الاثنين، 20 أبريل 2015

على سبيل الاحتفال بعيد ميلاد الخال (2ـ 2)







سأحكي لكم حكاية توضح ما أريد قوله : حكاية محمود حسن إسماعيل مع النيل ".
قبل أن يسترسل الخال في قص الحكاية علينا ، قاطعه بلال سائلًا :" هل كانت بينك وبين محمود حسن إسماعيل علاقة شخصية ".

يبتسم الخال قبل أن يرد :" إنها ذات العلاقة التى تربطنا بالمتنبي مثلًا ، عندما كنت وأمل دنقل وباقي رفاقنا من شعراء وكُتاب الجنوب الصعيدي نقيم في قرانا البعيدة عن العاصمة ، كانت أشعار محمود حسن إسماعيل ضروريًا لنا كأنها رغيف العيش ، كنا نحبه هذا الحب الصافي وندرك كم هو فنان متوحد فريد ، عندما جئنا إلي القاهرة زرنا الأماكن التى ذكرها في شعره ، وبدأنا رحلتنا من نخيل منطقة الجزيرة ، ثم عرفت طريقي إلي مبني الإذاعة التى بدأت تذيع بعض الأغنيات التى كنت أكتبها ، وذات يوم قابلني فاروق شوشة فى ممر من ممرات الإذاعة قال لي والفرح المخلوط بالجدية يتراقص علي وجهه :" ابشر ، محمد حسن إسماعيل يريدك ".


لحظة لقائي بمحمود حسن إسماعيل كانت من ضمن اللحظات الفارقة فى حياتي ، إنه الشاعر الشهير الخطير ، يثني علي أغنياتي ويتحدث عن مذاقها الفريد وعن نكهتها الجديدة الطازجة ، ثم دعاني إلي كوب شاي ، أهي يا عيال  كوباية  الشاي دي أعتبرها أحد أرفع الأوسمة التي نلتها في حياتي ، بعد المقابلة سألني شوشة :" ماذا قال لك الشاعر ؟".قلت له :" لقد عزمني علي كوباية شاي ". ضحك قائلًا :" تمام ، لقد وصلت يا عم ، محمود حسن إسماعيل لا يقدم الشاي سوى لأحبابه ".


خفت أن يشرد بنا الكلام ونبتعد عن قصة النيل ومحمود حسن إسماعيل ، فسألت الخال :" هل نعود إلي أصل قصة الوطن والنيل ".

صاح :" ها كويس إنك لسه فاكر ، الأستاذ محمود وهو من هو معرفة بالوطن وناسه ، كان ينزل أسوان في بدايات بناء السد العالي ، طبعًا أنا مضروب بالسد ، ليست مسألة عشق شاعر لبناء حتى لو كان هذا البناء هو السد العالي ، الموضوع أكبر وأشد تعقيدًا من كل هذا الكلام ، السد هو هويتي الشخصية ، أنا إنسان هذا السد ، كأنه أبي وعائلتي وعزوتي ، عرفت بوجود الأستاذ في فندق يطل علي النيل مباشرة ، أخذت فلوكة ، ووصلت بها إلي تحت نافذته مباشرة ورحت أصيح آمحمود  ، يا محمود حسن إسماعيل ، لم يكن يمكنني الوصول إليه إلا بهذا الصياح ، هبط الرجل الخطير بقامته المديدة وسألني :" ماذا تريد مني يا أبنودي " قلت له سأعرفك على النيل ، رد علىّ قائلًا :" هل نسيت أنني صعيدي من أسيوط وأعرف النيل جيدًا ".


قلت له دعك من نيل القاهرة والمدن الكبرى ، بل دعك من نيل أسيوط ، هنا أصل النيل المصري ومنبع خيره ، هنا نيل ليس كمثله نيل ، لعبت الفكرة في رأس الأستاذ ، فركب معي مركبي الصغير ، يومًا بطوله وأنا أطوف به النيل ، قدمته للصخور وللأمواج وللعمق وللطول وللعرض وللشاطئ وللأشجار وللطمي ، قدمته لكل كائنات النيل ، في ختام اليوم الشاق تنهد الأستاذ في راحة ثم قال لي :" الآن أعرف مصر كأني لم أعرفها قط ".


صمت الخال لحظة ثم واصل قائلًا :" هذا يا عيال المعني الذي أريده من الحكاية ، الوطن هو ناسه وأرضه ، لابد من تعب ومكابدة لكي نعرف الوطن ، اعرفوا الناس وتعلموا منهم ، ليس بي أدني قدر من التعصب ولكنى أشهد أن ناس هذا الوطن هم خير الناس ، فقط ينتظرون فرصة الوصول إليهم والاهتمام بهم ، وساعتها سيحدث العناق العظيم بين ضوء الفكرة وحرارة  تطبيقها ، فاكرين قصيدتي " الدايرة المقطوعة " قلت فيها :" إذ مش نازلين للناس فبلاش " هذه هي القضية بكل وضوح ، الناس أولًا وأخيرًا ".


جاءت السيدة نهال  بدور شاي صعدي جديدة ، وجلست في مواجهة زوجها الذي نظر إلى قدميها وتمتم :" جزمتك حلوة قوى يا نهال ".
ضحكت وبلال ، بينما لم تسمع السيدة نهال جملة الخال فرجته أن يعيدها فرفض فهممتُ بأن أعيد عليها الجملة فأقسم ألا أفعل قائلًا :" شاعر كبير يغازل حبيبته ، فإن لم تشم الوردة  فلن نقدمها لها ثانية  ".

ضحكنا جميعًا ، ثم أقلقني ما قاله الخال عن الناس وعناء الوصول إليهم فسألته مباشرة :" كيف ترى ميدان التحرير والناس ؟ ".


رد مبتسمًا :" هل تخجل من السؤال المباشر عن رؤيتي لعلاقة شباب ونخب الثورة بالناس ، بل علاقة الثورة ذاتها بالناس ؟ ".

قال بلال :" لقد جئنا للسلام عليك ولا نريد إرهاقك في حوار سياسي ".

قال الخال :" انظروا إلي المسافة بينكم وبين الفلاحين مثلًا ثم تحدثوا عن الثورة ، قرب أو بعد المسافة يحدد نجاح الثورة أو فشلها ، أنا لا أحدثكم عن العشوائيات أو عن طلاب الجامعة أو عن المقاولين ، أحدثكم عن كتلة كبيرة متماسكة لها خبرات في الحياة والنضال والبناء ، مصر بمجملها هي ثمرة عرق الفلاحين ، عبد الناصر كان واعيًا لهذه النقطة فذهب إليها مباشرة ، من أول يوم لثورة يوليو ، كانت ترى خطورة الفلاحين ، وكانت تعرف إن الوصول إليهم هو نجاح أكيد لها ، تعرفون أن عبد الناصر قد اعتقلني ، المعتقل غير السجين ، السجين له حقوق ، واسمه مسجل في الدفاتر ، يعني لو مات أهله سيعرفون له قبرًا ، المعتقل هو بالأساس مختطف لدى جهة لا يعرفها ولا تعرفه ، مجرد رقم لا يدرى متى يعود إلي إنسانيته ، المهم بعد الإفراج عني ، عدت وأنا فى غاية التعب والتشاؤم إلي أبنود ، كنت أنشد شيئًا من الراحة والشفاء من ذكريات الاعتقال ، صباح يوم كنت أمر على أحد جسور أبنود ، كان الخال مش عارف مين ، غاطس في طين غيطه ، رأني أمشي منكسرًا فصاح :" يا رومان ، عبد الرحمان ، مالك يا وليدي ".

فقلت له بصوت مخنوق :" الراجل دا اللى اسمه جمال أبو عبد الناصر حبسني وتعبني ".

فصرخ الخال فلان في وجهي مستنكرًا :" عما تقول إيه ؟ الراجل دا ؟ ناصر حبيبنا بقي اسمه الراجل دا ؟ جرى لمخك إيه يا عبد الرحمان ؟

دا الرئيس جمال أبو عبد الناصر على سن ورمح ، دا الراجل اللى لبسني مركوب في رجلي ، دا الراجل اللى خلاني من الملاك ، وخلاني اشتري لباس دمور استر بيه نفسي ، دا الراجل اللى بيدني السماد والتقاوي ببلاش ، وبيشترى مني المحصول وبيدني تمنه فورى ، اعقل يا أستاذ ، ولو كان عندكم حاجة تقدروا تساعدوا بيها الراجل دا رحوا لغاية عنده وقدموها ليه ، وإن كان بينكم مشاكل ، أهي مصارين البطن بتتعارك ، اصطلحوا معاه وساعدوه علشان كلنا نهم وننهض مع بعض ".


يصمت الخال للحظة ويمسح بكفيه على وجهه كأنه يريح الوجه من عبء الذكريات ثم يقول :" صوت الخال فلان لم يفارقني من يومها ، وكلماته تسكنني ، لقد عرفت منها الكثير ، عرفت منها إن الشعار سيظل شعارًا ، ما لم ينزل إلي الأرض ويغرس جذوره فيها ، هل يعرفكم الفلاحون ؟ هل تعرفونهم ؟ هل ستظلون في التحرير إلي الأبد ؟ من سيصبر عليكم ؟ من سيساعدكم ، ميدان التحرير بكل ما فيه من نبل وحلم وشهامة ومروءة ، هو فكرة ، مجرد فكرة ، اخرجوا بفكرتكم إلي الناس ، كل الناس ، قدموا لهم الدليل على أنكم معهم ، عندما تصل الثورة إلي الفلاحين ، هم سيتولون أمرها ، سيحرسونها ويكبرونها ويقتلعون الحشائش الضارة التى ستتعلق بها ، سيفعلون معها مع يفعلونه مع غيطانهم ، ساعتها أبشروا بالنصر الكامل التام للثورة ، هذا لو كنتم تريدون الثورة بمعناها الحقيقي ، أما إن كان هدفكم إلقاء حجرة في بحيرة الصمت فقد فعلتم وزيادة ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير في 16 أبريل 2015

هناك تعليق واحد: