الخميس، 23 أبريل 2015

مصر ليست السودان








قبل سنوات أهدانى الكاتب الصديق هشام أبو المكارم كتابًا من منشورات داره «أوراق»، كان الكتاب لأنور عوض، وهو كاتب ومؤرخ سودانى يقيم فى لندن، عنوان الكتاب كان «240 ماتوا وقوفًا»، قرأت الكتاب لأجد نفسى أمام كابوس لا تجد نظيره إلا فى هذه البقعة المسماة بالوطن العربى، الكتاب والكاتب ينبشان جرحًا لم يندمل ولن يندمل إلا بالعدل الكامل.

المكان: قرية جودة السودانية.

الزمان: منتصف الخمسينيات.

الحدث: خلاف بسيط وعارض بين أهل القرية من زارعى القطن والحكومة المركزية، تقوم الحكومة على أثره بحبس 240 من الفلاحين فى زنزانة واحدة، ولكى تضمن عدم هروبهم، فقد قامت الحكومة باتخاذ أقصى إجراء أمنى ممكن أيامها، جاءت ببلدوزر وسدت به باب الزنزانة.


النتيجة: مات الفلاحون جميعًا. النتيجة النهائية، تخثر هذا الكابوس فى القلب السودانى، دم الكابوس تجلط، دم الكابوس هيمن وسيطر، ولا شفاء.


بعد قراءتى الكتاب طمأنت نفسى بأن هذا الذى حدث بالسودان قبل أكثر من نصف القرن لا يمكن أن يحدث مثله فى مصر، خصوصًا وثورة يناير قد بشرت بنهاية الخوف والتعذيب وإهانة الإنسان تحت أى بند كان.

تخلصا من هذا الكابوس قلت: «مصر ليست السودان».


ثم جاءت جريدتنا «التحرير» لتنشر قصة إخبارية كتبها زميلنا محمد رشدى، وملخصها لمن لم يقرأها يقول: «إن المستشار تامر العربى، رئيس نيابة مصر القديمة، قد خاطب مستشفى قصر العينى بتشكيل لجنة من الأطباء، للكشف على الإصابات والأمراض التى يعانى منها المتهمون داخل محبسهم بقسم مصر القديمة، ولمعرفة هل تكدس عدد أكثر من 350 فردًا داخل ما يقرب من 7 حجرات، يؤدى إلى موت المحتجزين أم لا؟


كما أمرت النيابة بتشكيل لجنة أخرى من الطب الوقائى بوزارة الصحة، لمعاينة أماكن التهوية الموجودة داخل الحبس، وهل تلك الأماكن متوافرة أم لا؟

وفى نفس السياق كلفت النيابة الطب الشرعى بتشريح جثة المتهم ماجد.م، 33 سنة، عاطل، عقب وفاته فجأة داخل محبسه بقسم مصر القديمة، وكان المتهم دخل الحجز منذ 3 أيام على خلفية اتهامه بالشروع فى سرقة بطارية سيارة ملاكى.


وتأتى تلك القرارات بعد أن توفى سجينان فى يومين متتاليين فى القسم، حيث انتقل رئيس النيابة إلى غرفة الحجز، فى محاولة منه لمعرفة سبب وفاة المتهمين فجأة، بالإضافة إلى مناظرته جثة المتهم، والتى تبين منها عدم وجود شبهة جنائية، وأنه تُوفى نتيجة هبوط حاد فى الدورة الدموية».


انتهت قصة «التحرير»، ثم بالبحث عن مناطق جانبية فى هذا الكابوس، تبين أن النيابة قد تأكدت من أن حجز قسم مصر القديمة لا يستوعب أكثر من مئة وأربعين محتجزًا، ولكن الذين بيدهم الأمر والنهى وضعوا فى الحجز 350 محتجزًا!


هذا التكدس الذى هو أقرب للقتل البطىء منه لأى شىء آخر، جعل مرض «الجرب» ينتشر بين المحتجزين، ثم تدهور الوضع حتى وصل إلى موت اثنين من المحتجزين عاينت النيابة جثتيهما ولم تجد بهما علامات تعذيب.


لقد تعذبا بهذا التكدس الذى فاق ما حدث فى قرية جودة السودانية، هل بعد نقص الهواء الذى نتنفسه من عذاب؟


نعرف أن «الداخلية» فى مواجهة مفتوحة مع قوى الشر والإرهاب، ونحترم هذه المواجهة، ونقدر دور «الداخلية» فى تلك المواجهة المصيرية، لكن متى ستحترم «الداخلية» ظهيرها الشعبى؟


متى ستعرف «الداخلية» أنها لن تنتصر إلا باحترامها الكامل والتام لحقوق الإنسان، وبخاصة ذلك الإنسان الذى يكون فى قبضتها وتحت سيطرتها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير في 21 أبريل 2015

هناك تعليقان (2):

  1. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  2. فى هذه الحاله سنحتاج داخليه من المثقفين
    مع احترام الشديد بحديثك
    انا ارى انه بدلا من ان يتاثر المجرمون باخلاق الشرطه فيرتقوا باخلاقهم
    وجدت ان اجهزة الشرطه تاثرت باخلاق الخارجين عن القانون وتشوهت روحهم واخلاقهم اكثر
    كلما اقترب رجل الشرطه من المجرمين او كلما طالت فترة خدمتهم
    مع الوقت يتحول رجل الامن الى مجرم - فى حق المواطن - يحميه القانون

    تحياتى لكلماتك


    ....

    ردحذف