الخميس، 23 مايو 2024

اللعنة على قطاراتي



 تنطلق قطاراتي بسرعة خرافية تدهشني، ثم فجأة تتعطل، وعندما تصل إلى محطتها النهائية، تكون قد سجلتْ رقمًا قياسيًا فى التأخر، تصل قطاراتي دائماً ليلاً، حيث لا يكون فى استقبالها سوى ظلال أشجار بائسة تبدو كأشباح، وأرصفة خاوية تكنسها رياح الليل الباردة.

(1)

كنتُ أمر من أمام مبنى جريدة الأهرام، لحظة أن كان هو يهبط سلمها الخارجي منحدراً إلى الشارع، كان ملاكا أبيض، يرتدى بدلة صيفية بيضاء وكان شعره قد غادر شقرته وأصبح ناصع البياض.. كان يمسك بين أصابع يمناه بفرع صغير من شجرة (ربما كانت السيسبان) الفرع الصغير لا يزال يحتفظ بنداوة خضرته، كان يهبط واثقاً مثل ملك ويصفر بفمه لحن أغنية عبد الوهاب (يا مسافر وحدك).

كان صفيره منتظماً متقناً لا نشاز فيه، اندفعتْ إليه قطاراتى، تلك فرصة لن أفلتها، هذا هو يوسف إدريس، وهذا أنا عاشقه، ليس هناك من معجبين ولا أضواء كاميرات، الموقف مجرد من كل زخرف أو ضجيج.

ليس هناك سوى كاتب يصفر لحناً، وقارئ يسيل الحب على جوانب قلبه.

شكراً لقطاراتي لقد أقلتني حتى وقفت أمامه تماماً. مددتُ يميني، فنقل الفرع الصغير من يمينه ليسراه.

ـ أهلاً يا دكتور.

ـ أهلاً يا حبيبي إزيك؟.

ثم تعطلت القطارات اللعينة، يمينه تقبض على يمنى وعيناي معلقتان بوجهه الوسيم الباسم، لكن لساني أصبح كقطاراتي معطلاً.

مرتْ قرابة نصف دقيقة على خرسي، أفلت الرجل يدي ثم ضربني ضربة خفيفة بفرعه الأخضر على رأسي، وأنطلق يكمل صفير لحنه، عابراً الشارع بخطوات ملك وسيم. هل رماني بنظرة تعنى أنى مخبول؟

أم أنا الآن أتخيل أنه نظر لي معاتباً ومندهشاً.

هل من حقي الآن فلسفة خرسي بدعوى أن دفقة حب قد أصابت لساني بالشلل؟

أم أن الأمر كله هو مزاج قطاراتى اللعينة؟

(2)

أوقفتني قطاراتى أمامها بعد تأخر دام عشر سنوات.

قالتْ عيناها:" هيت لك "

 كان المطعم النيلي حنوناً فمنحنى سكينة أشقى بالسعي خلفها.

على المنضدة التي خلف ظهرها كان الولد يعانق فتاته، كانت فتاته مستسلمة لموجة شوق جارف.

هذه أنثاي وهذا أنا، هذا نيلنا الحنون وشاينا بنعناعة الفواح، لو مددتُ يداً فلن تُرد خائبةً، تقدمي قليلاً يا أيتها القطارات اللعينة البليدة، تقدمي شبراً واحداً ليس أكثر.

شبر واحد يفصلك عن النعناع والريحان

تعطلتْ القطارات البليدة وفر عصفور كان يدندن لحنه الأبدي على شجرة بالقرب منا.

ذهب الفتى وفتاته وتركا عطراً خرافيًا خارقًا للحواس جميعها.

بعدها ستعاتبني بصوت متحرج:" ليلتنا كان قمرها غائبًا لكنى رأيته يضيئني. ليتك قلتها، لو قلت لي ليلتها أحبكِ ربما تبعتك حتى نهايات الأرض، أنت حتى لم تدفعني لأن أقولها لك "

سكتُّ لأن حبيبتي لا تعرف شيئا عن قطاراتى اللعينة.

(3)

كان نجيب محفوظ متاحًا كالماء والهواء وباقيًا كأنه النيل، لذا لم استعجل مقابلته، سأقابله متى أردتُ فالرجل متاح كالماء والهواء.

طعنه مخبولٌ فى رقبته، فقلت سينجو وسأقابله متى أردتُ، ثم تكالبتْ عليه أيام الزمن، فقلت لن تنال منه وسأقابله متى أردتُ.

قبل رحيله بثلاثة أشهر، جاءني الصديق سعيد شعيب وقال لي: «محفوظ يريدني ليستوضح شيئا عن حواري مع محمد مهدى عاكف مرشد جماعة الإخوان، لابد وأن تكون معي"

ذهبت مع سعيد إلى فندق على نيل المعادي حيث كان الأستاذ يستقبل زواره.

فى الاستقبال وبدون اتفاق قلنا للموظف: نريد الأستاذ.

هكذا بدون تحديد.

ابتسم الموظف وقال: الأستاذ محفوظ يجلس فى الطابق الثالث.

فرحتُ وسعيد بموظف يعرف أن الأستاذ هو محفوظ ولا أستاذ غيره.

صعدنا إليه فوجدنا حوله جماعة من أصدقائه وتلاميذه.

كنتُ عازماً على تقبيل يده، قبلةً أودعها كل محبتي له.

فى لحظة لعينة ظهرتْ قطاراتى ذات الحسابات العقلية الباردة، قلت فى نفسي: لو قبلتْ يده ربما يظن المتحلقون حوله أنى شخص استعراضي بغيض.

ارتبكت خطواتنا، أنا وسعيد ونحن على بعد أمتار من الشيخ الجليل، أراد سعيد أن أسبقه وأردت أن يسبقني، لاحظ الشيخ بحس أولاد البلد الذي لم يغادره أبداً ارتباك خطواتنا فصاح بصوت مجلجل: بالدور يا زبائن.

ضحكنا جميعاً وسلمنا عليه وجلسنا، راح سعيد يشرح للأستاذ خلفيات الحوار مع مرشد الجماعة، قطع موظف حديث سعيد قائلاً للأستاذ: جاءت اليوم سيدة فرنسية مع ابنتها الشابة وتركت لك هذه البطاقة.

باغت الأستاذُ الموظفَ سائلاً: المهم الست حلوة والا لأه؟.

عدنا للضحك لكن الأستاذ كان جاداً عندما سلم البطاقة لصديقه المخرج توفيق صالح: بص يا توفيق لا تستغل الموقف وتترجم على هواك، أريد منك ترجمة دقيقة، دي الست جاية من فرنسا مش من طنطا.

كان سعيد مهتماً بمعرفة حقيقة رأى الأستاذ فى جماعة الإخوان. قال الأستاذ:» ولدتُ وفدياً ووفدياً سأموت.

 بعد نهاية المقابلة التي لم أفتح فمي خلالها بكلمة، نظر لي سعيد مغتاظاً: كنتُ أنتظر تقبيلكَ ليده لكي أتشجع وأقتدى بك، لماذا لم تقبل يده؟

سكتُّ لأن صديقي لا يعرف شيئا عن قطاراتى اللعينة.

(4)

كانتْ قد أرهقتني بعنادها الذي تعاقبني به على تأخر قطاراتى اللعينة، أى مواجهة هى محفوفة بمخاطر فقداني الكامل لها. استعنتُ على عنادها وقطاراتي بالكتابة فكتبتُ:" حبيبتي

كنا معا، فجأة علتْ دندنتك، اكتشفت أن لك صوتًا جميلًا دسمًا، كان الشارع كعادته مسكوناً بضجيجه الأزلي، تلاشي الضجيج، وتصدر صوتك المشهد، كنت أتمنى أن تغني لي، لي وحدي:" بيطلع على بالي أرجع أنا وياك.. أنت حلالي أرجع أنا وياك"

أعرفك جبانة تخافين البوح.

لماذا أحاصرك وأظن أنني حلالك وأنك تودين الرجوع معي؟

أحبك وأحب الأغاني حيث تجري القصص كما نريد لها أن تجري لا كما تفرضها أقدار عجيبة لا نفهم حكمتها.

 

هل ترين أن الأغاني والقصائد قد أضاعتني صغيراً ثم حملتني الخيبة كبيراً؟

أم تراها صنعتني على عينها واختارتني لأكون كما أنا (أحبك وأحب الأغاني).

فهل أنبعث من رمادي على يديك؟

سحقا لأنفي الذي يخزّن الروائح، هل هو أنفي أم تراه قلبي؟

كنت متوحداً مع فايزة وهي تغني (قمري هو وشمسي هو) ما الذي جاء بك لحظتها؟

بل ما الذي جاء برائحة شعرك علي وجه التحديد؟

كنا في قلب الميدان، كنت كطفلة مذنبة، لم أحتمل رؤية وجهك المعتذر، اقتربت منك كثيراً فهاجمتني رائحة شعرك، ومن يومها وهي تسكنني.

هل سكنتني أم بعثرتني؟

لماذا أنا حاد هكذا ومتطرف هكذا؟

تهاجمني أشياؤنا الصغرى كلها دفعة واحدة قد تمرين أنت عليها غير ملتفة ولكنها تبقي داخلي عمراً لتنعشني وتصب على قلبي المزيد من الحسرات.

هل تعدينني بالغناء، لي وحدي؟"

(5)

رفضتْ قطاراتى حمل رسالتي إليها، وها هى قابعة فى زاوية من زوايا القلب.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق