فى يوم الثلاثين من أبريل من العام
1945 انهارت ألمانيا التى كانت قوة عالمية عظمى، هزمت فى الحرب العالمية الثانية شر
هزيمة، وانتحر طاغيتها هتلر، الذى أوردها موارد التهلكة، واحتلت قوات الحلفاء المنتصرة
العاصمة برلين، وأعلنت ألمانيا هزيمتها بعد تدمير غالبية مدنها واقتصادها وبعثرة جيشها
وتفكيكه، ثم أن كل هذا العقاب لم يشف غليل المنتصرين، فسعوا إلى تقسيم الدولة الواحدة
الموحدة إلى دولتين «ألمانيا الاتحادية» و«ألمانيا الديمقراطية»، وبعد التقسيم قاموا
بتجزئة البلاد، وضموا جزءا من أراضيها إلى بولندا والاتحاد السوفييتى وفرنسا، وقد وصلت
الخسائر الألمانية البشرية إلى أرقام مفزعة لم تذقها الإنسانية من قبل، تشريد نحو
12 مليون ألمانى، إضافة إلى 8 ملايين أسير فى معتقلات قوات الحلفاء، والعجيب فى هذا
السياق أن الاتحاد السوفييتى قد احتفظ بأسراه الألمان حتى بعد مرور أحد عشر عاما على
نهاية الحرب، أما عن النكبة الألمانية على الصعيد الاقتصادى فقد تم تدمير السكك الحديدية
والطرق، وتفكيك المصانع، بل لقد أوغل المنتصرون فى عقاب الألمان، وقاموا بتفكيك القضاء
نفسه من خلال إقالات فورية لقضاة عهد هتلر، وجرى إغلاق المدارس ودور النشر بزعم تطهير
العقلية الألمانية من رجس النازية.
إذن نحن أمام دولة لا تمتلك من
مقومات الدولة شيئا أى شىء، فكل ما يمكن البناء عليه أصبح كومة من التراب، ومع ذلك
عض الألمان على شفاههم، لكى لا يقعوا فى مستنقع جلد الذات أو العويل واللطم والبكاء،
بدأ الألمان مرحلة لعق جراحهم، على يد قائدهم «لودفيج إرهارد»، وهو ملقب عندهم بـ«أب
المعجزة الاقتصادية»، هذا الرجل كتب مذكرة صغيرة ستقود ألمانيا إلى ما هى فيه الآن
من نعيم ورخاء، مذكرة هذا القائد الفذ كان عنوانها «تمويل ديون الحرب وإعادة هيكلتها»،
وقد أودعها فكره القائم على إعادة بناء الاقتصاد الألمانى من خلال ترسيخ فكرة «السوق
الاجتماعية» التى تقوم على حرية السوق مع الاهتمام الفعلى والجاد بالعدالة الاجتماعية،
وقد قام الرجل بتنفيذ أفكاره فعلا عندما أصبح وزيرا للاقتصاد بعد النكبة بأربعة أعوام،
وقد خاض فى سبيل إنقاذ بلاده حروبا طاحنة على أكثر من صعيد، فعلى الصعيد الخارجى، كان
المنتصرون قد فرضوا على ألمانيا المهزومة دفع تعويضات سنوية تبلغ حوالى المليار دولار
(انظر إلى قيمة وفداحة هذا الرقم قبل ستين عاما من الآن) التزم إرهارد بسداد تلك التعويضات
التى تقصم ظهر أى دولة، ثم خاض حربا ضد التجار، وأجبرهم على عرض بضائعهم، التى كانوا
يستثمرونها فى تكوين سوق سوداء خرافية، وقد وصل به الأمر إلى إلغاء العملة نفسها، فبعد
أن كانت عملة ألمانيا تعرف باسم «مارك الرايخ» أصبحت تعرف باسم المارك الألمانى رابع
أقوى اقتصاد على مستوى العالم بعد الولايات المتحدة والصين واليابان بناتج محلى بلغ
حوالى 3.518 تريليون دولار، وذلك وفق ما استطعت الحصول عليه من بيانات تعود إلى العام
2011.
هل ما حققه الألمان هو معجزة غير
قابلة للتحقق مرة أخرى؟
الحقيقة أن ما صنعه الألمان لم
يكن معجزة بحال من الأحوال، لقد صنعوا إنجازا، وكل إنجاز قابل بطبعه للتكرار دائما.
إن الإنجاز الألمانى ليس حكرا
على الألمان فقط، بل هو تجربة إنسانية عابرة للحدود الأعراق بل والأزمنة، وما أركانها
سوى الإيمان المطلق بقدرة الإنسان على تجاوز نكباته والبدء من جديد من نقطة هى تحت
الصفر بمراحل.
حال الآن فى مصر هو بكل المقاييس
سيئ إن لم يكن سيئا جدا، لكنه أحسن مئات المرات من حال ألمانيا عشية إعلان هزيمتها،
فإن كان الألمان رجالا، فنحن أيضا رجال، وإن كانوا قد ربطوا حجرا على بطونهم، لكى لا
يشعروا بمذلة الجوع، فما الذى يمنعنا من أن نقتدى بهم؟ خاصة وليس لنا ترف الاختيار
بين الحياة والموت.
ـــــــــــــــــــــــــــ
نشرت بجريدة التحرير في 23 يوليو 2014م
لينك المقال:
http://tahrirnews.com/%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1-%D9%85%D8%B5%D8%B1/%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%AC%D8%B1%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق