الخميس، 29 مايو 2014

مسافر على الرصيف.. كل هؤلاء العظام فى كتاب واحد




عمدة الجيزة جلس على القهوة وراح يحكى ويبكى


تمنيت من الله ولا يكتر على الله شىء أن اتصل يوماً بمحمود السعدنى وأسأله فى أى "حالة مزاجية" كتبت كتابك الفذ "مسافر على الرصيف"؟ ولكن كلما هاتفت العم محمود كان مشغولاً.

العازف بأسلوب محمود السعدنى سيشغله سؤالى "فى أى حالة مزاجية كتب مسافر على الرصيف" وذلك لأن هذا الكتاب وسط كتب السعدنى هو الدرة اللامعة واللؤلؤة المجنوءة وعرق الذهب المدفون وسط الصخور.. تأمل عنوان الكتاب "مسافر على الرصيف" يوجب الإقامة والسكون والسفر يستوجب الترحال والمشى، ولكنها "سلطنة القافية السعدانية" التى تجمع بين متناقضين السفر والإقامة فى عنوان واحد.

يبدأ السعدنى كتابه بمقدمة متفردة بين سائر مقدمات كتبه يقول فيها "أنا الحقير إلى الله – هل لاحظت الحقير هذه – محمود بن عثمان بن على بن السعدنى أنحدر من أصول يمنية ومن قبيلة على حدود صنعاء رحل جدى الأول مع الفتح الإسلامى وراقت له الحياة فى مصر فأقام فى الشرقية ثم هاجر السعادنة إلى كل مكان. ولكنى لا أظن واحداً من السعادنة قد داخ السبع دوخات كما داخل العبد لله"..

 ويمضى العم محمود فى سرد الأماكن والدول والقارات التى زارها والناس التى التقى بها ولكنه يقطع سياق ذكرياته فجأة ليؤكد أن أعظم سفر قام به وتعلم منه هو سفره على رصيف مقهى عبدالله "وعبدالله هذا هو رجل بلا شأن ولا ذكر ولكنه مثاب رغم أنفه فقد دخل التاريخ من أوسع الأبواب وفى هذا المقهى الذى كانت أنواره باهتة ومقاعده مهشمة ورصيفه أعرض من حظه وشهرته أوسع من الميدان الذى كان يطل عليه. فى هذا المقهى التقيت بعشرات الأدباء والشعراء والفنانين، نماذج من البشر قل أن يجود الزمان بمثلهم ونادراً ما يجتمعون فى زمان واحد، هم جميعاً من زبدة مصر وجزء من سحرها وقبس من روحها وحفنة من ترابها وهم فى النهاية مصر نفسها".

من هم هؤلاء الرجال يا عم محمود؟ يجيب السعدنى إنهم أنور المعداوى وزكريا الحجاوى ومحمود حسن إسماعيل وعبدالقادر القط وعبدالرحمن الخميسى وزهدى ونزار قبانى وعبدالحميد قطامش ونعمان عاشور ويوسف إدريس وصلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطى حجازي وصلاح جاهين وحسن فؤاد وأبو المعاطى أبو النجا وأحمد عباس صالح ورجاء النقاش ويوسف الحطاب وعشرات غيرهم كل هؤلاء فى زمن واحد وعلى مقهى واحد.

ثم يعود السعدني ليؤكد "إن سياحتى فى قهوة عبدالله هى أهم سياحة فى حياتى خلالها هى أطول رحلاتى فقد امتدت عشر سنوات كاملة تنقلت فيها خلال الجزر الخصبة والصحراوات المجدبة ولكنها بخيرها وشرها كانت حياة حافلة وجامعات كبرى للفلسفة والتاريخ والمنطق والفن والأدب والشعر والموسيقى وفن النكتة وعلم الحديث والكلام".

وأول دولة يزورها العم محمود هى دولة أنور المعداوى الذى التقى به ذات مساء على قهوة عبدالله وعلى يديه تعلم الكثير، يقول السعدنى عندما رأيت المعداوي حسبته ضابطاً بالجيش فقد كان طويل القامة متين البنيان رافع الرأس على الدوام إنه بالجملة مخلوق من "الكبرياء" شاءت ظروفه وذائقته الأدبية بأن يكره لدرجة العمى روايات وقصص يوسف السباعى وما أدراك ما يوسف السباعى أيامها إنه جنرال الأدب الذى اندفع إلى الصدارة فجأة ليصبح رئيسًا لنادى القصة وسكرتيراً عاماً للمجلس الأعلى للفنون والآداب وسكرتيراً لنادى الأدباء، كل هذه المناصب تحملها المعداوى واتسع صدره لها ولكنه انفجر يوم أصبح السباعى رئيسًا لتحرير مجلة الرسالة يومها عرف المعداوى أن النهاية قد اقتربت وعلى ذلك شن حملة عنيفة ضد الرسالة التى كان فى زمن مضى أحد فرسانها الكبار وقابل السباعى حملة المعداوى بما هو أعنف فتم فصل المعداوى من منصب "مستشار بوزارة التربية والتعليم" ليعلم مدرساً فى مدرسة ابتدائية!! وضيقوا عليه الخناق حتى لم يعد يستطيع نشر حرف من كتاباته ولم يكن يستطيع مواجهة مصاعب الحياة إلا بمعونة مادية من صديقه الأديب محمود شعبان وبعد مقاومة شريفة باسلة انفجرت مرارات الزمن فى جوف المعداوى فمات مقهورًا محسورًا.

ومن حياة المعداوى إلى محمود حسن إسماعيل مروراً بالخميسى والحجازى يمضى السعدنى شارحًا حياة هؤلاء العظام فى لغة لم يكتب بها من قبل ولا من بعد وبحس أنضجته المنافى وبروح أتعبتها الغربة وبطرافة نصفها ضحك ونصفها بكاء. أزعم أن السعدنى عندما كتب مسافر على الرصيف كان فى يأس مطبق ثم فتحت له طاقة الأمل عندما تذكر رفاق الطريق فكتب عنهم كما لم يكتب أحد من قبل.

ستسأل ولماذا لم يشتهر هذا الكتاب – سأتوكل على الله أجيبك أنها الظروف التى جعلت حياة المعداوى فداء لقصص يوسف السباعى وجعلت مسافر على الطريق فداء الوداع للطواجن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة الجيل ــ 24 يناير 1999



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق