الأربعاء، 11 مايو 2016

النحاس باشا كالماء والهواء









ثار المصريون في العام 1919 وقدموا آلاف الضحايا بين شهيد ومصاب ، ثم كان لابد لثورتهم من ثمرة ، فكانت الثمرة هي دستور 1923 الذى كان في مجمل مواده لائقًا بجهاد شعب دفع دم أولاده قربانًا على مذبح الحرية ، ولكن إحدى مواد ذلك الدستور كانت تتيح للملك ( فؤاد الأول ) حل البرلمان .

ولأن البرلمان كان في معظمه وفديًا بحكم أن  الوفد كان أيامها هو حزب الأمة بدون منازع فقد استخدم الملك حقه الدستوري وحل البرلمان !!.
ثم كلف الملك إسماعيل صدقي(*) باشا برئاسة الحكومة ، فقبل صدقي التكليف ورد جميل الملك بأن ألغي دستور الأمة وصنع على هواه دستورًا جديدًا هو دستور 1930 واستعان في ذلك بجماعة من الفقهاء الدستوريين أمثال عبد العزيز فهمي باشا الذي قال :" إن دستور 23 ثوب فضفاض " وتناسى فهمي باشا أنه كان واحدًا من واضعي دستور 23 !!.

المضحك في الأمر أن صدقي باشا كان زعيمًا لحزب يسمى حزب " الشعب " فقام وحزبه بحل البرلمان المنتخب وإغلاق 15 صحيفة وسجن الكتاب المعارضين لإلغاء الدستور وعلى رأسهم عباس محمود العقاد ، ثم قام بالتنكيل بقيادات الوفد في الدلتا والصعيد بأن أحرق زراعاتهم وسممّ مواشيهم !!.
هل ترى معي أن الليلة كانت سوداء حالكة السواد ؟.

هي كانت بالفعل كذلك ، وفي كل الليالي السود ، يفتقد الشعبُ البدرَ ، لكن البدر كان حاضرًا وجاهزًا لدفع الثمن .
لم يكن البدر سوى زعيم الأمة مصطفى باشا النحاس الذي قرر قيادة الجماهير لإعادة دستور الأمة .
فماذا فعل لإتمام تلك القيادة ؟.



نزل إلى الشارع بشحمه ولحمه ولم يختبئ ولم يتوارى ولم يتلعثم .

تحالف مع الجميع حتى مع أعدائه ( الأحرار الدستوريين وزعيمهم محمد محمود باشا ).

نفض يديه من جماعة الإخوان المسلمين التي لم تشغل بالها ولو للحظة بالجهاد لاستعادة دستور الأمة ، بل راحت تختبئ خلف محاولة حل نزاع نشأ بين آل سعود وأمام اليمن !!.

قاد النحاس ورئيس مجلس النواب ويصا واصف  النواب للاجتماع في البرلمان رغم أنف حكومة صدقي  التي حاصرت البرلمان  وهددت النواب بضربهم بالرصاص ، لكن النواب بقيادة النحاس وويصا واصف حطموا السلاسل بعد التي أغلقت بها الحكومة أبواب البرلمان .

5 ـ ذهب النحاس مع القيادي الوفدي الكبير  سينوت باشا  حنا إلي المنصورة لقيادة الجماهير الغاضبة ، و  كان البوليس والجيش يحاصران مكان اللقاء .
استطاع النحاس بعد معارك دامية أن يخطب في الجماهير  التي سقطت  منها أعداد لا تحصي من الجرحى إضافة إلي اعتقال المئات .

أثناء عودة النحاس في سيارة مكشوفة وكان بجواره سينوت باشا أمر اللواء قائد القوة بمهاجمة النحاس فتقدم منه عسكري وأراد طعنه بالسونكي فتلقي سينوت باشا الطعنة بدلا من النحاس وسقط غارقا في دمائه . وقد مات سينوت متأثرًا بتلك الطعنة .

قام النحاس باستئجار قطار للذهاب إلي الصعيد لحث الجماهير على المطالبة بعودة دستورهم  .

كان القطار يضم النحاس وقيادات الوفد ومعهم محمد محمود باشا وقيادات الأحرار الدستوريين ،  فما كان من حكومة صدقي إلا أن أمرت بتحويل خط سير القطار والذهاب به إلى المقطم وليس إلى الصعيد .

7 ـ بعد معاناة تمكن النحاس ومحمد محمود من الذهاب إلى بني سويف ، وفي محطة القطار  جرت معركة بين مستقبلي النحاس وبين البوليس الذى حاصر النحاس لساعات ، وقام أحد العساكر باختطاف طربوش محمد محمود باشا ، ثم تمكن هو والنحاس من فض الحصار واللقاء بالجماهير ، وعلق محمد باشا على خطف طربوشه قائلًا :" لقد خسرنا  طربوشا  وربحنا معركة ".

8ـ  حسن باشا  صبري حمل إلي النحاس عرضا محددا قال له :"  الملك غاضب منك لأنك زرت العقاد في منزله وهو يعرض عليك تأليف الوزارة وإعادة دستور 23 مقابل فصل العقاد من الهيئة الوفدية ومن كل الجرائد الوفدية ".
 رفض النحاس قبول  العرض لأنه سيعد سابقة وقال :"  كيف أفصل أكبر كاتب في البلد من حزب البلد؟  ".

9 ـ عندما كانت حكومة صدقي تستعد لافتتاح البرلمان المزور دعا النحاس أعضاء الهيئة الوفدية لاجتماع سري في بيت مراد الشريعي المجاور لمحطة مصر وانتهي الاجتماع بإرسال برقيات لكل سفارات العالم تفضح تزوير صدقي لانتخابات البرلمان .

10ـ  تواصل النحاس مع عمال العنابر والترسانة  وحثهم علي الاعتصام في أماكن عملهم لمدة عشرة أيام في سابقة هى الأولي من نوعها ،فقام صدقي بقطع الماء عن المعتصمين لكي يموتوا عطشا . استسلم المعتصمون أمام العطش فتم القبض عليهم ولكن بعد أن تسببوا في فضيحة عالمية لصدقي .

11 ـ أوصى النحاس سيدات الوفد والصحفيات
  بتنظيم مظاهرة ضد صدقي من الجيزة وإلي حديقة الأورمان وكاد البوليس يضربهن بالرصاص إلا أن صدقي أمر بحصارهن داخل الحديقة  وتسليط خراطيم الماء عليهن .

12ـ ذهب النحاس لأداء صلاة الجمعة في مسجد  عبد الوهاب الشعراني ، وبعد الصلاة كان ينوي الخطابة في المصلين ، ولكن البوليس حاصر المسجد وقبض على المصلين وسرق أحذية النحاس وأقطاب الوفد  الذين عادوا إلى بيوتهم حفاة .

13 ـ لم يترك النحاس محافظة من محافظات الوطن إلا وزارها وخطب في أهلها وقاد غضبهم للمطالبة بعودة الدستور .
كل ما سبق لم يكن سوى غيض من فيض ، ونقطة من بحر كفاح النحاس وقيادته الشخصية للشعب للمطالبة بإلغاء الدستور الزائف وعودة الدستور الأصلي .
والآن نسأل  هل كان النحاس يخاف السلطة وبطشها ؟.
الخوف شعور إنساني طبيعي ما لم يتحول إلى جبن ونكوص ، كان النحاس يخاف وكان في كل مغادرة له لبيته يودع أخته السيدة " زهرة " وداع المفارق ولكنه كان دائمًا ما يتغلب على خوفه بالاحتماء بجماهير تصدقه لأنه كان صادقًا معها .
ثم تواصل النضال حتى جاء العام 1935 وأسقط النحاس والشعب دستور صدقي وعاد دستور الأمة ليحكم بين السلطات .
هل وصلت الرسالة لمن يهتم بأمرنا ؟
نحن بحاجة للنحاس باشا ، كحاجتنا للماء والهواء .
نحن نحتاج القائد المقدام الفقيه البصير الذى ينظم الصفوف ويتقدمها ويضحى عن طيب خاطر لكي تنعم الأمة بحياة تليق بها .
ــــــــــــــــــــــــــ
هامش

(*) باشا ابن باشوات ، كان في بدء حياته وفديًا ثم انقلب على سعد زغلول وعلى الوفد ، وأصبح ذراع الملك الحديدية ، تولى رئاسة الوزراء مرتين ، وفيهما لم يكن له من حليف واضح سوى جماعة الإخوان ـ توفي في العام 1950 وقد كتب  سيرته الذاتية بعنوان " مذكراتي ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر بجريدة المقال يوم الاثنين 2 مايو 2016

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق