الاثنين، 14 أكتوبر 2024

عن القشاوي الذي لا يحب المبالغة ولا البهلوانية

 


أعرف الكاتب الأستاذ مجدي القشاوي منذ عشرات السنين، أعرفه هادئًا ومبتسمًا، جادًا وملتزمًا طويل السكوت، قليل الكلام، كثير القراءة والتأمل، ولكن ما عرفته كاتبًا إلا بعد صدور مجموعته القصصية الأولى "شروط الوردة" عن دار العين للنشر قبل أيام قلائل.

كنت أقول لنفسي وأنا انتهي من قراءة قصة من قصص المجموعة: لماذا تأخر القشاوي في النشر؟

عرفت حادثة أراها مأساوية تدل على مكانة الكتابة في قلب وعقل القشاوي.

لقد أنجز منذ سنوات مجموعتين وقدمهما لكاتب شهير راحل، وأعجبتا الكاتب الذي قدمهما لدار نشر لها اسمها ووزنها، ثم تأخرت الدار في نشر المجموعتين، وبعد سؤال وبحث قالت الدار: "نعتذر لقد ضاعت المجموعتان".

هذا خبر يهد جبل، ولكن هنا تظهر قيمة الكتابة عند القشاوي، لقد نظر إلى الأمر بوصفه بشارة خير!

سيبدأ الرحلة من أولها محتشدًا مقدرًا لوعثاء الطريق ومشاق السفر، وقد كان له ما أراد وظهرت مجموعته التي تؤكد على موهبته التي أفرج عنها أخيرًا ليكون عند حسن ظن الذي يعرفون ثقافته العريضة التي لا تقف عند حدود الآداب بل تتجاوزها للفنون التشكيلية والموسيقى.

ضربة البداية التي نفذها القشاوي باقتدار أوحت بعالم المجموعة كلها، ضربة البداية جاءت تحت عنوان "ينسحبون من الحلم" قصة لا تحكي عن شيء اللهم إلا الأحلام، وتلك الأحلام هي دم طازج أحيانًا متخثر في أحيان أخرى، ولكنه دم يسري في عروق وشرايين المجموعة كلها ويهيمن عليها.

بطل القصة يعاني من وحدة مكتملة، يرى في منامه فتاة عشرينية فارعة كنخلة، تلبس قميصًا أبيض، وبجوارها نسوة يلبس جلابين ويغيطن رؤوسهن بأغطية سوداء، واحدة من النساء تحمل رضيعًا عاريًا، تمرره من فتحة قميص الفتاة ثم تلقفه من تحتها، تفعل ذلك عدة مرات، يتذكر بطل القصة أن أمه كانت قد شرحت له هذا الطقس الذي هو تميمة ضد الموت، بشرط ان تكون الفتاة بكرا وتلبس الأبيض!

ينصرف البطل إلى شئون حياته، ثم تتوق نفسه لرؤية البحر، صعد إلى سيارته، عازمًا الذهاب إلى البحر ليتخلص من الأرقام والأحلام التي تطارده، في طريقه قابله عجوز يعتمد على عكاز، طلب منه أن يحمله إلى البحر.

أنا القارئ أسأل: هل هناك عجوز يعتمد على عكاز أم هي حيلة فنية من القشاوي ليقول على لسان العجوز ما يريد هو أن يقله؟

يعزز احتمال وجود صوت الكاتب، إن لغة القشاوي في نقل كلام العجوز مختلفة كل الاختلاف عن لغته في بقية قصص المجموعة، العجوز له لغة خاصة تلامس بل تشتبك مع لغة الشعر، العجوز كأنه معلم يلقي وصاياه الأخيرة.

ثم ما هي العلاقة التي ربطت بين بطل القصة وعجوزها؟

لا علاقة، اللهم هذا اللقاء العابر، فكيف حدثه البطل عن حبيبته: "وكيف أنها ملتبسة تأتي كنهر وتروح كأرض متشققة، كأنها نبي رسالتها اصطحاب المؤمنين إلى أطراف المشاعر، الاطمئنان حتى الموت، والخوف حتى يقظة تبلغ بالعين اتساعها الأقصى".

هذا كلام ثمين جدًا لا يلقى على عجوز عابر سبيل يعتمد على عكاز!

يراوغنا بطل القصة عندما يقول: "لا أعرف إن كان هو من قال لي؟".

 

البطل ليس متأكدًا من مصدر الكلام القاسي الصعب الذي سينقله بعد قليل!

اسمع معي هذا الصوت ثم احكم أنت: "قلل قدر ما تستطيع من صدقاتك، من نساء يفيض صدرك لهن بالوجد، لا تتزوج، وإن فعلت فلا تنجب، احرص على ألا تعرف أسماء زملاء عملك، اشتر البقالة والفاكهة من باعة مختلفين، لا تحفظ وجوه عمال المخابز إياك والإعجاب بضحكة طفل الجيران، حاذر من الاندماج مع بطل أحببته في فيلم، قم في المنتصف، اصنع البطاطس، لا ترب كلبًا ولا قطة و..".

ما كل هذا الموت، ما كل هذه الوحشة والوحدة، بل ما كل هذا الجنون؟

العجوز إن كان في الأمر عجوز لا يوصي إلا بخراب وبتخريب كاملين تامين.

إن أطاع بطل القصة رجل الأرقام وصايا العجوز الذي يعتمد على عكاز فماذا سيربح؟

 

يقول العجوز: "سيقل عدد الموتى الذين ترى موتهم، سيقل عدد من ينسحبون من عينيك، ستهرب من أصماغ يتركها وراءهم الراحلون، وتنغرس فيها أقدامنا وأرواحنا، ولا نخرج منها أبدًا".

كل علامات التعجب لا تكفي لإظهار تعجبنا من وصايا كهذي.

هذه الأحلام والألعاب والحيل يعتمدها القشاوي أعمدة راسخة يقوم عليها بناء مجموعته التي تفسح المجال لأبطالها فلكلٍ وجهة هو موليها، فرابحة زوجة الصول عمر في قصة "الشجر المغني" لا تسمع من أشجار السرح عندما يداعبها الريح سوى عديد الجنائز!

بينما زوجها الصول عمر وابنها سالم يسمعان غناء الأشجار لا عويلها ولا عديدها.

القشاوي كأنه من قضاة العدل يقف على مسافة واحدة من أبطال مجموعته، ويترك لهم حرية التعبير عن دواخلهم، هو طبعًا لا يكرههم ولا يدينهم، ولكنه لا يتورط في محبتهم والانحياز لهم، هذا الحياد أو العدل، جعل القشاوي يتمكن من الدخول إلى حالة "التقمص" إنه يتقمص شخصيات أبطال وبطلات قصصه، فكأنه هم، وكأنهم هو.

تقمص القشاوي جعله يسافر مع بطله إلى "تشاد" لنصاب نحن والكاتب والبطل بالملاريا.

في قصة بعنوان "تجاه البحر" أفلتت جملة تلخص الأمر كله، قال بطل القصة يصف حاله: "لا أحب المبالغة ولا البهلوانية بأي درجة".

ولأن كل إنسان يعرف صاحبه، فأنا أعرف صاحبي، ذلكم هو مجدي القشاوي الذي لا يحب المبالغة ولا البهلوانية بأي درجة.

انتظر مع المنتظرين مجموعة القشاوي القادمة "فتاة تقف في إطار مستطيل" لتكون مع شقيقتها المنشورة خير تعويض عن المجموعتين الضائعتين.

ــــــــــــــــــــــــــ

منشور بجريدة صوت الأمة / السبت 12 أكتوبر 2024

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق