الكَرْمُ شجرة العنب، ومفردها كَرْمة، و«الكرمة»
دار نشر ناشئة تشق طريقها بهدوء وتواضع وثقة العقلاء لتحتل مكانتها اللائقة بها بين
كبريات دور النشر المصرية والعربية.
دور النشر الناشئة تلجأ غالبا إلى فعل بذىء كتلك
الدار العربية التى هاتفتنى مسؤولة النشر بها، طالبة منى كتابا عن زواج المتعة عند
الشيعة!
جرى بيننا حوار عبثى، أكدت فيه أننى لست فقيها حتى
أورط نفسى فى كتابة كتاب كامل عن أمر اختلف فيه وعليه من هم أعلم منى.
وصل العبث إلى قاعه عندما أكدت لى السيدة مسؤولة
النشر بتلك الدار أنها ستمدنى بدراسات فقهية موثقة من أكبر المراجع السنية فى العالم
الإسلامى عن حرمانية زواج المتعة، ثم أضافت السيدة بفخر كأنها قد حررت القدس: إن كل
المطلوب منى هو حشو الكتاب بقصص عن الهلاك، الذى ينتظر الأسر التى ترضى بتزويج بناتها
زواج متعة، ولا يهم بطبيعة الحال مدى مصداقية تلك القصص.
بتوفيق من الله رفضت العرض السخى، وغنى عن الذكر
أن غيرى قد قبل القيام بالمهمة، وأن الكتاب قد احتل مركزا متقدما بين الكتب الأعلى
مبيعا فى تلك الدولة العربية!
مثل هذه البذاءة الترويجية مضمونة النجاح لم تلجأ
لها «الكرمة» التى اختارت الأصعب والأعمق، لأنه الأنبل والأجمل، اختارت ما ينفع الناس
فيمكث فى الأرض وفق الوعد الإلهى.
ونحن على أعتاب ذكرى نصر أكتوبر العظيم، رأت دار
«الكرمة» أن تنشط ذاكرة المصريين والعرب بأن تعيد نشر واحد من أجمل وأرق الكتب التى
عايش كاتبها جبهة القتال لسنوات.
الكتاب هو «مذكرات جندى مصرى فى جبهة قناة السويس»،
الجندى مسجل المذكرات هو المقاتل الدكتور أحمد حجى، رحمه الله.
تقول بياناته الرسمية، إنه من مواليد عام 1941 بمحافظة
الدقهلية، تخرج فى كلية الطب البيطرى فى عام النكسة، وعندما حان ميعاد تجنيده اختار
هو بمحض إرادته الذهاب إلى جبهة القتال!
قبل تجنيده كان المقاتل أحمد حجى قد وهب نفسه لخدمة
وتنمية مجتمعه، وفق قدراته الذاتية، حيث افتتح مدرسة لمحو أمية الفلاحين والعمال ببلدته
«لم تكن مصر قد ضربها سرطان التمويل بعد»، وكان يصنع مجلة حائط لفلاحىّ بلده، محاولا
تنمية وعيهم والاستفادة من خبراتهم الحياتية.
وعندما ذهب حجى، رحمه الله، إلى الجبهة كان يعى
تماما أنه يعيش لحظات فارقة من عمر أمته، وأن النكسة وإن كانت قاصمة للظهر إلا أنها
مجرد معركة فى حرب طويلة وستطول، ولذا بدأ فى تدوين يومياته أولا بأول، لكى تبقى طازجة
لم تمسها من ألاعيب الذاكرة شىء.
يوميات المقاتل حجى بسيطة ومركبة مثل شخصيته، فهو
الطبيب بما فى الطب من رهافة، وهو المقاتل بما فى القتال من شراسة وضراوة. اليوميات
لا تزعم لصاحبها دورا استثنائيا «وإن كان حقا قد قام بدور استثنائى» كما أنها لا تتواضع
ذلك التواضع الكذوب الذى يخفى صاحبه خلفه ما تعج به نفسيته من كبر وغطرسة.
هذا الملمح من اليوميات يلتقطه بعينه الخبيرة الأستاذ
علاء الديب الذى كتب: «مذكرات بسيطة مضيئة بهذا الحب للوطن، أغنية حزينة قصيرة عن حرب
عظيمة منسية، وأبطال أسطوريين، أصلهم من الفلاحين البسطاء».
أول يوميات حجى مؤرخة بـ«الأربعاء» 2 أبريل من عام
1969، أما آخر ما سجله فكان يوم السبت 19 ديسمبر 1970، لم يبق من المساحة سوى سطر أعيد
فيه الشد على يدىّ «الكرمة» مرحبا ثم أشير إلى أن بطلنا قد لقى ربه شهيدا قبل يوم العبور.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير في 1 أكتوبر 2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق