النظرة المتعجلة ستقود صاحبها إلى أن يجزم بأن المسيحية هى التى اخترعت فكرة المخلص، ولكن بشىء من التمهل وتأمل هذه الظاهرة سنجد أن فكرة المخلص أعرق وأقدم من ظهور الديانة المسيحية، فلم يوجد تجمع بشرى من أيام المجتمعات البدائية وإلى يوم الناس هذا إلا وكان لفكرة المخلص حظها من الظهور والانتشار، ربما كانت الحوادث الخارقة التى أحاطت بميلاد الرسول الكريم عيسى بن مريم، عليه وعلى أمه السلام ـ ثم شملتْ باقى مراحل حياته ـ سببًا رئيسيًا فى ظهور فكرة (المخلص) عند المسيحيين، تلك الفكرة التى تقوم على وجود فرد فذ خارق سيتولى القيام بكل عمل وبصنع كل منهج وبتدبير كل الأحوال، بل سيتحمل هو نيابة عن الأمة بل عن البشرية كل المواجع والآلام، بل سيخلص الجميع من الخطايا والآثام وسيقدم دمه قربًانا لخلاص البشرية من خطاياها.
هذه الفكرة البراقة (المريحة) ستقع الأمم فى مراحل طفولتها العقلية فى غوايتها، وسنجد لها نظيرًا فى الشرق والغرب، ولن يصبح شرط النبوة أو الميلاد الذى هو معجزًا، شرطًا ضروريًا لكى يصبح فلانًا فى نظر أمته أو عشيرته مخلصًا.
لقد أصبح شيوع فكرة المخلص والاعتماد عليها يحتاج وجود عاملين رئيسيين، الأول: أن تكون الأمة أو الجماعة، أى أمة أو جماعة كانت، تعيش فى حالة أزمة كبرى ولا تريد أن تنهض بأعبائها معتمدة على قواها الذاتية، لحظتها تجد فى فكرة المخلص الملجأ والملاذ الذى يقيها عبء مواجهة الأزمة بعمقها وتشابكها وتعقدها.
العامل الآخر: أن يكون عقل الأمة فى زمن أزمتها غير ناضج بما يكفى لكى تبصر الأمة حقيقة إمكانياتها وقدراتها ومقدراتها لكى تجتاز أزمتها بعيدًا عن التشبث بحلم المخلص الذى سيقوم بمفرده بكل العمل.
وفى مقال لها عن فكرة المخلص عند المسلمين تقول الباحثة شروق إياد خضير: "يؤمن المسلمون بظهور (المخلّص) ولقبه المشهور عندهم هو (المهدى)".
أما عن ولادة فكرة المهدى والاعتقاد بها عند المسلمين، فقد اختلف الباحثون بصددها وتفرقوا إلى مذاهب شتى، فبعضهم فسرها بدلالة نظرية الأزمة الناجمة عن الظروف السياسية والاجتماعية التي عاشها المسلمون فى الحقب اللاحقة على وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أشار إلى مثل هذه العوامل، مرجيليوث، إذ ذهب إلى أن اندلاع الحروب الأهلية وما تلاها من وضع قلق للإسلام، فى الجيل الذى تلا عهد الرسول هو الذى قاد إلى تبنى فكرة المهدى من المسلمين.
ويذهب العلامة الألمانى جولد تسيهر إلى القول: "إن عقيدة المهدى وما تنطوى عليه من آمال وأمان تظهر فى بيئات التقى والورع عند المسلمين كزفرة من زفرات الأسف والانتظار يصعدونها وهم فى غمرات حالات سياسية واجتماعية لا تنقطع ثورة ضمائرهم حيالها".
فى حين يرى روتلدسن، أن الفشل الظاهر الذى أصاب المملكة الإسلامية فى توطيد أركان العدل والتساوى زمن دولة الأمويين، كان من الأسباب لظهور فكرة المهدى آخر الزمان، إلى أن جور النظام العباسى وتعسفه لم يكن أقل من النظام الأموى حفزا للنفوس إلى التمسك بعقيدة المهدى.
ثم تمضى الباحثة الجادة فى مقالها متقصية الأثر الذى تركته هذه الفكرة فى عقل الأمة ووجدانها، لقد انقسمت الأمة حول فكرة المخلص إلى فريقين رئيسيين، فتقول: "يعتقد أهل السنة أن ظهور المهدى، هو أحد أشراط الساعة، أما العلامات الأخرى التى تسبقه وتليه، فهى كثيرة، منها: كثرة القتل وقلة العلم وظهور الفتن وكثرة الزلازل وارتفاع الأسعار وانتشار الأوبئة وموت الفجأة والهدنة مع الروم وظهور الدجال ونزول عيسى عليه السلام وخروج يأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة وظهور الدخان فى السماء وحدوث ثلاثة خسوف فى الأرض، ويلى ذلك كله انقلاب الكون وفناؤه ثم موت الجميع، ثم البعث والحساب.
أما الفريق الآخر وهم الشيعة فأولئك يؤمنون بأن المهدى (المخلص) له وجود الآن، فقد ولد سنة 255هـ أو 256هـ، فى سُرَّ من رأى -سامراء- وهو معلوم النسب، فهو محمد بن الحسن العسكرى بن على الهادى بن محمد الجواد بن على الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن على زين العابدين بن الحسين بن على بن أبى طالب، أى أنه الإمام الثانى عشر فى سلسلة أئمتهم المعصومين".
هل رأيت ما أحدثته الفكرة من فجوة بين أبناء الأمة الواحدة، وهى تلك الفجوة التى لم تلتئم قط، بل كانت سببًا مهمًا فى عداوة لا تزال قائمة.
فمنذ بداية تكوين المجتمعات كانت الأسطورة تلعب دورًا خطيرًا فى تشكيل وجدان تلك المجتمعات، وليس هناك ما هو أشد خطورة على الوجدان من فكرة الشخص الفرد المخلص.
هذا التشبث بحلم المخلص سنجده مكتملًا فى قصص عديدة، بعضها قديم مثل قصة الهلالية بقيادة زعيمهم وقائدهم أبو زيد الهلالى الذى استنفدت فيها الأمة كل أحلامها فى المخلص الفرد الفذ الذى لا يهزم أبدًا كما أنه لم يهزم قط، وقد نسبت إليه الأمة كل معجز من الأمور حتى أن سيرته أصبحت ملحمة هيمنت على العقول والأفئدة لقرون متطاولة، هذا كان صنيع الأمة فى مرحلة من مراحل أزماتها وفى فترة من فترات طفولتها العقلية، فإذا وضعنا قصة الهلالية على طاولة البحث العلمى سيبدو ما فيها من أساطير خلقتها الأمة لكى تعبر عن أشواقها إلى الخلاص من مواجعها.
وليس بعيدًا عنا زمن أدهم الشرقاوى، الذى يعد نموذجًا من نماذج صناعة المخلص، وذلك لأن قصته تحقق فيها الشرطان، شرط الأزمة وشرط طفولة العقل، بنظرة سريعة إلى المتيسر من المراجع والمصادر التاريخية سنجد أنفسنا أمام ركام من الحقائق وأنصافها والأكاذيب وأنصافها.
ولد أدهم الشرقاوي فى قرية زبيدة بمركز إيتاى البارود عام 1898(يعنى بعد كارثة احتلال بريطانيا لمصر بسنوات معدودة) وبعد ميلاده وحصوله على قدر من التعليم، ستبدأ أسطورته التى خلقتها أو بالأصح اختلقتها الأمة، بعض المراجع تقول إن أدهم كان مناضلًا مقاومًا للاحتلال البريطانى، وكان يسرق الأغنياء لينفق على الفقراء، العجيب أن الذين قالوا إنه كان يقاوم الاحتلال البريطانى ويسرق من الأغنياء ليعطى للفقراء، يقولون أيضًا إنه قد أصبح مجرمًا، ولكن بمحض الصدفة، إذ أن عمًا له قد مات قتيلًا وأصر أدهم على أن يثأر له، ومن لحظة الثأر هذه جرفته الجريمة إلى هاويتها التى بلا قرار.
هذا التخبط أو التلفيق فى الروايات لا يقف عند هذا الحد، إذ أننا سنجد رواية آخرى تقول إن أدهم الشرقاوى كانت بينه وبين عمه عداوة، ولكى يستطيع مواجهة عمه هذا الذى يقولون إنه كان عمدة للقرية فقد شكلّ أدهم عصابة من أقرانه، كان هدفها إشاعة الفوضى من خلال سرقة مواشى القرية لكى يثبت للرأى العام ومن ثمّ للحكومة القائمة أن عمه لا يستحق منصب العمودية.
ثم اندلعت أحداث ثورة 1919 وكان عود أدهم الشرقاوى قد أشتد وذاع صيته فى البلاد، فعمل مع جماعته على إيقاف قطار بريطانى كان محملًا بالسلاح والذخيرة، فنهبوا القطار بما فيه، فما كان من الأمة التى تبحث تحت وطأة أزمتها عن مخلص إلا أن قالت أن الشرقاوى نهب القطار لكى يوزع الأسلحة على الفلاحين حتى يتمكنوا من مقارعة ومقاومة الاحتلال البريطانى.
ولو مضيا في تتبع تخبط قصة الشرقاوى والخلط الذى يسود أوراقها ما انتهينا، ولكن يبقى الشاهد من ذكر مثل هذه القصة حاضرًا فى زماننا هذا.
إنه حال الأمة فى زمن أزمتها، عندما تترك عقلها جانبًا وتسعى خالقة -ربما من عدم- شخص مخلصها، العجيب أن يستمر حال الأمة على هذا المنوال رغم ثبات فشل فكرة المخلص، ورغم ما حصلّته الأمة من معارف وعلوم وفنون وخبرات، تتيح لها أن تدرك الفارق الجلى بين شخص يقود شعبًا وبين شخصية تخلص الشعب من عبء مواجهة أزمته الحقيقية.
لعلنا نلاحظ جميعًا الظهور المتجدد لفكرة المخلص فى أعقاب الثورة المصرية 25 يناير 2011، وذلك لأن الثورة تبدو وكأنها قد باغتت الثوار أنفسهم، الذين انخرطوا فى أعمال وفعاليات الثورة بفعل تراكم الغضب لا بفعل تنظيم دقيق يضع الخطط ويهندس الخطوات، فما إن تم الإعلان عن تنحى مبارك عن الحكم حتى ظنتْ أكثرية الشعب إن تلك بشارة الانتصار النهائى والحاسم للثورة، ولكن مع تتابع الأحداث تبين للكافة أن خروج مبارك من قصر الحكم لا يمثل سوى انهيار قمة جبل الجليد، أما قاعدة الجبل الراسخة فلم ينالها سوى تغيير طفيف يكاد لا يرى، هنا ظهر دور النخبة أو الطليعة المصرية فى تذكير الشعب بفكرة المخلص.
كان الواجب يحتم على النخبة أن تبصّر الأمة بحقيقة الأزمة وأن تطرح لها من الحلول ما يتوافق مع الإمكانيات الحقيقة المتاحة، ولكن هذا الواجب لم تقم به النخبة، التى استسهلت قذف الشعب بفكرة (المخلص) التى تتمحور حول شخص يتمتع بكل ما هو خارق للعادة واستثنائى، وكونه خارقًا يجعل من المحرم طرحه للنقاش وطرح قدراته الحقيقية للبحث، النخبة هنا تخون دورها فى التنوير، وتميل إلى دغدغة مشاعر الشعب ولو على حساب الحقيقة، ولأن الشعب فى لحظة أزمة يبدو فيها مثل الغريق الذي يتعلق أمله فى بلوغ البر بقشة، فإنه يسعى من ناحيته إلى حقن أسطورة أو خرافة المخلص بحرارة روحه ودم قلبه، فإذا بالأسطورة وقد كساها الشعب من لحمه وجلده وعظمه قائمة كالحقيقة المطلقة التى لا يجوز معها نقاش ولا يجوز معها إقامة حوار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بمجلة الثقافة الجديدة مايو 2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق