الثلاثاء، 30 يوليو 2024

عن الوباء الذي أشعل ثورة


 

ولد الأستاذ الدكتور محمد أبو الغار بشبين الكوم بمحافظة المنوفية في العام 1940.

والدكتور أبو الغار هو اسم مقدر على أكثر من ساحة، فهو أستاذ طب النساء والتوليد بجامعة القاهرة، وله في مجال تخصصه الطبي فتوحات، وعلى الساحة السياسية هو مؤسس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، وعلى ساحة الكتابة صدر له أكثر من كتاب، وقد حظيت مؤلفاته بالقبول من جماهير القراء، وعلى رأس مؤلفاته سيرته الذاتية الرائقة التي نشرها تحت عنوان " على هامش الرحلة " إضافة إلى كتاب" يهود مصر من الازدهار إلى الشتات" و"أمريكا وثورة 1919 سراب وعد ويلسون".

وبين أيدينا الآن أحدث مؤلفات الدكتور أبو الغار" الوباء الذي قتل 180 ألف مصري " الصادر عن دار الشروق.

مئوية حزينة

في العام الماضي حلت الذكرى المئوية الأولى لثورتنا المصرية ثورة 1919، وقد رأى الدكتور أبو الغار أن يشارك في الاحتفال على طريقته الخاصة فأصدر كتابيه" أمريكا وثورة 1919" و " الوباء الذي قتل 180 ألف مصري"

وذلك الوباء نعرفه باسم الإنفلونزا الإسبانية، وفي سبيل إنجاز كتابه خاض أبو الغار رحلة شاقة ليكشف لنا عن حقائق تجاهلها التاريخ!

قبل الثورة بعام كان أصحاب البصائر يدركون أن المصريين في طريقهم للثورة ليس على الاحتلال البريطاني فحسب، بل على كل جوانب حياتهم خاصة الجانب الاجتماعي، فقد قدم المصريون الكثير وعند إحصاء أرباحهم وجدوا بين أيديهم صفرًا لا يسمن ولا يغني من جوع.

في ذلك العام بدأ الفيروس ينتشر بين ربوع العالم الذي كان تعداده وقتها لا يتجاوز ملياري نسمة.

ولكي نتأكد من خطورة الفيروس علينا أن نعرف أنه تسبب بطريقة مباشرة في قتل مئة مليون إنسان!

كانت أوربا قد فرضت حربها الأولى المعروفة باسم الحرب العالمية الأولى، على البشرية، وكان سعد باشا زغلول ورفاقه يحاولوا الحصول على استقلال مصر، وكان فلاحو مصر نسيًا منسيًا لا يهتم بهم أحد.

من تلك النقطة المركزية أنطلق الدكتور أبو الغار ليكتب كتابه الذي كان في أصله الأول مجرد دراسة صغيرة عن الإنفلونزا الإسبانية ولكن المؤرخ الدكتور أحمد زكريا الشلق عرض على أبي الغار تحويل الدراسة إلى كتاب يكشف خبايا ذلك الوباء، وقد تحمس الناشر الكبير إبراهيم المعلم لنشر الكتاب بعد أن يضع أبو الغار كلمة النهاية.

كانت مئوية ثورة 1919 قوسين من الحزن يضمان انفلونزا إسبانيا وكورونا مجهول النشأة والمصير، بين القوسين كتب أبو الغار، ولكن كيف بدأ البحث؟

ذهب ينشد المعرفة عند المؤرخ الكبير الأستاذ عبد الرحمن الرافعي فلم يجد لديه ولو كلمات عن وباء قتل 180 ألف مصري.

ترك الرافعي وذهب إلى صاحب الحوليات أحمد شفيق باشا فلم يجد لديه شيئًا.

قرأ كتابات المؤرخين المعاصرين فلم يجد لديهم شيئًا.

أخيرًا وجد سطرًا واحدًا لدى الشيخ الأستاذ عبد الوهاب النجار وضعه في مذكراته عن الثورة التي نشرها تحت عنوان" الأيام الحمراء "

جاء في سطر الشيخ النجار:" وقد ساءت الأحوال الصحية في البلاد، بانتشار حمى غريبة قاسية أشبه بالوباء الفتاك سميت بالحمى الإسبانية، وفتكت هذه الحمى بالعدد العديد من الناس".

ليس من العقل أن يٌقام كتاب على سطر، ولكنه سبحانه وتعالى يهدي الجادين إلى سبل الرشاد، فقد قرأ أبو الغار بحثًا لأستاذ بجامعة تكساس الأمريكية هو دكتور كريستوفر روز، الذي كتب عن تأثير الوباء على مصر وكيف تسبب في مقتل آلاف المصريين، وعن أثره السياسي والاقتصادي.

هكذا وضع أبو الغار يده على المادة الأولى لكتابه فواصل البحث وفي ذهنه نقطة لا أظن أن أحدًا قد سبقه إليها.

من البداية وأبو الغار يربط بين اندلاع الثورة وبين حصد الانفلونزا لأرواح آلاف المصريين، وقد وقع على كنز ثمين عندما عرف أن الفلاحين المصريين قد تم تجنديهم عنوة في فيالق العمال لمساعدة المحتل البريطاني في حربه، وتلك الفيالق ستكون صيدًا سهلًا للأنفلونزا الإسبانية.

ما أشبه الليلة بالبارحة

مصر ومعها العالم الآن تحت قبضة كورونا، ومصر والعالم قبل مئة عام كانوا تحت قبضة انفلونزا الإسبان، وفي الحالتين وقف الطب عاجزًا عن توفير علاج ناجع، ووقف الموت يرفرف بجناحيه الأسودين فوق الرؤوس.

واصل أبو الغار بحثه ليفضح تهافت منظومتنا التاريخية، فالتاريخ عندنا هو تاريخ الحكام والطبقة الحاكمة ثم لا شيء بعدها.

كل الوثائق الخاصة بنا نحن، وجدها أبو الغار ولكن في جامعة تكساس التي تمتلك وثائق الصحة العمومية للسنوات من 1914 حتى 1927 كاملة ومفصلة بدقة شديدة ومكتوبة باللغة الإنجليزية، لأن الاطباء والمسئولين في ذلك الوقت كانوا كلهم من الإنجليز.

يقول الدكتور أبو الغار: وجدت عندهم أيضًا نسخة من التقرير العام للدكتور ويلسون الذي قدمه إلى لورد ملنر وزير المستعمرات البريطاني الذي حضر إلى مصر وأقام عدة أشهر للتحقيق في أسباب ثورة 1919، ومعرفة الأخطاء التي وقع فيها نظام الحكم البريطاني، والنسخة الأصلية من التقرير محفوظة في دار الوثائق البريطانية ومعظم الباحثين رجعوا إلى أجزاء منها، وقد تفضل دكتور روز بإرسال كل هذه الوثائق من مئات الصفحات إلىّ.

الأمريكان والإنجليز يعرفون عنا ما لا نعرفه عن أنفسنا، أليس هذا من العجيب المريب؟

أشعر بأن أبا الغار كاد يجن من التجاهل الرسمي لكارثة قصمت ظهر البلاد، فراح يبحث في كل مكان عن معلومات عن الكارثة فكانت المفاجأة، لقد وجد تغطية شبه يومية في جريدتي الأهرام والمقطم لوقائع الوباء!

هذا يعني أن المعلومات الأساسية كانت موجودة ومنشورة فكيف لم يلتفت لذلك مؤرخ قديم أو معاصر؟

بعد أن أمتلك أبو الغار مادة كتابه بدأ باستعراض تاريخ الأوبئة في البلدان والأديان حتى وصل إلى الروايات العربية والغربية، ومن العجيب أن رواية غربية كتبتها الروائية الكندية مارجريت آتوود ونشرتها في العام 2009 تحت عنوان" عام الطوفان " كانت تدور حول انتشار وباء خبيث في الهواء!

هل كرونا الذي لم نعرفه إلا في النصف الأول من عامنا هذا يفعل شيئًا غير الانتشار في الهواء؟

براءة إسبانيا

الوثائق التي حصل عليها أبو الغار تؤكد أن إسبانيا لم تكن بلد منشأ الوباء، وثمة ترجيحات أن بلد المنشأ هى الولايات المتحدة الأمريكية التي أنطلق منها الوباء ليطوق العالم، وقد قدر بعض العلماء الخسائر البشرية بمئة مليون قتيل، وبعض العلماء يهبط بالرقم إلى خمسين مليون قتيل!

لماذا حملت الإنفلونزا اسم إسبانيا؟

يقول أبو الغار: كان زمن ظهور الانفلونزا هو زمن الحرب العالمية الأولى التي دارت رحاها بين بريطانيا وحلفائها والمانيا وحلفائها، فمنعت المخابرات البريطانية والألمانية وسائل الإعلام من نشر أي معلومات عن الأنفلونزا وضحاياها خوفًا من التأثير على الروح المعنوية للجنود ولما كانت إسبانيا على الحياد في أثناء الحرب فقد نشرت الصحف الإسبانية المعلومات عن الوباء في كل مكان بدقة ونقل عنها العالم ومن ثَمّ أطلق عليها الأنفلونزا الإسبانية.

كان الوباء مثل وباء كرونا يهاجم سكان القصور والأكواخ، وإن كانت حالات الموت بين سكان الأكواخ هى الأكثر بطبيعة الحال.

هاجمت الانفلونزا الإسبانية كل من الرئيس الأمريكي ويلسون ورئيس وزراء بريطانيا لويد جورج، وفرانكلين روزفلت الذي كان وقتها نائبًا لوزير البحرية الأمريكية، ومع هؤلاء هاجمت الزعيم الهندي غاندي وملكة الدنمارك وملك إسبانيا وإمبراطور إثيوبيا هيلا سلاسي.

أما في مصر فقتلت الانفلونزا الإسبانية الكاتبة الكبيرة ملك حنفي ناصف والأمير عبد القادر ابن الخديوي عباس حلمي الثاني، ولبيب عبد النور شقيق الزعيم الوفدي الشهير فخري عبد النور، ومن مصر إلى الجزيرة العربية حيث حصد الوباء روح تركي بن عبد العزيز آل سعود وكان وليًا لعهد والده مؤسس المملكة العربية السعودية.

اختصارًا لم ينج مكان من الكرة الأرضية من الوباء وثمة مشاهد نقلها الدكتور أبو الغار تهون بجوارها مشاهد وباء كورونا، فالمصابون في أمريكا تحديدًا كانوا يموتون في الطرقات وهكذا كان الحال في إفريقيا وقطاعات واسعة من أوروبا، ومما زاد الطين بلة عدم وجود علاج سوى المسكنات وحتى هذه لم تكن متوفرة إلا لعدد ضئيل جدًا من البشر، فالمصاب كان يعتمد على مقاومته الذاتية التي متى خارت ذهب إلى الموت.

ومن العجيب الذي سجله الدكتور أبو الغار أن التعليمات الطبية والإجراءات الاحترازية كانت كما هى الآن، فهناك تشديد على التباعد الاجتماعي الذي بفضله تقلصت الإصابات في ولاية نيويورك، وهناك خوف من مخالطة المصاب، الأمر الوحيد الذي طرأ على الإجراءات هو ضرورة استخدام الكمامة فلم تكن قد ظهرت بعد!

شرارة الثورة

جاءت الحرب الأوربية الأولى، المعروفة باسم الحرب العالمية الأولى، ولم يكن لمصر ناقة فيها ولا جمل، ولكن مصر كانت واقعة في قبضة الاحتلال البريطاني الذي عمل على تكوين فيلق من الفلاحين المصريين للانخراط في الحرب بمساعدة العمال، ما علاقة فلاحيّ مضر بفنون القتال الحديثة؟

كان تكوين ذلك الفيلق بالتراضي أول أمره ولكن سرعان ما حلت السخرة محل التراضي ، ولا يعرف غير الله كم قتل من فلاحي بلادنا فداءً للمحتل الغاصب، هرب الفلاحون من قراهم فبارت الأرض وعزت اليد العاملة وراحت الأسعار ترتفع بجنون فالأسرة الريفية التي كانت تعيش بتكاليف تبلغ 109 قرشًا في الشهر أصبحت مطالبة بتوفير 192 قرشًا، وهذا فارق جنوني بأسعار قبل مئة عام، ثم قام المحتل بالاستيلاء على ثروة مصر الحيوانية وخصوصًا الجمال التي كانت عماد حركة نقل البضائع وأصبح الجمل الواحد بعشرين جنيهًا، هنا ، أعني في العام 1918 بدأ السخط يعم الفلاحين المصريين وبدأت شرارة ثورة 1919 خاصة وقد نزل وباء الانفلونزا الإسبانية أرض مصر.

في مايو من العام 1918 ظهر الوباء في الإسكندرية قادمًا من أوربا عبر حركة الملاحة، ثم ظهر في بورسعيد بالسبب ذاته، وفي أكتوبر من العام نفسه أي في خمسة أشهر فقط انتشر الوباء في كل مصر، حتى وصل إلى الصحراء الشرقية في ديسمبر من العام 1918

طبعًا لن يتحدث أحد عن الرعاية الصحية فقد كان هناك طبيب واحد لكل مئة ألف مصري!

وغياب الرعاية الطبية هو الذي جعل مصر تفقد واحد بالمئة من عدد سكانها في خلال ثلاثة أشهر فقط كانت هي الموجة الأولى للوباء والنسبة تعادل 180 ألف مصري!

وبعد الموجة الأولى جاءت الموجتان الثانية والثالثة فحصدتا المزيد من الأرواح فضاقت الصدور بكل هذا العذاب وتضافرت العوامل لتندلع الثورة التي عمت أرجاء مصر وقد قدم الشعب خلالها دماء عشرات الآلاف من رجاله وشبابه ونسائه في ملحمة جبارة أراد بها الخلاص من الاحتلال ومن الظلم الاجتماعي.

إن كتاب الدكتور محمد أبو الغار هو درس بليغ لعبيد الاحتلال الذين يتباكون على زمنه ويقولون إن مصر في أيامه كانت جنة الله على أرضه، فليت أحدهم يقرأ فيحكم فيعدل.

ــــــــــــــــــــــــ

منشور بموقع أصوات 24 أكتوبر 2020

 

 

 

 

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق