ليه يحكموا بثمانية سنوات مش بيقولوا "وإذا حكمتك بين الناس أن تحكموا بالعدل" فيه عادل يحكم على المظلوم ويترك الظالم.. أنا كنت فاكر أنهم حيروحوا يشوفوا بعينهم.. المحامي مش طلب.. ليه همه لم يستجيبوا لطلبه ويذهبوا إلي المستشفى.. لو راحوا يمكن ماكانوش حكموا بهذا الحكم.. لو شافوا العمال المتكسرين.. والعمال اللي بتموت بالسل.. يمكن كان قلبهم رق.. ليه ما راحوش.. خايفين من إيه.. خايفين من اللي قال عليهم المحامي أنهم وراء الكواليس.. اللي بيصدروا الأوامر.. ومن هم؟.. من هم الذين يقصدهم المحامي؟ وأنا لما كنت عند المدير علشان أستلم التوب وجدت صورة فوق رأسه مكتوب عليها "الملك أحمد فؤاد" وأخري مكتوب عليها "طلعت حرب" متعلقين فوق رأسه يبقي دول اللي وراء الكواليس.. يمكن!! بس هو ما قالش.. ما قالش ليه، والمدير ليه معلق الصور فوق رأسه.. وأفكار كثيرة راودتني.. وقلت: يبقى همه دول اللي يقصدهم المحامي.. المرة دي ماقالش.. يمكن.. يمكن مرة تانية يبقى يقول؟
 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة القاهرة ــ 18 يوليو 2000

الثلاثاء، 4 يوليو 2000

المسيح عربي


 

كنت أدخل إلي بيوت جيراننا المسيحيين، وأحدق في الصور التي يزينون بها جدران منازلهم وأتعجب من حال جيراننا الذين هم أصحاب بشرة سمراء مثلي ويتحدثون "الصعيدية الفصحى" مثلي ولهم أولاد في مثل عمري نشترك معاً في النزول عصر كل يوم إلى الترعة ونقذف معًا أشجار "مانجو" العمدة بالطوب ومع كل هذه "المشتركات" إذا بهم يعلقون على جدران منازلهم صورًا لأجانب شعرهم أصفر وعيونهم زرقاء وخدودهم حمراء موردة.
 الولد عادل موسى شرح لي حقيقة الأمر قائلاً: هؤلاء ليسوا أجانب، فالصورة التي على اليمين هي صورة المسيح، أما التي تحتها مباشرة فهي للسيدة مريم العذراء، أما الرجل الذي يمسك الحربة فهو مارجرجس، وهذا الرجل الذي يسوق الحمير فهو يوسف النجار، أما ذلك الذي ينظر إلى السماء فهو بولس الرسول، وبرغم كل الشرح الذي قدمه لي عادل فإن تعجبي من حال جيراننا لم ينته، فكل الأسماء التي قال عنها عادل مثل أسمائنا مريم، يوسف، بولس، المسيح، جرجس، ولكن وجوههم جميعًا وجوه أجانب.

ثم مضت السنوات وأنا مؤمن بأن هؤلاء أجانب بأسماء "صعيدية" وعندما بدأت "أتفرج" على رسومات الأجانب ازداد إيماني بـ "أجنبية" هؤلاء، ثم علمت حكاية هذه الصور وأصلها "الغربي" والآن لا أعرف سببًا يجعلنا ننسى أن سيدنا المسيح وأمه وجميع أهله عرب من فلسطين، والذي لا شك فيه أن سيدنا المسيح شأنه شأن أي إنسان قد تعرض لشمس بلاده فمن أين جاءته تلك الشقرة؟

إنني أطالب بـ "مسيح" عربي من فلسطين لا بمسيح من روما أو أثينا، وإن كان الفنانون المسلمون يتحرجون من رسم صور سيدنا المسيح، فما أظن أن الفنانين المسيحيين يتحرجون من استعادة رجل عربي أستولى عليه الأجانب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة القاهرة ــ 4 يوليو 2000