أمضى شاعر الشعب أحمد فؤاد
نجم ـ رحمه الله ـ أغلب حياته متنقلًا بين ثلاث حالات ، فهو إما مسجون أو
مطارد ، أو في الشارع يلقي شعره .
وفي واحدة من المطاردات لجأ
شاعرنا إلى الإقامة لبعض الوقت في سوريا
الشقيقة .
نزل في أول إقامته ضيفًا على محب من محبيه ، وذات ليلة جاءه مسئول
مرموق من مسئولي الرئاسة السورية التي كانت بيد حافظ الأسد ، وما أدراك ما حافظ
الأسد .
ما زلت أتذكر عمي أحمد وهو
يقول لي :" الراجل يا واد كان أطول من ليالي الشتا السودا وأعرض من قفا الغبي ".
ذلك المسئول الطويل العريض ،
وبعد المجاملات المعتادة قال للفاجومي :" إن الرئاسة السورية ترحب بوجوده على
الأرض السورية وتدعوه للإقامة ضيفًا عليها ".
رد الفاجومي على الدعوة الكريمة بالشكر والتقدير ثم ـ ولأنه الفاجومي ـ قال
للمسئول :"ابلغ سيادة الرئيس شكري
لدعوته واعتذاري عن عدم قبولها لأني ضيف على الشعب السوري ".
ما إن انتهى الفاجومي من
جملته حتى سقط المسئول في نوبة ضحك جنونية.
الفاجومي يعرف عن نفسه خفة
الظل وحلاوة الطرفة ولكنه لم يجد نفسه قد قال شيئًا مضحكًا أو يدعو حتى إلى مجرد
الابتسام ، فسأل المسئول عن سبب ضحكه الجنوني هذا .
رد المسئول بعد أن سيطر على
ضحكه وقال للفاجومي :" كيف لإنسان عاقل مثلك وشاعر فحل أن يصدق بوجود شيء
اسمه الشعب السوري ؟".
يكمل الفاجومي الحكاية قائلًا
:" لقد تبادلنا الضحك ، هو يضحك من أوهامي حول وجود شيء اسمه الشعب السوري وأنا أضحك من
أوهامه حول غياب الشعب ، ثم لم نصل إلى حل يوقف الضحك ، فعاد المسئول إلى قصر
الرئاسة ضاحكًا وعدت أنا إلى مقهاي ضاحكًا ليقيني بأني سأنتصر طال الزمان أم قصر
".
انتهت القصة الفاجومية التي
تصلح أساسًا لشرح وتفسير كل ما يجري لنا.
نحن الآن في مصر نعيش نوبة
الضحك ذاتها ، فالمسئول وهو هنا سيادة الرئيس المنتخب لا يري الشعب ولا يصدق
بوجوده ، بل لا يشغل باله أساسًا بسؤال حول الشعب ، أكتب منطلقًا من قراءتي
للوقائع التي تجري على الأرض غير ملتفت لكلام الخطابات العاطفية المنمقة .
سيادة الرئيس دعانا لمزيد من التقشف ثم لم يخجل ولم يستنكف
أن يسير موكب سياراته على سجادة حمراء ،
ويومها أدخلنا أنصاره في متاهة عبثية حول
كونها سجادة أم لون طلوا به أسفلت الشارع ؟ .
وعندما تبين لهم أنها سجادة راحوا
يساومون في ثمنها !!.
في كل الأحوال تناسوا
وتجاهلوا عن عمد وسبق إصرار المعني والمغزى الكامن خلف رئيس يدعو شعبه ليل نهار
لشد الأحزمة على البطون ثم يسير هو في مواكب قيصرية أو هرقلية !!
والمعنى والرمز الكاشف هو
أننا أمام رئيس هو في الحقيقة لا يري فقر شعبه ولا جوعه ولا عريه بل لا يرى الشعب
ذاته إلا في الخطب والخطابات والتصريحات الرسمية .
لأنه لو كان حقًا يرى الشعب
ما كان قد أقدم على ترسيم الحدود البحرية مع المملكة العربية السعودية هكذا بغتة
مباغتة وفجأة مفاجئة .
لو كان يرانا لمهد للأمر على
مدار شهور ولقدم كل الحجج المنطقية التي تجعل الترسيم أو إعادته أمرًا لا مفر منه
، ثم لانتخب جماعة من أفضل العلماء والخبراء في هذا المجال الفني المعقد ، فإن جاء
كلام الخبراء والعلماء مصدقًا لمزاعم المملكة لقام هو بنفسه بإلقاء الكرة في ملعب
الشعب ، ولقال له : " يا أيها الشعب العظيم الحلال بين والحرام بين ، وأبناؤك
من العلماء والخبراء قالوا إن جزيرتي
تيران وصنافير هما للملكة فانظر ما ترى ؟".
لو جري الأمر وفق تخيلي هذا
لكانت بداية مبشرة بكل خير تربط بين الرئيس وشعبه ، ولكن ما تم يعرفه الجميع ، هنا
رئيس واحد مفرد يقرر كل شيء ويعطي كما شاء ويمنع كما شاء ثم تقوم حكومته بإلقاء
مختصر قراراته التي تكون قد نفذت فعلًا
على رؤوسنا ، أين الشراكة في كل ما يجري ؟ . أين الاصطفاف ؟ أين التعاون ؟ أين
تنوع الرؤى الذي يثري الساحة ؟ .
لو بحثت ودققت فلن تجد شيئًا
من كل ذلك ، وهذا الغياب المؤلم فادح الثمن وباهظ الضريبة يعود إلى أن الرئيس لا
يرى شعبه أو ـ إذا أحسنا الظن ـ يرى القطاع الذي يريده من العشب ، أما الغالبية
الغالبة فهي مجرد صفر خرافي مثل وحوش الأساطير نسمع بها ولكننا لا نراها .
أخشى ما أخشاه أن يكون بعض
شياطين الأنس قد وسوس للرئيس قائلًا :" أنت ابن من الجيش ، ثم أكابر دولة مبارك راضون عنك ، فلا تشغل
نفسك بسواهما ، فالباقي مجرد تفاصيل ".
سيادة الرئيس لقد كذب الموسوس
، نحن لسنا عابرين في كلام عابر ، نحن شعب مقيم وثابت وراسخ والتعامل معنا بوصفنا
ثقلاء كذباب الصيف سيجلب خرابًا لا نتمناه ولا نريده ولا نسعى إليه .
هامش
شاعر الشعب أحمد فؤاد نجم
أشهر من أن يعرف ، اقرأ معي قوله عن الشعب .
" العمر ماشي و كل ماشي
و له مداه
و كل فرد و له بدايته و
منتهاه
الشعب هو الباقي حي
هو اللي كان هو اللي جي
طوفان شديد لكن رشيد
يقدر يعيد صنع الحياة ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المقال بتاريخ 14 ابريل 2016
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق