الموضوع وما فيه أنني أريد مصافحة الأبنودي، وسيعرف هو من المصافحة كم أحبه، نقلت رغبتي تلك لبلال فضل، الذي هرش لحيته ثم قال: لو ذهبنا إلي الأبنودي غدًا فسنكون قد تأخرنا أسبوعين عن ذكرى ميلاده الرابعة والسبعين.
قاطعته قائلًا: سنذهب لمجرد المصافحة التى ستقول عنا كل شيء.
دخلنا بيت الأبنودي في الإسماعيلية ظهيرة الثلاثاء 23 ابريل 2012، كان يعلم بقدومنا فجهز لنا كلبه الشرس وجعله يعوى، خفنا، فضحك قائلًا : يا عيني علي الرجالة !
بعد السلامات والمشروبات وقف كأنه سيغادر مجلسنا ثم نظر إلينا وقال: "بمناسبة يوم الثلاثاء العظيم سأعيد تربيتكم من جديد ".
سألته عن سر عظمة الثلاثاء، فقال: لا أعرف، ولكن أحس الثلاثاء عظيمًا هكذا في المطلق.
باغتنا بأن رفع قميصه عن جسده فصرخت زوجه السيدة نهال كمال: لا يا عبد الرحمن لا.
فرد عليها بهدوء: دعيني أعيد تربيتهم.
ما تحت القميص كانت كرات مشتعلة الحمرة، تلف صدر الرجل وظهره، أغمضنا عيوننا ولكنه نهرنا قائلًا: كنت أجرى في الدنيا مثل حصان، لم ألتفت إلى صحتي، وهذه هي النتيجة، سيخدعونكم بكلام كثير عن حياة الفنان وعن انطلاقة الشاعر، إياكم والتفريط في صحتكم لأي سبب كان.
أسدل قميصه وهو يلهث من الغضب ثم قال: لولا علاجات أوروبا التي يرسلها لي أصدقائي ما استطعت القيام أو القعود، هذا الحزام الذي يلفني هو حزام من نار يمنعني من مجرد التنفس.
بلباقة غيّر بلال مجري الحديث متحدثًا عن جمال أشجار المانجو التى تحيط بالبيت، تلقف الأبنودي خيط الكلام فقال: ثمة أسطورة صنعها الصعايدة عن كون المانجو تنمو وتنضج وتحلو بتأثير ضوء القمر، عن نفسي أصدق تلك الأسطورة وأروجها ، جميل أن تطيب المانجو بضوء القمر، رشدي غني لي هذا المعني.
ذكر اسم رشدي قاد الحديث بشكل تلقائي لكي يرسو علي شاطئ عبد الحليم حافظ، قال الأبنودي: نصف ما تسمعونه عن عبد الحليم هو مجرد أكاذيب والنصف الآخر حقائق ناقصة ومشوهة.
واصل الخال: الأغنية هي يقين عبد الحليم الوحيد، حياته ومماته، من أجلها يترك كل شيء، من أجلها قد يقتل ويرتكب كافة الجرائم، باختصار هي حبله الصري، بدونها لا عيش ولا حياة، باقي تفاصيل حياته هي مجرد تفاصيل لا تقدم ولا تؤخر، الجهل بها لا يضر كما أن العلم بها لا ينفع، علاقتي به شهدت خلافين حادين، الأول يوم غنى لي "أنا كل ما أقول التوبة" لم يعجبني توزيعها وهاجمتها بشدة، كنت أريد لحنًا يحافظ علي صعيدية الكلمات، ثم هدأ الاختلاف عندما حدثني طويلًا عن الفرق بين الأغنية ونحن نعدها وبينها بعد أن يتم طرحها في السوق، لحظة طرحها تصبح سلعة تفتح بيوت الآخرين، ولا يجوز لأصحاب الأغنية التخلي عنها أو مهاجمتها، اعترف أن هذا المعني وإن كان صادمًا للشاعر بداخلي لكنه كان من المعاني التي تستحق التأمل، وبعد الصلح بيننا واعتماد كل منا علي صاحبه لكي نواجه معًا كارثة يونيو 1967، غنى من كلماتي رومانسيات فيلم "أبي فوق الشجرة" كان جرح يونيو ينزف وكنت أرى أنه لا يليق الغناء الآن سوى للوطن، الوطن وفقط.
يصمت الخال قليلًا ثم يقول: الوطن شيء جليل كأنه المطلق، ولكن لن تعرفه إلا إذا ضربت في أرضه شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا، وصاحبت ناسه، سأحكي لكم حكاية توضح ما أريد قوله حكاية محمود حسن إسماعيل مع النيل.
قبل أن يسترسل الخال في قص الحكاية علينا، قاطعه بلال سائلًا: "هل كانت بينك وبين محمود حسن إسماعيل علاقة شخصية".
يبتسم الخال قبل أن يرد: "إنها ذات العلاقة التى تربطنا بالمتنبي مثلًا، عندما كنت وأمل دنقل وباقي رفاقنا من شعراء وكُتاب الجنوب الصعيدي نقيم في قرانا البعيدة عن العاصمة، كانت أشعار محمود حسن إسماعيل ضرورية لنا كأنها رغيف العيش، كنا نحبه هذا الحب الصافي وندرك كم هو فنان متوحد فريد، عندما جئنا إلي القاهرة زرنا الأماكن التى ذكرها في شعره، وبدأنا رحلتنا من نخيل منطقة الجزيرة، ثم عرفت طريقي إلي مبني الإذاعة التى بدأت تذيع بعض الأغنيات التى كنت أكتبها، وذات يوم قابلني فاروق شوشة فى ممر من ممرات الإذاعة قال لي والفرح المخلوط بالجدية يتراقص على وجهه: "ابشر، محمد حسن إسماعيل يريدك".
لحظة لقائي بمحمود حسن إسماعيل كانت من ضمن اللحظات الفارقة فى حياتي، إنه الشاعر الشهير الخطير، يثني علي أغنياتي ويتحدث عن مذاقها الفريد وعن نكهتها الجديدة الطازجة، ثم دعاني إلي كوب شاي، أهي يا عيال كوباية الشاي دي أعتبرها أحد أرفع الأوسمة التي نلتها في حياتي، بعد المقابلة سألني شوشة: "ماذا قال لك الشاعر؟".
قلت له: "لقد عزمني علي كوباية شاي".
ضحك قائلًا: "تمام ، لقد وصلت يا عم، محمود حسن إسماعيل لا يقدم الشاي سوى لأحبابه".
خفت أن يشرد بنا الكلام ونبتعد عن قصة النيل ومحمود حسن إسماعيل، فسألت الخال: "هل نعود إلي أصل قصة الوطن والنيل".
صاح: "ها كويس إنك لسه فاكر، الأستاذ محمود وهو من هو معرفة بالوطن وناسه، كان ينزل أسوان في بدايات بناء السد العالي، طبعًا أنا مضروب بالسد، ليست مسألة عشق شاعر لبناء حتى لو كان هذا البناء هو السد العالي، الموضوع أكبر وأشد تعقيدًا من كل هذا الكلام، السد هو هويتي الشخصية، أنا إنسان هذا السد، كأنه أبي وعائلتي وعزوتي، عرفت بوجود الأستاذ في فندق يطل علي النيل مباشرة، أخذت فلوكة، ووصلت بها إلي تحت نافذته مباشرة ورحت أصيح آمحمود، يا محمود حسن إسماعيل، لم يكن يمكنني الوصول إليه إلا بهذا الصياح، هبط الرجل الخطير بقامته المديدة وسألني: "ماذا تريد مني يا أبنودي؟" قلت له سأعرفك على النيل، رد علىّ قائلًا: "هل نسيت أنني صعيدي من أسيوط وأعرف النيل جيدًا".
قلت له دعك من نيل القاهرة والمدن الكبرى، بل دعك من نيل أسيوط، هنا أصل النيل المصري ومنبع خيره، هنا نيل ليس كمثله نيل، لعبت الفكرة في رأس الأستاذ، فركب معي مركبي الصغير، يومًا بطوله وأنا أطوف به النيل، قدمته للصخور وللأمواج وللعمق وللطول وللعرض وللشاطئ وللأشجار وللطمي، قدمته لكل كائنات النيل، في ختام اليوم الشاق تنهد الأستاذ في راحة ثم قال لي: "الآن أعرف مصر كأني لم أعرفها قط".
صمت الخال لحظة ثم واصل قائلًا: "هذا يا عيال المعني الذي أريده من الحكاية، الوطن هو ناسه وأرضه، لابد من تعب ومكابدة لكي نعرف الوطن، اعرفوا الناس وتعلموا منهم، ليس بي أدنى قدر من التعصب، ولكنى أشهد أن ناس هذا الوطن هم خير الناس، فقط ينتظرون فرصة الوصول إليهم والاهتمام بهم، وساعتها سيحدث العناق العظيم بين ضوء الفكرة وحرارة تطبيقها، فاكرين قصيدتي "الدايرة المقطوعة" قلت فيها: "إذ مش نازلين للناس فبلاش" هذه هي القضية بكل وضوح، الناس أولًا وأخيرًا".
جاءت السيدة نهال بدور شاي صعدي جديد، وجلست في مواجهة زوجها الذي نظر إلى قدميها وتمتم: "جزمتك حلوة قوى يا نهال".
ضحكت وبلال، بينما لم تسمع السيدة نهال جملة الخال فرجته أن يعيدها فرفض فهممتُ بأن أعيد عليها الجملة فأقسم ألا أفعل قائلًا: "شاعر كبير يغازل حبيبته، فإن لم تشم الوردة من المرة الأولى فلن نقدمها لها ثانية".
ضحكنا جميعًا، ثم أقلقني ما قاله الخال عن الناس وعناء الوصول إليهم فسألته مباشرة: "كيف ترى ميدان التحرير والناس؟".
رد مبتسمًا: "هل تخجل من السؤال المباشر عن رؤيتي لعلاقة شباب ونخب الثورة بالناس، بل علاقة الثورة ذاتها بالناس؟".
قال بلال: "لقد جئنا للسلام عليك ولا نريد إرهاقك في حوار سياسي".
قال الخال: "انظروا إلي المسافة بينكم وبين الفلاحين مثلًا ثم تحدثوا عن الثورة، قرب أو بعد المسافة يحدد نجاح الثورة أو فشلها، أنا لا أحدثكم عن العشوائيات أو عن طلاب الجامعة أو عن المقاولين، أحدثكم عن كتلة كبيرة متماسكة لها خبرات في الحياة والنضال والبناء، مصر بمجملها هي ثمرة عرق الفلاحين، عبد الناصر كان واعيًا لهذه النقطة فذهب إليها مباشرة، من أول يوم لثورة يوليو، كانت ترى خطورة الفلاحين، وكانت تعرف إن الوصول إليهم هو نجاح أكيد لها، تعرفون أن عبد الناصر قد اعتقلني، المعتقل غير السجين، السجين له حقوق، واسمه مسجل في الدفاتر، يعني لو مات أهله سيعرفون له قبرًا، المعتقل هو بالأساس مختطف لدى جهة لا يعرفها ولا تعرفه، مجرد رقم لا يدرى متى يعود إلي إنسانيته، المهم بعد الإفراج عني، عدت وأنا فى غاية التعب والتشاؤم إلي أبنود، كنت أنشد شيئًا من الراحة والشفاء من ذكريات الاعتقال، صباح يوم كنت أمر على أحد جسور أبنود، كان الخال مش عارف مين، غاطس في طين غيطه، رآني أمشي منكسرًا فصاح: "يا رومان، عبد الرحمان، مالك يا وليدي؟".
فقلت له بصوت مخنوق: "الراجل دا اللي اسمه جمال أبو عبد الناصر حبسني وتعبني".
فصرخ الخال فلان في وجهي مستنكرًا: "عما تقول إيه؟ الراجل دا؟ ناصر حبيبنا بقي اسمه الراجل دا؟ جرى لمخك إيه يا عبد الرحمان؟
دا الرئيس جمال أبو عبد الناصر على سن ورمح، دا الراجل اللي لبسني مركوب في رجلي، دا الراجل اللى خلاني من الملاك، وخلاني اشتري لباس دمور استر بيه نفسي، دا الراجل اللى بيدني السماد والتقاوي ببلاش، ويشترى مني المحصول وبيدني تمنه فورى، اعقل يا أستاذ، ولو كان عندكم حاجة تقدروا تساعدوا بيها الراجل دا روحوا لغاية عنده وقدموها ليه، وإن كان بينكم مشاكل، أهي مصارين البطن بتتعارك، اصطلحوا معاه وساعدوه علشان كلنا نهم وننهض مع بعض".
يصمت الخال للحظة ويمسح بكفيه على وجهه كأنه يريح الوجه من عبء الذكريات ثم يقول: "صوت الخال فلان لم يفارقني من يومها، وكلماته تسكنني، لقد عرفت منها الكثير، عرفت منها إن الشعار سيظل شعارًا، ما لم ينزل إلي الأرض ويغرس جذوره فيها، هل يعرفكم الفلاحون؟ هل تعرفونهم؟ هل ستظلون في التحرير إلي الأبد؟ من سيصبر عليكم؟ من سيساعدكم؟، ميدان التحرير بكل ما فيه من نبل وحلم وشهامة ومروءة، هو فكرة، مجرد فكرة، اخرجوا بفكرتكم إلي الناس، كل الناس، قدموا لهم الدليل على أنكم معهم، عندما تصل الثورة إلي الفلاحين، هم سيتولون أمرها، سيحرسونها ويكبرونها ويقتلعون الحشائش الضارة التى ستتعلق بها، سيفعلون معها مع يفعلونه مع غيطانهم، ساعتها أبشروا بالنصر الكامل التام للثورة، هذا لو كنتم تريدون الثورة بمعناها الحقيقي، أما إن كان هدفكم إلقاء حجرة في بحيرة الصمت فقد فعلتم وزيادة".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منشور بجريدة التحرير 12 أبريل 2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق