الخميس، 18 يوليو 2024

عبد الله عنان ... مؤرخ الأمجاد والنكبات

 



يعد آل عنان من أشهر وأعرق العائلات المصرية، فنسبهم يصل إلى الفاروق عمر بن الخطاب، ولذا نجدهم حريصين على ختم نسبهم بلقب العمري.

وقد اشتهرت تلك العائلة بتحصيل العلم والانتماء إلى الطرق الصوفية، وقد كتب عن أعلام العائلة القطب الصوفي عبد الوهاب الشعراني.

لتلك العائلة ينتسب مؤرخنا الفذ محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن عرفة العناني العمري، المولود في السابع من شهر يوليو من العام 1896، ومن حسن حظنا أن مؤرخنا قد كتب مذكراته تحت عنوان " ثلثا قرن من الزمان " ونشرها كتاب الهلال قبل ثلاثين عامًا، وكل ما سأكتبه سيكون نقلًا عن سيرة المؤرخ الذاتية.

الأم العظيمة

ولد عنان بقرية بشلا التابعة لمركز ميت غمر بمحافظة الدقهلية.

كان أبوه حاصلًا على الشهادة الابتدائية، وكانت شهادة مرموقة في ذلك الزمان، وكان أشقاء الأب من المنتسبين للأزهر الشريف، كانت أم عنان أمية لا تقرأ ولا تكتب، ولكن حرصها على أن يتعلم ولدها أرقى تعليم ممكن كان عجيبًا، فرغم ثراء آل عنان فإن والد مؤرخنا كان من فرع، حالته المادية بسيطة، وكانت الأم قد ورثت ثمانية عشر فدانًا ولكن الوصي عليها أكل حقوقها ولم يقدم لها سوى أربعة أفدنة، راحت الأم تبيعها قراطًا بعد قراط للإنفاق على تعليم ولدها.

بدأ عنان رحلته التعليمية وهو ابن ثلاث سنوات، فقد ألحقه أبوه بكتاب القرية فحفظ قصار سور القرآن وتعلم مبادئ القراءة والكتابة.

في الرابعة من عمره ، غادرت الأسرة قرية بشلا لتستقر في القاهرة ، لا يذكر مؤرخنا سببًا لتك المغادرة التي كانت مغامرة كبرى في تلك الأيام .

في القاهرة ستتنقل الأسرة بين الأحياء، وفي كل حي جديد كان عنان يواصل التردد على الكتاتيب لحفظ المزيد من سور القرآن.

في مذكراته لا يتحدث عنان كثيرًا عن أسرته، فهو لم يذكر اسم شقيقته التي أشار لوجودها بجملة عابرة.

حصل عنان على الشهادة  الابتدائية من مدرسة العقادين، ثم حصل على الشهادة  الثانوية من المدرسة الخديوية.

والد عنان الذي كان يجمع بين عملين ، فهو كاتب في دائرة من دوائر أحد الباشوات ، وهو يتاجر في الاراضي التي كانت صحراوية في ذلك الزمان مثل أرض حي عين شمس الشهير ، وكانت عائدات الأب المادية لا تتجاوز الثلاثة جنيهات شهريًا ، ولكنه كان مولعًا بالتعليم فأصر على أن يلتحق ولده الوحيد بمدرسة الحقوق السلطانية!

الأم العظيمة باعت أرضها كما أسلفنا للغرض ذاته، وعندما حصل عنان على ليسانس الحقوق كانت أمه قد باعت كل أرضها.

عزاء في جروبي

قارئ مذكرات عنان  سيلاحظ أن الرجل لا يعرف التبجح ولا يتعمد الكذب ولا التزوير ، ولا يعتمد على تجميل مشاعره ، إنه يقول ما يؤمن هو أنه صواب وصحيح ، فهو مثلًا لم يذكر قط أنه حفظ القرآن كاملًا ، قال حفظت بعض الأجزاء ، ثم هو يخاصم الاشتغال بالسياسة فمع كرهه الشديد للاحتلال ،لا يمارس السياسة ، وهو يقول إن الحادث السياسي الوحيد الذي هزه من الأعماق وملأ عينيه بالدموع كان رؤيته لجنازة مصطفى باشا كامل ، ثم يقدم اعترافات لا تتفق مع مسلكه العام ، يعترف لا متبجحًا ولا متفاخرًا ولا متخلصًا من الشعور بالذنب إنه شرب الفودكا الروسية مرة فوجدها شديدة الوطأة فلم يعد لمثلها أبدًا.

 ويقول: إنه كان من عشاق الرقص الإفرنجي وهو يبرع في أداء معظم الرقصات، وكان ينفق بسخاء على الرقص الذي يسميه رياضة الرقص.

ولغة الرجل عجيبة، فهو عضو المجمع اللغوي بالقاهرة، يعني لا تنقصه المعرفة باللغة ومع ذلك يستخدم ألفاظًا لا أظن غيره قد استخدمها، فهو يقول مثلًا: ذهبت لتأدية رسوم العمرة!

كل الناس يقول مناسك أو شعائر، أو يقولون العمرة وينتهي الأمر، إلا عنان فهو يقول رسوم العمرة!

والرجل دقيق دقة عجيبة فهو يذكر الأحداث بساعة ويوم وشهر وسنة وقوعها، وقد صرح بأنه لا يعتمد على ذاكرته التي تبدو حديدية ولكنه يعتمد على يوميات ظل يكتبها على مدار سنوات حياته، فأين ذهبت تلك اليوميات الفريدة؟

السياسة التي ينفر منها عنان ستطرق بابه بقصة عجيبة حدثت له في أيام دراسته بمدرسة الحقوق التي هى كلية الحقوق الآن .

في غرفة من غرف المدرسة وجد عنان كومة عظيمة من الخطابات، وكلها مزينة بشريط الحداد الأسود، كان من بين الخطابات خطاب باسم عنان، فتحه فوجد بداخله دعوة لحضور عزاء أحد المحامين، وأسفل اسم الراحل عنوان العزاء.

ذهب عنان إلى العنوان لأداء واجب العزاء فوجد أن العنوان هو مقر محل جروبي الشهير ، ورأى زملاء المدرسة في حالة هرج ومرج وضحك .

فعرف منهم أن اليوم كان يوم زيارة سيقوم بها السلطان حسين كامل للمدرسة، وهم لا يريدون أن يكونوا في استقباله كنوع من الاحتجاج على سياسته العرجاء، فقرروا ترك المدرسة خاوية على عروشها.

قامت المدرسة بفصل كل المتغيبين عن استقبال سلطان البلاد، وكانوا معظم الطلاب وكان عنان من بينهم، إلا أن السلطان أصدر عفوًا عنهم فعادوا إلى مواصلة الدراسة.

موسوعة لغات

لا يصرح عنان بسر شغفه بتعلم اللغات ، مع أن الأمر كان يستحق وقفة منه ، لقد تمكن بمهارة من ناصية ست لغات وهى العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية واللاتينية والأسبانية.

لماذا كل هذه اللغات وهو الذي عقد العزم على الاشتغال بالمحاماة، فقد كانت تكفيه العربية والإنجليزية أو الفرنسية؟

كل ميسر لما خلق له، وعنان كان مخلوقًا لدراسات تاريخية لم يسبقه إليها أحد، وتلك اللغات ستكون خير معين له عندما يبدأ التفرغ لدراساته.

  حصل عنان على ليسانس الحقوق في العام 1918 وكان بإمكانه العمل في الإدارة الحكومية أو النيابة العامة ، ولكنه قرر عدم الارتباط بأي عمل حكومي ليحتفظ لنفسه بحرية القرار .

بعد عام من بدء عمله بالمحاماة ستندلع ثورة 1919 وسيشارك فيها مشاركة بارزة، لأنه رغم قراره بالابتعاد عن السياسة فقد رأى أن الثورة طوق النجاة الوحيدة لكي تنجو الأمة المصرية والعربية من الغرق وتحقق هويتها.

بعد هدوء الأحوال ، عاد عنان لممارسة المحاماة في مكتب ببلدته ميت غمر ، وهو في مذكراته  يسرف في مديح بلدتين ، ميت غمر وزفتى ، ويقطع أنهما من أجمل بلاد مصر ويعدد القصور والفيلات والمحلات والحدائق التي كانت تزين البلدتين ، ولا يفوته تسجيل أسعار السلع والمساكن فيقول مثلًا أن ثمن عشرين قرص طعمية كان مليمين وأن أجرة الشقة الكبيرة المحترمة كان جنيهين فقط.

غواية الاشتراكية

عنان الذي يفر من السياسة فرار السليم من الأجرب عمل على إنشاء أول حزب اشتراكي تعرفه مصر والأمة العربية!

من ثمار ثورة مصر عام 1919 أن النخبة المصرية قد تأكدت أنه لا نهضة سوى بالتخلص من الاحتلال وسياسة القصر الملكي عبر ممارسات ديمقراطية تكون الأحزاب السياسية هى قائدتها.

تعرف عنان على أحد أفراد الأسرة العنانية وهو الدكتور على عنان الأستاذ بمدرسة دار العلوم ، ثم تعرف على الكاتب الشهير سلامة موسى وقرر الثلاثة إنشاء حزب اشتراكي يدعو للتخلص من الاحتلال وتحسين حياة الشعب ، وبالفعل كتب عنان البيان التأسيسي للحزب ونشره بالجرائد ، وذهب الثلاثة لمقابلة زعيم الأمة سعد باشا زغلول وتحدثوا عن حزبهم فباركه سعد باشا .

ظلت أمور الحزب تمضي في هدوء ، حتى جاء اثنان لينضما للحزب وهما حسني العرابي ومسيو روزنتال الجوهري ، وكان الاثنان من أصحاب المعرفة الأكيدة بالشيوعية ، لا بالاشتراكية البسيطة التي يعرفها عنان وسلامة موسى ، فوجهها الحزب بأنشطته تجاه الأحزاب الشيوعية خارج البلاد ، وهو الأمر الذي جعل الأمن يراقب الجميع ويضيق عليهم .

هنا قرر عنان الخروج عن الحزب وعدم العودة إلى أي نشاط حزبي مرة أخرى.

أربعون ألف نسخة

في الفصل الذي خصصه عنان للحديث عن عمله الصحفي، شعرت بالفخر والحسد معًا، لقد كانت الصحافة المصرية شيئًا عظيمًا جدًا، كانت قادرة على إسقاط حكومات منتخبة، وكان كتابها من أمثال طه حسين والعقاد والمازني ومحمد حسين هيكل وأحمد لطفي السيد ومحمود محمد شاكر وأحمد حسن الزيات وعبد الوهاب عزام وعنان، ذلك الشاب العارف باللغات والتاريخ.

عبر وساطة تعرف عنان على رئيس تحرير جريدة السياسة الدكتور الأستاذ محمد حسين هيكل، وتم الاتفاق بين الرجلين على أن يعمل عنان بالجريدة بشرط عدم تورطه في أمر حزبي، خاصة والجريدة كانت لسان حال حزب الأحرار الدستوريين.

وافق هيكل على شرط عنان وفتح أمامه الصفحات ليرصعها بثمار عقله النابه، كانت الجريدة في العام 1924 توزع أربعين ألف نسخة يوميًا!

رأى عنان أن احتفاظه بمكتب المحاماة سيحد من انطلاقته الصحفية فأغلق المكتب وتفرغ للصحافة التي سرعان ما سيصبح من نجومها البارزة.

في العام 1926 قام عنان بأولى رحلاته فزار فلسطين ولبنان وسوريا والنمسا وتركيا.

تلك الرحلة ستكون أهم رحلات عنان الذي لم يكف عن التجول بين قارات العالم، وذلك لسببين.

الأول: أدرك عنان أنه مخلوق للاشتغال بالتاريخ، لأن تأمله لأحوال البلاد التي زارها دفعه لطرح أسئلة شائكة على نفسه، ولا جواب لتلك الأسئلة بدون معرفة ماضي تلك البلاد.

السبب الثاني: رأى عنان ببصيرته بدايات تكوين العصابة الصهيونية في فلسطين وعندما عاد إلى القاهرة كتب كثيرًا محذرًا من أفخاخ ينصبها الصهاينة لكي يصطادوا فلسطين، لقد حذر قبل وقوع النكبة باثنتين وعشرين سنة كاملة!

هناء النمساوية

في العام 1930 قرر عنان الزواج ، ولكنه كان يريد زوجة متعلمة مثقفة متحررة محتشمة راقية صاحبة مزاج ارستقراطي تعينه على ما هو مقدم عليه وتحترم عمله .

تلك الشروط لم يجدها عنان في المصريات اللاتي عرفهن  ، فسافر إلى النمسا وهناك وجد عروس المستقبل ، إنها فتاة تُدعى يوهانا، سيمدح عنان يوهانا وأسرتها .

 تزوج عنان يوهانا وعاد بها إلى القاهرة ، وظلت عروسه على اسمها ودينها سبع سنوات ثم أسلمت وعربت اسمها ليصبح هناء ، وأجادت العربية ، وأصبحت ذات نشاط خيري وتعليمي عظيم وكانت مكرمة من حكومة بلادها وحكومة مصر ، وولدت لعنان ثلاثة أبناء ، ولدين وبنتًا ، وعاش عنان عمره كله متنعمًا بحبها وشاكرًا صدق عونها له .

العودة إلى الجذور

عنان مصري عربي مسلم ، هذه هى شخصيته بتكوينها الأساسي ، وفي مذكراته ما يدل على أن هذا كان اختياره ، فهو كان بإمكانه الإقامة في أي بلد غير مصر ، وكان بإمكانه الانتساب إلى أي عرق غير العرق العربي ، حتى الدين كان يمكنه الانتماء إلى غيره ، ولكن تمسكه بمصريته وعروبته وإسلامه كان عن دراسة وليس عن وراثة .

في سنوات ما بعد الزواج من محبة مثقفة قرر عنان العودة إلى جذوره البعيدة، ليصبح مؤرخ الأمجاد والنكبات.

في قرار قلب عنان كان يشعر أن شيئًا عظيمًا قد هُزم بداخل الشخصية العربية والإسلامية بعد طرد المسلمين من الأندلس، لقد بنى المسلمون حضارة عظيمة كانت منارة لأوربا ثم طردوا مهزومين أذلاء من الأندلس، فما الذي حدث؟

للإجابة عن هذا السؤال كتب عنان موسوعته " دولة الإسلام في الأندلس " الموسوعة من ثمانية أجزاء ويبلغ عدد صفحاتها فوق الأربعة آلاف صفحة ، وقد كتبها في خمس وعشرين سنة ، وقد ظلت الموسوعة فوق مقدرة القارئ العام إلى أن تكرم مشروع القراءة للجميع وطرحها بسعر رمزي .

لكي ينجز عنان موسوعته فقد زار أسبانيا وبلدان المغرب حيث جرت الوقائع والأحداث مرات عديدة فدقة الرجل لم تكن تسمح له بأن يكتب غير الذي يعاينه ويعايش حالته.

كل جزء من أجزاء الموسوعة هو رحلة شاقة بين الأمجاد والنكبات فالمسلم الذي يقرأ الموسوعة يكاد يطير فرحًا هو يرى بعينيه تكوين حضارة عظيمة في بلد أوربي كان إلى الأحراش أقرب منه لأي شيء آخر ، ثم يقذف عنان بقارئه إلى سابع أرض وهو يتجول معه بين الخرائب والحطام والدمار

وقد تفرغ عنان للكتابة التاريخية خاصة بعد قيام ثورة يوليو التي يناصبها العداء، ورغم موقفه من ثورة يوليو فإنه يذكر أن الرئيس جمال عبد الناصر والوزير كمال الدين حسين قد بعثا إليه ببرقية تعزية عندما توفت السيدة والدته!

أثناء وبعد كتابة الموسوعة أنجز عنان كنوزه التي هى علامة فارقة في تاريخ الكتابة العربية ، نذكر طائفة منها.

1ـ مواقف حاسمة في تاريخ الإسلام

2ـ المآسي والصور الغوامض( صور تاريخية بأسلوب قصصي أدبي)

3ـ مأساة مايرلنج: دراسة تاريخية تحليلية مستقاة من الوثائق الامبراطورية النمساوية

4ـ تراجم إسلامية شرقية وأندلسية

5ـ قضايا التاريخ والمحاكمات الكبرى

6ـ ابن خلدون: حياته وتراثه الفكري

7ـ لسان الدين بن الخطيب: حياته وتراثه الفكري

8ـ تاريخ الجامع الأزهر

9ـ تاريخ المؤامرات السياسية

10ـ تاريخ الجمعيات السرية والحركات الهدامة

11ـ الحاكم بأمر الله وأسرار الدعوة الفاطمية

التكريم والرحيل

بلغت أعمال عنان ما بين إنشاء وترجمة وتحقيق أكثر من ثلاثين كتابًا وقد كرمته الدولة المصرية ومعظم الدول العربية ومنحته الجوائز والنياشين، وأغلب حالات تكريمه كانت في ظل النظام الناصري الذي يعاديه عنان!

حصل عنان على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية ووسام الجمهورية من الطبقة الأولى ووسام الكفاءة الفكرية من العاهل المغربي الحسن الثاني

وعضوية مجمع اللغة العربية بالقاهرة وعضوية نادي القلم الدولي.

ثم توفي عنان عن تسعين عامًا وكانت وفاته في العشرين من يناير من العام 1986ولعلَّ تاريخ وفاته يسجل مفارقة من مفارقات حياته ، فقد توفي في الشهر ذاته الذي سقطت فيه دولة الإسلام في الأندلس ، وكأن القدر أراد أن يربط بين عنان وبين الأندلس في الحياة والممات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منشور بموقع أصوات الاثنين 21 أكتوبر 2019

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق