الاثنين، 28 مايو 2012

صور من جب النسيان (الجزء الثالث)



الصورة الرابعة عشرة


كل يوم يتحدث شقيقاى،  بهجات ومندى عن ضرورة " فرز الورق " ثم لا يصنعان شيئا ، أعرف الآن أن المهمة كانت ثقيلة ولذا كانا يتهربان منها بحجج شتى ، حتى جاء صباح يوم صيفى قال فيه أخى بهجات لأمى:" نظفى لنا السطح فاليوم سنفرز الورق ".
أمى السيدة الأمية التى لا تعرف القراءة والكتابة ، تجيد بفطرة صافية قراءة إشارات العيون وارتعاشات القلوب وتردد النبرة حتى لو أرادها صاحبها أن تظهر واثقة . بهمة ونشاط واتقان نظفت أمى السطح وضربت حوله سوراً من قماش يحجبنا عن عيون الجيران ، ثم أعدت طعاما طيبا ، ربما لتخفف على أخوىّ وطاة " فرز الورق ".
سرتْ بيننا جميعا روح الإقدام على مغامرة ( سنفرز الورق ) .
بعد صلاة العصر كان السطح نظيفاً ومرشوشاً . بدأ أخواى الصعود بكراتين كبيرة جداً ووضعها فوق السطح . أمرنا أخى بهجات بتلاوة سورة الفاتحة قبل أن يبدأ فى فتح الكراتين .
بدأ العمل هكذا ، بهجات ومندى يفتحان الكراتين بوجهين محتقنين وبأصابع مرتجفة . ما الذى وجداه فى الكراتين ؟ جرائد ومجلات وكتب وورق متفرق قديم .
كانا كلما وجدا ورقاً طالعاه بعناية وتبادلا نظرات ذات معنى ، ثم بعناية يضعان الأوراق المتفرقة فى حقيبة جلدية جديدة كأنهما اشترياها خصيصاً لهذه المناسبة .
الجرائد والمجلات والكتب ، يقدمانها لأختى سامية التى تمسح ما علق بها من تراب ثم تقدمها لأخى حمزة الذى يعيد وضعها بدقة فى الكراتين .
أمى لا تكف عن تقديم الشاى وشرائح البطيخ لإخوتى ، أنا مشغول بمتابعة عملية الفرز ويكاد قلبى يقفز فرحاً  كلما أخرج أخواى مجلة ذات غلاف ملون  .
فجأة صاح أخى بهجات بسعادة غامرة  وهو يستخرج دفترأ كبيرأ :" الحمد لله ، لقد وجدته ، إنه كامل ".


مد مندى يده ليأخذ الدفتر ، لكن بهجات زجره بنظرة ووضع الدفتر تحت فخذيه ( بعد تلك الصورة بسنوات سأسرق الدفتر من خزينة أخى بهجات لأقرأ مذكرات أبى التى أوصى بعدم قراءتها إلا بعد رحيل كل أبطالها ).  بعد العثور على الدفتر عرف الهدوء طريقه لوجهيهما . بعد قليل انتبه  مندى لشيء غائب عندما قال لبهجات :" لقد عثرنا على معظم الأشياء ولكن أين اللوحة ؟" ضربتهما حُمَى البحث والتفتيش ، حتى عثر أخى مندى على اللوحة المقصودة .  إنها صورة رجل أسمر لطيف السمرة يبدو وسيماً وأنيقاً ومبتسماً ، يرتدى جلباباً صوفياً أسود ويعتم بعمامة بيضاء كبيرة .تبادلوا الإمساك باللوحة ، لم أكن معنياً بها لأنها ليست ملونة ، ارتاحت اللوحة بين يدىّ أمى التى نظرت لها طويلا ثم قبلتها ، تقبيل أمى لهذه اللوحة جعلنى أسألها : " صورة مين دى ؟ " .


أرتبكت قليلا ثم تضاحكت وأعطت اللوحة لبهجات ثم قالت مبتسمة وهى تضم رأسى لصدرها : " دى صورة راجل كان ضيف عندنا وبعدين راح لأهله " .
بعد سنوات ستدور بيننا نحن أولاد عبد الرحيم مناقشات ساخنة جدا وحادة حول الذى من حقه الاحتفاظ بصورة أبينا المرسومة بالقلم الفحم ، بداية سيفرض عزت الأمر الواقع ويحتفظ بالصورة فى صالون بيته ، بعدها سيتنازل عنها فى نوبة كرم ويضعها على جدران " المقعد " وهو بناء على المشاع يخصنا جميعا .

الصورة الخامسة عشرة

كنت قد عرفت أن أبى قد مات ، وكنت قد خاصمت العيال الذين يغنون :" ودا قصر مين العالى ؟ دا قصر أبويا الغالى " ومع ذلك تشوشت بدون سبب معروف . بدأت أؤمن أن أخى بهجات هو أبى الذى أنجبنى ولذا رحت انتسب إليه ، فإن سألنى سائل :" ابن من أنت ؟" فإننى أجيبه بتلقائية :" ابن بهجات عبد الرحيم ".
عيال الشارع تعاملوا معى بوصفى أبلهاً يظن أن شقيقه هو والده ، بادلتهم السخرية من جهلهم لأنه يظنون أن أبى هو شقيقى .
عشت هكذا عمراً طويلاً حتى جاءت  ظهيرة يوم قائظ أرسلتنى فيه أمى إلى البقالة لشراء عسل ، كانت قد أعطتنى النقود وكوبا زجاجيا كبيرا ( اذكر أن لونه كان أزرق ) . أثناء عودتى إلى البيت ، انشقت الأرض عن ولد كبير ، ربما كان بينى وبينه عشر سنوات ، كان الولد كأنه الشيطان ، أمسكنى من كتفىّ وهزنى هزا شديا وسألنى بصوت كله قسوة :" إنت يا واد .. واد مين إنت ؟".
بخوف  أجبته  بما أعرفه عن نسبى :" واد بهجات عبد الرحيم ".
رفعنى عن الأرض كأننى ريشة وألصق ظهرى بحائط وصرخ فى وجهى :" إنت بهيم ، بهجات دا أخوك ، أبوك مات ، أبوك مات ، عارف يعنى إيه مات ؟ يعنى مات".تركنى أسقط على وجهى وغادرنى وأنا أعوى :" أبويا مات ، أبويا مات ".
قذفت الكوب الزجاجى فتحطم واختلط العسل بتراب الشارع ، وعدت إلى البيت وانا أصرخ من بين دموعى :" أبويا  مات  يعنى بهجات مات ".
أجتمعت علىّ أمى وجدتى وأختى سامية وحاولن تهدئتى ولكن محاولتهن فشلت .
فجأة دخل أخى عزت عائدا من الجيش وعلى كتفه مدفع رشاش .
لم يجد الاستقبال اللائق بعودته ، لانشغال السيدات بى ، بكلمة عرف الأمر من أمى، رفعنى ووضعنى فوق كتفيه ، وهم بالخروج ، تعلقت السيدات الثلاث بساقيه لكى لا يخرج ،  ولكنه كان من القوة بحيث طرحهن جميعا .
فى الشارع سألنى بهدوء :" عارف الواد اللى قال لك كدا ؟"
أجبته :" أعرف شكله ". قال سنبحث عنه حتى نجده وساعتها ستحصل على حقك منه .بعد بحث لم يستغرق كثيرا أشرت إلى الولد  الذى كان يجلس مع أقاربه على مقهى صغير. أنزلنى عزت من فوق كتفيه ، وألقى سلاما فاترا على الجالسين ، ردوا مندهشين من فتور سلامه ، تناول مدفعه الرشاش وباعد بين ساقيه ثم قال :" أبنكم عاير أخويا بموت أبوه ، ودا ما يصحش ، وزى ما ابنكم خلى أخويا يبكى ، أخويا هيبكيه قدامكم ووالله العظيم اللى هيتحرك منكم لأكون  مفرغ فيه الستة وتلاتين طلقه ". أكبر أعمام الولد كان حكيماً ، أدرك أن عزت مصاب بجنون الغضب وسينفذ ما هدد به ، قام الرجل ومسح على شعرى وقبل جبينى وأعطانى كرباجاً مصنوعاً من ليف النخل يستخدم فى سوق البهائم ثم قال :" الحق حبيب الرحمن ، وزى ما بكاك بكيه ، السوط فى يدك أهو وشرّح بيه ضهره ".
على كثرة ما تشاجرت لم أضرب أحدا مثلما ضربت هذا الولد ، لقد كان يصرخ من ضربات السوط التى انهلتُ بها على جسده ، مع بكائه كففت عن ضربه ، رفعنى عزت ووضعنى على كتفيه وعاد بى إلى البيت .

الصورة السادسة عشرة

استدعانى بهجات إلى غرفته ، كان يجلس إلى مكتبه ، على عينيه نظارة طبية أنيقه وبين يديه كتابا ليس ملونا ، كلماته عجيبه ، سألته عن الكتاب فابتسم قائلا :" دى رواية قصة مدينتين لراجل خواجه اسمه تشارلز ديكنز ".
قام وجلب لى مقعدا وأجلسنى أمامه ثم أغلق الكتاب بعد أن وضع ريشة بين صفحاته ، مسح نظارته ثم تبسم فى وجهى وقال :" أمك قالت لى على اللى حصل مع الواد البغل ، شوف يا عمى الأستاذ ، الواد بغل ولكن ما غلطش ، أبوك هو أبويا ، إحنا الاتنين أخوات ، أبوك مات فعلا ، بص كلنا هنموت ، فاهمنى إزاى ، أخوك عزت مجنون ، أصله النهار كله يحارب ، كان ممكن يقتل علشان خاطرك ، يرضيك أخوك يتسجن ؟ عارف أنا رحت لعم الواد وشكرته واعتذرت له ، لولا عم الواد كان ممكن تبقى فيه عركة كبيرة ، عايزك تبقى كويس وماتضايقش من أى حد يقولك أبوك مات ، بص لو عايزنى أكون أبوك فأنا من اللحظة دى هكون أبوك ولاخر يوم فى عمرى ، مبسوط كدا ، لما تكبر وتتجوز تقول لعيالك الراجل أبو نضارة دا هو أبويا ، خليك كويس وماتبكيش أمك ، عارف لو جدك عبد الجابر عرف هيعمل مشكلة ربنا أعلم بيها ، جدك ساكت لكنه مجنون زى عزت بالظبط ، لما بيغضب مبيعرفش هو بيعمل ايه ، بكرة  هاخدك أسيوط معايا وهشتريلك كورة وصور لعبد الناصر واللى تشاور عليه هشتريهولك ".
من يومها وإلى اليوم أصبح بهجات أبا لى ، وجداً لأولادى ، لم أشعر بعدها باليتم إلا فى تلك الساعات التى قرأت فيها مذكرات أبى ، كنت أتمنى أن أعيش مع صاحب المذكرات وأحاوره وأعرف يقيناً أى رجل كان .

الاثنين، 21 مايو 2012

صور من جب النسيان(الجزء الأول )




الصورة الأولى




الدفء أشهى فواكه ليالى شتاء صالة بيتنا . حول " القروانة " التى رصت فيها أمى بعناية حطب القطن نجتمع أمى وإخوتى حمزة وبهجات ومندى وسامية . جدتى لأبى لا تظهر فى الصورة ، وأنا احتمى بأخى بهجات بشكل ما ، ربما كنت جالساً على حجره أو متعلقاً بعنقه أو دافناً رأسى فى صدره ، جدى لأبى كان هناك فى طرف الصالة ، لا أدرى كم عمرى ، إن كانت الليلة من ليالى شتاء 1969 فأنا اقترب من الثالثة وإن كانت قبل ذلك فأنا فوق الثانية بشهور.


لماذا اخترت بهجات بالذات لكى احتمى به أليس فى ذلك إشارة لما هو قادم ؟.


فجأة دخل رجل .كان الرجل وسيماً أنيقاً مبتسماً، كان يرتدى جلباباً صوفياً أسود وعلى رأسه عمامة بيضاء ، أعطى لأمى علبة كاكاو ونظر لى وقال : أهلاً بالأستاذ .


الصورة الثانية



هل هذا بيت أم متاهة جحا ؟ الطفل الملول يتخبط بين الغرف الكثيرة المتشابكة ، ملعبه المفضل فى ساحة مقسمة ما بين غرفة الفرن وحوش البهائم وشونة للتبن وعشش للدجاج والأرانب ، هذا غير مكان خاص للمزيرة حيث نسقت أمى بدقتها المعتادة وضع الزير وبجانبه القدرة وبجانبها البلاص الذى تحفظ فيه أمى الماء الخاص بصنع الشاى ، بجانب " المزيرة " هناك فجوة مرعبة هى بير السلم الذى يقودك إلى السطح .


فى إحدى الحجرات كان الرجل الوسيم الأنيق المبتسم يرقد مريضا ( لا أذكر كيف عرفت أن هذا الوسيم هو أبى ؟) كانت أمى تجلس حزينة بجواره ، أنا كنت بجانبها . هل كان هذا مرض موت أبى ؟. أخرجتنى أمى إلى الغرفة المجاورة حيث ينام أخى بهجات وأخى مندى ، كانت إضاءة غرفتهما قوية بشكل أزعج عينىّ ، بكيتُ ابتعادى عن أمى ، كان أخواى يرتبان كتاباً ومجلات كثيرة أعطانى أخى بهجات نسخة من مجلة سيظل يحتفظ بها إلى أن أكبر وأعرف أنها مجلة الإخاء التى كانت تصدر بالعربية من إيران . اسكتت صورالمجلة الملونة بكائى ، كان هذا أول لقاء لى بالصور والكلام المطبوع ، على غلاف المجلة كانت صورة لإمرأة ترعى خرافاً بيضاء فى سهل أخضر .


الصورة الثالثة


صباح يوم من أيام شهر مارس من عام 1969 كان كثيرون داخل حجرة أبى ، أميز من بينهم أختى بهيجة وهى تخلع عن قدميها خلخالها وأمى ووجهها أحمر وأخى بهجات يحادث رجلاً بعصبية وأختى سامية تبكى وأخى حمزة يضرب رأسه بيديه وأنا اتطلع إلى الجميع فى حيرة . لا أحد ينظر لى أو يهتم بشأنى . أخيراً انتهبت أختى سامية لما أعانيه من حيرة ، فآخذتنى إلى السطح ، ونحن نصعد السلم وقعتُ فجرحت ركبتاى ، ثم نزلنا من على السطح .أحدهم أعطانى قرشاً .


الصورة الرابعة


أمى تركت غرفتها وأصبحت تنام فى غرفة جدتى . كنت أنام بينهما . صمت دائم نزل على جدى ، نادراً ما سمعته يتكلم ، أصحو من النوم على صوته وهو يردد " ياستار العيوب استرنا ، آلا بالتقوى تبلغ ما تريد وبالتقوى يلين لك الحديد ، ياصمد ياصمد " .


وأنام على صوته وهو يردد ذات الكلمات .


يلتهب جلد ظهرى فتضع جدتى يدها على ظهرى ثم تروح تمررها ببطء ولوقت طويل جداً حتى أنام ، فى الصباح أذهب إلى بيت جدى عبدالعزيز شقيق جدى عبدالجابر تلقانى زوجته ، هما لم ينجبا ، كانا يصبان الحنان علىّ صبا ، أعود إلى البيت تأخذنى أختى سامية إلى غابة النخل وتحكى لى قصصاً عن ولد مات أبوه فعوضه الله بحديقة كلها ورد .


حديقة الورد دمرها الأولاد جيرانى الذين كانوا يلعبون لعبة يغنون أثناءها أغنية يقول مطلعها :" ودا قصر مين العالى ؟. دا قصر أبويا الغالى " كانت هذه الأغنية جارحة لى بشكل ما ، وأى كلام أو إشارة إلى الأب كانت تربكنى وكأننى ارتكبت ذنباً أرجو ألا يعيرنى به أحد ، موت أبى جعلنى أشعر بنقصان ما ، نقصان يحول بينى وبين الاندماج مع العيال فى أغنيتهم .


أغانى العيال التى يدور معظمها عن " الأب " جعلتنى فى غاية الشراسة فقلت لهم آمراً :" لن أسمح لأحد بغناء أغنية عن الأب ". أمرى هذا جعلنى اتشاجر معهم كثيراً ،و لكى لا يفتقدوننى راحوا يحرفون أغنيتهم لكى تصفو نفسى :" ودا قصر مين العالى ؟. دا قصر أخويا الغالى ".


تعبت من التشاجر فانسحبت مبكراً جداً من تجمعاتهم هذا الإنسحاب ألقى العبء مكتملاً على أكتاف أمى وأختى سامية التى تركت المدرسة لكى تهتم بشئونى . أنام حتى الثامنة صباحاً إذا استيقظ لابد وأن تكون أمى على رأسى ليس غيرها أقبل منه كلمة أو ضمة ، تدللنى أمى كثيراً بل كثيراً جداً حتى أرضى قأقوم من تحت الغطاء ، تتلقفنى سامية فتغسل لى وجهى ويدىّ وقدمىّ ثم تمشط شعرى وتلبسنى جلباباً حريرياً أبيض ، تكون أمى – وليس غيرها – قد جهزت لى الإفطار ، سندوتش من البيض وآخر من الجبن وثالث من الزبد ، ثم هناك براد شاى وضعت فى " بزبوزه " قطعة من الورق لكى يحتفظ بحرارته لأطول فترة ممكنة ، أشرب كوباً كبيراً من الشاى ثم تشرب أمى وأختى ، إن كانت الأيام أيام صيف ذهبت إلى أخى بهجات إلى حيث يجلس مع الدكتور إبراهيم فى المستشفى ـ يلقانى باسماً ويقف للسلام على وكأنى رجل كبير كذا يفعل الدكتور إبراهيم والشيخ عبدالرؤوف موسى ، يتوجه لى أخى قائلاً :"لو أنت شاطر صحيح قول لعمك الشيخ والدكتور الاناشيد اللي أنت حافظها ".


انطلق في الانشاد:


"يا حمام يا يمام


روح قوام لجمال


بوس له خدوده


وقوله جنودك


اشتاقوا والله للقتال".


يصفقون لي بحماس 0ثم اتركهم متجهاً إلى جنينة المستشفى لا أكف عن الكلام مع الأشجار وكنت مؤمنا أن شجرة الكافور الضخمة هي أم الاشجار وأن شجرة الصفصاف هي أختهم الكبرى أما شجرة الليمون فهى زميلتى التى سأذهب معها إلى المدرسة . أتكلم مع الأشجار حتى يؤذن الظهر ؛فينزل أخى و الشيخ عبد الرؤوف من مسكن الدكتور للصلاة


أذهب معهما ؛هما يصليان مع المصلين ؛ و أتفرغ أنا لملء أنفى برائحة حصر الجامع المبللة بماء الوضوء


هذا إذا كان الوقت صيفا ؛أما فى الشتاء فأذهب إلى أخى فى المدرسة أجد الفصل مزدحما بالعيال الكبار و لكن أخى يختار لى مكانا بجوار ولد هادئ اسمه عبدالتواب ، المدرسة لم تكن سوى بيت قديم من حجرتين كبيرتين ، الأولى يجلس فيها عيال السنة الأولى الإبتدائية ويعلمهم أخى ، يعلمهم كل شئ حساب وقراءة وعلوم وقرآن ، والحجرة الثانية لعيال السنة الثانية ويعلمهم الأستاذ جمال مصطفى ثم هناك غرفة صغيرة هى مخزن المدرسة فيها الطباشير والكتب وصور كثيرة للرئيس جمال عبدالناصر ، فى نهاية كل فصل هناك قصارى زرع فيها نعناع وفول أخضر وريحان ، صاحبت أنا زرع الفول خصوصاً زهرته البيضاء التى تتوسطها نجمة سوداء ، أمى عندها جلباب أبيض تتوسطه زهور سوداء ، إذن زهر الفول قريب لى ، اشم رائحته فتقتحم أنفى رائحة شعر أمى بعد أن تغسله بالماء الساخن . أقطف زهرة وأقذف بها إلى فمى أظل استحليها حتى تذوب مختلطة بريقى ، عندما تبدأ حصة القرآن أكون فى قمة سعادتى لأن اسمى واسم الولد عبدالتواب سيذكر بعد قليل " بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين عندما ينطلق العيال كلمة " الحمد " ينظر لى عبدالتواب باسماً فها هو فى المصحف الشريف فـ " الحمد " هى حمدى ولكن العيال الملاعين لا ينطقونها بشكل جيد ، ليس مهماً المهم هو أن اسمى موجود فى المصحف ، بعد قليل سيأتى اسم الولد عبدالتواب " فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً " انظر إلى عبدالتواب فى حسد لأن العيال ينطقون اسمه بشكل صحيح فاسمه فى الشارع " تواب : وفى المصحف " تواباً " يعنى لم يختلف كثيراً ، دفعنى الغيظ من العيال الذين يخطئون فى نطق اسمى لأن اقترح على عبدالتواب أن يأخذ كلاً منا اسم الآخر فأصبح أنا عبدالتواب ويصبح هو حمدى ، ولكنه رفض وهو يقول لى " أبويا يضربنى ويقول لى سبت اسمك ليه ؟وبعدين أنت بعد شوية هترجع فى كلامك لأن اسمك واسم أبوك موجود فى المصحف ، شوف مش إحنا كل شوية نقول بسم الله الرحمن الرحيم أهم الرحيم دا اسم أبوك ".


كرهت الولد عبدالتواب لأننى كنت أظن أن الآباء فى أغانى العيال فقط فإذا به يقول لى أنهم فى المصحف أيضاً .

الصورة الخامسة


" ياحمدى أفندى الزرع بيفرح بأصحابه وعلشان كدا النهارده هاخدك معايا للغيط القبلى نطمن على القطن " هكذا حدثنى جدى ، وبالفعل لف منديلاً حول رأسى ووضعنى أمامه على الحمار وانطلقنا إلى الغيط ، بعد أن تجاوزنا بيوت البلد غرقت عيناى فى مياه ترعة البسيونية كانت المرة الأولى التى أرى فيها مياه كثيرة لهذا الحد ومن يومها ، وأنا كلما رأيت ماء فكرت فى شئ واحد وهو أن اندفع إلى قلبه وأدفن جسدى فيه ( هل سأموت غريقاُ ؟). على جانبى الترعة كانت تصطف أشجار الصفصاف وعلى قمتها مئات من " الزرازير " قال لى جدى قل " هوه هوه " بصوت عال فصرخت " هوه هوه " فطارت صفوف " الزراير " وراحت تحلق بأجسامها الصغيرة فى االسماء صانعة قوساً ملوناً يخطف الأبصار ، وكلما عادت " الزراير " إلى الأشجار عاودت الصراخ

" هوه هوه " فتعود لتحليق ثانية ، ثم طلب جدى منى السكوت لأن " الزراير " تعبت ولابد أن اتركها تستريح فاستجبت لطلبه وعادت عيناى مرة أخرى تغرقان فى مياه الترعة ، عندما وصلنا إلى الغيط قال لى جدى :" أدخل أملأ جيوبك بالقطن ولما نرجع البلد تروح تبيعه عند شوقى طه وتشترى لأمك حاجة حلوة ". بعد أن ملأت جيوبى بالقطن عدت إلى جدى الذى كان يصلى على رأس الغيط ، بعد أن ختم صلاته التفت لى قائلاً " براوة عليك " عفارم ياحمدى أفندى ، الراجل طالما طلع بره بيته لازم يرجع له وفى إيده حاجة ، أى حاجة إن شاء الله قالب طوب ، زلطة ، عودين حطب ، ليه ياحمدى أفندى أنا أقولك ليه ؟ لإن الراجل ربنا سبحانه وتعالى خلقه علشان يجيب حاجات البيت وأنت خلاص بقيت راجل دا حتى إحنا بنفكر نجوزك ".

ضحكت وضحك جدى معى ثم فجأة قطع ضحكه وقال لى " فاكر أبوك يا حمدى أفندى ؟ أبوك دا كان ولد بصحيح كان راجل بجد كان عارف كل حاجة أنا فاكر كان دايماً يقول لى يا أبويا بكره الإنجليز تطلع من مصر والحالة تبقى معدن ، أبوك دا كان حاجة حلوة قوى ، عارف يا حمدى أفندى أنا خلفت سبعتاشر راجل قبل أبوك وكلهم ماتوا ، عارف عمك عاشور مات وهو راجل كان عنده تمنتاشر سنة وكنت بجهز علشان أجوزه ولكن زيه زى إخواته على غفلة مات ، وبعدين أبوك اتولد فعوضنى عن اللى ماتوا ، بقولك كان حاجة حلوة قوى ، كبر واتعلم وأجوز وخلفكم سبعة فى عين العدو ، ولكنه وعلى غفلة عمل زى إخواته وسابنى ومات ، أبوك يا حمدى أفندى كسر ظهرى ، عمره مازعلنى ، عمل كدا ليه مش عارف ، آه يا موت أشوف فيك يوم ياموت ، بينى وبينك تار ليوم القيامة ، قلبى وربى عضبانين عليك ياموت ، يارب ورينى فى الموت يوم " .


من يومها لم يذكر جدى أبى ولو مرة واحدة لم يسألنى بعدها " فاكر أبوك ياحمدى أفندى " ولكنه وحتى مات كان يواجه الموت بعد كل صلاة ، كان إذا ختم صلاته ضم أصابع يده اليمنى وأفرد سبابته وحادث الموت وكأنه يقف أمامه كان يتوعده قائلاً " اسمع بهجات وأخواته ، أنا صابر عليك ولكن والبارئ فى سمائه ما هيحصل طيب لو قربت من بهجات وأخواته ، دول أمهم مسكينة وغلبانة أدينى بقولك أهو ، أوعى بهجات وأخواته " ثم يهدأ و ينعكس رأسه فى الأرض .


فى يوم من الأيام عبثت فى صندوق تحتفظ فيه أمى بورق كثير فتح فوجدت شيئاً غريباً رحت ألعب به ، وأتى جدى ، انتزع اللعبة ( لم تكن سوى صورة أشعة ) من يدى وصاح غاضباً " ليه كدا دى بتاعة الغالى " .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(الخميس القادم الجزء الثانى)