الأربعاء، 22 يناير 2014

حتى شرف المحاولة!!




كان من أبرز عيوب محمد مرسى أنه كان مرشحًا احتياطيًّا لخيرت الشاطر، ومن تلك النقطة طوّر المصريون هجومهم عليه بالطريقة المصرية المعتادة، وشنّعوا بلقب «الاستبن».

الآن يكاد اللقب الساخر يلتصق بكل النخبة السياسية المصرية، فما أن شاعت ترجيحات حول نيّة الفريق أول عبد الفتاح السيسى وزير الدفاع، الترشّح لمنصب الرئاسة، حتى رأينا معظم المرشحين السابقين للرئاسة يعلنون مباركتهم نيّة السيسى التى لم يحسمها بعد، وبعضهم ذهب به الحماس إلى درجة قيامه بمناشدة السيسى علانية لأن يترشّح، وبعضهم أعلنها صريحة مدوية «لن أخوض السباق أمام السيسى».

إننا أمام نخبة تخاف من المبارزة، ولا تجرؤ حتى على التفكير فى نيل شرف المحاولة.

النخبة السياسية تفضّل دور المحكوم، حيث براح النقد والمعارضة والفتوى فى ما هو فوق العرش أو تحت الثرى، وحيث الكلام المجانى الذى لا يدفع قائله أى ثمن له.

هذه نخبة لا ترى نفسها جديرة بأن تتولّى مسؤولية إدارة بلد صنع ثورة تبدو مثل الأساطير من فرط تدفّقها وتسارع موجاتها، بلد ما زال على قيد الحياة يتنفّس بسر معجزة تبدو إلهية، لا أحد من هؤلاء يحاول مجرد محاولة أن يفرض نفسه على المشهد الانتخابى، لم يفكّر أحدهم فى الدعوة لمؤتمرات جماهيرية أو حتى ندوات صالون مغلقة أو حتى إطلالة تليفزيونية يقدّم فيها رؤية جديدة تعالج مشكلات هى إلى الكوارث أقرب، جميعهم يخاف مواجهة جماهيرية السيسى، ولا يجرؤ على الهبوط إلى المحافظات والمراكز والقرى، لكى يحشد جماهيره لتصطف خلفه، أو لكى يصنع له جماهيرية تساند برنامجه.

ورغم كل هذا التخاذل والتراجع نسمعهم وهم يتملّصون من سلبيتهم ويقذفون الشعب بكرة النار، قائلين «الناس تريد السيسى»، وكأن الناس رأت بديلًا محترمًا مقاتلًا شجاعًا غير السيسى ثم خذلته وانفضّت من حوله.

سبق لى ولغيرى أن ذكّرنا هؤلاء بتجربة المناضل سلفادور الليندى، زعيم تشيلى التاريخى، تلك التجربة التى أجدنى مضطرًّا إلى إعادة نشرها معتمدًا على ما رواه الشاعر الفذ بابلو نيرودا، فى سيرته الذاتية «أعترف بأننى عشت»، قال نيرودا الذى كان مديرًا لحملة سلفادور الليندى: «كنت أعرف المرشح، كنت قد رافقته ثلاث مرات سابقة، أقذف الأشعار والخطب عبر أراضى تشيلى الوعرة، ثلاث مرات متعاقبة، كل ست سنوات، كان صاحبى الملحاح جدًّا يرشح نفسه لرئاسة الجمهورية، هذه الرابعة الرابحة».

صمود الليندى واحتماله وجلده جعل مرافقيه دائمًا وراءه، كان ينام حين يعن له النوم، أحيانًا كنا نمضى عبر الأراضى القاحلة اللا منتهية فى شمال تشيلى، الليندى كان ينام نومًا عميقًا فى ركن من أركان السيارة، على حين غرة تبدو نقطة حمراء صغيرة فى الطريق، حين نقترب تتحوّل هذه النقطة إلى مجموعة مؤلّفة من خمسة عشر رجلًا أو عشرين مع نسائهم وأطفالهم وراياتهم، تتوقف السيارة، الليندى يفرك جفنيه كى يواجه الشمس والمجموعة الصغيرة التى كانت تنشد، يتّحد معهم.

ينشدون معًا النشيد الوطنى، ثم يحدثهم حديث النشيط السريع الفصيح البليغ، ثم يعود إلى السيارة فنتابع متجولين عبر طرق تشيلى الطويلة جدًّا، يعود الليندى فيغرق فى نومه دون أى جهد، كل خمس وعشرين دقيقة كان المشهد يعاد، مجموعة رايات، نشيد، خطاب.

لعلنا نلاحظ أن نيرودا يتحدّث عن تشيلى فى مطلع سبعينيات القرن الماضى، حيث لا إنترنت ولا فضائيات ولا هواتف نقالة، لم يكن متاحًا أمام سلفادور الليندى سوى جسده ولسانه.

يواصل نيرودا شهادته، قائلًا: «كان يقابل التظاهرات الهائلة المؤلفة من آلاف وآلاف من التشيليين، يبدل بالسيارة القطار وبالقطار الطائرة وبالطائرة الباخرة وبالباخرة الحصان. أتم الليندى بلا تردد أشغال تلك الأشهر المضنية المنهكة، ومن خلفه كان أعضاء موكبه منهكين مرهقين، ومن بعد حين أصبح رئيسًا فعليًّا وشرعيًّا لتشيلى سبّبت فعاليته غير الرحيمة أربع أو خمس سكتات قلبية بين مساعديه ومعاونيه».


أمثال الليندى يمثّلون النخبة التى نحتاجها الآن، نخبة مقاتلة، شجاعة لا تتهيب المنافسة حتى لو كانت الخسارة مؤكدة.
ــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير بتاريخ 22 يناير2014

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق