مقتطف من
سيرة علاء الديب
سريعًا مر شهر على رحيله فمتى
يكف القلب عن الحنين ؟.
ليل السبت على الأحد ( عشرون
فبراير 2016) أجلس في مسجد الثائر القديم عمر مكرم لتلقي العزاء في شيخي علاء
الديب ، يقع المسجد على الشاطئ الشرقي لنيل القاهرة ، يحده شمالًا مبني جامعة
الدول العربية ، ومن الجنوب ذلك الكيان الخرافي المسمى بمجمع التحرير ، ومن الشرق
ميدان التحرير حيث بائعة الجرائد وهتافات ما تزال مقيمة في القلب تنادي بأن الشعب
يريد إسقاط النظام .
لن أعلو فوق المشهد وأخاطب
روح شيخي :" الساعة الآن العاشرة ، الجرائد في السوق الآن يا شيخي هل أتيك
بالمصري اليوم لنقرأ مقالك الجديد ؟ ".
سأترك نفسي لصوت المقرئ وهو
يرتل :" ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا وسعة ".
إنه القرآن يا شيخي وقد
سألتني مرة :" كيف هو الكلام عندك ؟ ".
أجبتك متسرعًا :" هو
عندي كما عند الناس ، نثر وشعر ".
يومها رميتني بنظرة إشفاق
وقلت :" لو كنتَ تريثتَ لكنت قلت إن
الكلام هو نثر وشعر وقرآن ، القرآن ليس نوعًا من أنواع الكلام ، إنه جنس قائم
بذاته ، هو ليس شعرًا وليس نثرًا هو القرآن وحسب ، وإن لم تدرك هذا بقلبك عشتَ
كالببغاء " .
ثم ستمر السنون ويقول لي
:" صحح ما قلته لك في زمن مضى ، الكلام نثر وشعر وقرآن وأصداء السيرة الذاتية
لنجيب محفوظ ".
هذان التصريحان سيكشفان لي ما
أظنه كان خافيًا من شخصية وعالم علاء الديب .
الرجل تعليمه كان مدنيًا ولم
يلتحق يومًا بمعهد ديني أو مدرسة شرعية ، فمن مدارس الحكومة المدنية إلى جامعة
القاهرة التي غادرها حاصلًا على ليسانس الحقوق إلى مجلة صباح الخير وشعارها "
للقلوب الشابة والعقول المتحررة ".
فمن أين جاءه الشغف بالقرآن
وبعالم المشايخ ؟
ثم أن الرجل على صعيد
الانتماء السياسي كان يقف راسخًا غير متحسر ولا مهزوم على أرضية اليسار الرحبة ،
يجمعه بكل فصيل يساري جامع ، ثم هو علاء الديب المتفرد الذي لا هو قطيع ، كما هو
ليس من محترفي دسائس القيادة والزعامة .
وعلى ما سبق فلا يجمع الرجل جامع بالذائقة
" الدينية " الصاخبة والعنيفة.
أدخل عليه غرفة مكتبه فأجده
دائمًا يقرأ منكبًا على الكتاب الذي بين يديه كأنه كنز الكنوز ، ولا أجده يسمع سوى
لنشرات أخبار البي بي سي ، وقرآن يرتله الشيخ مصطفي إسماعيل ، ومقطوعات لكمان عبده
داغر .
متى يكتب هذا الرجل ؟.
ثم عندما يكتب أو يتحدث لماذا
يبدو لي كأنه عالم الفقه وقد حيرته مسألة فراح يفحصها ويمحصها من كل وجه وجانب .
أسأله عن هذه الرواية أو تلك فيقول بصوت خافت
واثق :" لم تقع في يدي بعد ".
ثم لا يضيف حرفًا .
أعود وأسأله عن هذا الكتاب أو
ذاك فيقول :" قرأته وهو عندي كذا وكذا ".
ثم يضيف :" أنا أرى أنه
كذا ".
ثم يواصل :" هناك جمهرة
تقول إنه كذا ، أما أنا فأقول إنه كذا ".
مفرداته السابقة قد تبدو هينة
بسيطة ، ولكنها عندي ثمينة للغاية ، لماذا ؟.
في الزمان البعيد كان الأزهر
كيانًا محترمًا وكان رجاله هم بحق حاملو رايات التنوير ، راجع قائمة تبدأ في العصر
الحديث بسعد زغلول وتصل إلى الشيخ زكريا أحمد بل والشيخ مدحت صالح ، في كل فن كان
رجال الأزهر يضربون بسهم من تفسير الآيات الكريمة إلى السياسية إلى الموسيقي ومن
العروض إلى الرياضيات ومن علم الجرح والتعديل إلى الجغرافيا ، كانوا كما وصفهم
أمير الشعراء أحمد بك شوقي :" كانوا أجلّ من الملوك جلالة / وأعز سلطانًا
وأفخم مظهرًا ".
تلك الجلالة كان التواضع شعارها وكان الإتقان سداها ولحمتها .
كان الواحد منهم إذا جلس مجلس
العلم يقول :" الرأي عندي ، أنا أرى ، أنا أقول ".
تلك الأنا لم تكن أنا
الأنانية أو أنا التفاخر والتباهي والتبجح ، بل كانت " أنا " التواضع ،
والمسئولية وفتح الباب أمام أراء أخري واجتهاد آخر وكلام جديد .
من النظر في سير الرجال الذين
كانوا رجالًا بحق ، ومن التلمذة على أيدي
" أمين الخولي " و" محمد أبو زهرة " جاءت المسئولية التي حمل
علاء الديب عبئها وأدى حقها ، لم يكن مشايخه القدامى يتبجحون ويقولون :" أنت تسأل والإسلام يجيب !!!" بل
كان الواحد منهم يعرف قدر نفسه ويتحمّل مسئولية كلامه فيجيب بلسانه عن المسألة
المعروضة عليه ولا يسد باب الاجتهاد ولا ينفي رأي الآخر أيًا كان الآخر ورأيه .
كذلك كان شيخي علاء الديب ،
يقرأ الكتاب ويقرأ حوله ثم يتركه فترة يعيد فيها تأمله ، ثم يشتبك معه في حوار ،
وذلكم الحوار كان هو المنهج النقدي لعلاء الديب ، إنه يحاور الكتاب وكاتبه وقارئه
ويقول رأيه المتضمن للمحاسن والعيوب والمصحح لما يراه هو خطًأ ، والكاشف عن الذي
بين السطور والمظهر لما أراد الكاتب أن يجعله رسالة سرية مشفرة .
كان هذا منهجه وشريعته في
الكتابة النقدية ، أما في الكتابة الإبداعية فكان هو الكاتب والمكتوب ، علاء الديب
يكتب علاء الديب ، والأمر هنا أبعد وأعمق وأعقد من تسميته بالسيرة الذاتية
الروائية ، إنه على صعيد من الأصعدة علمية تشريح قاسية جدًا ومؤلمة للغاية لخفايا
النفس ومكنونات القلب .
في إبداعه ( كان لا
يستخدم مصطلح إبداع ويفضل عليه مصطلح كتابة ) يعلن كلمته التي هي
ضد التزوير والكذب ، وهذان هما المرضان اللذان كان يري أنهما مقتل أمة العرب ، بل
مقتل الإنسانية ، كان يتقصى عروق المواجع الحقيقية كأنه جيولوجي يبحث عن عروق
المعادن في قلب الجبال الصماء والصحراء المجهولة ، كان يصبر على مشهده ولا يتركه
لآخر إلا إذا رضى عنه وسلّط عليه شمس الحقيقة الكاشفة .
أشهد وقد تكرّم عليّ وأهدىني
مسودة روايته الأخيرة " أيام وردية " أنه أعاد كتابة مشهد بين البطل
وشجرة طريق عشر مرات ، كان يريد لقارئه أن يشعر بمشاعر البطل تجاه شجرة الطريق .
وأشهد أنني قد قرأت له قصة
قصيرة عن حب جارف عميق يجمع بين شاب له قلب حكيم وشابة لها جمال الكون كله ، ولكن
قلقًا ما كان ينغص على الشاب حلاوة الحب ، ثم في لقاء له مع حبيبته شاهدها وهي
تسارع ملتاعة لالتقاط وردة ندية داستها الأقدام ، ورآها وهي تنفض عن الوردة برقة ما
نالها من أذى ، ثم رآها وهي تضم الوردة وتقبلّها كأنها طفلها الرضيع .
تأتي كلمة النهاية في القصة
بانصراف الحبيب عن الحبيبة .
قلت له في تبرير قلق الحبيب وفي شرح انصرافه :"
الحبيبة كانت مزورة مفتعلة ".
قال :" نعم " .
قلت :" وأنت الشاب ذو
القلب الحكيم ".
قال :" بل أنا العجوز
الذي يبحث عن لحظة صدق ".
أما وقد أتاك اليقين يا شيخي
قبل شهر من الآن فلتطب ميتًا كما طبت
حيًا وليبارك الخالق بحثك عن صدقك وخلاصك
من دنيا الافتعال والتزوير والكذب .
هامش
في السنوات الأخيرة من حياة
علاء الديب كتب مئات المقالات عن مئات الكتب في جريدتي الأهرام والمصري اليوم ،
خصص مقالات الأهرام لتناول الكتابات الجديدة لشباب الكُتَاب ، وجعل مقالات المصري اليوم لأصحاب التجارب ،
هل تسارع دار نشر وتجمع المقالات بين دفتي كتاب قبل أن يطمسها تعاقب الأيام ؟ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في جريدة المقال بتاريخ 21 مارس 2016
رحم الله كاتبنا الكبير وأنعم عليه طيب المقام
ردحذفوسلمت روحك المحبة الوفية
رحم الله كل أحبتنا يا صديقتي العزيزة
ردحذفمحبتي