الخميس، 15 مايو 2014

الكذاب لن يدخل النار






عرفته قبل عشرين عامًا من الآن، كان مثل الماء، لا لون لا طعم لا رائحة، إنجازه الأهم أنه لم يكن يؤذى أحدًا، كان يسعى فى مناكبها يرطن مثل عتاة اليسار فلا تعرف شيئًا من رطانته، ويكتب فى الاقتصاد فلا تذكر له جملة ولا تحليلًا، ثم يجرب الجرى فى مضمار الكتابات السياسية، فيتخبط بين مصطلحات لا يعرف لها رأسًا من قدمين، ثم يلقى علينا ما يظنه طرائف، وإليكم طرفته التى لم يكن يمل من تكرارها: "واحد بيسأل صاحبه، رايح فين؟ فصاحبه قاله: رايح البوسطة، فرد عليه وقاله: وأنا بريد أمشى معاك".

كنا نضحك لطرفته اللفظية السمجة من باب المجاملة، ثم فجأة غاب عن مجلسنا. الحق لم نفتقده إلا عندما قلده أحدنا ملقيًا واحدة من نكاته، ثم فتحتُ عينى ذات صباح فوجدته على شاشة التليفزيون الرسمى مرتديًا معطفًا أنيقًا، وينفث البخار من فمه وأنفه وهو ينقل إلى جماهير المشاهدين إحدى أهم جلسات مجلس العموم البريطانى، كيف له الوصول إلى عاصمة الضباب؟

متى تعلَّم الإنجليزية التى تتيح له متابعة جلسة عاصفة من جلسات البرلمان الأشهر عالميًّا؟

متى اعتمده التليفزيون الرسمى مراسلًا له فى العاصمة الكبرى؟

هل ما كان يشاع عن علاقاته المتينة بالأجهزة الأمنية التى ترفع مَن شاءت حتى عنان السماء، وتخسف بمَن شاءت الأرض، أهى وراء تلك النقلة التى يعيشها صاحبنا؟

تركتُ أسئلتى جانبًا وتفرغتُ لمتابعة ما يقوله فلم أجد شيئًا يذكر، رطانته هى هى، وأخطاؤه اللغوية كما أعرفها، فتأكدت أننى أمام أحد المشاهد العبثية التى اكتظ بها مسرح حياة نظام مبارك، حيث سيناء مثل سونيا وطنطا مثل فرنسا، وصاحبى الذى لا يعرف سوى مفردات بائسة من الإنجليزية أصبح مراسلًا تليفزيونيًّا من بلد بضاعته مسرحيات شكسبير.

ثم كما اختفى عاد إلى الظهور بيننا ثانية، ولكن جد عليه تعلم الرطانة باسم لجنة سياسات جمال مبارك، مبشرًا بأنهار اللبن والعسل التى سيسبح فيها المصريون متى حانت ساعة الحقيقة، وهى عنده تولى السيد جمال مقاليد الحكم، كنا نتركه يعوى بهذا الهراء ضاحكين من الزبد الذى يظهر على حافتى فمه عندما يأخذه الحماس لجمال مبارك، ولكن بين ضحكاتنا لم نكن ننكر عليه أنه لم يكن مؤذيًّا حتى بعد أن اقترب من ضباع نظام مبارك.

ثم جاءت الثورة فلم نسمع منه كلمة ولم نرَ له وجهًا، فقطعنا بأنه متضامن مع مبارك وضباعه، انزلق من فوق سطح ذاكرتنا ورحنا نهتم بما نراه أجدر بالاهتمام، لكن صاحبنا يأبى أن يتركنا وشأننا، لقد مكث صامتًا لا نعرف عنه شيئًا، وظل معتصمًا بصمته على مدار شهور حكم مرسى، ثم لما جاء يومنا الخالد (الثلاثون من يونيو) انتفض مدافعًا عن الشرعية!! وجامعًا لأنفار مكونًا منهم ما يعرف باسم "صحفيون ضد الانقلاب".

ثم قفز قفزته المميتة بأن ترك بلده لكى يدعو إلى تفكيك جيشه من على شاشات الأعداء. لم يكتف بالدعوة، بل راح يكذب بطريقة بشعة، يكذب كأنه مجنون، بل لقد جُن فعلًا، لأنه كان أول مَن قال إن قوات الجيش اعتقلت السيسى، ثم عندما ظهر السيسى، طوّر كذبته فقال إن أحرار مصر قد قتلوا السيسى، فلما ظهر السيسى مرشحًا رئاسيًّا قال إن الجيش يستعين ببديل يمنى يشبه السيسى!!

هل كذاب مثل هذا يستحق أن يدخل النار أم يدخل قبلها مصحة للأمراض النفسية؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير 7 مايو 2014

هناك تعليق واحد:

  1. استاذ حمدى ربنا يخلليك .. كم اجل تسهيل القراءة والنقل لمن يريد مع الاحتفاظ بحقوق الكتابة ارجو:
    (1) اكتب عنوان المقال وعلى راسه اسم الكاتب ( بعضهم يضع الأسم فى نهاية المقال) ليصبح المقال والماتب وحدة واحدة يمكن نفلها او الاشارة اليها
    (2) ليتك تضع الرابط الالكترونى للمقال ان وجد منشورا فى جريدة او موقع

    ردحذف