الخميس، 12 مايو 2016

صارحونا حتى نصطف





في العام  1988 انفجرت طائرة بوينج  تابعة  لشركة بان أمريكان أثناء تحليقها فوق قرية لوكربي الاسكتلندية  ، وقد أسفر الانفجار عن مقتل جميع ركاب الطائرة وكان عددهم 259 شخصاً ، إضافة إلى مقتل  11شخصاً من سكان القرية حيث وقعت الطائرة .

هاج العالم وماج مستنكرًا تلك الجريمة الشنعاء ، وجرت تحقيقات كبرى انتهت إلى اتهام نظام العقيد الليبي معمر القذافي بأنه وراء تفجير الطائرة.

حاول القذافي ـ  شأن كل مسئول عربي ـ التنصل من المسئولية ، ولكن دول الغرب الكبرى حاصرته  بقرائن وأدلة جعلته يتراجع خطوة إلى الخلف ليبدأ في تقديم معالجة عربية مضحكة لكارثة مروعة .

معالجة القذافي ونظام حكمه للكارثة كانت أشبه بحالة طفلك عندما تضبطه متلبسًا باقتراف جرم ما فيروح الطفل يحلق في السقف أو يختبئ خلف ستارة النافذة كأنه ليس موجودًا في مسرح الجريمة !!.

اجتمع قادة الغرب وقرروا إنهاء مهزلة المعالجة القذافية ، ولذا أرسلوا إليه وزير خارجية بريطانيا للوصول إلى حل يحفظ دماء الضحايا .

كان العالم كله يقف على أطراف أصابعه مترقبًا نتائج اجتماع الوزير البريطاني مع سيادة العقيد .

العقيد من ناحيته جلس في خيمته الأسطورية وأوسع الوزير كلامًا عن ما هو فوق العرش وعن ما هو تحت الثرى ، وظل سيادته يتكلم ويتكلم عن كل شيء وعن أي شيء حتى ضاق به الوزير البريطاني فقاطعه قائلًا :" نريد الوصول إلى حل ".

فأبدي القذافي تعجبه من كلام الوزير وسأله :" ولماذا تبحث عن حل عندي".

تمسك الوزير بآخر قطرة صبر تجري في دمه وقال للعقيد :" لأنك رئيس هذه البلاد والمسئول السياسي الأول عن نظام الحكم ".

ضحك العقيد ضحكته الشهيرة ورد على الوزير قائلًا :" لقد قصدتَ الرجل الخطأ ، فأنا لست رئيسًا ولست حاكمًا ، تستطيع أن تقول إنني مفكر أو منظّر لنظام الحكم ولكنني لست رئيسًا ، الحاكم هنا هم أعضاء اللجان الشعبية و........."

ظل سيادة العقيد يتكلم شارحًا الفروق الجوهرية بين نظام حكم بلاده وأنظمة الحكم في البلاد الأوربية حتى كاد الوزير البريطاني يسقط في قبضة نوبة إغماء ، فسارع إلى مغادرة الخيمة فوجد  حشدًا من الإعلاميين في انتظاره ليعرفوا منه نتائج مقابلته للعقيد ، نظر إليهم الوزير وقال كلمته الخالدة :" قولوا لهذا الرجل أن يتحدث جادًا ".

تلك الحكاية القديمة ـ صالحة مع مزيد الحزن ـ لشرح الحالة المصرية الآن ، إننا بكلمة واحدة ، نفتقد إلى الجدية وإلى الحديث الجاد الذي يرسخ اليقين ولا يفتته .

ولعل قضية قناة السويس هي خير دليل على ما نعيشه وعلى ما أقصده بالعبث وتفتيت اليقين .

في تلك القضية لدينا ثلاثة رجال غاية في الأهمية وكلامهم يجب أن يوزن بميزان الذهب .

الرجل الأول هو الفريق مهاب مميش رئيس هيئة قناة السويس الذي أجتمع مع الرئيس السيسي قبل شهر من الآن وأوضح  أن إجمالي عدد السفن العابرة لقناة السويس خلال عام 2015 بلغ 17483 سفينة بزيادة قدرها 335 مقارنة بعام 2014 بنسبة 2%، كما حققت القناة زيادة في إيراداتها تقدر بـ 1.15 مليار جنيه خلال عام 2015 مقارنة بعام 2014 وبنسبة 3%. .

التصريح هنا واضح لا لبس فيه ويقطع بزيادة معقولة في إيرادات القناة .

الرجل الثاني هو ناجي أمين مدير إدارة التخطيط بهيئة القناة الذي قال في مؤتمر صحفي :" إن إيرادات القناة قد تراجعت في العام 2015 لأسباب تتعلق بوحدة السحب الخاصة وتتعلق بانخفاض سعر البترول ".

وكانت هيئة القناة بذات نفسها قد أعلنت في يناير 2016 عن تراجع الإيرادات بمقدار 290 مليون دولار .

الرجل الثالث هو الرئيس السيسي الذي قال في مؤتمر الفرافرة قبل قرابة الأسبوعين :" إن أن إيرادات قناة السويس ارتفعت ولم تنخفض، موضحًا أنه مسئول عن كلامه ولا يتحدث دون معلومات مؤكدة ".

على ما سبق فنحن أمام ثلاثة رجال على أعلى قدر من المسئولية ، يأخذ كلامهم بعضه برقاب بعض ، لا تكاد تطمئن إلى تصريح واحد من تصريحاتهم حول ذات القضية .

ثم يزداد الطين بِلة  عندما نعرف أن هيئة قناة السويس قد حصلت خلال العام الماضي على قرض من البنوك بلغ مليار وأربعمائة مليون دولار .

وتتفاوض الهيئة الآن مع عدد من البنوك للحصول على قرض يبلغ ستمائة مليون يورو .

وهنا نقف ونسأل : إذا كانت القناة تربح فلماذا كل هذه القروض المليارية ؟.

وإذا كانت القناة ـ لا قدر الله ـ تخسر فلماذا لا يصارحنا بذلك أهل الاختصاص وحملة المسئولية ؟.

يقولون في تبرير القروض إنها لتمويل التزامات مادية مستحقة عليها .

ما طبيعة تلك الالتزامات ؟.

لا أحد يهتم بالرد علينا لنظل في تلك الدائرة الجهنمية من تفتيت اليقين والعبث والكلام غير الجاد ، ثم فوق كل ذلك وبعده وقبله يطالبوننا بأن نصطف  خلفهم صفًا واحدًا كأننا قوالب طوب .

إذا أردتم الاصطفاف فعليكم بدفع ثمنه ، وثمنه ليس أكثر من أن تكونوا صرحاء جادين وأن تجعلوننا نشارككم في إدارة حاضر ومستقبل بلدنا .

ـــــــــــــــــ

هامش .

بعد محاولات التهرب من المسئولية ، أدان القضاء المواطن الليبي عبد الباسط المقراحي وحكم عليه بالسجن المؤبد ، ودفعت ليبيا تعويضات خرافية لأهالي الضحايا ، بل وذهبت بعيدًا في استرضاء الأمريكان خاصة والغرب عامة بأن تخلصت من مكونات مفاعلها النووي ، ثم بعد كل ذلك سقط القذافي وأمسكوا به مختبئًا في ماسورة مجاري !! .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر في جريدة المقال بتاريخ 11 مايو 2016 

هناك تعليقان (2):

  1. سلم قلمك وسلمت يداك ..
    بالتوفيق دائماً :)
    هالة منير بدير

    ردحذف