الاثنين، 27 يوليو 2015

صندل " رسمي " ينهي رغبة مواطني الدرجة الثانية في الفسحة





الذي يعرف الصعيد وأسيوط تحديدًا سيعرف أن النيل ليس نجاشيًا كما يغني عبد الوهاب ، وليس " أسمر حليوه " كما غني غيره ، إنه غول متوحش ، ليس من عاداته " أن يرجع الغرقي " كما قال محمود درويش .

يقسم النيل أسيوط إلي شرق وغرب ، ولا يعبر الطرفان إلي بعضهما البعض إلا بالمعدية ، وما أدراك ما المعدية ، ألواح من الخشب المتهالك تبحر بدعاء الوالدين فلا تكون هناك مفاجأة عندما يغرق المئات سنويًا علي امتداد خط الصعيد ، أثناء عبورهم للمشاركة  في الأفراح والجنائز !!

ولأن الصعيد بعيد عن العين فهو بعيد عن القلب ، ولكن طائر الموت  قرّب و ألغي المسافات عندما ضرب بمخالبة المفترسة  ليلة أول أمس قلب العاصمة .

مواطنون مصريون يقينًا فقراء حتمًا تاقت أنفسهم لـ " شم " الهواء وسط النيل ، وهذا ليس كفرًا ولا حرامًا ، ولكنه في حالتنا المصرية يبدو كأنه إلقاء للنفس في التهلكة .

بصراحة وبدون لف ولا دوران ، ليس للفقير مواطن الدرجة الثانية والثالثة أن تتوق نفسه لبعض النزهة ، عليه أن يمكث داخل علبة الأسمنت المسماة تجاوزًا بالبيت ، فإن تهور وغادر بيته فذنبه علي جنبه .بصراحة التنزه للأغنياء فقط ، أما الفقراء الذين يدفعون ثلاثة جنيهات للفرد مقابل الصعود إلي المعدية فعليهم الجلوس أمام  عتبات بيوتهم استثمارًا لفرحة العيد ، وبعضهم أستثمر فرحة فوز فريقه الأهلي علي غريمه الزمالك ، قرر مواطنو الدرجة  الثانية الصعود إلي معدية تبحر بهم لدقائق ، يرون فيها شيئًا غير أسطح البيوت الشائهة ويشمون هواءً لم يفسد بعد ، وتنتعش وجوههم برذاذ يتطاير من نيلهم الخالد الأسمر الحليوة .

ليس ثمة إضاءة غير تلك العبثية الرخيصة التي ترسلها المعدية ، ليس ثمة هدوء لأن صرعة " الدي جيه " تخترق عنان السماء وهي ترسل أغنيات المهرجان ، بداية من " حط إيده يا ، علي شعري يا " ونهاية بـ " أديك في الجركن تركن ".

راح ولن يعود زمن :” يا سواق يا شاطر ودينا القناطر " نحن نعيش في منتصف قلب العبث والمسخ.

هل المركب مرخص له بالسير ؟ هل السائق مرخص له بالقيادة ؟ هل المجري النيلي صالح للملاحة الليلية ؟ هل التزم قائد المركب بسعته القانونية ؟ هل يعرف أحد علي ظهر الأرض كم عدد ركاب المركب ؟

يا رجل نحن في مصر ولسنا في سويسرا ، يا رجل إنها رحلة من الوراق إلى عبد المنعم رياض وليس رحلة في نهر السين .

لا إجابة لأي سؤال تطرحه الفاجعة ، فقط سمعنا صراخ وعويل ورأينا رعب النهاية مرسوم علي وجوه شهداء الدرجة الثانية ، دقائق من بدء الرحلة وجاءهم الموت ، صندل  بضائع  مملوك لشركة النيل الوطنية للنقل النهري -إحدى الشركات التابعة لجهاز الصناعات والخدمات البحرية للقوات المسلحةـ يبحر ليلًا ويشطر معدية الفقراء نصفين ؟

المهندس سمير سلامة، رئيس هيئة النقل النهرى مفاجأة، قطع لنا الشك باليقين عندما قال لجرديتنا :" إن المركب غير مرخص له للإبحار، ولا يحمل أى أوراق قانونية عن صلاحيته للإبحار، كما أن طاقمه لا يحمل أى تراخيص لقيادته، بالإضافة إلى أن صندل البضائع غير مسموح له بالإبحار ليلا.
وأضاف رئيس هيئة النقل أن المركب المنكوب لم يخضع لأى فحص من قبل الهيئة باعتباره لا يحمل ترخيصًا للإبحار من الأساس “.

ثم ماذا ؟
لا جديد ، الصحة تقول إن عدد الضحايا 14 ضحية ، الأهالي يقولون بل 16 ضحية ، بعض المواقع الأخبارية تؤكد أن الضحايا 22 ضحية ، بعض العقلاء الذين يحفظ الله لهم عقولهم في زمن الكوارث يقولون : لن نستطيع حصر عدد الضحايا إلا بعد معرفة العدد الحقيقي للركاب الذين كانوا علي ظهر المعدية ثم مع الدقيقة الأخيرة لانتهاء عمليات البحث عن الجثث .
هل رأيت أننا حتي عدد قتلانا لا نعرفه ؟.

إذن لا تحدثني عن المسئولين الذين غابوا عن الحضور إلي أرض الحادثة فور وقوعها ، لا تحدثني عن وزير النقل ولا عن محافظ القاهرة ولا عن أي مسئول معني بهذا الملف ، ملف الفقراء يصعد مباشرة إلي رسول الله عزرائيل ، لا تحدثني عن تعويضات للغرقي وتسويات مع المصابين ، أسرة واحدة يا رجل فقدت ثمانية من أفرادها في لحظة ، الأم المكلومة راحت تصرخ لجريدتنا :” ليتني كنت معهم ، كيف سأعيش بدون أولادي وعائلتي " من البذاءة الحديث عن التعويضات حتي ولو كانت أهرامًا من الذهب وليس بضعة ألوف بائسة .

 سنلتقي بالضحايا إن تاقت أنفسنا للتنزه في النيل ، وإن عصمنا قلوبنا من غواية التنزه فسنلتقي في الجنة برحمة الله .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في جريدة التحرير في يوليو 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق