الثلاثاء، 16 سبتمبر 2014

الوطن ليس وهمًا




تحت وطأة اليأس من وقوع أى إصلاح فى زمن مبارك، غادرتُ مصر والصديق الراحل حسام تمّام إلى المملكة المغربية، كان خروجنا عبثيا بامتياز، كل الصحفيين يقصدون بلاد الخليج، أما نحن فقد اخترنا أبعد أرض بلغها العرب والمسلمون. على رأس المغرب يقف المحيط المخيف الذى يفصل تماما بين عالمين.

كنت قبل المغادرة بساعة واحدة عاقدًا العزم على عدم العودة إلى مصر مرة ثانية، مر أسبوع ثم أسبوعان وبدأ القلب يعوى، نعم كنت أسمع هذا العواء المقبض الذى تتشنج له الأطراف، كان حسام رحمه الله يشاكسنى عندما أصحو من نومى سائلًا: «هل تعرفت على أعضائك؟».

أجيبه: «ينقصنى عضو اليقين».

بعد شهر بدأ الأمر يأخذ بعدًا جديدًا، أىّ فقد أعانيه حتى يعوى قلبى كل هذا العواء؟

المغاربة طيبون هادئون، وقعوا فى عشق مصر وانتهى أمرهم، كَوْنى مصريا يجعلنى أعيش معززًا مكرمًا لا يرد أحد لى طلبًا بل لا يناقشنى فى أمر.

كيف لا أكون سعيدًا فى بلد كهذا البلد؟ كيف لا أغتنم الفرصة وأتمتع بكل هذا الجمال والهدوء والنظافة؟

ما هذا الوطن الذى يبعثرنى فقْدى له كل هذه البعثرة؟

جاءتنى الإجابة من قصة كنت أعرفها منذ سنوات، ولكنها لم تستوقفنى إلا وأنا أعيش مبعثرًا فى المغرب، القصة روتها كل كتب السيرة النبوية الشريفة، وتحكى عن اللحظة الأولى لوصول المهاجرين إلى موطنهم الجديد فى المدينة المنورة.

كان المهاجرون فريقين لا ثالث لهما، الفريق الأول وهو الأكثرية يضم سادة مكة وأبناء سادتها، الذين أسلموا واختاروا التضحية بمكانتهم وأموالهم وعشائرهم فى سبيل الإيمان بالدين الجديد، وهؤلاء لم يكن أحد يستطيع اضطهادهم أو تعذيبهم، مَنْ الذى يستطيع جلد عمر بن الخطاب، أو تعذيب على بن أبى طالب، أو شتم الزبير بن العوام، أو مواجهة سعد بن أبى وقاص، أو التطاول على الصديق أبى بكر؟! ما تعرض له هؤلاء من عذاب لا يتجاوز عذاب المصلح والمفكر والفيلسوف فى بيئة معادية.

الفريق الثانى وهو الأقلية كانوا من المضطهدين حقًّا وفعلاً وقولًا، وكان على رأس هذا الفريق صحابة من أمثال بلال بن رباح وعمّار بن ياسر وباقى الأرقّاء الذين أعتقهم أبو بكر الصديق.

ذهب الفريقان معًا إلى الوطن الجديد، وهنا تقول الكتب إنهم جميعًا مرضوا وأصابتهم جميعًا الحُمّى، تشخّص الكتب الأمر على أنه راجع إلى طقس المدينة الجديد عليهم، والله يعلم أن طقس المدينة ألطف من طقس مكة، ثم هم ليسوا غرباء عن طقس المدينة، لقد كانوا يزورونها كثيرًا فى زمن جاهليتهم، لقد أخطأت الكتب التشخيص، إنها حمى البعد عن الوطن وحمى افتقاده وحمى الحنين إليه.

تقول الكتب إن الصحابة كانوا فى مرضهم الشديد يجلسون فى بكاء مقيم، وكان الذى يهيج أحزانهم بشعر حارق يذكر فيه مآثر الوطن الأولى هو بلال بن رباح.

نعم بلال الرقيق الذى عذبته قريش كما لم تعذب أحدًا، بلال الذى يقينًا لم يشهد عمره بمكة فرحة واحدة، بلال الذى ليس له فى العير ولا النفير، كان أشد الجميع بكاءً على الوطن، وأكثر الجميع حزنًا على مفارقة الوطن، الوطن الذى كان يعذبه ويجلده ويضع الصخر فوق صدره، بينما ظهره يكتوى بنيران رمل مكة.

أى شىء كان لبلال فى مكة حتى يبكيها كل هذا البكاء؟

لقد بكاها حتى زجره الرسول.


حتمًا بلال لم يكن يبكى عبوديته، ولا الظلم الذى تجرعه على مدار عمره، إنه كان يبكى المعنى العام للوطن، هذا المعنى الذى يسكن تحت جلودنا ويجعلنا نؤمن ساعة الجد أن الوطن ليس ترفًا كما أنه ليس وهمًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشر بجريدة التحرير في 2 يوليو 2014
لينك المقال:
http://tahrirnews.com/chosen/%D8%A3%D8%AE%D8%A8%D8%A7%D8%B1-%D9%85%D8%B5%D8%B1/%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86-%D9%84%D9%8A%D8%B3-%D9%88%D9%87%D9%85%D9%8B%D8%A7/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق