الخميس، 30 يوليو 2015

الأرشيف السري للثقافة المصرية (2)

صالح جودت عدو «يوليو» يمدح عبد الناصر


فى الحلقة الأولى التى نشرناها عن كتاب «من الأرشيف السرى للثقافة المصرية» توقفنا عند فكرة صاحبه غالى شكرى الرئيسية التى تقول: إن الثورات تهزم نفسها بنفسها عندما تستعين بنخب الثورة المضادة أو عندما تترك لهم المجال لكى يعملوا على هدم الثورة من داخلها. فى حلقة اليوم، وهى الثانية والأخيرة، سنكمل سرد الوقائع التى دلّل بها الأستاذ غالى على صحة فكرة كتابه.


العملية «مديحة»!


مات رأس الثورة ومفجرها يوم 28 سبتمبر 1970، وله ما له وعليه ما عليه، كانت مصر الشعبية حزينة، وكذا قطاعات من مصر الرسمية، أما أحزن العرب على وفاة ناصر فكان سمو الشيخ سالم الصباح، أمير دولة الكويت الشقيقة.


كان الشيخ سالم هو آخر مَن ودّعهم عبد الناصر من الحكام العرب بعد انفضاض مؤتمر القمة الطارئ الذى دعا إليه عبد الناصر لإنقاذ الأمة من مذابح أيلول التى جرت بين الأشقاء الفلسطينيين والأردنيين، ويُقال إن سموه كان أول حاكم عربى يعرف بخبر رحيل ناصر، فسارع بالعودة إلى القاهرة بعد أن كان غادرها بساعات قلائل.


صاحب السمو كان محبًّا لناصر عارفًا بفضله، فرأى أن يفتح خزانة دولته لتكريم ذكرى الزعيم الراحل.


أفتح قوسى الافتراضى لأقول من خارج مادة الكتاب الذى نقرؤه معًا إن رجلًا من أبرز رجال «أخبار اليوم» هو جلال الدين الحمامصى، شنّ حربًا شعواء على يوليو، انتهت باتهامه لناصر بأنه اختلس عشرة ملايين جنيه من الخزانة العامة، كان الاتهام ظالمًا جدًّا وقاسيًا للغاية، وهنا أقسم الشيخ سالم بالله إنه سيدفع من ماله الخاص المبلغ الذى تحدده القيادة المصرية متى قدّمت الأدلة على صدق ما قاله الحمامصى.


طبعًا فشل الحمامصى ومحرضوه وفشلت وكالة المخابرات الأمريكية فى تلطيخ سمعة أمير الفقراء، وثبت للجميع أن القصة هى قصة رأس يوليو ذاتها وليست قصة ذمة ناصر المالية.


نغلق قوسنا ونعود إلى سياقنا.


كان النشاط الفنى للفنانة مديحة يسرى، قد تقلّص، فرأت أن تؤسس شركة للتسجيلات الفنية تحت اسم «شركة الموارد الثقافية والفنية»، شركاؤها كانوا من الكويت، ولذا فإن المقر الرئيسى للشركة كان فى الكويت.


ذات يوم هاتفها رجل من جهاز أمنى مصرى طالبًا منها الاتصال بالشاعر الأستاذ صالح جودت.

هنا انتبه: صالح جودت ليس عابرًا فى كلام عابر، إنه شاعر غنت قصائده أم كلثوم، وتغنى هو بكل الحكام من فاروق إلى السادات!


أحسنت يوليو لجودت (وهنا خطيئتها القاتلة)، فكان صحفيًّا لامعًا ورئيس تحرير وشاعرًا بالعامية والفصحى، هل سمعت أغنية وردة العذبة «روحى وروحك حبايب من قبل دا العالم والله»، إنها من تأليفه ومن ألحان فريد الأطرش، اختصارًا لم تؤذِ يوليو جودت أدنى أذى، ولكن ما فى القلب يظل فى القلب وقلب جودت كان ممتلئًا حتى حافته بكراهية يوليو، فما إن مات عبد الناصر حتى اندفع جودت يهجو كل فعلٍ يوليوىّ حتى لو كان فى عظمة بناء السد العالى، جودت كان يخمّر لفتنة أهلية عندما كتب معادلته الشهيرة التى تقول: «الماركسيون ملحدون، والمصريون متدينون، إذن الماركسيون ليسوا مصريين».


نعود إلى سياقنا فنرى أن مديحة يسرى قد اتصلت بصالح جودت كما أمرها رجل الأمن، فرد عليها جودت قائلًا: «لقد ألّفت كتابًا عن الرئيس الراحل، وبيقولوا ممكن تنشريه وتسجّليه كمان بصوتى، ماتفكريش فى الفلوس من ناحيتى».


كانت الدهشة ستشق مديحة إلى نصفَين، صالح جودت عدو يوليو ومفجرها كتب كتابًا فى مدح عبد الناصر، بل سيسجله بصوته على أشرطة كاسيت!


جودت الحريص على حقوقه المادية لا يهتم بالفلوس!


اللهو الخفى الذى كان قد اتصل بمديحة كان بطبيعة الحال قد رتّب الأمر مع جودت، وجاء له بحقوقه، اثنا عشر ألف جنيه مصرى. (انتبه نحن فى مطلع السبعينيات عندما كان الدينار الكويتى بجنيهَين وليس بخمسة وعشرين جنيهًا).


فى نوفمبر 1970، ظهرت نسخة الكتاب الجودتى ومعها شريطا كاسيت سجل عليهما صالح جودت كتابه المادح فى حياة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر البطل المغوار القائد الضرورة و.........

وكما تم التأليف والتسجيل بسرعة، جرى إخفاء جثث النسخ والأشرطة.

حفظ الله مقامك فلا تسل وأين ذهبت النسخ والأشرطة؟

يا صاحبى وأين ذهبت نسخ مذكرات سوزان مبارك التى تم طبعها بأغلفة مزيّنة بماء الذهب؟


هذه كتلك يا صاحبى.

هل كفّ صالح جودت بعد تلك الواقعة الموثقة بالصوت والكتابة عن مهاجمة يوليو؟

بالطبع لا، لكل ظل حتى رحيله ويوليو له كجلد الأجرب للأجرب، لا يعرف الراحة حتى يحكه وتتفجر منه الدماء.

الأخوان أمين


يعد علِى ومصطفى أمين من أصحاب التجارب الفارقة والنوعية فى تاريخ الصحافة المصرية، بل والعربية، ويصح أن نؤرخ للصحافة بما قبل مصطفى وعلِى أمين وبما بعد مصطفى وعلِى أمين.


كانا شيئًا ضخمًا قبل ثورة يوليو، وبقيا كذلك بعدها، ولكن ما فى القلب يظل فى القلب، ولم يكن فى قلبيهما سوى العداء لثورة يوليو ولمفجّرها جمال عبد الناصر.


صحت مصر يومًا على دعوة خطيرة جدًّا أطلقها علِى أمين، يقول ملخصها: يجب أن ينظم الشيوعيون أنفسهم فى حزب علنى تعترف به الدولة!


ويبرر أمين دعوته بكلام من عينة أن ظهور الشيوعيين إلى العلن سيظهر قوتهم الحقيقية وسينزع عنهم إغراء العمل السرى.

هذا هو ظاهر الدعوة، أما باطنها فكان كما يؤكّد الأستاذ غالى هو أن الأخوَين أمين كانا يريدان استكمال أرشيفهما الخاص عن الشيوعيين.


هذا الأرشيف كان مهمًّا جدًّا لهما، فقد اعترف مصطفى أمين فى أثناء محاكمته فى عام 1965 بتهمة الجاسوسية، بأن دار «أخبار اليوم» تمتلك جهازًا يعتمد على مصادر موثوق بها محلية وأجنبية، وأن هذا الجهاز يتبادل المعلومات مع الأجهزة الأخرى المحلية والأجنبية!


أفتح أنا كاتب هذه السطور قوسًا افتراضيًّا لأضيف أن الأستاذ هيكل له كتاب يحمل عنوان «بين الصحافة والسياسة»، وبه كل الوثائق التى تدين مصطفى أمين بالجاسوسية، وأهمها كتبه مصطفى بخط يده هو نفسه، ثم أضيف أن المخابرات العامة المصرية تحتفظ فى متحفها حتى يوم الناس هذا بوثائق قضية تجسُّس مصطفى أمين، بوصفها القضية الأكمل من حيث فنية عمل أجهزة المخابرات، ثم أختم بأن السادات الذى كان حاضنًا لكل أعداء يوليو أفرج عن مصطفى بعد توسُّط العالمين إفراجًا صحيًّا.


مدرسة الأخوَين أمين كانت قائمة على نوع من الصحافة ذائعة الصيت، التى تفرغ كل معنى جليل من محتواه، فعندما كان الوطن يبنى نفسه بعد العدوان الثلاثى، عاد أنيس منصور وهو أحد أبرز تلاميذ مدرسة الأخوَين من زيارة له إلى الهند، لكى يشعل فتنة «تحضير الأرواح فى سلة»، أيامها استطاع دجل منصور إلهاء الشعب عن معركته، حتى كانت الناس تستوقفه فى الشارع لتلتقط معه الصور التذكارية!


كل هذا التخريب للثورة ولمضمونها يتم دائمًا من خلال أدوات ثقافية وإعلامية (انظر حولك لتتأكّد من صحة كلامى).


قدّم سلامة موسى وهو مَن هو، يكفى أنه الذى قدّم لنا نجيب محفوظ، للأخوَين كتابًا عن «الصحافة حرفة ورسالة»، لكى يصدراه فى سلسلة كتاب «أخبار اليوم» الشهرى، وهى سلسلة كانت الأبرز فى تلك الأيام، فجأة مات سلامة موسى قبل ظهور الكتاب، الذى ظهر فى طباعة أنيقة وبثمن زهيد للغاية، واكتسح أرصفة الشوارع، لأنه كان مصحوبًا بحملة إعلامية جبارة، وجرى بيع عشرات الألوف من النسخ فى خلال أسبوعين فقط!


كان غالى شكرى قد قرأ الكتاب مخطوطًا، لأنه كان يعد كتابًا عن سلامة موسى، وقد وقعت عليه النسخة المطبوعة من «أخبار اليوم» وقوع الصاعقة، لأنها كانت نسخة مزوّرة ومزيّفة، قاما الأخوان أمين بإعادة تأليف الكتاب لكى يكون كتابًا عنهما وعن نجاحهما هما!

عندما عرفت أسرة سلامة موسى بما جرى لتراث رائدها رفعت الأمر إلى القضاء الذى حكم لصالحها، وأمر الأخوَين أمين بإعدام النسخ التى زوّرا وزيفا مضمونها!


هل رأيت أن نقض وهدم الثورات يتم دائمًا بأدوات ثقافية؟

هل رأيت مدى صدق صلاح عبد الصبور عندما قال: «الدودة فى أصل الشجرة؟».
ثم جاء حاتم..



الدكتور عبد القادر حاتم، رحل قبل أسبوعين بعد أن عاش كنوح وتمتع كسليمان (عليهما السلام). لماذا استعانت يوليو بالدكتور حاتم تحديدًا فى أبرز المواقع الثقافية؟


وماذا سنقول لثورة تريد أن تخرب بيتها بيدها؟

جاء حاتم وجرى الإفراج عن الكتاب الشيوعيين، فى بادرة ظنّها الجميع بداية الفرج، حتى قال لهم عبد الناصر بعدها بسنوات: «لقد كان قرار الإفراج عنكم قرارى الشخصى رغم أنف النظام!».


كان حاتم يستقبل الكتاب الشيوعيين فى مكتبه بالوزارة ويقول لهم إنهم فى روسيا نفسها يعيبون عليه تطرفه الشيوعى!


شيوعى من أولاد البلد رأى كتبًا ماركسية نادرة فى مكتبة حاتم، فطلب منه أن يعريها له لكى يزداد ثقافة!

بعد أن خرج الشيوعى ابن البلد ورفاقه من مكتب حاتم، ضحك وهو يقول لهم: إن الكتب التى فى مكتبة حاتم هى كتبى، صادرتها منى المباحث وقدمتها إلى حاتم.


فى تلك الأيام كان شعراء قصيدة التفعيلة، من أمثال حجازى وعبد الصبور ودنقل ودرويش والعنتيل وعبد المنعم عواد يوسف و...... كانوا كلهم يقفون بجوار الثورة، كانوا ينقدونها لصالحها ولم يكونوا ينقضونها من داخلها.


شنّ عليهم صالح جودت حربًا لا هوادة فيها، وأطلق عليهم لقب «القرامزة» وهى جمع قرمزى، وكل قرمزى عنده هو أحمر وكل أحمر فى معجمه هو شيوعى.

ثورة يوليو التى كان يجب أن تحتضن أولادها ولو كانوا معارضين، احتضنت حاتم وجودت وتركت لهما الحبل على الغارب.


فما كان من حاتم سوى أن أمر المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب (هو نفسه المجلس الأعلى للثقافة) بأن يتصدّى لهؤلاء الشعراء، وعلى الفور اجتمعت لجنة الشعر بالمجلس وأصدرت بيانًا لا تغيب عنه روح صالح جودت، المضحك إن كان فى الأمر ما يضحك أن الذى صاغ البيان صياغته النهائية كان رجل الفلسفة الدكتور زكى نجيب محمود، والآن أتركك يا صاحبى مع مواد البيان.


1- إن البلاد عرفت فى الآونة الأخيرة موجة من الإلحاد والوثنية فى الشعر، ذلك أن الذين يسمون أنفسهم بالشعراء «الجدد» ليسوا إلا حرابًا مسمومة موجهة إلى صدر الإسلام، فهم يسمحون لأنفسهم باستخدام إشارات ورموز مستوحاة من ديانات غير موحدة بالله.


2- إن هذه الموجة ليست معادية للإسلام فحسب، بل هى ضد العروبة أيضًا، لأنها تهدم قواعد اللغة والعروض التى ورثناها عن الآباء والأجداد وأجداد الأجداد، وهم يجمحون فى العودة بالمخيلة إلى أمجاد إقليمية، فهم شعوبيون جدد، لا يأنفون من استخدام العامية أحيانًا وكسر عنق البلاغة العربية فى أغلب الأحيان.
إن اللغة هى تراث الأمة وأخطر مقوماتها. وهؤلاء الذين ينتحلون صفة «الشعراء» قسرًا هم أعدى أعداء لغتنا وأمتنا.


3- إنهم قرامزة لا علاقة لهم بالتراب المقدس لهذا الوطن، لأنهم يمجدون بطولات حمراء فى بلاد غيرنا، ولأنهم يحضون على الحرب بين الطبقات ويحرضون سائر الناس على البغى والمنكر وانعدام الأخلاق السوية التى ورثناها عن الأقدمين.


4- إن لجنة الشعر بالمجلس الأعلى وقد تأسست لصون تراث هذه الأمة ولغتها وشعرها من حقّها أن تشرف على وسائل النشر كافة، والإذاعة التى تصل عبرها هذه السموم إلى المواطنين، وهى الأولى بالإشراف على مجلة الشعر بالذات، لأنها تصدر عن دولة لها تقاليدها وقيمها لا عن بضعة أفراد لهم مطلق الحرية فى التعبير عن أنفسهم بوسائلهم الخاصة.


انتهى بيان المجلس فتمكّنت نخبة الثورة المضادة من كل المنابر الإعلامية والأدبية وبقيت مجلة الشعر حتى يوم الناس هذا تصدر عن الإذاعة والتلفيزيون!


ثم هل وضعت الثورة عقلها فى رأسها وعرفت أولادها من أعدائها، لا والله، لقد جاءت بيوسف السباعى وزيرًا للثقافة، وكان قبل الوزارة نافذ الكلمة فى الشأن الثقافى كله، وما صنعه السباعى بالثقافة المصرية وبالمثقفين المصريين يندى له الجبين، كان يا صاحبى يبلغ عنهم الأمن!


ولعل أشهر ضحاياه الذين على قيد الحياة، الكاتبة الأستاذة صافى ناز كاظم، والكاتب الأستاذ صلاح عيسى، فليسألهما مَن شاء معرفة كيف نقضت الثورة المضادة ثورة يوليو من داخلها.



انتهى عرضى لأبرز فصول الكتاب، ولعلنا ندرك خطورة الثورة المضادة على ثورتنا الوليدة 25 يناير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر بجريدة التحرير في 30 يوليو 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق