يعد
الإمام الطبري من عجائب التاريخ الإسلامي فالرجل عربي قح واسمه محمد بن جرير بن
يزيد بن كثير بن غالب
ومع
عروبته الظاهرة تجد من ينسبه إلى العجم بدعوى أنه مولود في طبرستان ( تقع في إيران
حاليًا ) وكأن كل مواليد طبرستان لابد وأن يكونوا من الفرس !!
ولد
الشيخ الإمام في قوم لم يكونوا يعتمدون على السنوات في التأريخ ، وعندما كبر وسأل
عن تاريخ ميلاده قالوا له إنك ولدت يوم حادثة كذا فتحري هو تاريخ تلك الحادثة
فوجدتها واقعة في أواخر عام 224 هجرية أو أوائل عام 225 هجرية .
ولكن
المقطوع به أنه توفي إلى رحمة الله عام 310 هجرية .
يؤكد
مؤرخو حياته والمترجمون له أنه نشأ وتربى
في أحضان والده الذي رأى منه علامات النباهة
والرغبة في العلم فتولى العناية به
ووجَّهه منذ الطفولة إلى حفظ القرآن الكريم ، وثمة قصة ذكرها أكثر من مؤرخ تشير إلى عمق المحبة التي ربطت بين الوالد
وولده ، يقول ملخصها إن الأب قد رأى فيما يرى النائم أن ابنه واقف بين يدي الرسول
ومعه مخلاة مملوءة بالأحجار، وهو يرمي بين يدي رسول الله ، وقصَّ الأب على
مُعَبِّرٍ رؤياه فقال له: "إن ابنك إن كبر نصح في دينه، وذبَّ عن شريعة
ربه". ويظهر أن الوالد أخبر ولده بهذه الرؤيا ؛ فكانت حافزًا له على طلب
العلم ، ومن ناحيته فإن الأب قد خصص المال اللازم لابنه لكي لا يصرفه شيء عن طلب
العلم .
وسيقول
الطبري عن نفسه :"حفظت القرآن ولي
سبع سنين، وصليت بالناس وأنا ابن ثماني سنين، وكتبت الحديث وأنا في التاسعة".
لا
يكاد يوجد عالم من علماء القرون الذهبية في الحضارة الإسلامية عاش ومات في بلد
واحد ، كان علماء ذلك الزمان يتنقلون من بلد لآخر سعيًا وراء التلمذة علي أيدي
أشهر وأكبر علماء زمانهم ، ولذا فقد تنقل الطبري ما بين طبرستان وبغداد والشام
ومصر ، وفي كل تلك البلاد تتلمذ علي يد أكابر علمائها ، ولا شك أن كل هذه الرحلات
قد أفادت الطبري في مؤلفاته التي ستصبح مضرب الأمثال في غزارتها وتنوعها وإتقانها
.
وبعد
رحلاته المتعددة عاد الطبري ليموت ميتة عجيبة في داره ببغداد .
ومنذ
بدأ رحلته العلمية وإلى أن أنتقل إلى رحمة الله كتب الطبري العديد من أمهات الكتب
، نذكر منها تفسير
الطبري—المسمى بجامع البيان عن تأويل آي القرآن.
تاريخ
الطبري (تأريخ الأمم والملوك).
كتاب
آداب النفس الجيدة والأخلاق النفيسة.
اختلاف
علماء الأمصار في أحكام شرائع الإسلام.
صريح
السنة (يوضح فيه مذهبه وعقيدته).
الفصل
بين القراءات.
آداب
القضاة.
آداب
النفوس.
آداب
المناسك.
تهذيب
الآثار
فضائل
أبي بكر وعمر .
وقد
قوبلت مؤلفات الإمام الطبري بترحيب أكابر علماء الإسلام ، وإليك طائفة من شهاداتهم
عنه .
قال عنه
الإمام النووي:" أجمعت الأمة على أنه لم يصنف مثل الطبري "
وقال
ياقوت الحموي: "أبو جعفر الطبري المحدِّث، الفقيه، المقرئ، المؤرِّخ،
المعروف، المشهور".
وقال
الخطيب البغدادي: "كان أحد أئمة العلماء، يُحكم بقوله، ويُرجع إلى رأيه
لمعرفته وفضله، وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان
حافظًا لكتاب الله، عارفًا بالقراءات كلها، بصيرًا بالمعاني، فقيهًا في أحكام
القرآن، عالمًا بالسنن وطرقها ".
وقال
عنه أحمد ابن خلكان:"العلم المجتهد عالم العصر صاحب التصانيف البديعة كان ثقة
صادقا حافظا رأسا في التفسير إماما في الفقه والإجماع والاختلاف علامة في التاريخ
وأيام الناس عارفا بالقراءات وباللغة وغير ذلك".
قال
ابن الأثير:" أبو جعفر أوثق من نقل التاريخ وفي تفسيره ما يدل على علم غزير
وتحقيق وكان مجتهدًا في أحكام الدين لا يقلد أحدًا بل قلده بعض الناس وعملوا بأقواله
وآرائه ".
قال
الذهبي: "الإمام الجليل، المفسر أبو جعفر، صاحب التصانيف الباهرة... من كبار
أئمة الإسلام المعتمدين. كان ثقة حافظًا صادقًا، رأسًا في التفسير، إمامًا في
الفقه والإجماع والاختلاف، عَلاَّمةً في التاريخ وأيام الناس، عارفًا بالقراءات
واللغة".
قال
ابن تيمية: " وأما التفاسير التي في أيدي الناس فأصحها تفسير محمد بن جرير
الطبري ".
هل
قرأ كل هؤلاء العلماء تفسير الطبري قراءة واعية مدققة ؟.
نلقي
السؤال وننتظر الإجابة بعد قليل .
ترى
معي أن الشيخ الإمام كان شهيرًا جدًا وذائع الصيت وله صولة وجولة ، لكن زمانه كان
زمن التعصب للمذاهب تعصبًا بغيضًا أدي في حالات كثرة إلي مقتل أئمة من أكابر علماء
الأمة
هذا
التعصب لم يكن يتوافق مع شخصية الطبري النازعة إلى
الورع
والزهد والحذر من الحرام، والبُعد عن مواطن الشُّبَه، واجتناب محارم الله تعالى،
والخوف منه، والاقتصار في المعيشة على ما يَرِدُهُ من ريع أرضه وبستانه الذي
خلَّفه له والده .
وعن
تلك الصفات يقول ابن كثير: "وكان الطبري من العبادة والزهادة والورع والقيام في الحق لا
تأخذه في ذلك لومة لائم،... وكان من كبار الصالحين".
وإضافة
لما سبق كان الطبري عفيف اللسان، وكان يناظر مرة داود بن علي الظاهري في مسألة، فتوقف
داود عن الكلام ، فشق ذلك على أصحابه، فقام رجل منهم، وتكلم بكلمة موجعة للطبري،
فأعرض عنه، ولم يرد عليه، وترفَّع عن جوابه، وقام من المجلس، وصنَّف كتابًا في هذه
المسألة والمناظرة.
رجل
بهذه الصفات يصبح دائمًا لقمة سائغة للمتعصبين الذين يريدون الناس كل الناس نسخة
واحدة منهم تردد كالببغاء كلامهم واحد من المتعصبين يدعى أبو بكر بن داود ، وكان
قائدًا للحنابلة في بغداد ، في زمن كان فيه الحنابلة أكثر من أن يحصوا في بغداد بل
وفي العراق كله ، أبو بكر هذا سيشنع علي الطبري بأنه شيعي ومن الروافض ، وإلى أخر
تلك التهم المحفوظة والمعروفة .
أثمرت
تلك الحرب الإعلامية ثمارها الخبيثة وتعصبت العامة الذين لا يعرفون شيئًا عن علم
الطبري ولا حتى يعرفون شيئًا عن حقيقة الشيعة ، وقد بلغ تعصبهم حد قيامهم بمنع
باقي الناس من الاجتماع بالطبري أو الاستماع إلي دروسه ومحاضراته ، بل وحاصروه في
بيته الذي ظل به إلي أن مات فمنعوا دفنه نهارًا ، وجري دفنه ليلا في بيته .
هل
فكر المتعصبون هؤلاء في أن إمام مذهبهم أحمد بن حنبل عليه الرضوان دفع
حياته ثمنًا لنزاهة رأيه واستقلاله وقد لقي ربه شهيدًا بعد اضطهاد تحدثت عنه الكتب
وصار مضرب الأمثال ، في المحن التي يصبها المتعصبون صبًا علي رؤوس العلماء الأفذاذ
.
الطبري
هم من عرفنا وهو بحق شيخ مفسري القرآن وشيخ مؤرخي الإسلام ، ولكن لكل شيء إذا ما
تم نقصان ، ونقصان الطبري جاءه من إكثاره من الرواية عن اليهود الذين اسلموا وليس
لنا أن نخوض في حقيقة إسلامهم .
هؤلاء
اليهود كانوا مولعين بذكر كل الغرائب والأساطير التي تفضي في النهاية إلي أن يقتنع
الذي يسمع لهم بأن اليهود شعب ليس كمثله شعب وأنهم حقًا شعب الله المختار .
وهذا
كلام فاسد لا يقره العقل ولا يؤيده النقل ، فكل الشعوب لدي الله عز وجل سواء وليس
ثمة امتيازات إلهية يمنحها الله لشعب دون الآخركان
الطبري رحمه الله ينقل روايات تصطدم أول ما تصطدم مع الذكر الحكيم الذي حفظه
صغيرًا وقام علي تفسيره شابًا وشيخًا حتى كان أعلم الناس به .
حول
إسرائيليات تفسير الطبري كتبت الأستاذة الدكتورة " آمال محمد عبد الرحمن ربيع
" كتابها الفذ " الإسرائيليات في تفسير الطبري .. دراسة في اللغة
والمصادر العبرية ".
المفرح
في أمر هذا الكتاب أن ناشره هو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، أما المحزن فهو
أن الدولة التي نشرت الكتاب لم تستفد منه
منذ نشره في العام 2005!!
الأستاذة
آمال تجيد العبرية كما العربية ، وهذا أمر جيد جدًا لأنها وضعت يدها علي المصادر
العبرية التي أخذ عنها الشيخ الأمام ، فتجدها تنشر النص العبري يقابله النص العربي
الموجود في تفسير الطبري .
الذي
قرأ شيئًا من التوراة التي بين أيدينا يعلم أن اليهود لا يتورعون عن ذم أنبيائهم
الكرام عليهم جميعًا السلام !!
ومن
ذلك ما يذكره اليهود عن أن نبي الله داود عليه السلام كان فوق سطح بيته فرأي امرأة
تغتسل ، فأعجبته ، ثم أنها نظرت حولها فرأته فأسدلت شعرها عليها فزادها ذلك جمالًا
على جمالها ، فسال عنها فعلم أنها زوجة قائد من قواد جيشه فظل يرمي بهذا القائد في
أتون أشرس المعارك حتى قتل في معركة من المعارك وهذا ما كان يخطط له داود ، فلما
قتل القائد قام داود وتزوج من أرملته .
هذه
الرواية الفاسدة من كل الوجوه لا نعرف سببًا لكي يوردها الطبري في تفسيره .
ثم ـ
وهذه هى المصيبة والكارثة الحقيقية ـ لا يعلق عليها ولا يهدرها بل لا يناقشها
أساسًا حتي يبدو للمتعجل أنه يقرها .
وحتى
في القصص المتعلقة ببدء الخلق تجده الأستاذة آمال الطبري يروي عن اليهود ما لم يرد
له ذكرًا في القرآن وليس له سند من السنة النبوية المقطوع بصحتها ، ومن ذلك قصة
الشيطان الذي دخل الجنة التي كان يسكنها أبونا آدم وزوجه عليهما السلام ، وقد كان
دخول الشيطان في جوف حية ، ثم أغوي الشيطان حواء التي بدورها أغوت آدم بأن يأكلا
من الشجرة التي حرمها الله عليهما .
الإمام
الطبري يروي ولا يستنكر هذه القصة مع أن تلفيقها ظاهر جدًا ولا يخفي علي من هو
أدني علمًا وفهما وفقهًا من الشيخ الإمام ، فلماذا رواها ؟ سؤال لا نستطيع الإجابة
عليه .
وفي
قصة الذبيح هل هو إسماعيل أم إسحاق عليهما السلام ، يورد الشيخ الإمام روايات
اليهود التي تؤكد أن الذبيح هو إسحاق ، وتأكيدات اليهود ليست ملزمة لنا بحال من
الأحوال ، إنه في النهاية جدهم الأعلى وهم يريدون المجد لأنفسهم في كل الحالات ،
ونحن لا نعرف سببًا يدفع الطبري شيخ المفسرين لكي يعتمد على هذه الروايات بل
يعاملها أحيانًا كأنها الحق المنزل فلا يناقشها مجرد مناقشة كما كان يفعل دائمًا
مع روايات هى أقل شأنًا وأهون خطورة من تلك الإسرائيليات الخطيرة جدًا والتي يتمسك
بصحتها كل من يريد الطعن على الإسلام .
ثم
تذكر الأستاذة ما أورده الطبري من إسرائيليات بخصوص قصة نبي الله سليمان مع ملكة سبأ ، فيروي أن بلقيس
ملكة سبأ كان معها مائة ألف قيل ، القيل
في لغة اليمن تعني الملك الصغير أو رئيس القبيلة ، وهؤلاء الأقيال كان تحت كل منهم
مائة ألف ، وهذا يعني أن المجموع هو عشرة مليار !!
تعلق
الأستاذة آمال بأن الرقم مبالغ فيه جدًا . الحقيقة أن الرقم ليس مبالغًا فيه بل هو
كاذب لا أساس له من الصحة .
لاحظ
أن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون قد أكد في تقريره أمام الدورة الـ47 للجنة الأمم
المتحدة الخاصة بتعداد السكان والتنمية أن
عدد السكان في العالم ازداد من 5.7 مليار نسمة عام 1994 إلى 7.2 مليار نسمة مطلع
عام 2014.
ووفق
التأكيد الأممي فإن القصة هي أن اليهود كانوا كالعادة يريدون إظهار مدي قوة نبيهم
وملكهم سليمان عليه السلام حتى أنه تغلب على ملكة لديها هذا العدد الخرافي من
المقاتلين .
ثم
يودر الطبري روايات حول شعر ساقي ملكة سبأ المعروفة لدي اليهود ببلقيس ، وكيف أن
سليمان قد تزوجها بعد أن أشار عليها بمادة تنزع بها شعر ساقيها !!
ثم
حديث خاص مما يدور بين الأزواج لا نعرف من
الذي حضره ولا كيف سجله وهو يدور بين ملك وزوجته الملكة !!.
تنهي
الأستاذة آمال كتابها بتوصيات لم تنفذ ومن الواضح أنها لن تنفذ رغم حديثنا الدائم عن تجديد الخطاب الديني .
أهم
تلك التوصيات أن يتم تنقية كتب التراث من كل تلك الخرافات والروايات الإسرائيلية ،
على أن نحترم جهد المؤلف ونحافظ علي متن كتابه كما كتبه هو وأن يقوم المتخصصون
بالرد والتعليق والتصحيح في الهامش .
هذا
وقد مضت أكثر من عشر سنوات على صدور الكتاب المهم الذي صدر عن مؤسسة عريقة ومهمة
من مؤسسات الدولة ولم يتم تنفيذ توصية واحدة من توصيات الباحثة الجادة الدكتورة
آمال محمد عبد الرحمن .
وأخشى
أن يطول انتظارنا .
ــــــــــــ
هامش
ـــــــــــــــــ
يا
رجل كن عاقلًا ولا تسمع للذين يقولون لك أن ياسر برهامي ويونس مخيون هما على عقيدة
الإمام أحمد بن حنبل .
يا
رجل لا تجمع بين التفاح والدوم ولا بين الثريا والثرى .
ابن
حنبل (164-241) هـ أحد أربعة لهم مذاهب ، قال عنه الشافعي
«خرجتُ
من بغداد وما خلَّفتُ بها أحداً أورع ولا أتقى ولا أفقه من أحمد بن حنبل»
يكفيه
كتابه "المسند" ويكفيه صبره على محنة خلق القرآن ، أما غيره فقصارى
جهدهم المشاغبة والتنطع للحصول على عشرة
مقاعد في البرلمان .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المقال بتاريخ 3 مارس 2016
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق