كلما قرأت "تباريح جريح" قلت إنها الكتابة بحبر القلب ثم أعود فأستغفر الله لأن "الكتابة بحبر القلب" كلمة ظلوا يكررونها حتى أصبحت مبتذلة، ورحت أبحث عن كلمة تليق بجريح التباريح وحتى الآن لم أعثر عليها.
ويا كل المجاريح أصحاب التباريح أمامكم الآن كتاب يرفع شعار "شر البلية ما يضحك، وأوجع الضحكات ما ينتهى بالدموع" بورك الكتاب وكاتبه وبوركت الدموع.
- الكتاب جميل مثل بستان ولكنه مخيف ومتوحش وفوضوى مثل غابة ولكى تنجو من أسوده عليك بالصدق إنه الباب الوحيد الذى يقودك نحو الفهم الأكمل للتباريح ولن تكون صادقًا إلا إذا قرأته وأنت مغمض العينين ساعتها ستتلقى بركة الدموع وستتنزل عليك رحمة الدماء الخضراء التى تتدفق من جروح شهداء لن يلحقهم الموت.
الكتاب فى الأصل لم يكتب دفعة واحدة إنه مجموعة مقالات نشرتها "الأهالى" وجريدة الوطن الكويتية.
ومنذ قرأته أول مرة وحتى الساعة مازلت أقول كيف لرجل كانت الصحافة مأكله ومشربه أن يكون صادقًا لهذا الحد ولكنها "مصر" التى قالت لصلاح عيسى: "تاتا خطى العتبة" وعبر صلاح العتبة ليجد نفسه سابحًا فى فضاء إلهى لا أول له من آخر، سياسة وفكر وبشر وشظايا من ذكريات ونتف من القهقهات وسحابات من الدموع والأوجاع". وكانت مصر ومصر وحدها هى التى تعيده إلى المدار كلما خطف بصره ومض هنا أو بريق هناك.
حشد من الفلاحين والعمال والصيع والمثقفين وأنصافهم والفنانين والسهارى والمتشوقين إلى النشوات السامية يجلسك صلاح عيسى معهم وأنت وما تحب، إن شئت رأيت اللورد كرومر وهو يستمع إلى سى عبده الحامولى الذى تسلطن فأخذ يعيد ويزيد وهو يغنى "هاتوا لى حبيبى"، ومرت ساعة ثم ساعتان وسى عبده يغنى جملة واحدة هى "هاتوا لى حبيبى"، ففاض الكيل باللورد كرومر فقال للوزير صاحب الحفل ترجم لى أغنية سى عبده فلما ترجمها الوزير صاح اللورد: "ولماذا لا ترسل أحد خدمك لكى يأتى لابن الكلب هذا بحبيبته حتى أذهب إلى فراشى وأنام".
ثم يتذكر صلاح هزيمة عبدالحليم حافظ أمام أحمد عدوية فيقول ذات يوم كدت أموت من الغيظ وانفجر من الضحك عندما صادفت زميلاً صحفيًا يجلس فى مكان عام، قدم لى فتاة كانت معه قائلاً: "الآنسة فلانة.. الخطيبة السابقة لأحمد عدوية". أما الغيظ فلأننى لم أكن أعرف أن عدوية شىء مهم إلى الدرجة التى تجعل إنساناً يتمسك بهذه الصلة الواهية به.. أما الضحك فقد تخلصت منه بسرعة إذ ما كاد الزميل ينطق باسمى حتى تطوعت بوظيفة تلائم المقام قائلاً: "صلاح عيسى الخطيب السابق لجامع الإمام الليثى".
ويمسك صلاح باللحظة التى تطورت فيها الدنيا ولكن بالمقلوب وتقدمت ولكن إلى الخلف وتموعت ولم تتنوع، ويحكى أنه زار قطرًا عربيًا "تقدميًا" واندهش عندما استمع إلى أغانى عدوية تبثها إذاعة القطر التقدمى، ولكن اندهاشه زال عندما قال له مسئول إعلامى: "إنهم يحاربون عدوية فى القاهرة لأنه اشتراكى ألم تسمعه وهو يغنى "يا عينى الوله بيعيط الواد عطشان... اسقوه"، إنهم يحاربونه لأنه يحلل الصراع الطبقى فى أغنية "حبة فوق وحبة تحت"، يومها قرر صلاح عيسى أن يضيف الأعمال الكاملة للريس "بيرة" مؤلف أشهر أغانى عدوية إلى مكتبته لكى لا يفوته التطور الكيفى الذى حدث فى الفكر الاشتراكى العربى.
ومن عدوية ينتقل إلى وصف لقاء شخصى تم بينه وبين محسن محمد الذى كان فى سالفة العصر والأوان رئيس مجلس إدارة دار التحرير ورئيس تحرير جريدة الجمهورية، الذى استدعى صلاح عقب خروجه من المعتقل وقال له نريد منك "طاطش" يسارى فى صفحات الجمهورية وعرف صلاح معنى "الطاطش" بعد جهد جهيد.. يعنى "شعرة" يسار – تجد هذه "الشعرة" فى صحف كثيرة الآن – وأضاف محسن اسمع يا صلاح لا أريد هذه الشعرة فى صفحات الشئون العربية ولا فى الأخبار والتحقيقات ولا فى الثقافة والفن والمنوعات.. فقاطعه صلاح قائلاً: "أنت باختصار عايز طاطش يسارى في صفحة الوفيات طيب ما تدور على كاتب ميت أحسن لك".
سطورى السابقة لم تكن سوى ومضة من نور فصول هذا الكتاب وختامًا أرى أنى مدين لصديقى خالد محمود الذى كتب يوماً "وأنا صغير لم أكن أحلم أنى أطلع مهندس أو دكتور أو ضابط كنت دايماً أحلم أنى أطلع صلاح عيسى".. شكراً يا خالد فهذا بالضبط نفس حلمى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة الجيل 24 يناير 1999
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق